رولا الحسين: لننفق أوقات وحدتنا بتمرين أجسامنا على الحب
بلال خبي2023
تشكيل
رولا الحسين
شارك هذا المقال
حجم الخط
لطالما كان الحب هو دافعي للعلاقة مع الرسوم والفنون التصويرية. أحب من يستطيعون أن ينتجوا تعبيرًا عن الحب من جهة من الجهات. من اللبنانيين أحب زياد توبة، الرسام والحرفي الذي تقول لك لوحاته إنه يريد البقاء في العالم الصغير الذي تبنيه يداه، لمسًا واستشعارًا ورسمًا وحفرًا. وأحب شوقي يوسف الذي لا يرسم إلا مفقوديه، وحين يشكلهم على لوحته، فهو يشكلهم بالسكين التي أسالت دماءهم وجرحت أغصانهم. وأحب منصور الهبر، الذي يعبر غاضبًا عن تناقص هذه الحياة الجوهري كل يوم.
هؤلاء إلى آخرين، يبقون علاقتي بالفنون البصرية قائمة وحارة. الفنون التي تريد أن تغوي لم تعد تعنيني كثيرًا، والفنون التي تريد أن تنتشر وتعم لا تعنيني أيضًا. مع ذلك، ورغم كل هذا الحب الذي ينضح من أعمال أمثال هؤلاء الفنانين، إلا أنهم جميعًا يجتمعون على مشترك واحد يتعلق برغبتهم في تمييز من وما يحبونه، وتكريمه. يرسمون ما يشعرون بأنه قابل للفقد، ومسبب لحزنهم الشخصي وحزن المشاهد على الأرجح. يشتغلون على موضوعهم بوصفه مادتهم، وبوصفهم ذوات فاعلة. لكنني حين عاينت، من بعيد، معرض رولا الحسين الفردي الأول الذي تعرضه غاليري أجيال في بيروت حاليًا ويحمل عنوان "حياتي العاديّة"، أدركت أن ثمة مصدرًا لانبثاق الحب كان طوال الوقت غائبا عني.
رولا ترسم ساقيها، ثيابها، كلبتها، كرسيها. ترسم ببساطة جسمها وما يدور حوله. وحين تعرض فإنها توجه رسالة إلى المشاهد تقول ما يلي: إن كنت لا تحبني، فأنت لست معنيًا بهذه الرسوم. المسألة تتحدد هنا. ترسم رولا الحسين نفسها بوصفها موضوع الحب. إنها، بمعنى ما، مادة رسومها وذاتها الفاعلة في وقت واحد. درجت بعض الأعمال النسوية على محاولة احتلال دور الذكر التاريخي، فعمدت إلى اعتبار جسمه، في الرسم والتصوير، مادتها لتتحول صانعة العمل إلى ذات فاعلة. أعمال أخرى لفنانات جميلات، حاولت تكسير المنطق الذي قامت عليه لوحات الذكور التاريخية. أي افتراض أن الجسم المحتفى به في الرسوم، هو جسم الأنثى في لحظة استعداده للغواية والحب. وعليه ذهبت أعمالهن إلى تصوير الجسم، الشخصي والمشترك، في لحظات ضعفه وهزاله، وفي لحظات رغبته بالوحدة ورفض الاتصال. وهذا في جوهره يشبه بيانًا نقديًا. وهو مهم وبالغ العمق، لكنه يستقوي بالفن على الثقافة والأيديولوجيا، ولا ينتج فنًا. ذلك أن الأرضية التي يجب أن تقام عليها المتاحف لم تتوفر بعد، فهي أرضية ما زالت ذكورية، وأمام النساء وقت طويل لتحويلها إلى أرضية أنثوية.
رولا الحسين اكتشفت الخلطة السحرية التي تعفيها من كل هذا الصراخ. إنها ترسم نفسها بوصفها موضوع "الحب الذكوري". كما لو أنها تعلن أنها لا تمانع أبدًا في أداء الدور الذي رسمته الثقافات التاريخية، لكنها تريد أن تضيف إليه الرغبة المتقدة دومًا من خلال صناعتها فنًا.
