خاتمة
لقد تكلمنا كثيراً في هذا الكتاب عن الحرية والتحرر . والحقيقة التي لا مراء فيها أن الفن الحديث لم يستطع أن يصبح على ما هو عليه ، ولم تكن الأعمال الرائعة التي توقفنا عندها ممكنة التحقيق ، لولا أنه أحداث التحرر الخصبة . بيد أن الوقت قد حان لأن نميل أحياناً إلى التساؤل عما إذا كانت الحرية قد بلغت درجة جعلت الفن معها في خطر الهلاك كما حدث له أن كاد يختنق من جراء القيود المدرسية المعقمة . ولا سيما وأن البعض يرون أن ثمة تحريراً أخيراً يبدو اليوم يفرض نفسه ، وقوامه استبعاد حتى الاعتبارات الجمالية ، وحتى مفهوم الفن ذاته .
وفي الحقيقة ، فمنذ بعض الوقت ظهر تيار واسع يمكن وصفه بأنه ضد التصوير . وضد النحت . . . وأخذ ينتشر في العالم ، وهو ضرب من الدادائية الجديدة وأهم مظاهره ، هو الفن الشعبي ( Pop Art ) الأميركي . وقد ساعدت دعاية دائبة على أن تؤمن له بسرعة نجاحاً لم يتح قط مثله للدادائية . والسبب في ذلك أن هذا النجاح نفسه يدل على على أن الاتجاه الجديد ، على الرغم مما في ظاهره من العادات والأذواق لدى جمهور غفير أقل مما يسايره . وعلى كل حال ، فإن دعاته يضعون أنفسهم في مستوى الناس . لأنهم لا يتطلبون أي قدر
من الثقافة الفنية ، وإنما يقتصرون كيفياً على تجميع أشياء جعلتها الحياة الحديثة أشياء مألوفة لدى كل منا ، كصور مقتطعة من المجلات صور رجال السياسة ، وممثلات السينما ، وأحداث الساعة ، وكقطع من اعلانات ومنقولات عن لوحات وأشياء مختلفة عادية . وخلافاً لما كان يفعله التكعيبيون وواحد من الدادائيين هو ( شفيتزر ) في ملصوقاتهم، فإن أبطال هذا التيار الجديد لم يحاولوا ( أو لم يستطيعوا ) تمويه الأشياء الأمر أبداً إلى تبديل هويتها . وبعبارة أخرى نقول أنهم لم يكونوا يضعون الأشياء في صعيد الفن ما دام الفن إنما تحوير الواقع الخام بل تجاوزه .
وبكل حال ، إذا كان للون نفسه نصيب في هذه التجميعات ليقوم بالربط بين العناصر المختلفة المتباينة أو » تتبيلها » فإنه يلفت النظر لما فيه من فقر وابتذال .
ومادام أي شيء يمكن أن يكون مضاد للتصوير أو للنحت ، فباستطاعة أي انسان بدون شك أن يشعر بأنه مدعو لاتخاذ هذين المجالين حرفة له . . . ومن هنا نشأ تضخم عدد ( الفنانين ) . . . وليس هؤلاء في العديد من الحالات سوى جماعة من هواة ممارسة الأعمال اليدوية الصغيرة المتعجلين يعوزهم الكثير أو القليل من المهارة . . . ولا بد مع القول بأن هذا النوع من الفن ليس تماماً بالجديد . فقد ظهرت أيضاً في الماضي تجمعات غير متجانسة . وميكانيكيات بارعة . وكثيراً ما كانت هذه الأعمال تنم عن إبداع يفوق بكثير إبداع تلك التي تعرض علينا اليوم. والفرق بين الحالين هو أنهم كانوا فيما سبق يتحاشون الخلط بين الأمور. فلم تكن هذه الأعمال تظهر في المعارض الفنية ، في حين أنها تعرض اليوم بكثرة في هذه المعارض . وان ثمة الناس غير قليل ، يجدون هذه الأعمال أكثر قيمة من اللوحات الحقيقية والمنحوتات الحقيقية بداعي أنها أكثر غرابة وأكثر إثارة للدهشة . وعلى كل حال ، فنحن نجد أنفسنا في ذات الوضع الذي عرف في أواخر القرن التاسع عشر . فالمصورون الرسميون ، آنذاك ، بقصصهم التاريخية أو العاطفية ، كانوا هم أيضاً أكثر » طرافة » من سيزان ومن رنوار .
