الأزارقة
ازارقه
Al-Azariqa - Al-Azâriqa
الأزارقة
الأزارقة فرقة من فرق الشراة [ر] (الخوارج)، سميت باسم زعيمها نافع بن الأزرق الحنفي [ر].
ظهرت هذه الفرقة بعد أن فارق الخوارج عبد الله بن الزبير الذين كانوا قدموا عليه مكة، فقاتلوا معه الحُصينَ بن نُمير السكوني قائد جيش الشام، فلما مات يزيد بن معاوية ووجد الخوارج أن عبد الله بن الزبير يختلف معهم في الرأي انفضوا عنه، فتوجه نافع بن الأزرق الحنفي، وعبد الله بن صَفَّار التميمي[ر]، وعبد الله بن إباض التميمي، وحنظلة بن بَيْهسَ وبنو الماحوز إلى البصرة وهم يجمعون على رأي أبي بلال مرداس بن أُدَيَّة التميمي، في حين انطلق أبو طالوت من بني بكر بن وائل، وعبد الله بن ثور (أبو فُدَيك) إلى اليمامة، فوثبا فيها، ثم اجتمع أمرهما بعد ذلك على نجدة بن عامر الحَنَفي سنة 66هـ.
افترقت كلمة الخوارج حين تجرَّد الناس في البصرة لحربهم، وخرج نافع من البصرة ولم يتبعه عبد الله بن صَفَّار وعبد الله بن إباض ورجال معهما، فرأى نافع أن ولاية من تخلَّف عنه لا تنبغي، ولا نجاة له، كذلك اختلف معه نجدة بن عامر حول التقية والقَعَد، ورأى كل منهما رأياً، وأيد أقواله بآيات قرآنية. وسمي الذين أخذوا برأي نافع منهم الأزارقة.
وقد بايع هؤلاء نافعاً على الإمارة، وكانت غالبيتهم من تميم، فاشتدت شوكته وكثرت جموعه، حتى لم تكن ثمة فرقة أكثر عدداً ولا أشد شوكة منهم، وأصبحت هذه الفرقة من أقسى فرق الخوارج وأكثرها تصلباً في مبادئها وأشدها تطرفاً. وقد جمع بينهم الإيمان العميق بالمبادئ التي قرروها وارتضوها، وانضم إلى نافع عدد من رؤوس الخوارج الآخرين.
وكان والي البصرة عبيد الله بن زياد لا يدع من الخوارج أحداً إلا قتله، فلم يكونوا يجرؤون على دخول البصرة، ولمَّا توجه ابن زياد إلى الشام بعد وفاة الخليفة الأموي يزيد بن معاوية، دخل الأزارقة البصرة، فتجمع أهلها وقاتلوهم وطردوهم، فلجؤوا إلى الأهواز، وكان ذلك سنة 64هـ/ 684م. وفي السنة التالية أعاد نافع الكرة على البصرة، ولكن أهلها استبسلوا بالقتال وتمكنوا من قتل نافع وتشريد من معه، غير أن هؤلاء مالبثوا أن جمعوا صفوفهم بقيادة عبد الله بن الماحوز التميمي، وانضم إليهم عدد كبير من غير العرب، وهاجموا البصرة مجدداً، فانتصروا على أهلها وفتكوا بهم، فوجه إليهم عبد الله بن الزبير، الذي كان العراق يتبع دولته في الحجاز، المهلَّب بن أبي صفرة وكانت له جولات في الحرب معهم إلى أن تغلب عليهم. وتمكن كذلك مصعب بن الزبير الذي ولي البصرة لأخيه، من قتل أمير الأزارقة، ابن الماحوز، فبايعوا قطَريّ بن الفُجاءَة المازني [ر].
وبعد عودة العراق إلى حظيرة الخلافة الأموية، نهض والي البصرة خالد بن عبد الله بن أسيد لقتال الخوارج، وكانوا بقيادة قَطَري، واشتبك معهم في معركة ضارية في منطقة الأهواز انتهت بهزيمة خالد.