في العلاقة الأزلية بين الرجال والنساء، ثمة معضلة يصعب حلها: على عكس الادعاء الذكوري، الرجل ليس جاهزًا لمباشرة العلاقة مع المرأة، فهو يحتاج إلى ما يثيره. في حين أن المرأة جاهزة دائمًا على المستوى الجسدي. لكن المسألة التي يثار حولها كل النقاش، وتدور عليها الصراعات، تستوي في صعيد آخر. صعيد ذكوري يفترض أن جسم المرأة، منذ أن يراه الرجل، لا يعود يملك وظيفة أخرى غير وظيفة إثارته وإمتاعه. والحال، وبصرف النظر عن الأفكار والتحزبات والأيديولوجيات المعاصرة، والتي تحاول أن تسود، إلا أن العصر الحديث لا يسمح لأي كان أن يبقي جسمه جاهزًا لاستقبال جسم الآخر والتواصل معه في كل الأوقات. لقد حولتنا ظروف العمل وطبيعة حياة المدن الحديثة، والمعركة التي لا تنتهي مع الوقت إلى كائنات وحيدة معظم الوقت، وقد يحدث أن تتصل بآخر إن واتتها الظروف وأسعفتها أوقاتها. هذا ينطبق على المتزوجين والمتزوجات والعازبين والعازبات بالدرجة نفسها من الدقة. وعليه لم يعد الجسم المرئي يرسل إشارات إغواء للآخر في سعيه ورواحه ومجيئه. بات جسمًا له وظيفة اقتصادية واجتماعية، ونادرًا ما يتاح له الوقت ليمتشق وظيفة الإمتاع والمؤانسة. ثم إن العالم بات مكونًا من غرباء وغريبي أطوار. ولا يستطيع المرء اليوم أن يأمن لجاره في المترو والمصعد والمقهى، ويفترض أن إقامة علاقة معه يحدّدها الإعجاب المتبادل فقط.
رولا الحسين في رسومها تريد القول: تعالوا لننجز هذه المهمة في أوقات فراغنا، ونعلنها على الملأ. وإلا ما الذي يعنيه أن ترسم جسمها في معزلها بهذه الأناقة واكتمال الاستعداد؟ إنها ترسم جسمها في قمة استعداده للإغواء، ذلك أنها لا تريد أن تجعل شؤونها اليومية تتحكم في مزاجها وعلاقتها بالجنس الآخر. لقد أتمت فرض الغواية رسما، وهي تستطيع الآن أن تتسوق وتعمل وتقود سيارتها وتقلم أشجار حديقتها، من دون أن تلزم جسمها العامل بتقديم إشارات الإغواء ووعود المتعة. وهذا ضرب من التصالح مع يومياتنا يحيل الغواية إلى الذاكرة، التي تقوم بتغذيتها رسمًا وتصويرًا، ويجعل الجسم في معظم وقته حرا من أي التزام، وواعدًا بالغواية مستندًا إلى ذكراه.
هذا مما يندرج في الفكرة والرسالة. لكن المعضلة الحقيقية التي تجعل من لوحات رولا الحسين تنكص عن أداء مهمتها، تتعلق بأن موضوع هذه اللوحات الرئيس هو المتلقي. ترسم رولا نفسها لتهديها إلى من تحبهم. وهذا تصرف لم تقره الثقافة الذكورية، التي افترضت على الدوام، أن الهدية يقدمها المحب إلى المحبوب. وأنها عبارة عن دعوة له للاعتناء بنفسه على النحو الذي يجعله محبوبًا طوال الوقت، من خلال رشوته بالهدايا. المعادلة مع هذه اللوحات معكوسة وتتلخص بالتالي: أنا أحبكم أيها الرجال، وهذه اللوحات هي دعوتي لكم لإدراجي ضمن قائمة من يمكن أن تحبوهن.
بلال خبي2023
تشكيل
رولا الحسين
شارك هذا المقال
حجم الخط
لطالما كان الحب هو دافعي للعلاقة مع الرسوم والفنون التصويرية. أحب من يستطيعون أن ينتجوا تعبيرًا عن الحب من جهة من الجهات. من اللبنانيين أحب زياد توبة، الرسام والحرفي الذي تقول لك لوحاته إنه يريد البقاء في العالم الصغير الذي تبنيه يداه، لمسًا واستشعارًا ورسمًا وحفرًا. وأحب شوقي يوسف الذي لا يرسم إلا مفقوديه، وحين يشكلهم على لوحته، فهو يشكلهم بالسكين التي أسالت دماءهم وجرحت أغصانهم. وأحب منصور الهبر، الذي يعبر غاضبًا عن تناقص هذه الحياة الجوهري كل يوم.