وبوجيز العبارة ، نقول أننا نرى التجريديين والتشبيهيين على السواء ينتجون أعمالاً فنية هي المعادل المعاصر ( للفن الرسمي ) فيما مضى ، ولكنها في كثير من الحالات ، ذات مزايا تشكيلية أقل من مزايا أعمال ذلك الفن الرسمي . فهل نقول في ذلك أن فننا المتقدم هو المسؤول عن ذلك ؟ وان جرثومة الداء كامنة في هذا الميل الشديد إلى التخريب المغامر وفي هذه العبادة لكل ما هو جديد ، اللذين ظل الفن الحديث يجاهر بهما طوال تاريخه ؟ من السهل الجواب على ذلك بأن المصورين ( الرسميين ) ينحدرون أيضاً من مصورين ونحاتين لا شك بأصالتهم ، ولم يستطع هؤلاء الرسميون أن ينالوا من مكانتهم .
ومهما يكن من أمر ، فإننا إذا مضينا في الأمور إلى بواطنها وجدنا أن مزايا الفن الحديث ذات نصيب كبير في إثارة ردة الفعل ، وإنها هي التي تعلل لنا لماذا لقي البعض تلك الردة بهذا الترحيب ! ان الفن الحديث قد نبذ كل ما هو خارج عن التصوير » وكل ما هو « خارج النحت » ، وأراد ألا يأتي تأثيره إلا من جوهره الفني الصافي إذ فعل ذلك ، إنما اختار أن يكون فناً كثير المتطلبات .
وعلى طول المدة ، يفترض هذا الفن في مبدعه كثيراً من العمق ، وكثيراً من الابتكار والاختراع ، ويبدأ بتطلب جهد في التخيل ، ممن يريد أن ( يفهمه ) لأن هذا الفن لا يتصل مفهومه بالناس بمجرد مشاهدته . والواقع أن كل عمل فني إذ لا يخاطب إلا من يتحسسون بالمزايا الشعرية والتشكيلية التي في ( الشكل ) ، فإنه يبدو لأول وهلة لعامة الناس عملاً لا صدى له . وهو ، فوق هذا عمل لا يشجع المعلقين بل يضعهم في موقف صعب ، لأنه لا يفسح إلا مجالاً ضيقاً للشروح الأدبية . ولا تحيط الكلمة إلا بشكل ناقص . ولذلك يكثر الناس الذين يشاهدون مثل هذا العمل ، فلا يروي ظمأهم للفن . بل يجعلهم يشعرون بأنهم حرموا من المتعة . وغني عن البيان أن مثل هذا الوضع خلق ميلا إلى ترحيب النظارة بكل عمل يعرض صورة قابلة للشرح والتأويل ، أو أي شيء يمكن أن يلهم مباشرة تفكير هم المنطقي ( أو تفكير هم الهادي ) ، ولا يجبرهم على التأمل في هذا الشيء الغريب الذي يسبر غوره بصورة كلية ، ألا وهو العمل التصويري أو النحتي المحض .
والواقع أنه يضاف إلى هذا كله ، الملل والاشمئزاز اللذان بعثهما تراكم التطرفات الجنونية ( اللاشكلية ) لأن هذا التراكم هو أيضاً مظهر من المظاهر التي تميز الحياة الفنية في عصرنا هذا . فمنذ أن يحرز اتجاه ما نجاحاً تجارياً ، يكثر متبعوه كثرة هائلة ، وراحوا يسعون إلى استثماره . فما يمض زمن قليل حتى يصبح هذا الاتجاه متعباً ومضايقاً حتى بالنسبة للذين دافعوا عنه بحماس .
فهل معنى كلامنا هذا أننا نشهد الآن احتضار الفن التجريدي ؟ ان ثمة اشخاصاً يقولون بذلك مجاهرين ، ويؤكدون أننا الآن نشهد بأم أعيننا عودة صريحة إلى الفن التشبيهي ، إلا أن الحقيقة قد لا تكون بكل هذه البساطة. فمن جهة أولى ، ظللنا نسمع في العشرين سنة الأخيرة أن ثمة عودة إلى التشبيهي كما كانوا يعلنون قبل الحرب ، وبصورة دورية الرجوع إلى الواقعية . ثم تبدى أن هذه الأقوال إنما كانت تعبر عن أمنيات ولا تعبر عن واقع ، ومن جهة ثانية ، فإذا لم تعد النزعة اللاشكلية زياً رائجاً ، وإذا كانت تلقى ترحيباً أقل من ذي قبل ، وإذا كانت تظهر في المعارض على وجه أضيق مما سبق ، فكل ذلك يعني ، أول ما يعني ، أنها هجرت من قبل الأشخاص الذين كانوا يتبعونها دون إيمان ، وعادة دون موهبة . ولكن ، ليس هنالك ما يجيز لنا أن نؤكد أن الفن التجريدي قد تخلى عنه دعاته الأصيلون . وكما أن بعض الروائع التكعيبية قد أبدعت بعد زمن طويل من زوال التكعيب كحركة كذلك فإننا لا نزال نشاهد إنتاج أعمال تجريدية وغير تشبيهية رائعة .
