أما الأشكال الواسعة التي نجدها عند شنيدر فهي أقل تصلباً وأكثر اندفاعاً وتعبيراً . وكانت واضحة حوالي ۱۹۵۰ ، في الفترة التي كانت فيها اندفاعات هذا الفنان لاتزال مكبوحة. أما اليوم فلهذه الأشكال ملامح غير دقيقة لأنها عبارة عن بقع وسحبات من الألوان تنشرها ريشة المصور وتنظمها وفق الايقاعات الباروكية. وأن مناخاً عاطفياً مؤثراً يملأ هذه اللوحات ، فنرى الألوان البيضاء تريد أن تثبت وجودها إلى جانب الألوان السمراء والسوداء ، فتحنق وتغتاظ . أما الألوان الصفراء والحمراء فلا تعرض شيئاً مفرحاً ، والظلمات تظل عميقة عنيدة ولا شك في أن الأشكال تكون أحياناً مختصرة اختصاراً شديداً . ولذلك لا تخلو قط من التوتر ، إلا أننا نشعر في هذه اللوحات هوى واضطراباً أصيلين . ونلاحظ أيضاً أن حرص الفنان على أن يكون لعمله نضارة الارتجال واندفاعه لا يؤدي به إلى الاستسلام للايماءات والارشادات الجامحة.
أما الاندفاع في فن لا نسكوي فيصل إلى حد الصخب بيد أن هذا الاندفاع موجه لديه ، أيضاً أن الألوان هنا أكثر حيوية بكثير عند شنيدر. فلا نسكوي يثير التناغم بين الأبيض والأصفر وبين الأخضر والأزرق وبين البنفسجي والليلكي المشبع . وهو من جهة أولى يبرز بريقها أو نعومتها بواسطة خلفية سوداء . ولكنه ، من جهة ثانية ، يغمر اللوحة كلها بفيض من الأحمر اللاهب تتطاير أمامه الأشكال، كأنها صحائف من ورق محترقة . وبكل حال ، فإن جميع الأشكال تبدو متحركة وكأن نفحات خفية ترصها بعضاً إلى بعض ، ثم ترفعها وتسوقها في رقصات دائرية جامحة. وعلاوة على ذلك ، فإن في هذا الفن شيئاً من الاكتظاظ والكثافة ، فكأنما تختلط فيه جميع مافي النباتات الاستوائية من نسخ ، وتلاقي فيه جميع مافي المهرجان الشعبي من فرح ومرح وخليط .
أما « نيقولا دي ستايل ، ففي لوحاته مراحل مختلفة متمايزة ففي ١٩٤٢ قطع صلته بالتشبيهية الواقعية ليصور لوحات ألوانها صماء . بيد أن ثمة أشكالاً خفيفة تظهر فيها وتبدو كقطع رقيقة من الصفيح كأنها تطير برفق بين خطوط تنخفض أو تنتصب كسوق النباتات . وبعد مضي بضع سنوات أصبحت الخطوط أكثر عرضاً . فهي تتصل ببعضها ، وتتصالب ، وتتمازج مع مساحات مطلية بلون واحد ، فتشكل بني معقدة ، غير متوقعة ، بقدر ماهي متراصة . أما مادته التي كانت من قبل عجفاء ، فقد أصبحت كثيفة ، بيد أن التلوين يظل أصم فتكثر الألوان السوداء ، والرمادية بجميع درجاتها ، والزرقاء الباهتة ، ويأتي اللون الأحمر أو تأتي بعض الصبغات القائمة ، لتضيف إلى رقتها ونعومتها نبرة قوية . ومع ذلك فإن هذا الفن خال من التقشف والزهد، وعلى العكس من ذلك ، انه تصوير سخي ، كثير اللب ، لذيذ .
