صريع الدلاء (محمد بن عبد الواحد ـ)
(…ـ 412 هـ/… ـ 1021م)
أبو الحسن محمد بن عبد الواحد القصّار الفقيه البغدادي، و قيل: محمد بن عبدالله بن عبدالواحد، أومحمد بن عبيد الواحد، أو محمد ابن عبد الرحمن، أوعلي بن عبد الواحد، المعروف بصريع الدلاء وقتيل الغواشي وذي الرقاعتين، وهو من شعراء أواخر القرن الرابع الهجري وأوائل القرن الخامس، بصري المولد والمنشأ، إلا أنه استوطن بغداد، واتصل بفخر الملك غالب بن علي بن خلف وزير بهاء الدولة البويهي، فحظي عنده، وقد مدحه بقصيدة، مزج فيها الجد بالهزل، فأعطاه ما أغناه، فهبت ريحه ونفقت سوقه، ودرًت الصلات له، وكانت له علاقات مع أعلام عصره، مثل أبي العلاء المعري. ترك بغداد إلى مصر سنة اثنتي عشرة وأربع مئة، ومدح خليفتها الفاطمي الظاهر بإعزاز دين الله بن الحاكم بأمر الله، وتوفي فيها فجأة من شرقة لحقته في السابع من رجب من السنة ذاتها.
وعلى الرغم من قلة أخباره في كتب التراجم و الأدب وتكرارها، فإنها توحي بأنه كان فقيهاً عالماً، شاعراً مجيداً،جاداً متزناً، ولما رأى سخف الزمان وأهله، وميلهم من الكلام إلى هزله، أخذ طريق السَخف و نزع ثياب الجد، وتلَقَب بصريع الدلاء وتشبَه بابن الحجاج، وسلك طريقة أبي الرقعمق، فاشتهر وذاع صيته في الآفاق، وصار مضرب المثل في الخلاعة والمجون، صاحب مزاح ولعب. كان شاعراً مطبوعاً وأديباً خليعاً، جمع شعره بين الجد والهزل والحكمة والمجون، اشتهر بقصيدته المقصورة التي عارض بها مقصورة ابن دريد، التي أشاد بها أهل الأدب، وقالوا: إنها طويلة تربي على المئة، وقد أعجز الشعراء أن يزيدوا فيها بيتاً من حسنها. وديوان شعره مشهور لم يطبع بعد، ومنه نسخة في مكتبة أحمد الثالث بتركيا تحت رقم 245.
وما ذكر في كتب الأدب من شعره يدل على أنه طرق موضوعات الشعر المعروفة وأجادها،وزاد عليها با لغزل الماجن والعبث، وأظهر ثقافة عالية مكنته من تصريف المعاني وتوليدها ومن إقامة هزله الذي قصد إليه قصداً، وخاصة في مقصورته التي قال فيها:
سوف أسلّي عَنْكُم صبابتي
بحَمْقَةٍ يَعْجَبُ منها مَنْ وَعَى
في طرف نظمتُها مقصورة
إذ كنت قصّاراً صريعاً للدلا
وقد ختمها ببيت لو لم يكن له في الجد سواه،لبلغ درجة الفضل، وأحرز معه قصب السبق، وقيل عنه:إنه خير من مقصورة ابن دريد،فانه حكمة بالغة، وهو:
من فاته العلم وأخطاه الغنى
فذاك والكلبُ على حالٍ سَوَا
يقوم هزله في مقصورته على ترديد البديهيات، وقد اتبع في إيرادها أسلوب المفاجأة، فكان ياتي بالشرط موحياً أن جوابه أمر عظيم، فإذا وصل القارئ إليه خاب توقعه،لأنه من المسلمات التي لاتثير انتباه الأطفال، وبذلك يفاجئ المتلقي ويكسر منطقه ويدفعه إلى الابتسام، بل الضحك، فقد اصطنع طرائق الحكماء في تقرير حقائق عامة وتجارب غنية،لكنه ضمنها أشياء سخيفة، وهذه المفارقة بين الطريقة والأسلوب وبين المضمون هي مبعث التحامق والتباله، وهي التي تصدم المتلقي في توقعه، واعتياده على التواصل مع الأدب. وأسلوبه فيها عذب رقيق، ليس فيه التواء وغموض، حافظ فيه على السلامة والمتانة، على الرغم من أن طريقته في العبث جديدة على الأدب، لايعتمد في التعبير عنها على العبارات الجاهزة المألوفة، ومن لايمتلك أداته اللغوية لايستطيع أداءها بلغة سليمة واضحة، ولابد من أن يقع في الخطأ والركاكة. ولم يظهر في شعره الذي بقي أنه وقف ليقيم صنعة لفظية أو معنوية، لكنه استخدم خياله استخداماً موفقاً في التشبيهات والصور التي أدى بها مقاصده. وقد أجمعت المصادر التي ذكرته على أنه أحد أعلام الشعر في عصره، وأن شعره كان سائرا ذائعاً مقبولاً عند العامة والخاصة.
