الكتاني (محمد عبد حي)شيخ طريقة مرموقة و رجل سياسة سبر أغوارها

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • الكتاني (محمد عبد حي)شيخ طريقة مرموقة و رجل سياسة سبر أغوارها

    كتاني (محمد عبد حي) Al-Kattani (Mohammad Abdul Hayi-) - Al-Kattani (Mohammad Abdul Hayi-)
    الكتاني (محمد عبد الحي ـ)

    (1302 ـ 1382هـ/1883 ـ 1962م)



    محمد عبد الحي بن عبد الكبير بن محمد بن عبد الواحد الكتاني الفاسي الحسني، ولد وترعرع بفاس المغرب، في أسرة اشتهر أفرادها رجالاً ونساءً، بالعلم والفضل والاجتهاد، والتصوف، والتربية، والجهاد. فأبوه، أبو المكارم، المربي المحدث صاحب المؤلفات الكثيرة، من أعلام الاجتهاد، ورواد الإصلاح الديني والسياسي، ودعاة التحرر والجهاد في المغرب العربي في القرن الرابع عشر الهجري.

    وأمه فضيلة بنت إدريس بن الطائع، أخت شيخ الإسلام السيد جعفر بن إدريس الكتاني، العالمة بالله، الدالة عليه بحالها ومقالها.

    وأخوه، أبو الفيض، محمد بن عبد الكبير بن محمد[ر]، حافظ المغرب الشهيد، حجة الإسلام، ومؤسس الطريقة الأحمدية الكتانية.

    وولده عبد الأحد بن عبد الحي، العلاّمة المشارك، الفقيه القاضي، الأديب الشاعر. ألّف كتباً عدّة، وقدم لكتاب أبيه «فهرس الفهارس» وله ديوان شعر، قتل خطأ في أثناء فتنة السلطان محمد الخامس في حياة والده عام 1954.

    كان محمد عبد الحي علاّمة نابغة متميزاً بحفظه العجيب لعلم الإسناد وروايته، سريع الكتابة والتأليف فأملى كتابه الشهير الذي يعد من أجلّ ما كتب في علم الإسناد «فهرس الفهارس والأثبات ومعجم المعاجم والمشيخات والمسلسلات» الذي يقع في مجلدين في شهر واحد، كما أملى مجلدة كاملة في أسانيده أسماها «ما علق بالبال أيام الاعتقال»، عين مدرساً مع أجلّة العلماء وكبار الشيوخ في الضريح الإدريسي قبل أن يبلغ العشرين، ونال أرقى الرتب العلمية بالقرويين قبل أن يتجاوز الثالثة والعشرين.

    كان يبدأ يومه بالمطالعة، ولا ينام إلا والكتاب في يده، وما كان ينام إلا قليلاً، وما اشترى كتاباً إلا وقرأ فيه، وقرأ عليه الشيخ المعمر محمد بن محمد البقالي الطنجي كتاب «الشفاء» للقاضي عياض في ثلاثة أيام. وما ترك التدريس قط، سواء في الزاوية الكتانية بفاس، أم في جامع القرويين الأعظم، أم في جميع رحلاته الدعوية والإرشادية والعلمية إلى مختلف البلاد في إفريقيا وأوربا وآسيا.

    وأول ما يسأل عنه في البلد الذي يزوره المكتبات، فيجمع منها النادر والغريب، ويبذل من أجل ذلك الغالي والنفيس، ومن أغرب ما نقل عنه: أنه دخل يعزي بأحد أهل العلم، وفي أثناء ذلك طلب رؤية مكتبته، فنزع خفه ودخل حافياً بأدب واحترام، ثم استعار بعض كتبها. وكان يحب أن يقرأ الكتب قرب أصحابها، فقرأ «الشمائل» للترمذي و«مقدمة صحيح مسلم» في حرم المدينة المنورة، وقرأ عند ضريح الشيخ ابن عربي كتابه «الفتوحات المكية» في إحدى زياراته لدمشق، وفي البقيع حيث مثوى الإمام مالك قرأ كتابه «الموطأ»، وفي بيت المقدس قرأ كتاب «الفرج بعد الشدة» لابن أبي الدنيا، وفي فلسطين قرب ضريح النسائي قرأ كتابه «السنن».

    كان موسوعة علمية جامعة فهو فقيه مجتهد، عرف الأصول والفروع، والمذاهب ومدارك الخلاف، وفلسفة التشريع، وكشف الحكمة التي عليها التكاليف والأوامر الشرعية.

    وهو محدث حافظ، عرف الحديث وعلومه جرحاً وتعديلاً، واضطراباً وتعليلاً، أجمع أهل عصره على أنه حافظ العصر ومحدث الزمان.

    وهو مؤرخ محقق عرف التاريخ الإسلامي وفلسفته، يستحضر الوقائع والحوادث، لا يفرق في محفوظاته بين المشرقي والمغربي والعربي والعجمي، والقديم والحديث، شهد له بذلك ابن علي في تاريخه لسلا، وابن إبراهيم في تاريخه لمراكش، وبوجندار في تاريخه للرباط، وابن زيدان في تاريخه لطنجة، ودوكاستري De Castries في تاريخه للدولة العربية، وليفي بروفنسال Levi-Provencal في أصول التاريخ المغربي.

    وعرف أنساب العرب والبربر، وأنساب بني هاشم آل البيت الأشراف على الخصوص، وأنساب الأدارسة بنوع أخص.