هذا وان تقلبات الأذواق أخذت تسلط من جديد ، أضواء اهتمام الساعة على التجريد الهندسي الذي كان حظه من اجتذاب الناس قليلاً جداً في السنوات الأخيرة. ففي نيويورك خلفت موجة الفن البصري ( L'Op Art ) موجة الفن الشعبي ( Pop Art ) . وسرعان ما عاد الاهتمام منصباً على الأشكال المنتظمة وعلى الأسلوب الواضح المغفل على أن أكثر منجزات الفن البصري ( Op Art ) الذي له أتباع كثيرون في فرنسا وغيرها ، وذلك منذ زمن طويل ولا سيما و فازارلي Vasarely تنجح في إثارة الشبكة البصرية وإهاجتها أكثر مما تأتينا بأضواء عميقة . . . وإذا تحرينا الدقة في الكلام ، قلنا أن تلك المنجزات محصورة في نطاق الفن التطبيقي ، ولن يكون لها معناها الكامل في معرض للتصوير ، بل في واجهة المخازن الكبرى أو في جناح من معرض تجاري . أو قاعة عرض للفنون التزيينية .
وبعد هذا يجب الاعتراف بأن النزعات التشبيهية قد بدأت تتغلب عند الشبان ، ولكن التشبيهية المسماة جديدة لا تسعى مطلقاً إلى إرضاء أتباع الواقعية التقليدية ، ولا تدعي انتماءها إلى ماتيس أو إلى بيكاسو أو إلى لابيك أو بيينيون ، على الرغم أن ثمة عدداً . الفنانين الشبان يحوّرون الواقع مع مراعاة ما جاء به هؤلاء الفنانون . ان الفن « التشبيهي الجديد » في أيامنا هذه ينتمي إلى فوتريه و دوبوفييه وإلى التعبيريين وإلى جماعة كوبرا . وقد يحدث أن يقتدي هذا الفن بالفن الشعبي ( Pop Art ) وبالدعاية ، بل بالأفلام المرسومة للسينما . وللصحف وبكلمة واحدة ، يعرض علينا هذا الفن صوراً يغلب فيها السخف المضحك ، والتكشيرات ، والفظاعة ، وأحياناً الموت . وإذا شاء هذا الفن أن يكون روائياً فان اهتمامه بالرواية والقصة يفوق بكثير اهتمامه بالشكل وبعبارة أخرى ، فإننا نجد هنا مرة أخرى ، الموقف المبدئي للمصورين الرسميين في القرن الماضي ، ان لم نجد أسلوبهم . وإن المقارنة بينهما تفرض نفسها على الرغم من أن المصورين الرسميين كانوا يحترمون مثل المجتمع البورجوازي ، وان ( قصاصي ) هذه الأيام حريصون على الظهور بمظهر الوقاحة والعدوان .
فهل يكون الفن التشبيهي الجديد » مجرد زي كتلك الأزياء الكثيرة التي سبقت ؟ وهل يكون مثلها عابراً ؟ أم أننا أمام تيار يستطيع حقيقة أن يسهم في خلق أسلوب جديد وأعمال أكثر إقناعاً من أكثر الأعمال التي أتيحت لنا مشاهدتها حتى الآن ؟
ربما كان الأفضل لنا ألا نحاول التنبؤ بذلك ، كما أن من الأفضل ألا نحاول أن نتخيل وجه الفن كما سيكون في الغد . فمن كان قادراً عام ١٩٠٥ على التنبؤ بالتكعيبية ، وفي عام ١٩٤٦ بانتشار الفن التجريدي بهذا الشكل الفوري السريع ؟
إن الشيء الوحيد الذي يمكن أن نؤكده أن المستقبل هو دائماً ملك أولئك الذين يشيحون عن السهل والهين ، ويصرفون همهم ! إلى التجديد من جهة ، وإلى إبداع أعمال فنية تمتاز بحساسيتها ونكهتها ومتانتها .
