جهات خمس ومدخل واحد": تصوير اللحم
بلال خبيز 9 يونيو 2023
تشكيل
لوحات شوقي يوسف هي حفر في الجلد
شارك هذا المقال
حجم الخط
حول معرض شوقي يوسف في غاليري صالح بركات، كليمنصو، بيروت.
(استمر حتى الثالث من حزيران/ يونيو الحالي)
إنه مدخل واحد، صحيح. المدخل الذي لا يمكن عبوره إلا من خلال العلاقة المباشرة بين العين واللوحة. لكن الجهات خمس، أو أكثر: جهة أولى تتحدر من المشهد الطبيعي، وهو مشهد يمكن التقاط حدوده بالتصوير، أو بالذاكرة. وجهة ثانية تتعلق بالجسم البشري، وهو ما يمكن التقاط الانطباعات التي يتركها في عين المراقب والرائي بالانفعالات الناجمة عن تلك الانطباعات. وجهة ثالثة تتعلق بالأغراض والأدوات، وهذه يمكن تتبع تاريخها في ذاكرات وتواريخ وانتقالات. وجهة رابعة تتعلق بالبيوت والمساكن، وهذه أيضًا يمكن ملاحقتها وملاحظتها في الصروف التي يتركها الزمن على جدرانها وأعمدتها. وجهة خامسة تتعلق، ربما، بالأشجار، رغم أنني لم أتبين آثارها عن بعد على نحو جلي وواضح، لكن ملاحقتها ممكنة في الدهشة والألفة اللتين تنجمان عن معاينتها.
لكن الجهات الخمس، وثمة جهات أخرى كامنة في الرسوم، ليست مما يعرض، بل هي مما يختبئ ويختفي. المقيم والحال في هذه اللوحات يشبه الجسم البشري حصرًا. إنه ما يترك انطباعًا، لكنه يستعصي على الإحاطة والإدراك. متى يكون هذا الجسم على الصورة التي طبعها في خيالنا؟ هذا أمر متروك لخيالاتنا، وليس لحالة الجسم في اللحظة التي عايناه فيها. قد يكون متعبًا، لكننا حين عايناه لم توح لنا تفاصيله وحدوده وخطوطه بالتعب. وقد يكون مثقلًا بالروائح، لكننا لم نتبين أيًّا منها لمجرد أننا رأيناه. وقد يكون سقيمًا من الداخل، لكن جلده المضاء يمنع عنا إدراك سقمه. الجسم البشري لا ينبئنا، لكنه يستطيع أن يثيرنا، أن يترك فينا انطباعات لا تحصى. فنحن كائنات لا ندرك ولا نُدرك.
ثم متى يكون الجسم في اللوحة، أو المنحوتة، هو الجسم نفسه الذي عايناه؟ هذا أيضًا يصعب أن ندركه. والأرجح أننا لن ندركه، لكننا سنتفاعل مع انطباعنا عنه بصرف النظر عن أحواله. وهذه أحوال متعددة في الراهن من الأيام، إذ لم يعد الجسم البشري يقيم اتصالًا مع عيون البشر لغرض واحد أوحد، مثلما كان رائجًا من قبل. الجسم البشري اليوم هو جسم متعدد الوظائف، هو جسم عامل، ومغوٍ، ومتعب، وشائخ، ومريض. وكل هذه الأجسام حاضرة وموجودة بقوة وعلى نطاق متسع لا يمكن حصره. في أزمان سابقة، كانت الأجسام حين تشيخ، أو تمرض، تصبح من الماضي، ولا يبقى لها غير سير أصحابها الذين يذهبون إلى الظل والعتم. اليوم، ثمة حضور لكل هذه الأجسام، وهو حضور طاغ إلى الحد الذي يجعل الرائي مربكًا وهو يخمن أي جسم يراه في هذه اللحظة: هل هو جسم العاملة العائدة متعبة من عملها، أم جسم المرأة الذاهبة إلى موعد غرامي؟ هل هو جسم العامل الذي أفنى جل يومه في رفع الأخشاب وتحميلها، أم جسم الرياضي الذي انتهى للتو من تمارينه؟ لا نعرف حقًا ولن نعرف.