    كان مكتبة متنقلة، ترك ما يربو على خمسمئة مؤلف في مختلف مجالات المعرفة، وأكثر من مئة ألف رسالة بعث بها إلى مختلف الآفاق الشرقية والغربية، وجمع مكتبة تعد الأولى في العالم بين المكتبات الخاصة ضمنها جناحاً للمخطوطات، وآخر للمطبوعات، وجناحاً للمجلات والجرائد والدوريات، وجناحاً للوثائق والمستندات، وجناحاً للعملات النقدية المتداولة وغير المتداولة، وجناحاً للآثار والتحف القديمة التي ترجع إلى مئات السنين، ومنها كرسي السلطان يوسف ابن تاشفين المرابطي، وفيها قاعة تبلغ ألف متر مربع بطابقين خصصها للمحاضرات والندوات والدروس العلمية، فتح أبوابها أمام الرواد للعلم والمعرفة والسياسة من مختلف الأديان والأوطان، وأنفق في سبيلها الأموال الطائلة، وجمع فيها النوادر من الكتب والمخطوطات، ورتبها ترتيباً عصرياً يسرها بالفهارس لكل قارئ أو باحث، وكانت حديث أهل العلم، وأرخ لها كثير من المؤرخين والباحثين، فكان بحق رائد التنقيب عن المخطوطات، ومؤسس علم المكتبات في المغرب.

    كان الكتاني شيخ طريقة مرموقة تؤدي دورها في التزكية والتهذيب تجاوز عدد أتباعها مئات الألوف.

    وكان رجل سياسة سبر أغوارها، واطلع على التاريخ السياسي والدبلوماسي الأوربي والعالمي والإسلامي. فكاتب الملوك والزعماء والقادة، المسلمين والأجانب وكاتبوه، كما كاتب أعلام العلم، وفنون المعرفة فأجازهم وأجازوه.

    ابتلي الشيخ بمحنة شقيقه الشيخ أبي الفيض، واعتقل بسجن أبي الخصيصات بفاس أشهراً عدة مما كون عنده القناعة التامة بأن البلاد بحاجة إلى إصلاح هادئ شامل بعيد عن العنف، وكانت قناعته -كما هي قناعة جل الطبقة الواعية بالمغرب- الحفاظ على علاقات ودية مع سلطات الحماية الفرنسية، وجعل ذلك مطية لقيامه بنشاطاته الدعوية والإرشادية والعلمية، فقام بجولات متصلة للمدن والقرى والنوادي المغربية والجزائرية ولمختلف دول العالم، وحضر المؤتمرات العلمية الدولية، ومنها مؤتمر المستشرقين في روما، لتعريف العالم بقضايا الأمة، ومشكلاتها.

    وأسس لهذا مؤتمر الطرق الصوفية المغربية، على غرار مجمع الطرق الصوفية في مصر، ليعمل على المحافظة على هوية الأمة لغةً وديناً وثقافةً في كل أنحاء المغرب والجزائر وتونس.

    ووقف بقوة أمام المسخ والتفريغ من المحتوى الحضاري الأصيل لجامع القرويين، لكنه ـ وأمام الضغوط القوية الزاحفة من الداخل والخارج ـ اضطر إلى الانسحاب من التدريس النظامي فيه، وقاد حملة الإصلاح لمكافحة البدع والمنكرات والمخالفات الناشئة من الجهل بالدين وأصوله، وألف من أجل ذلك كتابه «تبليغ الأمانة في مضار الإسراف والتبرج والكهانة».

    أمام الآراء المريضة الدخيلة التي قامت في أعقاب انحلال دولة الخلافة العثمانية، القائلة بعدم صلاحية الإسلام لكل مكان وقف بقوة وأثبت في كتابه «التراتيب الإدارية في الحكومة النبوية» أن أي إيجابية في النظام الإداري الغربي الحديث لها أصل ثابت استقاه من عصر النبوة والخلافة الراشدة.

    وهكذا كانت للشيخ عبد الحي صولات وجولات غرضها الدفاع عن معالم الشريعة الإسلامية، كنظام حكم وسياسة مجتمع وسلوك أخلاقي رفيع.

    استفاد حساد الشيخ وأعداؤه من بيعته للسلطان محمد بن عرفة الذي نصبه الفرنسيون ملكاً على المغرب بعد تنحيتهم لابن عمه الملك محمد الخامس عام 1953 مع أنه لم يكن الوحيد في هذه البيعة بل شارك فيها كثيرون ممن انتقدوها وجعلوها قميص عثمان لحرب الشيخ وإساءة سمعته، فما إن عاد الملك محمد الخامس إلى حكم المغرب عام 1955 محملاً بمعاهدة «إكس ليبان» ووثيقة الاستقلال، وأمام الضغوط والمضايقات، اضطر الشيخ إلى النزوح إلى نيس في فرنسا ليبعد نفسه عن جو الفوضى، وقد ساد في بلده ظاهرة الثأر وانعدمت فرص الأمان، وفي هذا الجوّ المحموم وجد الشيخ في منزله بمدينة نيس فجر يوم الجمعة/12/رجب عام /1382هـ/الموافق/1962م/ قد فارق الحياة بظروف غامضة، ودفن بمقبرة المسلمين فيها وأسدل الستار على حياة علم العصر وحجة الزمان الشيخ محمد عبد الحي الكتاني، وقد طالت محنة الشيخ مكتبته الفريدة النادرة، فتوزعت بين الانتهاب والاختلاس والمصادرة، وتوزعت بقاياها بين الخزانة الملكية بمراكش، والخزانة الحسنية بالرباط، والخزانة العامة بالرباط تحت رمز (خ.ع.ك) وخزانة علال الفاسي، وخزانة محمد الفاسي الخاصتين.

    محمد هشام برهاني
يعمل...
X