معرض مانيه ـ ديغا: التوافق والتناقض
أسعد عرابي 12 يونيو 2023
تشكيل
الشراكة في موضوع البورتريهات العائلية (إدغار ديغا)
شارك هذا المقال
حجم الخط
ما بين أواخر آذار/ مارس، وأواخر تموز/ يوليو 2023، يعانق أبرز متاحف باريس: أورسي (وبالتعاون مع متحف الأورانجوري المتخصص بالانطباعية) معرضًا بالغ العناية يتقابل فيه المعلمان المخضرمان إدوار مانيه وإدغار ديغا اللذان مهدا الطريق لمجموعة الانطباعية من دون الالتزام بمنظورها الفيزيائي في اللون والهواء الطلق وتجزئة اللون.
جمعتهما في حرب 1860م صداقة حميمة استثنائية. لم يفترقا أبدًا، وخاصة خلال عقدي 1860 و1880. تملكتهما قناعة ثابتة على مدار هذين العقدين بأنه من الضروري تأسيس فن مستقبلي جديد ينطلق من نتائج رومانسية أوجين دولاكروا، وليس من النظريات اللونية الفيزيائية لشفرويل، الذي تبناه كلود مونيه ليؤسس نظريات التوليف اللوني، ومجموعة الانطباعية.
كان مانيه وديغا متفقين على أن كلود مونيه الوحيد بين مجموعة هواة مرتكبي الرسم قبل التصوير، وذلك أن ديغا تعلم في إيطاليا مبادئ رفائيل، وأكثر من ذلك نقل مانيه إلى فرنسا تفوق التصوير الإسباني ابتداء من بوهيمية فرانز هالز، وعازف العود، ثم شخوص فيلاسكس العبقرية في المواد والظل والنور، وطزاجة العجائن اللونية المضيئة. كانا يجتمعان أمام لوحة فيلاسكس في متحف اللوفر يكتشفان من تفاصيلها السخية المنحوتة بالعجائن واقعية مغايرة للواقعية الوصفية لغوستاف كوربيه. وهما متحمسان إلى اللوحات المتأخرة الرومانسية لدولاكروا بعد عودته من المغرب والأندلس، وقبله جيريكو، وألغريكو.
يتطابق هذا الشك بالنظرية الانطباعية (بمجموعتها الشابة بالنسبة إلى جيلهما) مع مقولة بول غوغان المهاجر إلى الثقافة البولينيزية: يتهم الانطباعيين بأنهم "يحومون حول العين، وليس في المركز الخفي للفكر".
ولد الاثنان في باريس، ولم يغادرا أرستقراطيتها، من التعلق بالفروسية، وسباق الخيل، إلى موسيقى أسترافينسكي ورقص الباليه. تتميز أناقتهما بهذا الذوق النخبوي الذي دفع مانيه إلى الاختلاط بكبار الأدباء، وتصويرهما، مثل مالارميه، وبودلير، وإميل زولا، وعدد من الموسيقيين. وكان أكبر اتفاق بينهما (بعكس تصنيف النقاد) مخالفتهما للانطباعيين كمجموعة، مانيه رفض بعناد المشاركة في المعرض الأول لهم الذي تجمع في صالون المرفوضين عام 1863م، الذي أسسه نابليون الثالث. وقبل ديغا على مضض وانسحب بسرعة بعد اعتذار مانيه. يمثل الاثنان طبقة النخبة المثقفة الأرستقراطية في باريس، هم الذين رحبوا بفرقة دياغيليف الروسية المهاجرة في تقاليد الباليه، والتي ترجع في ازدهارها إلى الثقافة القيصرية (عصر العبقري الموسيقى في الباليه بيتر تشايكوفسكي المعلم الأول للخماسي، ومنهم موسورسكي)، والمصور ريبين، وعازف البيانو الأكبر رحمانينوف، استقبلت باريس قبل نيويورك إيغور استرافنسكي بالورود في حفلتي بتروشكا، وعصفور النار، ولم يتذوقوا أبرزها، وهي تتويج الربيع، ولم تحقق نجاحها الفرنسي إلا بعد نجاحها في نيويورك. تزامن، إذًا، مع الثورة الثقافية البلشفية تراجع الفنون وإحياؤها من قبل البرجوازية الفرنسية بأبلغ أمثلتها المختص بكواليس الباليه إدغار ديغا قبل اجتياح لوحاته للوسط الفني الأميركي، بعد وفاة مونيه، أما نصيب الثاني من النجاح فكان في ميدان بورتريه الكتاب، خاصة إميل زولا، ومالارميه، وتصويره لديغا نفسه، والعكس بالعكس.