لهذه الأسباب المربكة، تبدو لوحات شوقي يوسف كما لو أنها عصيّة على الإدراك أيضًا. هل هو يعيد تكوين الأجسام والأغراض والبيوت، أم أنه فقط رجل يتذكر؟
أرجّح أنه يتذكر، ذلك أن ما يصلنا من عمله ليس أكثر من تفاصيل غامضة لجسم ما. تفاصيل توحي أن ثمة ما حدث في مكان ما، ولم تفعل شفرة الفنان سوى استعادة أثره وتثبيت ما بقي منه بعد غيابه. وهذا ليس غيابًا كليًا ودائمًا بطبيعة الحال، لكنه غياب الحال التي كانت عليها هذه الأجسام والأغراض، واستحالة عودة هذه الأحوال، أو تكرارها.
اللوحات في هذا المعرض لا تصور ما عاينته. إنها تتذكر وتحس. ولأنها كذلك تبدو كما لو أنها انفعالات. تمامًا مثلما يمكن تعريفنا، نحن الكائنات البشرية، بوصفنا كائنات تنفعل، ولا تعقل أو تدرك أو تحيط بما يصادفها وتختبره.
لهذا كله يصعب على من لا يعاين معرض شوقي يوسف معاينة مباشرة، أن يتأكد من هوية الكائنات التي يعرض أطلال ذكراها. ذلك أن أعمال شوقي تذهب في معاداتها للصور إلى أقصى حدودها. هذه لوحات تريد من العين أن تقيم علاقة حميمة معها. ولا يمكن نقل تفاصيلها، أو تعيين حدودها، بمجرد معاينتها في الصور.
الصور تخفي العيوب دائمًا، ككل أنواع الفنون. لهذا تصور الوجه وجهًا، والجسم جسمًا. لكن اللوحات التي يعرضها شوقي يوسف تريد أن تقول إن الوجه وجوه لا تحصى، وتتغير كل لحظة، وأمام كل حدث. والأجسام ليست ما تبثه لنا من انفعالات بقدر ما هي أجسام أصحابها الغامضة والسرية والخجلة من نفسها على الدوام.
لوحات شوقي يوسف هي حفر في الجلد. الجلد أصم وأملس، لكن أجسامنا لها عمق، ولا يفعل شوقي سوى كشط هذا الجلد عن لوحاته ليفسح المجال للحم والنسغ أن يفصح عن نواياه.
بلال خبيز 9 يونيو 2023
تشكيل
لوحات شوقي يوسف هي حفر في الجلد
شارك هذا المقال
حجم الخط
حول معرض شوقي يوسف في غاليري صالح بركات، كليمنصو، بيروت.
(استمر حتى الثالث من حزيران/ يونيو الحالي)
إنه مدخل واحد، صحيح. المدخل الذي لا يمكن عبوره إلا من خلال العلاقة المباشرة بين العين واللوحة. لكن الجهات خمس، أو أكثر: جهة أولى تتحدر من المشهد الطبيعي، وهو مشهد يمكن التقاط حدوده بالتصوير، أو بالذاكرة. وجهة ثانية تتعلق بالجسم البشري، وهو ما يمكن التقاط الانطباعات التي يتركها في عين المراقب والرائي بالانفعالات الناجمة عن تلك الانطباعات. وجهة ثالثة تتعلق بالأغراض والأدوات، وهذه يمكن تتبع تاريخها في ذاكرات وتواريخ وانتقالات. وجهة رابعة تتعلق بالبيوت والمساكن، وهذه أيضًا يمكن ملاحقتها وملاحظتها في الصروف التي يتركها الزمن على جدرانها وأعمدتها. وجهة خامسة تتعلق، ربما، بالأشجار، رغم أنني لم أتبين آثارها عن بعد على نحو جلي وواضح، لكن ملاحقتها ممكنة في الدهشة والألفة اللتين تنجمان عن معاينتها.
لكن الجهات الخمس، وثمة جهات أخرى كامنة في الرسوم، ليست مما يعرض، بل هي مما يختبئ ويختفي. المقيم والحال في هذه اللوحات يشبه الجسم البشري حصرًا. إنه ما يترك انطباعًا، لكنه يستعصي على الإحاطة والإدراك. متى يكون هذا الجسم على الصورة التي طبعها في خيالنا؟ هذا أمر متروك لخيالاتنا، وليس لحالة الجسم في اللحظة التي عايناه فيها. قد يكون متعبًا، لكننا حين عايناه لم توح لنا تفاصيله وحدوده وخطوطه بالتعب. وقد يكون مثقلًا بالروائح، لكننا لم نتبين أيًّا منها لمجرد أننا رأيناه. وقد يكون سقيمًا من الداخل، لكن جلده المضاء يمنع عنا إدراك سقمه. الجسم البشري لا ينبئنا، لكنه يستطيع أن يثيرنا، أن يترك فينا انطباعات لا تحصى. فنحن كائنات لا ندرك ولا نُدرك.