ما لبث عبد الملك بن مروان أن عزل خالداً، وولّى على البصرة بشر بن مروان، وعيّن المهلب بن أبي صفرة قائداً للجيش، وفوض إليه أمر قتال الأزارقة من دون الرجوع إلى أحد، فنشط لمحاربتهم، واشتد في ذلك حين تولى الحجاج بن يوسف الثقفي العراق وجند له من كان قادراً على القتال من أهل الكوفة والبصرة. وكانت المعارك شديدة بين الطرفين، وكانت محصلتها انتصار المهلب، وتشتيت شمل الأزارقة إلى ما وراء فارس، فتبعهم المهلب وقضى ثمانية عشر شهراً في قتالهم، حتى أبعدهم إلى كرمان التي كانت في أيديهم.
تابع المهلب حرب الأزارقة في ولاية الحجاج ثلاث سنوات، وقد أزعج ذلك الحجاج فأرسل يحث المهلب على الحسم في القتال، ولكن المهلب كان أعلم منه بأمرهم، وكان يعمل على أن لا يدع ثغرة ينفذون منها. ومع أن الخطر كان محدقاً بالأزارقة، فإنهم لم يعملوا على تماسك جبهتهم الداخلية، فكانت لهم مآخذ على زعيمهم قَطَريّ بن الفجاءة، ولاموه على بعض المخالفات الشرعية، ولم يقبلوا دفاعه عمن ولاّهم قيادة الجيش. وانقسموا بسبب ذلك فريقين، ظل الفريق الأول منهم موالياً لقطري بن الفجاءة، وغالبيتهم من العرب، واتخذ الفريق الثاني من عبد ربه الصغير خليفة لهم وكانت غالبيتهم من الموالي. ونشبت الحرب بين الفريقين من الأزارقة، واستمر القتال بينهما مدة شهر تقريباً. وكان المهلب في أثنائها يراقب الأمور بحذر، ولا يريد التدخل لئلا يدفعهم إلى التوحد ثانية في وجهه.
وتمكن الفريق الذي كان بقيادة عبد ربه من السيطرة على جِيرَفت عاصمة كرمان، وأخرجوا قطري بن الفجاءة المازني مع أنصاره منها، فارتحل إلى طبرستان. واغتنم المهلب هذه السانحة فقاتل الأزارقة الذين بقوا في كرمان وهزمهم، وقضى عليهم قضاء مبرماً في سنة 78هـ/ 697م. في حين وجه الحجاج بن يوسف سفيان بن الأبرد الكلبي لقتال قطري بن الفجاءة، فلحقه في شعب من شعاب طبرستان، فقاتله حتى تفرق عنه أصحابه وقتله. ثم توجه سفيان بن الأبرد إلى عبيدة بن هلال الذي تحصن في قصر بقومس، فحاصره ودعاه إلى التسليم فرفض، ثم مالبث أن خرج للقتال حتى قتل مع أنصاره في سنة 78هـ/ 697م. وبهذا استؤصلت شأفة الأزارقة، وكان لخلافاتهم الداخلية، أثر في القضاء عليهم، لا يقل عن أثر المهلب في حربهم.
كان للأزارقة مبادئ كثيرة، يرون أن الإيمان الكامل لا يكون إلا بها، ومما رأوه:
- أن مخالفيهم من أمة الإسلام مشركون، ومن لا يسارع منهم إلى اعتناق مذهبهم يستحل دمه وماله، هو ونساؤه وأطفاله. وقد كفّروا علياً لقبوله التحكيم، وصوّبوا عمل عبد الرحمن بن ملجم المرادي في قتله. وكفّروا عثمان بعد ست سنين من حكمه. وكفّروا معاوية وعبد الله بن عباس وطلحة والزبير وعائشة ومن كان معهم من أصحاب الجمل، وكفّروا كل من اشترك في معركة صفّين من الطرفين، وحكموا بخلودهم في النار.