أخبرتكم سابقًا بملاحظة سيطرة منهج فلسفة علم الجمال المقارن الذي بشر به عالم الجمال الفرنسي إتين سوريو منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، معتمدًا على إضاءات الفلسفة الجمالية لفينومينولوجية هيسير وتطبيقها لدى خاتم الفلاسفة إتين هايدغر، وكذلك مناهج الغشتالت وتطبيقها النخبوي. والمعرض الراهن مثال يحتذى في هذا المنهج المقارن الذي يبحث في آن واحد بين المخالف والمتوافق (يسعدني هذا النجاح الأكاديمي، لأنه يمثل عقيدتي الكتابية بصفتي تعلمته خلال عقد في السوربون لدى أبرز تلامذة سوريو، وهو ألكسندر بابادوبولو) المهم أننا ألمحنا بمجهرنا الإستطيقي المقارن وجوه الخلاف بين الاثنين، ولم يبق إلا تحليل وجوه اللقاء والتشابه المتناظر، مما يبرر أسباب جمع موروث الإثنين في معرض بانورامي استعادي مثل هذا.
إذا كان ما يجمعهما خطأ هو الفكر الانطباعي فإن الجوانب الأهم في معايشتهما لعصرهما السابق للمجموعة يتمثل بموضوعات خاصة:
1- فتيات البارات التي أعاد تأويلها بابلو بيكاسو في المرحلة الزرقاء. وبنات الهوى التي أكدها هنري تولوز لوتريك صديقهما.
2- بائعات القبعات، وخاصة الزهور والورود، أغلب تصاويرهما لدى ديغا كانت إحياءً مجازيًا حزينًا لزميل عمره مانيه.
3- البورتريه الرومانسي من بقايا واقعية رفائيل بالنسبة إلى ديغا، وتقاليد فيلاسكس الإسبانية بالنسبة إلى مانيه، واعتماد الاثنين بالتالي على الرسم والتخطيط وضبط تشريح الجسد الراقص، مثل دولاكروا، ورودان، وتبادل رسم البورتريه الشخصي، خاصة زوجة أخ لمانيه، هي الأميركية موريزوت وزميلتها التي ساعدت على شيوع لوحات الباليه لديغا في المتاحف الأميركية.
4- صور العازفين على الجيتار، وسواه على الطريقة الإسبانية. موسيقى الفلامنغو والكوريدا (على غرار رودريغو).
5- موضوعات الجسد الراقص، أو العاري.
6- ثم موضوعات تجمعات الأطفال وبورتريهات العائلة بأجمعها التي استعادها بدوره بيكاسو.
7- عالم الفروسية وسباق الخيل، كان مانيه فارسًا يحترف صهوة جواد المراهنات العامة. ناهيك عن تمثيل الشواطئ والمنتجعات البحرية في النورماندي.
بقي في المقارنة التشابه الأسلوبي الذي يحتاج إلى دراسة جمالية مستقلة، بدليل أن بعض لوحات المعرض لا نعرف ما إذا كانت لأحدهما، أو للآخر. خاصة من ناحية طزاجة عجائن اللون من دون تعديل، أو تصحيح. قد يكون الجانب الوحيد الذي يعكس الذائقة المعاصرة لزملائهم الانطباعيين. المهم أنهم أشد واقعية من هذه المجموعة، ولكن بطريقة مخالفة للواقعية الطبيعية التي التزم بها غوستاف كوربيه، لأنها واقعية تستشرف الحداثة بتأثير بودلير، ورامبو، ومالارميه، وزولا، واسترافينسكي. بالأحرى واقعية رمزية مجازية تتفوق فيها مادة الرسم والتلوين على الموضوع، كما كانت أواخر رومانسية أوجين دولاكروا.
معرض دقيق بالغ الإثارة، لأنه يستحضر تجارب العصر، سواء المناقضة منها، أم المتوافقة، ضمن تيارات هي الأشد خصوبة وتنوعًا في تاريخ فن عاصمة التشكيل المونوبولية باريس.