"تبدو لوحات يوسف كما لو أنها عصية على الإدراك. هل هو يعيد تكوين الأجسام والأغراض والبيوت، أم أنه فقط رجل يتذكر؟" |
ثم متى يكون الجسم في اللوحة، أو المنحوتة، هو الجسم نفسه الذي عايناه؟ هذا أيضًا يصعب أن ندركه. والأرجح أننا لن ندركه، لكننا سنتفاعل مع انطباعنا عنه بصرف النظر عن أحواله. وهذه أحوال متعددة في الراهن من الأيام، إذ لم يعد الجسم البشري يقيم اتصالًا مع عيون البشر لغرض واحد أوحد، مثلما كان رائجًا من قبل. الجسم البشري اليوم هو جسم متعدد الوظائف، هو جسم عامل، ومغوٍ، ومتعب، وشائخ، ومريض. وكل هذه الأجسام حاضرة وموجودة بقوة وعلى نطاق متسع لا يمكن حصره. في أزمان سابقة، كانت الأجسام حين تشيخ، أو تمرض، تصبح من الماضي، ولا يبقى لها غير سير أصحابها الذين يذهبون إلى الظل والعتم. اليوم، ثمة حضور لكل هذه الأجسام، وهو حضور طاغ إلى الحد الذي يجعل الرائي مربكًا وهو يخمن أي جسم يراه في هذه اللحظة: هل هو جسم العاملة العائدة متعبة من عملها، أم جسم المرأة الذاهبة إلى موعد غرامي؟ هل هو جسم العامل الذي أفنى جل يومه في رفع الأخشاب وتحميلها، أم جسم الرياضي الذي انتهى للتو من تمارينه؟ لا نعرف حقًا ولن نعرف.
لهذه الأسباب المربكة، تبدو لوحات شوقي يوسف كما لو أنها عصيّة على الإدراك أيضًا. هل هو يعيد تكوين الأجسام والأغراض والبيوت، أم أنه فقط رجل يتذكر؟
أرجّح أنه يتذكر، ذلك أن ما يصلنا من عمله ليس أكثر من تفاصيل غامضة لجسم ما. تفاصيل توحي أن ثمة ما حدث في مكان ما، ولم تفعل شفرة الفنان سوى استعادة أثره وتثبيت ما بقي منه بعد غيابه. وهذا ليس غيابًا كليًا ودائمًا بطبيعة الحال، لكنه غياب الحال التي كانت عليها هذه الأجسام والأغراض، واستحالة عودة هذه الأحوال، أو تكرارها.
اللوحات في هذا المعرض لا تصور ما عاينته. إنها تتذكر وتحس. ولأنها كذلك تبدو كما لو أنها انفعالات. تمامًا مثلما يمكن تعريفنا، نحن الكائنات البشرية، بوصفنا كائنات تنفعل، ولا تعقل أو تدرك أو تحيط بما يصادفها وتختبره.
لهذا كله يصعب على من لا يعاين معرض شوقي يوسف معاينة مباشرة، أن يتأكد من هوية الكائنات التي يعرض أطلال ذكراها. ذلك أن أعمال شوقي تذهب في معاداتها للصور إلى أقصى حدودها. هذه لوحات تريد من العين أن تقيم علاقة حميمة معها. ولا يمكن نقل تفاصيلها، أو تعيين حدودها، بمجرد معاينتها في الصور.
الصور تخفي العيوب دائمًا، ككل أنواع الفنون. لهذا تصور الوجه وجهًا، والجسم جسمًا. لكن اللوحات التي يعرضها شوقي يوسف تريد أن تقول إن الوجه وجوه لا تحصى، وتتغير كل لحظة، وأمام كل حدث. والأجسام ليست ما تبثه لنا من انفعالات بقدر ما هي أجسام أصحابها الغامضة والسرية والخجلة من نفسها على الدوام.
لوحات شوقي يوسف هي حفر في الجلد. الجلد أصم وأملس، لكن أجسامنا لها عمق، ولا يفعل شوقي سوى كشط هذا الجلد عن لوحاته ليفسح المجال للحم والنسغ أن يفصح عن نواياه.