ولما كان جميع المسلمين، ما عداهم، مشركين رأى نافع بن الأزرق أنه لا يحل لأصحابه المؤمنين أن يجيبوا أحداً من غيرهم إلى الصلاة إذا دعاهم إليها، ولا أن يأكلوا من ذبائحهم، ولا يتزوجوا منهم، ولا يتوارث الخارجي وغيره. فالمسلمون من غيرهم كفرة كعبدة الأوثان، لا يقبل منهم إلا اعتناق مبادئهم أو السيف. كذلك كفّر الأزارقة القَعَد، وأظهروا البراءة منهم. وأسقطوا الرجم عن الزاني، إذ ليس في القرآن ذكر له، وكان الرجم ينفذ تبعاً لحديث منسوب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأسقطوا حد القذف عمن قذف المحصنين من الرجال، مع وجوب الحد على قاذف المحصنات من النساء.
- وقد قال الأزارقة بأن التقيّة غير جائزة لا في قول ولا في عمل خلافاً للشيعة، ولو تعرضت النفس والمال والعرض للأخطار. وكانوا يرون أن من ارتكب كبيرة من الكبائر، كَفَرَ كُفْرَ ملة خرج به عن الإسلام جملة، ويكون مخلداً في النار مع سائر الكفار، خلافاً للمرجئة والمعتزلة، واستدلوا بكفر إبليس، وقالوا ما ارتكب إلا كبيرة، حيث أُمِر بالسجود لآدم فامتنع، ولذلك فإن العمل بأوامر الدين من صلاة وصيام وصدق وعدل جزء من الإيمان، وليس الإيمان بالاعتقاد وحده. فمن اعتقد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ثم لم يعمل بفروض الدين وارتكب الكبائر فهو كافر. واستحل الأزارقة أموال مخالفيهم بكل حال. كما استحلوا جحد الأمانة التي أمر الله تعالى بأدائها، وقالوا إن مخالفينا مشركون، فلا يلزمنا أداء أمانتنا إليهم. وكانوا يرون قطع يد السارق من المنكب في القليل والكثير ولم يحددوا في السرقة نصاباً. كذلك كانوا يرون وجوب وجود خليفة لقبوه أمير المؤمنين، واشترطوا فيه أن يكون أصلحهم ديناً سواء أكان قرشياً أم غير قرشي، عربياً أم غير عربي، كما رأوا وجوب عزل الخليفة إذا سار سيرة لا تتفق ومصلحة المسلمين، بأن جار أو ظلم، وإذا لم يعتزل في هذه الحالة، قوتل حتى يقتل.
وأوجب الأزارقة امتحان من قصد عسكرهم، إذا ادّعى أنه منهم، بأن يُدفع إليه أسير من مخالفيهم، فيؤمر بقتله، فإن قتله صدقوا دعواه، وإن لم يقتله، قالوا إنه منافق ومشرك وقتلوه. واعتزل الأزارقة جمهور المسلمين الذين عرّفوهم باسم أهل الضلالة، فهاجروا من دار الحرب أو دار الخاطئين إلى دار الهجرة أو دار السلام، وهو اسم حاضرتهم التي كانت تتغير كثيراً.
ويبدو من عرض مبادئهم هذه أن سياستهم كانت تسعى إلى أهداف يصعب تحقيقها، وينشدون العدالة ولو فنيت الدنيا بأسرها في سبيل تحقيقها، وقد باعوا أنفسهم لذلك، فإنهم في سوقٍ ثمنُ أرواحهم فيها الجنة. وكانت سيرتهم سيرة بدوية جافية، فيها شدة وغلظة.