هؤلاء إلى آخرين، يبقون علاقتي بالفنون البصرية قائمة وحارة. الفنون التي تريد أن تغوي لم تعد تعنيني كثيرًا، والفنون التي تريد أن تنتشر وتعم لا تعنيني أيضًا. مع ذلك، ورغم كل هذا الحب الذي ينضح من أعمال أمثال هؤلاء الفنانين، إلا أنهم جميعًا يجتمعون على مشترك واحد يتعلق برغبتهم في تمييز من وما يحبونه، وتكريمه. يرسمون ما يشعرون بأنه قابل للفقد، ومسبب لحزنهم الشخصي وحزن المشاهد على الأرجح. يشتغلون على موضوعهم بوصفه مادتهم، وبوصفهم ذوات فاعلة. لكنني حين عاينت، من بعيد، معرض رولا الحسين الفردي الأول الذي تعرضه غاليري أجيال في بيروت حاليًا ويحمل عنوان "حياتي العاديّة"، أدركت أن ثمة مصدرًا لانبثاق الحب كان طوال الوقت غائبا عني.
رولا ترسم ساقيها، ثيابها، كلبتها، كرسيها. ترسم ببساطة جسمها وما يدور حوله. وحين تعرض فإنها توجه رسالة إلى المشاهد تقول ما يلي: إن كنت لا تحبني، فأنت لست معنيًا بهذه الرسوم. المسألة تتحدد هنا. ترسم رولا الحسين نفسها بوصفها موضوع الحب. إنها، بمعنى ما، مادة رسومها وذاتها الفاعلة في وقت واحد. درجت بعض الأعمال النسوية على محاولة احتلال دور الذكر التاريخي، فعمدت إلى اعتبار جسمه، في الرسم والتصوير، مادتها لتتحول صانعة العمل إلى ذات فاعلة. أعمال أخرى لفنانات جميلات، حاولت تكسير المنطق الذي قامت عليه لوحات الذكور التاريخية. أي افتراض أن الجسم المحتفى به في الرسوم، هو جسم الأنثى في لحظة استعداده للغواية والحب. وعليه ذهبت أعمالهن إلى تصوير الجسم، الشخصي والمشترك، في لحظات ضعفه وهزاله، وفي لحظات رغبته بالوحدة ورفض الاتصال. وهذا في جوهره يشبه بيانًا نقديًا. وهو مهم وبالغ العمق، لكنه يستقوي بالفن على الثقافة والأيديولوجيا، ولا ينتج فنًا. ذلك أن الأرضية التي يجب أن تقام عليها المتاحف لم تتوفر بعد، فهي أرضية ما زالت ذكورية، وأمام النساء وقت طويل لتحويلها إلى أرضية أنثوية.
رولا الحسين اكتشفت الخلطة السحرية التي تعفيها من كل هذا الصراخ. إنها ترسم نفسها بوصفها موضوع "الحب الذكوري". كما لو أنها تعلن أنها لا تمانع أبدًا في أداء الدور الذي رسمته الثقافات التاريخية، لكنها تريد أن تضيف إليه الرغبة المتقدة دومًا من خلال صناعتها فنًا.
ترسم رولا الحسين نفسها بوصفها موضوع الحب. إنها، بمعنى ما، مادة رسومها وذاتها الفاعلة في وقت واحد |
رولا الحسين في رسومها تريد القول: تعالوا لننجز هذه المهمة في أوقات فراغنا، ونعلنها على الملأ. وإلا ما الذي يعنيه أن ترسم جسمها في معزلها بهذه الأناقة واكتمال الاستعداد؟ إنها ترسم جسمها في قمة استعداده للإغواء، ذلك أنها لا تريد أن تجعل شؤونها اليومية تتحكم في مزاجها وعلاقتها بالجنس الآخر. لقد أتمت فرض الغواية رسما، وهي تستطيع الآن أن تتسوق وتعمل وتقود سيارتها وتقلم أشجار حديقتها، من دون أن تلزم جسمها العامل بتقديم إشارات الإغواء ووعود المتعة. وهذا ضرب من التصالح مع يومياتنا يحيل الغواية إلى الذاكرة، التي تقوم بتغذيتها رسمًا وتصويرًا، ويجعل الجسم في معظم وقته حرا من أي التزام، وواعدًا بالغواية مستندًا إلى ذكراه.
هذا مما يندرج في الفكرة والرسالة. لكن المعضلة الحقيقية التي تجعل من لوحات رولا الحسين تنكص عن أداء مهمتها، تتعلق بأن موضوع هذه اللوحات الرئيس هو المتلقي. ترسم رولا نفسها لتهديها إلى من تحبهم. وهذا تصرف لم تقره الثقافة الذكورية، التي افترضت على الدوام، أن الهدية يقدمها المحب إلى المحبوب. وأنها عبارة عن دعوة له للاعتناء بنفسه على النحو الذي يجعله محبوبًا طوال الوقت، من خلال رشوته بالهدايا. المعادلة مع هذه اللوحات معكوسة وتتلخص بالتالي: أنا أحبكم أيها الرجال، وهذه اللوحات هي دعوتي لكم لإدراجي ضمن قائمة من يمكن أن تحبوهن.