الصليحية ( الدولة ـ )
الدولة الصليحية هي واحدة من دويلات اليمن التي نشأت في العصر الإسلامي، يرجع تأسيسها إلى الملك الكامل علي ابن محمد الصليحي، نسبة إلى صلاحة، الواقعة غربي صنعاء. وآل الصليحي أسرة عريقة تنتمي إلى قبيلة «عبد أوام» اليمنية التي ورد ذكرها في النقوش السبئية. قامت الدولة الصليحية وفق المذهب الإسماعيلي الذي جاء به إلى اليمن منصور بن حسن الكوفي، المعروف بإبن حوشب، وصاحبه علي بن الفضل القرمطي في مطلع القرن الثالث الهجري، وكان شمالي اليمن، يوم ظهور هذه الدعوة، خاضعاً لنفوذ أئمة الزيدية وعاصمتهم صعدة، أما الجنوب فكان خاضعاً لبني نجاح (موالي بني زياد عمال الدولة العباسية) وعاصمتهم زبيد، وخضع الوسط لآل يعفر، وهم من سلالة ذي حوال الحميري، وعاصمتهم مدينة شبام ثم صنعاء.
كان علي بن محمد الصليحي على مذهب أهل السنة، وقد عرف منذ حداثته بالحصافة والنجابة، مما لفت نظر سليمان بن عبد الله الزواحي، آخر دعاة المذهب الإسماعيلي في اليمن، فاستماله إلى مذهبه سراً بعد أن تنبأ له بملك اليمن، وقبل وفاته أعطاه كتبه ونزل له عن الأموال التي كانت تأتيه صلاتٍ من أتباعه، بعد أن أخذ عليه العهد بمتابعة الدعوة من بعده.
اشتهر أمر الصليحي بين قومه، وعلت منزلته، وأخذ يتردد إلى مكة كل عام في مقدمة حجاج منطقته وعشيرته، وأخذ يبث أفكاره بين الأتباع والمؤيدين، ثم مالبث أن جاهر بدعوته للفاطمين عام 439هـ/1047م من معقله «حصن مسار» المنيع في جبال حراز، وانضم إليه مايزيد على 30ألفاً من المقاتلين، مكنوه من فتح مدينة صنعاء والقضاء على نفوذ آل يعفر، ثم اتجه جنوبا فاستولى على ذمار وإب وتعز وعدن، وتغلب على بني نجاح ودخل عاصمتهم زبيد. وفي الشمال تغلب على جيش الإمام الزيدي أبي الفتح الديلمي وقتله، ولم يأت العام 455هـ/1063م إلا وقد فرض الصليحي سيطرته على معظم جهات اليمن، وعين الولاة والأمراء على المناطق التي افتتحها، وأرسل بخراجها إلى الخليفة الفاطمي المستنصر بالله (437هـ/1045م ـ477 هـ/1084م) بعد أن اتصل به واضعاً نفسه تحت تصرفه، فأقره المستنصر على اليمن، وأضاف إليه مكة ومعظم الحجاز.
في عام 458هـ/1065م توجه علي بن محمد الصليحي من صنعاء في موكب كبير لأداء فريضة الحج وزيارة المستنصر العبيدي في مصر، ولدى وصوله إلى «المهجم» في تهامة اليمن، خرج إليه سعيد الأحول بن نجاح خفية وتمكن من قتله، وأسر زوجته، أسماء بنت شهاب، واستولى النجاحيون على مابحوزته من الأموال والعتاد، وبقيت أسماء في أسرها سنة كاملة حتى أنقذها ولدها المكرم في خبر طويل. وعند عودتها إلى صنعاء فوضت إليه حكم البلاد، وأسماء هذه من شهيرات النساء، وكان اسمها يذكر على المنابر أيام زوجها، وكان رؤساء القبائل وأعيان الدولة يدخلون عليها فيسلمون، وإذا حضرت مجلساً لا تستر وجهها كبقية النساء، وبعد وفاتها سنة 480هـ/1087م استمر ولدها المكرم، أحمد بن علي ملكاً على البلاد، بيد أنه أصيب بالشلل، ففوض الأمر إلى زوجته أروى بنت أحمد بن جعفر الصليحي، التي قلما ذكرت بغير لقبها (السيدة الحرة الكاملة)، ونعتها كثير من مؤرخي اليمن بلقب «بلقيس الصغرى» لما عرف عنها من الهمة والحزم واتخاذ القرار الصائب في السلم والحرب. كان أبوها أحمد بن جعفر بن موسى الصليحي نائباً على عدن لابن عمه الملك علي الصليحي، وحينما توفي تحت أنقاض قصره الذي انهار عليه كانت أروى طفلة صغيرة، فكفلها الملك علي ونشأت في كنف زوجته أسماء بنت شهاب، وقد جمعت في شخصها جمال الخَلْق وفضائل الخُلُق فزوجتها لولدها المكرم، ووقفت إلى جانبه في محنته، وقامت بأمر المملكة نيابة عنه خير قيام، فكانت تُباشر الأحكام من وراء الحجاب، وأول ماقامت به بعد أن تولت الحكم بتفويض من زوجها المشلول انتقالها من صنعاء إلى عاصمتها الجديدة (جبلة) جنوب غربي مدينة إب، لتكون على مقربة من تهامة التي كان بنو نجاح يغيرون عليها بين الحين والآخر. وبعد وفاة زوجها سنة 484هـ/1091م سَمَت نفوس بني نجاح إلى استرجاع زبيد، فاحتلوها بقيادة ملكهم سعيد الأحول فقامت على الفور بإعداد جيش كبير واسترجعت زبيد وهزمت آل نجاح وقتلت الأحول مع طائفة كبيرة من أعيان دولته، وأسرت زوجته «أم المعارك» وساقتها مع جواريها إلى جبلة وأمرت بوضع رأس زوجها سعيد على رمح، جزاء مافعله سعيد يوم علق رأس عمها الصليحي أمام ناظري أسماء بنت شهاب. واستمرت الحرة تذب عن مملكتها وتخضع المتمردين على سلطانها، ومن حولها كبار الوزراء والأمراء يرفعون إليها الرقاع فتنظر فيها وتقضي على نحو ماتراه، وقد مكنتها مدة حكمها التي قاربت الخمسين عاماً من النهوض بأعباء الدولة على الوجه الأكمل وبلغت في عهدها أوج ازدهارها، وفي بلاد اليمن اليوم الكثير من المنشآت العمرانية التي أمرت بإنشائها، كجامعها الشهير في مدينة جبلة، والجناح الملحق بجامع صنعاء الكبير، و «دار العز» قصرها الذي كانت تقيم فيه بجبلة، الذي لم يبق منه اليوم سوى الموضع المعروف بـ «حافة الدار»، كما أنها قامت بمد قناة للماء تصل مابين وادي خنوة في مخلاف جعفر ومدينة الجند، وأمرت بشق الطرق في الجبال الوعرة لربط القرى المتناثرة بين الوهاد وقمم الجبال، ومن جهة أخرى اهتمت الحرة بافتتاح المدارس ودور العلم والمبرات، وازدهرت الحركة العلمية في عهدها أيما ازدهار، وكان قصرها (دار العز) موئلاً لرجال العلم والفكر، يغشاه الأدباء والشعراء من كل أنحاء اليمن طمعاً بنوالها على ما جرت عليه العادة في قصور الخلفاء والسلاطين.
وكان من أبرز رجال دولتها سبأ بن أحمد المظفر، الأمير على بلاد آنس شمال غرب ضوران، كان المكرم أحمد قد أوصاه قبل وفاته أن يكون القائم بأمر الدعوة للفاطميين إلى جانب زوجته الملكة، ويذكر أن سبأ تاقت نفسه إلى خطبتها فانكرت ذلك منه، لكنها أجبرت على القبول بأمر من الخليفة العبيدي في خبر طريف، ومنهم المفضل بن أبي البركات بن الوليد الحميري، وهو ممن تربوا في كنفها، فكان مخلصاً لها متفانياً في خدمتها. جعلت إليه ولاية التعكر، وهو إقليم حصين يشتمل على أشهر جبال اليمن وأبعدها صيتاً، وبه ذخائر آل الصليحي وكنوزهم، ومن رجالاتها سبأ بن أبي السعود بن زريع وأسعد بن أبي الفتوح الحميري، من كبار همدان، وعلي بن ابراهيم المعروف بنجيب الدولة المصري، وهو بالأصل أحد رسل الخليفة الفاطمي إلى اليمن، كان عاقلاً حسن التدبير، وله مع الحرة من المواقف الطريفة أخبار حسان.