لقد تكلمنا كثيراً في هذا الكتاب عن الحرية والتحرر . والحقيقة التي لا مراء فيها أن الفن الحديث لم يستطع أن يصبح على ما هو عليه ، ولم تكن الأعمال الرائعة التي توقفنا عندها ممكنة التحقيق ، لولا أنه أحداث التحرر الخصبة . بيد أن الوقت قد حان لأن نميل أحياناً إلى التساؤل عما إذا كانت الحرية قد بلغت درجة جعلت الفن معها في خطر الهلاك كما حدث له أن كاد يختنق من جراء القيود المدرسية المعقمة . ولا سيما وأن البعض يرون أن ثمة تحريراً أخيراً يبدو اليوم يفرض نفسه ، وقوامه استبعاد حتى الاعتبارات الجمالية ، وحتى مفهوم الفن ذاته .
وفي الحقيقة ، فمنذ بعض الوقت ظهر تيار واسع يمكن وصفه بأنه ضد التصوير . وضد النحت . . . وأخذ ينتشر في العالم ، وهو ضرب من الدادائية الجديدة وأهم مظاهره ، هو الفن الشعبي ( Pop Art ) الأميركي . وقد ساعدت دعاية دائبة على أن تؤمن له بسرعة نجاحاً لم يتح قط مثله للدادائية . والسبب في ذلك أن هذا النجاح نفسه يدل على على أن الاتجاه الجديد ، على الرغم مما في ظاهره من العادات والأذواق لدى جمهور غفير أقل مما يسايره . وعلى كل حال ، فإن دعاته يضعون أنفسهم في مستوى الناس . لأنهم لا يتطلبون أي قدر
من الثقافة الفنية ، وإنما يقتصرون كيفياً على تجميع أشياء جعلتها الحياة الحديثة أشياء مألوفة لدى كل منا ، كصور مقتطعة من المجلات صور رجال السياسة ، وممثلات السينما ، وأحداث الساعة ، وكقطع من اعلانات ومنقولات عن لوحات وأشياء مختلفة عادية . وخلافاً لما كان يفعله التكعيبيون وواحد من الدادائيين هو ( شفيتزر ) في ملصوقاتهم، فإن أبطال هذا التيار الجديد لم يحاولوا ( أو لم يستطيعوا ) تمويه الأشياء الأمر أبداً إلى تبديل هويتها . وبعبارة أخرى نقول أنهم لم يكونوا يضعون الأشياء في صعيد الفن ما دام الفن إنما تحوير الواقع الخام بل تجاوزه .
وبكل حال ، إذا كان للون نفسه نصيب في هذه التجميعات ليقوم بالربط بين العناصر المختلفة المتباينة أو » تتبيلها » فإنه يلفت النظر لما فيه من فقر وابتذال .
ومادام أي شيء يمكن أن يكون مضاد للتصوير أو للنحت ، فباستطاعة أي انسان بدون شك أن يشعر بأنه مدعو لاتخاذ هذين المجالين حرفة له . . . ومن هنا نشأ تضخم عدد ( الفنانين ) . . . وليس هؤلاء في العديد من الحالات سوى جماعة من هواة ممارسة الأعمال اليدوية الصغيرة المتعجلين يعوزهم الكثير أو القليل من المهارة . . . ولا بد مع القول بأن هذا النوع من الفن ليس تماماً بالجديد . فقد ظهرت أيضاً في الماضي تجمعات غير متجانسة . وميكانيكيات بارعة . وكثيراً ما كانت هذه الأعمال تنم عن إبداع يفوق بكثير إبداع تلك التي تعرض علينا اليوم. والفرق بين الحالين هو أنهم كانوا فيما سبق يتحاشون الخلط بين الأمور. فلم تكن هذه الأعمال تظهر في المعارض الفنية ، في حين أنها تعرض اليوم بكثرة في هذه المعارض . وان ثمة الناس غير قليل ، يجدون هذه الأعمال أكثر قيمة من اللوحات الحقيقية والمنحوتات الحقيقية بداعي أنها أكثر غرابة وأكثر إثارة للدهشة . وعلى كل حال ، فنحن نجد أنفسنا في ذات الوضع الذي عرف في أواخر القرن التاسع عشر . فالمصورون الرسميون ، آنذاك ، بقصصهم التاريخية أو العاطفية ، كانوا هم أيضاً أكثر » طرافة » من سيزان ومن رنوار .