كانت ثقافة الأزارقة دينية أدبية لا أثر للفلسفة فيها، يفهمون القرآن والسنة في سهولة ويسر، فإن جادلوا في الدين احتجوا بظواهر النصوص وتمسكوا بحرفيتها. وكان أدبهم أدب قوة شعراً ونثراً يعبر عن الاستماتة في طلب الحق، ويتصف بعدم اشتقاق المعاني وفلسفتها. ففي رثائهم يذرفون الدموع ليحمسوا الأحياء على قتال أعدائهم، وفي غزلهم يمزجون بين الشجاعة والغزل، وبين حب الموت وحب الحياة وهما السبيل إلى الجهاد والجنة، ويتقربون إلى من يحبون بحسن البلاء في الأعداء. وتبدو صورة أدبهم البطولي في قول قطري بن الفجاءة يخاطب نفسه:
وقال في مزج البطولة بالغزل
وكان لأدبهم هذا أثر شديد في غيرهم، فقوة الحجة والبيان ينفذان إلى الصدور أسرع من السيف.
لقد كان الأزارقة أبطالاً أشداء، رجالاً ونساء، لا يهابون الموت، ويبذلون حياتهم رخيصة في سبيل الوصول إلى مبادئهم، والوصول إلى الجنة. وكان للمرأة في حركة الأزارقة وحضورها القوي، فقد كانت أم حكيم مثلاً، في عداد المقاتلين مع قطري بن الفجاءة، ووصفت بالشجاعة، كذلك اشتهر الأزارقة بالتشدد في العبادة، والانهماك فيها، ويصفهم الشهرستاني بأنهم أهل صوم وصلاة، فكانت جباههم قرحة لطول السجود، وأيديهم كثفنات الإبل، أخلصوا لعقيدتهم، وقاتلوا دفاعاً عنها بشجاعة نادرة، غير عابئين بقلة عددهم مهما ضؤلت، ولايثنيهم فقدان الأمل في النجاح عن غايتهم.
أمينة بيطار
ازارقه
Al-Azariqa - Al-Azâriqa
الأزارقة
الأزارقة فرقة من فرق الشراة [ر] (الخوارج)، سميت باسم زعيمها نافع بن الأزرق الحنفي [ر].
ظهرت هذه الفرقة بعد أن فارق الخوارج عبد الله بن الزبير الذين كانوا قدموا عليه مكة، فقاتلوا معه الحُصينَ بن نُمير السكوني قائد جيش الشام، فلما مات يزيد بن معاوية ووجد الخوارج أن عبد الله بن الزبير يختلف معهم في الرأي انفضوا عنه، فتوجه نافع بن الأزرق الحنفي، وعبد الله بن صَفَّار التميمي[ر]، وعبد الله بن إباض التميمي، وحنظلة بن بَيْهسَ وبنو الماحوز إلى البصرة وهم يجمعون على رأي أبي بلال مرداس بن أُدَيَّة التميمي، في حين انطلق أبو طالوت من بني بكر بن وائل، وعبد الله بن ثور (أبو فُدَيك) إلى اليمامة، فوثبا فيها، ثم اجتمع أمرهما بعد ذلك على نجدة بن عامر الحَنَفي سنة 66هـ.
افترقت كلمة الخوارج حين تجرَّد الناس في البصرة لحربهم، وخرج نافع من البصرة ولم يتبعه عبد الله بن صَفَّار وعبد الله بن إباض ورجال معهما، فرأى نافع أن ولاية من تخلَّف عنه لا تنبغي، ولا نجاة له، كذلك اختلف معه نجدة بن عامر حول التقية والقَعَد، ورأى كل منهما رأياً، وأيد أقواله بآيات قرآنية. وسمي الذين أخذوا برأي نافع منهم الأزارقة.
وقد بايع هؤلاء نافعاً على الإمارة، وكانت غالبيتهم من تميم، فاشتدت شوكته وكثرت جموعه، حتى لم تكن ثمة فرقة أكثر عدداً ولا أشد شوكة منهم، وأصبحت هذه الفرقة من أقسى فرق الخوارج وأكثرها تصلباً في مبادئها وأشدها تطرفاً. وقد جمع بينهم الإيمان العميق بالمبادئ التي قرروها وارتضوها، وانضم إلى نافع عدد من رؤوس الخوارج الآخرين.