توفيت الملكة أروى بمدينة جبلة عام 532هـ/1138م عن عمر ناهز السادسة والثمانين، ودفنت بجامعها الذي أنشأته في جبلة، ولم يكن في الأسرة الصليحية من هو أهل للقيام بأعباء دولتها الواسعة، فأوصت إلى أمير عدن، سبأ بن أبي السعود ابن زريع لتولي الأمر من بعدها، غير أن هذه الدولة ما لبثت أن تفتت وطويت صفحتها من سجل تاريخ اليمن.
مصطفى الخطيب
الدولة الصليحية هي واحدة من دويلات اليمن التي نشأت في العصر الإسلامي، يرجع تأسيسها إلى الملك الكامل علي ابن محمد الصليحي، نسبة إلى صلاحة، الواقعة غربي صنعاء. وآل الصليحي أسرة عريقة تنتمي إلى قبيلة «عبد أوام» اليمنية التي ورد ذكرها في النقوش السبئية. قامت الدولة الصليحية وفق المذهب الإسماعيلي الذي جاء به إلى اليمن منصور بن حسن الكوفي، المعروف بإبن حوشب، وصاحبه علي بن الفضل القرمطي في مطلع القرن الثالث الهجري، وكان شمالي اليمن، يوم ظهور هذه الدعوة، خاضعاً لنفوذ أئمة الزيدية وعاصمتهم صعدة، أما الجنوب فكان خاضعاً لبني نجاح (موالي بني زياد عمال الدولة العباسية) وعاصمتهم زبيد، وخضع الوسط لآل يعفر، وهم من سلالة ذي حوال الحميري، وعاصمتهم مدينة شبام ثم صنعاء.
اشتهر أمر الصليحي بين قومه، وعلت منزلته، وأخذ يتردد إلى مكة كل عام في مقدمة حجاج منطقته وعشيرته، وأخذ يبث أفكاره بين الأتباع والمؤيدين، ثم مالبث أن جاهر بدعوته للفاطمين عام 439هـ/1047م من معقله «حصن مسار» المنيع في جبال حراز، وانضم إليه مايزيد على 30ألفاً من المقاتلين، مكنوه من فتح مدينة صنعاء والقضاء على نفوذ آل يعفر، ثم اتجه جنوبا فاستولى على ذمار وإب وتعز وعدن، وتغلب على بني نجاح ودخل عاصمتهم زبيد. وفي الشمال تغلب على جيش الإمام الزيدي أبي الفتح الديلمي وقتله، ولم يأت العام 455هـ/1063م إلا وقد فرض الصليحي سيطرته على معظم جهات اليمن، وعين الولاة والأمراء على المناطق التي افتتحها، وأرسل بخراجها إلى الخليفة الفاطمي المستنصر بالله (437هـ/1045م ـ477 هـ/1084م) بعد أن اتصل به واضعاً نفسه تحت تصرفه، فأقره المستنصر على اليمن، وأضاف إليه مكة ومعظم الحجاز.
في عام 458هـ/1065م توجه علي بن محمد الصليحي من صنعاء في موكب كبير لأداء فريضة الحج وزيارة المستنصر العبيدي في مصر، ولدى وصوله إلى «المهجم» في تهامة اليمن، خرج إليه سعيد الأحول بن نجاح خفية وتمكن من قتله، وأسر زوجته، أسماء بنت شهاب، واستولى النجاحيون على مابحوزته من الأموال والعتاد، وبقيت أسماء في أسرها سنة كاملة حتى أنقذها ولدها المكرم في خبر طويل. وعند عودتها إلى صنعاء فوضت إليه حكم البلاد، وأسماء هذه من شهيرات النساء، وكان اسمها يذكر على المنابر أيام زوجها، وكان رؤساء القبائل وأعيان الدولة يدخلون عليها فيسلمون، وإذا حضرت مجلساً لا تستر وجهها كبقية النساء، وبعد وفاتها سنة 480هـ/1087م استمر ولدها المكرم، أحمد بن علي ملكاً على البلاد، بيد أنه أصيب بالشلل، ففوض الأمر إلى زوجته أروى بنت أحمد بن جعفر الصليحي، التي قلما ذكرت بغير لقبها (السيدة الحرة الكاملة)، ونعتها كثير من مؤرخي اليمن بلقب «بلقيس الصغرى» لما عرف عنها من الهمة والحزم واتخاذ القرار الصائب في السلم والحرب. كان أبوها أحمد بن جعفر بن موسى الصليحي نائباً على عدن لابن عمه الملك علي الصليحي، وحينما توفي تحت أنقاض قصره الذي انهار عليه كانت أروى طفلة