ثم حدث تغير آخر في عام ١٩٥٢ . فقد حدث أن الفنان شهد ذات مساء مباراة بكرة القدم ، وأراد أن ينقل ما أثر فيه ، فإذا به يقترب من التشبيهية . وقد نقل إلى اللوحة بألوان موحدة تكسوها ، وتمتاز بالشدة والسخاء ، حركات اللاعبين وضراوتهم ، وفعل المصابيح الكشافة التي تنتزعهم من الليل ، بحيث يبدو المشهد وكأنه شيء من الخيال . وهنالك لونان يتقاسمان اللوحة بصورة خاصة ، أحدهما اللون الأزرق العميق الضارب إلى السواد ، وثانيهما الأحمر الرنان إلى أقصى درجة ، ويوجد بينهما ، هنا وهناك ، بقعة سمراء وألوان بيضاء مفروكة بالأزرق الصافي أو الزهري. وليس من السهل دائماً أن يتعرف المرء على هوية الأشخاص البادين في هذه المجمعات من البلاط الملون وتبدو بعض اللوحات غير مفهومة حتى لمن يعرف موضوعها . بيد أن نشوة مادية معدية تنبعث من هذه اللوحات ، إذ نرى فيها قوى متعارضة تؤكد وجودها باندفاع ، وتهتاج وتتصادم ، وتتوازن .
وفي اللوحات التي جاءت بعدئذ ، أصبحت التشبيهية أكثر ظهوراً . إلا أن الواقعية ظلت منفية عنها. فسواء أكانت اللوحة تمثل أجساماً عارية أم مشاهد طبيعية أم طبيعة صامتة ، فالمهم في نظر ستايل هو أن يخلق الصور خلقاً. فإذا كادت الأشكال تقترب من حقيقتها في الحياة ، فإنه لا يستوحي الألوان إلا من نفسه ، ومن أحاسيسه ومحاولاته التصويرية . وهكذا فإن رحلة قام بها إلى صقلية في ١٩٥٤ كانت مبعث لوحات ترينا أرضاً حمراء تحت سماء بنفسجية ، أو سماء ارجوانية فوق أرض صفراء وبرتقالية . وفي ذلك نقل مباشر للحرارة المسكرة التي لا تحتمل ، حرارة الصيف في صقلية و هناك لوحات صورها في السنة نفسها أو في السنة التالية وهي سنة وفاته نرى فيها الألوان أقل حيوية . فالاصبغة فيها ليست مخففة فحسب بل فيها شيئاً من الغموض ومن السحاب ، وأحياناً من التعب . وقد رقت المادة مرة ثانية ولم يعد الشكل يخلو من بعض الرخاوة ستايل نفسه منزجاً في درب مسدود ؟ وهل وضع حداً لحياته لمجرد أن يهرب من هذا الدرب ؟ ان من العسير جداً أن نحاول اعطاء جواب على هذا السؤال ... ولكن بدلاً من أن نبني الافتراضات التي لاطائل تحتها ، من الأفضل أن نقتصر على دراسة العمل الفني الذي بقي لنا ، والذي يعد ، في جملته ، واحداً من أعظم الأعمال في فترة ما بعد الحرب. وسواء أكان ستايل تجريدياً أم تشبيهياً ، فقد خلف لنا فناً لذيذاً و كثيفاً ، مليئاً بالهوى وبالقريحة الوقادة ، مع أنه لا يخلو من الحنو . وفي الحقيقة ، إذا كان يحب الأشياء البراقة والأشياء الحادة الصاخبة ، فهو يعرف أيضاً أن يكثر في لوحاته التدرجات الرقيقة ذات الطعم المنعش . وفي حين أن ستايل هو في جوهره فنان ملون نجد أن أتلان Atlan ، مصور بصورة رئيسية ، أو أنه على الأقل يعبر عن نفسه بالخطوط ، قبل كل شيء ، والخطوط عنده عريضة ، سوداء غالباً وهو يزيد في تقويتها كلما مضى في تطوره ، ومسيرة هذه الخطوط مختلفة جداً عن الخطوط في لوحات هارتونغ . فهي لاتكون ترسيماً بقدر ما تكون أشكالاً مسطحة تنحني تارة وتنكسر طوراً ، وتنساب أحياناً وتتصلب أحياناً أخرى. وقد