وكان والي البصرة عبيد الله بن زياد لا يدع من الخوارج أحداً إلا قتله، فلم يكونوا يجرؤون على دخول البصرة، ولمَّا توجه ابن زياد إلى الشام بعد وفاة الخليفة الأموي يزيد بن معاوية، دخل الأزارقة البصرة، فتجمع أهلها وقاتلوهم وطردوهم، فلجؤوا إلى الأهواز، وكان ذلك سنة 64هـ/ 684م. وفي السنة التالية أعاد نافع الكرة على البصرة، ولكن أهلها استبسلوا بالقتال وتمكنوا من قتل نافع وتشريد من معه، غير أن هؤلاء مالبثوا أن جمعوا صفوفهم بقيادة عبد الله بن الماحوز التميمي، وانضم إليهم عدد كبير من غير العرب، وهاجموا البصرة مجدداً، فانتصروا على أهلها وفتكوا بهم، فوجه إليهم عبد الله بن الزبير، الذي كان العراق يتبع دولته في الحجاز، المهلَّب بن أبي صفرة وكانت له جولات في الحرب معهم إلى أن تغلب عليهم. وتمكن كذلك مصعب بن الزبير الذي ولي البصرة لأخيه، من قتل أمير الأزارقة، ابن الماحوز، فبايعوا قطَريّ بن الفُجاءَة المازني [ر].
وبعد عودة العراق إلى حظيرة الخلافة الأموية، نهض والي البصرة خالد بن عبد الله بن أسيد لقتال الخوارج، وكانوا بقيادة قَطَري، واشتبك معهم في معركة ضارية في منطقة الأهواز انتهت بهزيمة خالد.
ما لبث عبد الملك بن مروان أن عزل خالداً، وولّى على البصرة بشر بن مروان، وعيّن المهلب بن أبي صفرة قائداً للجيش، وفوض إليه أمر قتال الأزارقة من دون الرجوع إلى أحد، فنشط لمحاربتهم، واشتد في ذلك حين تولى الحجاج بن يوسف الثقفي العراق وجند له من كان قادراً على القتال من أهل الكوفة والبصرة. وكانت المعارك شديدة بين الطرفين، وكانت محصلتها انتصار المهلب، وتشتيت شمل الأزارقة إلى ما وراء فارس، فتبعهم المهلب وقضى ثمانية عشر شهراً في قتالهم، حتى أبعدهم إلى كرمان التي كانت في أيديهم.
تابع المهلب حرب الأزارقة في ولاية الحجاج ثلاث سنوات، وقد أزعج ذلك الحجاج فأرسل يحث المهلب على الحسم في القتال، ولكن المهلب كان أعلم منه بأمرهم، وكان يعمل على أن لا يدع ثغرة ينفذون منها. ومع أن الخطر كان محدقاً بالأزارقة، فإنهم لم يعملوا على تماسك جبهتهم الداخلية، فكانت لهم مآخذ على زعيمهم قَطَريّ بن الفجاءة، ولاموه على بعض المخالفات الشرعية، ولم يقبلوا دفاعه عمن ولاّهم قيادة الجيش. وانقسموا بسبب ذلك فريقين، ظل الفريق الأول منهم موالياً لقطري بن الفجاءة، وغالبيتهم من العرب، واتخذ الفريق الثاني من عبد ربه الصغير خليفة لهم وكانت غالبيتهم من الموالي. ونشبت الحرب بين الفريقين من الأزارقة، واستمر القتال بينهما مدة شهر تقريباً. وكان المهلب في أثنائها يراقب الأمور بحذر، ولا يريد التدخل لئلا يدفعهم إلى التوحد ثانية في وجهه.