وبوجيز العبارة ، نقول أننا نرى التجريديين والتشبيهيين على السواء ينتجون أعمالاً فنية هي المعادل المعاصر ( للفن الرسمي ) فيما مضى ، ولكنها في كثير من الحالات ، ذات مزايا تشكيلية أقل من مزايا أعمال ذلك الفن الرسمي . فهل نقول في ذلك أن فننا المتقدم هو المسؤول عن ذلك ؟ وان جرثومة الداء كامنة في هذا الميل الشديد إلى التخريب المغامر وفي هذه العبادة لكل ما هو جديد ، اللذين ظل الفن الحديث يجاهر بهما طوال تاريخه ؟ من السهل الجواب على ذلك بأن المصورين ( الرسميين ) ينحدرون أيضاً من مصورين ونحاتين لا شك بأصالتهم ، ولم يستطع هؤلاء الرسميون أن ينالوا من مكانتهم .
ومهما يكن من أمر ، فإننا إذا مضينا في الأمور إلى بواطنها وجدنا أن مزايا الفن الحديث ذات نصيب كبير في إثارة ردة الفعل ، وإنها هي التي تعلل لنا لماذا لقي البعض تلك الردة بهذا الترحيب ! ان الفن الحديث قد نبذ كل ما هو خارج عن التصوير » وكل ما هو « خارج النحت » ، وأراد ألا يأتي تأثيره إلا من جوهره الفني الصافي إذ فعل ذلك ، إنما اختار أن يكون فناً كثير المتطلبات .
وعلى طول المدة ، يفترض هذا الفن في مبدعه كثيراً من العمق ، وكثيراً من الابتكار والاختراع ، ويبدأ بتطلب جهد في التخيل ، ممن يريد أن ( يفهمه ) لأن هذا الفن لا يتصل مفهومه بالناس بمجرد مشاهدته . والواقع أن كل عمل فني إذ لا يخاطب إلا من يتحسسون بالمزايا الشعرية والتشكيلية التي في ( الشكل ) ، فإنه يبدو لأول وهلة لعامة الناس عملاً لا صدى له . وهو ، فوق هذا عمل لا يشجع المعلقين بل يضعهم في موقف صعب ، لأنه لا يفسح إلا مجالاً ضيقاً للشروح الأدبية . ولا تحيط الكلمة إلا بشكل ناقص . ولذلك يكثر الناس الذين يشاهدون مثل هذا العمل ، فلا يروي ظمأهم للفن . بل يجعلهم يشعرون بأنهم حرموا من المتعة . وغني عن البيان أن مثل هذا الوضع خلق ميلا إلى ترحيب النظارة بكل عمل يعرض صورة قابلة للشرح والتأويل ، أو أي شيء يمكن أن يلهم مباشرة تفكير هم المنطقي ( أو تفكير هم الهادي ) ، ولا يجبرهم على التأمل في هذا الشيء الغريب الذي يسبر غوره بصورة كلية ، ألا وهو العمل التصويري أو النحتي المحض .
والواقع أنه يضاف إلى هذا كله ، الملل والاشمئزاز اللذان بعثهما تراكم التطرفات الجنونية ( اللاشكلية ) لأن هذا التراكم هو أيضاً مظهر من المظاهر التي تميز الحياة الفنية في عصرنا هذا . فمنذ أن يحرز اتجاه ما نجاحاً تجارياً ، يكثر متبعوه كثرة هائلة ، وراحوا يسعون إلى استثماره . فما يمض زمن قليل حتى يصبح هذا الاتجاه متعباً ومضايقاً حتى بالنسبة للذين دافعوا عنه بحماس .
فهل معنى كلامنا هذا أننا نشهد الآن احتضار الفن التجريدي ؟ ان ثمة اشخاصاً يقولون بذلك مجاهرين ، ويؤكدون أننا الآن نشهد بأم أعيننا عودة صريحة إلى الفن التشبيهي ، إلا أن الحقيقة قد لا تكون بكل هذه البساطة. فمن جهة أولى ، ظللنا نسمع في العشرين سنة الأخيرة أن ثمة عودة إلى التشبيهي كما كانوا يعلنون قبل الحرب ، وبصورة دورية الرجوع إلى الواقعية . ثم تبدى أن هذه الأقوال إنما كانت تعبر عن أمنيات ولا تعبر عن واقع ، ومن جهة ثانية ، فإذا لم تعد النزعة اللاشكلية زياً رائجاً ، وإذا كانت تلقى ترحيباً أقل من ذي قبل ، وإذا كانت تظهر في المعارض على وجه أضيق مما سبق ، فكل ذلك يعني ، أول ما يعني ، أنها هجرت من قبل الأشخاص الذين كانوا يتبعونها دون إيمان ، وعادة دون موهبة . ولكن ، ليس هنالك ما يجيز لنا أن نؤكد أن الفن التجريدي قد تخلى عنه دعاته الأصيلون . وكما أن بعض الروائع التكعيبية قد أبدعت بعد زمن طويل من زوال التكعيب كحركة كذلك فإننا لا نزال نشاهد إنتاج أعمال تجريدية وغير تشبيهية رائعة .