أسعد عرابي 12 يونيو 2023
تشكيل
الشراكة في موضوع البورتريهات العائلية (إدغار ديغا)
شارك هذا المقال
حجم الخط
ما بين أواخر آذار/ مارس، وأواخر تموز/ يوليو 2023، يعانق أبرز متاحف باريس: أورسي (وبالتعاون مع متحف الأورانجوري المتخصص بالانطباعية) معرضًا بالغ العناية يتقابل فيه المعلمان المخضرمان إدوار مانيه وإدغار ديغا اللذان مهدا الطريق لمجموعة الانطباعية من دون الالتزام بمنظورها الفيزيائي في اللون والهواء الطلق وتجزئة اللون.
جمعتهما في حرب 1860م صداقة حميمة استثنائية. لم يفترقا أبدًا، وخاصة خلال عقدي 1860 و1880. تملكتهما قناعة ثابتة على مدار هذين العقدين بأنه من الضروري تأسيس فن مستقبلي جديد ينطلق من نتائج رومانسية أوجين دولاكروا، وليس من النظريات اللونية الفيزيائية لشفرويل، الذي تبناه كلود مونيه ليؤسس نظريات التوليف اللوني، ومجموعة الانطباعية.
كان مانيه وديغا متفقين على أن كلود مونيه الوحيد بين مجموعة هواة مرتكبي الرسم قبل التصوير، وذلك أن ديغا تعلم في إيطاليا مبادئ رفائيل، وأكثر من ذلك نقل مانيه إلى فرنسا تفوق التصوير الإسباني ابتداء من بوهيمية فرانز هالز، وعازف العود، ثم شخوص فيلاسكس العبقرية في المواد والظل والنور، وطزاجة العجائن اللونية المضيئة. كانا يجتمعان أمام لوحة فيلاسكس في متحف اللوفر يكتشفان من تفاصيلها السخية المنحوتة بالعجائن واقعية مغايرة للواقعية الوصفية لغوستاف كوربيه. وهما متحمسان إلى اللوحات المتأخرة الرومانسية لدولاكروا بعد عودته من المغرب والأندلس، وقبله جيريكو، وألغريكو.
يتطابق هذا الشك بالنظرية الانطباعية (بمجموعتها الشابة بالنسبة إلى جيلهما) مع مقولة بول غوغان المهاجر إلى الثقافة البولينيزية: يتهم الانطباعيين بأنهم "يحومون حول العين، وليس في المركز الخفي للفكر".
ولد الاثنان في باريس، ولم يغادرا أرستقراطيتها، من التعلق بالفروسية، وسباق الخيل، إلى موسيقى أسترافينسكي ورقص الباليه. تتميز أناقتهما بهذا الذوق النخبوي الذي دفع مانيه إلى الاختلاط بكبار الأدباء، وتصويرهما، مثل مالارميه، وبودلير، وإميل زولا، وعدد من الموسيقيين. وكان أكبر اتفاق بينهما (بعكس تصنيف النقاد) مخالفتهما للانطباعيين كمجموعة، مانيه رفض بعناد المشاركة في المعرض الأول لهم الذي تجمع في صالون المرفوضين عام 1863م، الذي أسسه نابليون الثالث. وقبل ديغا على مضض وانسحب بسرعة بعد اعتذار مانيه. يمثل الاثنان طبقة النخبة المثقفة الأرستقراطية في باريس، هم الذين رحبوا بفرقة دياغيليف الروسية المهاجرة في تقاليد الباليه، والتي ترجع في ازدهارها إلى الثقافة القيصرية (عصر العبقري الموسيقى في الباليه بيتر تشايكوفسكي المعلم الأول للخماسي، ومنهم موسورسكي)، والمصور ريبين، وعازف البيانو الأكبر رحمانينوف، استقبلت باريس قبل نيويورك إيغور استرافنسكي بالورود في حفلتي بتروشكا، وعصفور النار، ولم يتذوقوا أبرزها، وهي تتويج الربيع، ولم تحقق نجاحها الفرنسي إلا بعد نجاحها في نيويورك. تزامن، إذًا، مع الثورة الثقافية البلشفية تراجع الفنون وإحياؤها من قبل البرجوازية الفرنسية بأبلغ أمثلتها المختص بكواليس الباليه إدغار ديغا قبل اجتياح لوحاته للوسط الفني الأميركي، بعد وفاة مونيه، أما نصيب الثاني من النجاح فكان في ميدان بورتريه الكتاب، خاصة إميل زولا، ومالارميه، وتصويره لديغا نفسه، والعكس بالعكس.