وتمكن الفريق الذي كان بقيادة عبد ربه من السيطرة على جِيرَفت عاصمة كرمان، وأخرجوا قطري بن الفجاءة المازني مع أنصاره منها، فارتحل إلى طبرستان. واغتنم المهلب هذه السانحة فقاتل الأزارقة الذين بقوا في كرمان وهزمهم، وقضى عليهم قضاء مبرماً في سنة 78هـ/ 697م. في حين وجه الحجاج بن يوسف سفيان بن الأبرد الكلبي لقتال قطري بن الفجاءة، فلحقه في شعب من شعاب طبرستان، فقاتله حتى تفرق عنه أصحابه وقتله. ثم توجه سفيان بن الأبرد إلى عبيدة بن هلال الذي تحصن في قصر بقومس، فحاصره ودعاه إلى التسليم فرفض، ثم مالبث أن خرج للقتال حتى قتل مع أنصاره في سنة 78هـ/ 697م. وبهذا استؤصلت شأفة الأزارقة، وكان لخلافاتهم الداخلية، أثر في القضاء عليهم، لا يقل عن أثر المهلب في حربهم.
كان للأزارقة مبادئ كثيرة، يرون أن الإيمان الكامل لا يكون إلا بها، ومما رأوه:
- أن مخالفيهم من أمة الإسلام مشركون، ومن لا يسارع منهم إلى اعتناق مذهبهم يستحل دمه وماله، هو ونساؤه وأطفاله. وقد كفّروا علياً لقبوله التحكيم، وصوّبوا عمل عبد الرحمن بن ملجم المرادي في قتله. وكفّروا عثمان بعد ست سنين من حكمه. وكفّروا معاوية وعبد الله بن عباس وطلحة والزبير وعائشة ومن كان معهم من أصحاب الجمل، وكفّروا كل من اشترك في معركة صفّين من الطرفين، وحكموا بخلودهم في النار.
ولما كان جميع المسلمين، ما عداهم، مشركين رأى نافع بن الأزرق أنه لا يحل لأصحابه المؤمنين أن يجيبوا أحداً من غيرهم إلى الصلاة إذا دعاهم إليها، ولا أن يأكلوا من ذبائحهم، ولا يتزوجوا منهم، ولا يتوارث الخارجي وغيره. فالمسلمون من غيرهم كفرة كعبدة الأوثان، لا يقبل منهم إلا اعتناق مبادئهم أو السيف. كذلك كفّر الأزارقة القَعَد، وأظهروا البراءة منهم. وأسقطوا الرجم عن الزاني، إذ ليس في القرآن ذكر له، وكان الرجم ينفذ تبعاً لحديث منسوب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأسقطوا حد القذف عمن قذف المحصنين من الرجال، مع وجوب الحد على قاذف المحصنات من النساء.
- وقد قال الأزارقة بأن التقيّة غير جائزة لا في قول ولا في عمل خلافاً للشيعة، ولو تعرضت النفس والمال والعرض للأخطار. وكانوا يرون أن من ارتكب كبيرة من الكبائر، كَفَرَ كُفْرَ ملة خرج به عن الإسلام جملة، ويكون مخلداً في النار مع سائر الكفار، خلافاً للمرجئة والمعتزلة، واستدلوا بكفر إبليس، وقالوا ما ارتكب إلا كبيرة، حيث أُمِر بالسجود لآدم فامتنع، ولذلك فإن العمل بأوامر الدين من صلاة وصيام وصدق وعدل جزء من الإيمان، وليس الإيمان بالاعتقاد وحده. فمن اعتقد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ثم لم يعمل بفروض الدين وارتكب الكبائر فهو كافر. واستحل الأزارقة أموال مخالفيهم بكل حال. كما استحلوا جحد الأمانة التي أمر الله تعالى بأدائها، وقالوا إن مخالفينا مشركون، فلا يلزمنا أداء أمانتنا إليهم. وكانوا يرون قطع يد السارق من المنكب في القليل والكثير ولم يحددوا في السرقة نصاباً. كذلك كانوا يرون وجوب وجود خليفة لقبوه أمير المؤمنين، واشترطوا فيه أن يكون أصلحهم ديناً سواء أكان قرشياً أم غير قرشي، عربياً أم غير عربي، كما رأوا وجوب عزل الخليفة إذا سار سيرة لا تتفق ومصلحة المسلمين، بأن جار أو ظلم، وإذا لم يعتزل في هذه الحالة، قوتل حتى يقتل.