صغيرة، فكفلها الملك علي ونشأت في كنف زوجته أسماء بنت شهاب، وقد جمعت في شخصها جمال الخَلْق وفضائل الخُلُق فزوجتها لولدها المكرم، ووقفت إلى جانبه في محنته، وقامت بأمر المملكة نيابة عنه خير قيام، فكانت تُباشر الأحكام من وراء الحجاب، وأول ماقامت به بعد أن تولت الحكم بتفويض من زوجها المشلول انتقالها من صنعاء إلى عاصمتها الجديدة (جبلة) جنوب غربي مدينة إب، لتكون على مقربة من تهامة التي كان بنو نجاح يغيرون عليها بين الحين والآخر. وبعد وفاة زوجها سنة 484هـ/1091م سَمَت نفوس بني نجاح إلى استرجاع زبيد، فاحتلوها بقيادة ملكهم سعيد الأحول فقامت على الفور بإعداد جيش كبير واسترجعت زبيد وهزمت آل نجاح وقتلت الأحول مع طائفة كبيرة من أعيان دولته، وأسرت زوجته «أم المعارك» وساقتها مع جواريها إلى جبلة وأمرت بوضع رأس زوجها سعيد على رمح، جزاء مافعله سعيد يوم علق رأس عمها الصليحي أمام ناظري أسماء بنت شهاب. واستمرت الحرة تذب عن مملكتها وتخضع المتمردين على سلطانها، ومن حولها كبار الوزراء والأمراء يرفعون إليها الرقاع فتنظر فيها وتقضي على نحو ماتراه، وقد مكنتها مدة حكمها التي قاربت الخمسين عاماً من النهوض بأعباء الدولة على الوجه الأكمل وبلغت في عهدها أوج ازدهارها، وفي بلاد اليمن اليوم الكثير من المنشآت العمرانية التي أمرت بإنشائها، كجامعها الشهير في مدينة جبلة، والجناح الملحق بجامع صنعاء الكبير، و «دار العز» قصرها الذي كانت تقيم فيه بجبلة، الذي لم يبق منه اليوم سوى الموضع المعروف بـ «حافة الدار»، كما أنها قامت بمد قناة للماء تصل مابين وادي خنوة في مخلاف جعفر ومدينة الجند، وأمرت بشق الطرق في الجبال الوعرة لربط القرى المتناثرة بين الوهاد وقمم الجبال، ومن جهة أخرى اهتمت الحرة بافتتاح المدارس ودور العلم والمبرات، وازدهرت الحركة العلمية في عهدها أيما ازدهار، وكان قصرها (دار العز) موئلاً لرجال العلم والفكر، يغشاه الأدباء والشعراء من كل أنحاء اليمن طمعاً بنوالها على ما جرت عليه العادة في قصور الخلفاء والسلاطين.
وكان من أبرز رجال دولتها سبأ بن أحمد المظفر، الأمير على بلاد آنس شمال غرب ضوران، كان المكرم أحمد قد أوصاه قبل وفاته أن يكون القائم بأمر الدعوة للفاطميين إلى جانب زوجته الملكة، ويذكر أن سبأ تاقت نفسه إلى خطبتها فانكرت ذلك منه، لكنها أجبرت على القبول بأمر من الخليفة العبيدي في خبر طريف، ومنهم المفضل بن أبي البركات بن الوليد الحميري، وهو ممن تربوا في كنفها، فكان مخلصاً لها متفانياً في خدمتها. جعلت إليه ولاية التعكر، وهو إقليم حصين يشتمل على أشهر جبال اليمن وأبعدها صيتاً، وبه ذخائر آل الصليحي وكنوزهم، ومن رجالاتها سبأ بن أبي السعود بن زريع وأسعد بن أبي الفتوح الحميري، من كبار همدان، وعلي بن ابراهيم المعروف بنجيب الدولة المصري، وهو بالأصل أحد رسل الخليفة الفاطمي إلى اليمن، كان عاقلاً حسن التدبير، وله مع الحرة من المواقف الطريفة أخبار حسان.
توفيت الملكة أروى بمدينة جبلة عام 532هـ/1138م عن عمر ناهز السادسة والثمانين، ودفنت بجامعها الذي أنشأته في جبلة، ولم يكن في الأسرة الصليحية من هو أهل للقيام بأعباء دولتها الواسعة، فأوصت إلى أمير عدن، سبأ بن أبي السعود ابن زريع لتولي الأمر من بعدها، غير أن هذه الدولة ما لبثت أن تفتت وطويت صفحتها من سجل تاريخ اليمن.
مصطفى الخطيب