هذا وان تقلبات الأذواق أخذت تسلط من جديد ، أضواء اهتمام الساعة على التجريد الهندسي الذي كان حظه من اجتذاب الناس قليلاً جداً في السنوات الأخيرة. ففي نيويورك خلفت موجة الفن البصري ( L'Op Art ) موجة الفن الشعبي ( Pop Art ) . وسرعان ما عاد الاهتمام منصباً على الأشكال المنتظمة وعلى الأسلوب الواضح المغفل على أن أكثر منجزات الفن البصري ( Op Art ) الذي له أتباع كثيرون في فرنسا وغيرها ، وذلك منذ زمن طويل ولا سيما و فازارلي Vasarely تنجح في إثارة الشبكة البصرية وإهاجتها أكثر مما تأتينا بأضواء عميقة . . . وإذا تحرينا الدقة في الكلام ، قلنا أن تلك المنجزات محصورة في نطاق الفن التطبيقي ، ولن يكون لها معناها الكامل في معرض للتصوير ، بل في واجهة المخازن الكبرى أو في جناح من معرض تجاري . أو قاعة عرض للفنون التزيينية .
وبعد هذا يجب الاعتراف بأن النزعات التشبيهية قد بدأت تتغلب عند الشبان ، ولكن التشبيهية المسماة جديدة لا تسعى مطلقاً إلى إرضاء أتباع الواقعية التقليدية ، ولا تدعي انتماءها إلى ماتيس أو إلى بيكاسو أو إلى لابيك أو بيينيون ، على الرغم أن ثمة عدداً . الفنانين الشبان يحوّرون الواقع مع مراعاة ما جاء به هؤلاء الفنانون . ان الفن « التشبيهي الجديد » في أيامنا هذه ينتمي إلى فوتريه و دوبوفييه وإلى التعبيريين وإلى جماعة كوبرا . وقد يحدث أن يقتدي هذا الفن بالفن الشعبي ( Pop Art ) وبالدعاية ، بل بالأفلام المرسومة للسينما . وللصحف وبكلمة واحدة ، يعرض علينا هذا الفن صوراً يغلب فيها السخف المضحك ، والتكشيرات ، والفظاعة ، وأحياناً الموت . وإذا شاء هذا الفن أن يكون روائياً فان اهتمامه بالرواية والقصة يفوق بكثير اهتمامه بالشكل وبعبارة أخرى ، فإننا نجد هنا مرة أخرى ، الموقف المبدئي للمصورين الرسميين في القرن الماضي ، ان لم نجد أسلوبهم . وإن المقارنة بينهما تفرض نفسها على الرغم من أن المصورين الرسميين كانوا يحترمون مثل المجتمع البورجوازي ، وان ( قصاصي ) هذه الأيام حريصون على الظهور بمظهر الوقاحة والعدوان .
فهل يكون الفن التشبيهي الجديد » مجرد زي كتلك الأزياء الكثيرة التي سبقت ؟ وهل يكون مثلها عابراً ؟ أم أننا أمام تيار يستطيع حقيقة أن يسهم في خلق أسلوب جديد وأعمال أكثر إقناعاً من أكثر الأعمال التي أتيحت لنا مشاهدتها حتى الآن ؟
ربما كان الأفضل لنا ألا نحاول التنبؤ بذلك ، كما أن من الأفضل ألا نحاول أن نتخيل وجه الفن كما سيكون في الغد . فمن كان قادراً عام ١٩٠٥ على التنبؤ بالتكعيبية ، وفي عام ١٩٤٦ بانتشار الفن التجريدي بهذا الشكل الفوري السريع ؟
إن الشيء الوحيد الذي يمكن أن نؤكده أن المستقبل هو دائماً ملك أولئك الذين يشيحون عن السهل والهين ، ويصرفون همهم ! إلى التجديد من جهة ، وإلى إبداع أعمال فنية تمتاز بحساسيتها ونكهتها ومتانتها .
تعليق