وأوجب الأزارقة امتحان من قصد عسكرهم، إذا ادّعى أنه منهم، بأن يُدفع إليه أسير من مخالفيهم، فيؤمر بقتله، فإن قتله صدقوا دعواه، وإن لم يقتله، قالوا إنه منافق ومشرك وقتلوه. واعتزل الأزارقة جمهور المسلمين الذين عرّفوهم باسم أهل الضلالة، فهاجروا من دار الحرب أو دار الخاطئين إلى دار الهجرة أو دار السلام، وهو اسم حاضرتهم التي كانت تتغير كثيراً.
ويبدو من عرض مبادئهم هذه أن سياستهم كانت تسعى إلى أهداف يصعب تحقيقها، وينشدون العدالة ولو فنيت الدنيا بأسرها في سبيل تحقيقها، وقد باعوا أنفسهم لذلك، فإنهم في سوقٍ ثمنُ أرواحهم فيها الجنة. وكانت سيرتهم سيرة بدوية جافية، فيها شدة وغلظة.
كانت ثقافة الأزارقة دينية أدبية لا أثر للفلسفة فيها، يفهمون القرآن والسنة في سهولة ويسر، فإن جادلوا في الدين احتجوا بظواهر النصوص وتمسكوا بحرفيتها. وكان أدبهم أدب قوة شعراً ونثراً يعبر عن الاستماتة في طلب الحق، ويتصف بعدم اشتقاق المعاني وفلسفتها. ففي رثائهم يذرفون الدموع ليحمسوا الأحياء على قتال أعدائهم، وفي غزلهم يمزجون بين الشجاعة والغزل، وبين حب الموت وحب الحياة وهما السبيل إلى الجهاد والجنة، ويتقربون إلى من يحبون بحسن البلاء في الأعداء. وتبدو صورة أدبهم البطولي في قول قطري بن الفجاءة يخاطب نفسه:
أقول لها وقد طارت شعاعاً | من الأبطال، ويحكِ لا تُراعي | |
فإنك لو طلبت مزيد يوم | على الأجل الذي لك لن تطاعي | |
فصبراً في مجال الموت صبراً | فما نيلُ الخلود بمستطاع |
لعمرُك إني في الحياة لزاهدٌ | وفي العيش ما لم ألقَ أُمَّ حَكيم | |
ولو شَهِدتني يوم دولاب أبصرت | طِعان فتى في الحرب غير ذميم |
لقد كان الأزارقة أبطالاً أشداء، رجالاً ونساء، لا يهابون الموت، ويبذلون حياتهم رخيصة في سبيل الوصول إلى مبادئهم، والوصول إلى الجنة. وكان للمرأة في حركة الأزارقة وحضورها القوي، فقد كانت أم حكيم مثلاً، في عداد المقاتلين مع قطري بن الفجاءة، ووصفت بالشجاعة، كذلك اشتهر الأزارقة بالتشدد في العبادة، والانهماك فيها، ويصفهم الشهرستاني بأنهم أهل صوم وصلاة، فكانت جباههم قرحة لطول السجود، وأيديهم كثفنات الإبل، أخلصوا لعقيدتهم، وقاتلوا دفاعاً عنها بشجاعة نادرة، غير عابئين بقلة عددهم مهما ضؤلت، ولايثنيهم فقدان الأمل في النجاح عن غايتهم.
أمينة بيطار