ومن مقصورته قوله:
مَن صفع الناس ولم يمكنهم
أن يصفعوه بدلا ً قد اعتدى
مَن مضغ الأحجار أَدمت فكه
فالضرس لم تخلق لتليين الحصى
مَن نام لم يبصر بعيني رأسه
ومن تطاطا راكعا قد انحنى
مَن قطع النخل و ظل راجيا
ثمارها فذ لك مقطوع الرجا
محمود سالم محمد
(…ـ 412 هـ/… ـ 1021م)
أبو الحسن محمد بن عبد الواحد القصّار الفقيه البغدادي، و قيل: محمد بن عبدالله بن عبدالواحد، أومحمد بن عبيد الواحد، أو محمد ابن عبد الرحمن، أوعلي بن عبد الواحد، المعروف بصريع الدلاء وقتيل الغواشي وذي الرقاعتين، وهو من شعراء أواخر القرن الرابع الهجري وأوائل القرن الخامس، بصري المولد والمنشأ، إلا أنه استوطن بغداد، واتصل بفخر الملك غالب بن علي بن خلف وزير بهاء الدولة البويهي، فحظي عنده، وقد مدحه بقصيدة، مزج فيها الجد بالهزل، فأعطاه ما أغناه، فهبت ريحه ونفقت سوقه، ودرًت الصلات له، وكانت له علاقات مع أعلام عصره، مثل أبي العلاء المعري. ترك بغداد إلى مصر سنة اثنتي عشرة وأربع مئة، ومدح خليفتها الفاطمي الظاهر بإعزاز دين الله بن الحاكم بأمر الله، وتوفي فيها فجأة من شرقة لحقته في السابع من رجب من السنة ذاتها.
وعلى الرغم من قلة أخباره في كتب التراجم و الأدب وتكرارها، فإنها توحي بأنه كان فقيهاً عالماً، شاعراً مجيداً،جاداً متزناً، ولما رأى سخف الزمان وأهله، وميلهم من الكلام إلى هزله، أخذ طريق السَخف و نزع ثياب الجد، وتلَقَب بصريع الدلاء وتشبَه بابن الحجاج، وسلك طريقة أبي الرقعمق، فاشتهر وذاع صيته في الآفاق، وصار مضرب المثل في الخلاعة والمجون، صاحب مزاح ولعب. كان شاعراً مطبوعاً وأديباً خليعاً، جمع شعره بين الجد والهزل والحكمة والمجون، اشتهر بقصيدته المقصورة التي عارض بها مقصورة ابن دريد، التي أشاد بها أهل الأدب، وقالوا: إنها طويلة تربي على المئة، وقد أعجز الشعراء أن يزيدوا فيها بيتاً من حسنها. وديوان شعره مشهور لم يطبع بعد، ومنه نسخة في مكتبة أحمد الثالث بتركيا تحت رقم 245.
وما ذكر في كتب الأدب من شعره يدل على أنه طرق موضوعات الشعر المعروفة وأجادها،وزاد عليها با لغزل الماجن والعبث، وأظهر ثقافة عالية مكنته من تصريف المعاني وتوليدها ومن إقامة هزله الذي قصد إليه قصداً، وخاصة في مقصورته التي قال فيها:
سوف أسلّي عَنْكُم صبابتي
بحَمْقَةٍ يَعْجَبُ منها مَنْ وَعَى
في طرف نظمتُها مقصورة
إذ كنت قصّاراً صريعاً للدلا
وقد ختمها ببيت لو لم يكن له في الجد سواه،لبلغ درجة الفضل، وأحرز معه قصب السبق، وقيل عنه:إنه خير من مقصورة ابن دريد،فانه حكمة بالغة، وهو:
من فاته العلم وأخطاه الغنى
فذاك والكلبُ على حالٍ سَوَا
يقوم هزله في مقصورته على ترديد البديهيات، وقد اتبع في إيرادها أسلوب المفاجأة، فكان ياتي بالشرط موحياً أن جوابه أمر عظيم، فإذا وصل القارئ إليه خاب توقعه،لأنه من المسلمات التي لاتثير انتباه الأطفال، وبذلك يفاجئ المتلقي ويكسر منطقه ويدفعه إلى الابتسام، بل الضحك، فقد اصطنع طرائق الحكماء في تقرير حقائق عامة وتجارب غنية،لكنه ضمنها أشياء سخيفة، وهذه المفارقة بين الطريقة والأسلوب وبين المضمون هي مبعث التحامق والتباله، وهي التي تصدم المتلقي في توقعه، واعتياده على التواصل مع الأدب. وأسلوبه فيها عذب رقيق، ليس فيه التواء وغموض، حافظ فيه على السلامة والمتانة، على الرغم من أن طريقته في العبث جديدة على الأدب، لايعتمد في التعبير عنها على العبارات الجاهزة المألوفة، ومن لايمتلك أداته اللغوية لايستطيع أداءها بلغة سليمة واضحة، ولابد من أن يقع في الخطأ والركاكة. ولم يظهر في شعره الذي بقي أنه وقف ليقيم صنعة لفظية أو معنوية، لكنه استخدم خياله استخداماً موفقاً في التشبيهات والصور التي أدى بها مقاصده. وقد أجمعت المصادر التي ذكرته على أنه أحد أعلام الشعر في عصره، وأن شعره كان سائرا ذائعاً مقبولاً عند العامة والخاصة.
ومن مقصورته قوله:
مَن صفع الناس ولم يمكنهم
أن يصفعوه بدلا ً قد اعتدى
مَن مضغ الأحجار أَدمت فكه
فالضرس لم تخلق لتليين الحصى
مَن نام لم يبصر بعيني رأسه
ومن تطاطا راكعا قد انحنى
مَن قطع النخل و ظل راجيا
ثمارها فذ لك مقطوع الرجا
محمود سالم محمد