"ولد الاثنان (مانيه وديغا) في باريس، ولم يغادرا أرستقراطيتها، من التعلق بالفروسية، وسباق الخيل، إلى موسيقى أسترافينسكي ورقص الباليه" |
أخبرتكم سابقًا بملاحظة سيطرة منهج فلسفة علم الجمال المقارن الذي بشر به عالم الجمال الفرنسي إتين سوريو منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، معتمدًا على إضاءات الفلسفة الجمالية لفينومينولوجية هيسير وتطبيقها لدى خاتم الفلاسفة إتين هايدغر، وكذلك مناهج الغشتالت وتطبيقها النخبوي. والمعرض الراهن مثال يحتذى في هذا المنهج المقارن الذي يبحث في آن واحد بين المخالف والمتوافق (يسعدني هذا النجاح الأكاديمي، لأنه يمثل عقيدتي الكتابية بصفتي تعلمته خلال عقد في السوربون لدى أبرز تلامذة سوريو، وهو ألكسندر بابادوبولو) المهم أننا ألمحنا بمجهرنا الإستطيقي المقارن وجوه الخلاف بين الاثنين، ولم يبق إلا تحليل وجوه اللقاء والتشابه المتناظر، مما يبرر أسباب جمع موروث الإثنين في معرض بانورامي استعادي مثل هذا.
إذا كان ما يجمعهما خطأ هو الفكر الانطباعي فإن الجوانب الأهم في معايشتهما لعصرهما السابق للمجموعة يتمثل بموضوعات خاصة:
1- فتيات البارات التي أعاد تأويلها بابلو بيكاسو في المرحلة الزرقاء. وبنات الهوى التي أكدها هنري تولوز لوتريك صديقهما.
2- بائعات القبعات، وخاصة الزهور والورود، أغلب تصاويرهما لدى ديغا كانت إحياءً مجازيًا حزينًا لزميل عمره مانيه.
3- البورتريه الرومانسي من بقايا واقعية رفائيل بالنسبة إلى ديغا، وتقاليد فيلاسكس الإسبانية بالنسبة إلى مانيه، واعتماد الاثنين بالتالي على الرسم والتخطيط وضبط تشريح الجسد الراقص، مثل دولاكروا، ورودان، وتبادل رسم البورتريه الشخصي، خاصة زوجة أخ لمانيه، هي الأميركية موريزوت وزميلتها التي ساعدت على شيوع لوحات الباليه لديغا في المتاحف الأميركية.
4- صور العازفين على الجيتار، وسواه على الطريقة الإسبانية. موسيقى الفلامنغو والكوريدا (على غرار رودريغو).
5- موضوعات الجسد الراقص، أو العاري.
6- ثم موضوعات تجمعات الأطفال وبورتريهات العائلة بأجمعها التي استعادها بدوره بيكاسو.
7- عالم الفروسية وسباق الخيل، كان مانيه فارسًا يحترف صهوة جواد المراهنات العامة. ناهيك عن تمثيل الشواطئ والمنتجعات البحرية في النورماندي.
بقي في المقارنة التشابه الأسلوبي الذي يحتاج إلى دراسة جمالية مستقلة، بدليل أن بعض لوحات المعرض لا نعرف ما إذا كانت لأحدهما، أو للآخر. خاصة من ناحية طزاجة عجائن اللون من دون تعديل، أو تصحيح. قد يكون الجانب الوحيد الذي يعكس الذائقة المعاصرة لزملائهم الانطباعيين. المهم أنهم أشد واقعية من هذه المجموعة، ولكن بطريقة مخالفة للواقعية الطبيعية التي التزم بها غوستاف كوربيه، لأنها واقعية تستشرف الحداثة بتأثير بودلير، ورامبو، ومالارميه، وزولا، واسترافينسكي. بالأحرى واقعية رمزية مجازية تتفوق فيها مادة الرسم والتلوين على الموضوع، كما كانت أواخر رومانسية أوجين دولاكروا.
معرض دقيق بالغ الإثارة، لأنه يستحضر تجارب العصر، سواء المناقضة منها، أم المتوافقة، ضمن تيارات هي الأشد خصوبة وتنوعًا في تاريخ فن عاصمة التشكيل المونوبولية باريس.