يحدث أن تنتظم بين تشعباتها ألوان حية، إلا أن التلوين بصورة عامة ، أصم ، وتارة جاف. ويعود ذلك إلى أن أتلان بدلاً من أن يحاول التحلي بالظرف ، يظهر ، بالعكس ، فظاً ، متوحشاً ، بربرياً ، متزمتاً . وحتى لو كنا نجهل أنه أعجب اعجاباً شديداً بالأقنعة الزنجية وبالفن القاسي الذي امتاز به أقوام الازتك . . . . فإن مجرد اطلاعنا على لوحاته يجعلنا ندرك ذلك . ومع أنه لا يصور مسوخاً بشعة ( لأن المسخ يعرف بالمقارنة مع نموذج طبيعي ، في حين أن الأشكال هنا نابعة كلها من خيال الفنان ولا يمكن أن تقارن مباشرة بأشياء موجودة فعلا ) . . . . ، فهو يلمح دائماً إلى قوى مظلمة ، وغالباً ما يخيل إلينا أننا نرى كائنات لاهوية لها ، مسلحة بمناقير حادة ، وبأعاجيز ، وبأسنان كأسنان المنشار ، وبدروع حيوانية قاسية . وأن من زوايا ورؤوس ، واندفاعات عدوانية ، وحرارة قائمة والمظهر العنيد لبعض خطوطه المتشابكة ، إن لرسمه هذا شيء من المظهر العسكري ، أو على الأقل يوحي بأوضاع وتظاهرات حربية ، سواء أكانت صادرة عن ديك من الديكة أم عن قوم من الأقوام البدائية .
وإذا كانت أشكال أتلان تتميز بقساوتها ، فإن أشكال برام فان فلدر Bram Van Velde التي يعرضها علينا منذ بعض الزمن.
أما الاندفاع في فن لا نسكوي فيصل إلى حد الصخب بيد أن هذا الاندفاع موجه لديه ، أيضاً أن الألوان هنا أكثر حيوية بكثير عند شنيدر. فلا نسكوي يثير التناغم بين الأبيض والأصفر وبين الأخضر والأزرق وبين البنفسجي والليلكي المشبع . وهو من جهة أولى يبرز بريقها أو نعومتها بواسطة خلفية سوداء . ولكنه ، من جهة ثانية ، يغمر اللوحة كلها بفيض من الأحمر اللاهب تتطاير أمامه الأشكال، كأنها صحائف من ورق محترقة . وبكل حال ، فإن جميع الأشكال تبدو متحركة وكأن نفحات خفية ترصها بعضاً إلى بعض ، ثم ترفعها وتسوقها في رقصات دائرية جامحة. وعلاوة على ذلك ، فإن في هذا الفن شيئاً من الاكتظاظ والكثافة ، فكأنما تختلط فيه جميع مافي النباتات الاستوائية من نسخ ، وتلاقي فيه جميع مافي المهرجان الشعبي من فرح ومرح وخليط .
أما « نيقولا دي ستايل ، ففي لوحاته مراحل مختلفة متمايزة ففي ١٩٤٢ قطع صلته بالتشبيهية الواقعية ليصور لوحات ألوانها صماء . بيد أن ثمة أشكالاً خفيفة تظهر فيها وتبدو كقطع رقيقة من الصفيح كأنها تطير برفق بين خطوط تنخفض أو تنتصب كسوق النباتات . وبعد مضي بضع سنوات أصبحت الخطوط أكثر عرضاً . فهي تتصل ببعضها ، وتتصالب ، وتتمازج مع مساحات مطلية بلون واحد ، فتشكل بني معقدة ، غير متوقعة ، بقدر ماهي متراصة . أما مادته التي كانت من قبل عجفاء ، فقد أصبحت كثيفة ، بيد أن التلوين يظل أصم فتكثر الألوان السوداء ، والرمادية بجميع درجاتها ، والزرقاء الباهتة ، ويأتي اللون الأحمر أو تأتي بعض الصبغات القائمة ، لتضيف إلى رقتها ونعومتها نبرة قوية . ومع ذلك فإن هذا الفن خال من التقشف والزهد، وعلى العكس من ذلك ، انه تصوير سخي ، كثير اللب ، لذيذ .
ثم حدث تغير آخر في عام ١٩٥٢ . فقد حدث أن الفنان شهد ذات مساء مباراة بكرة القدم ، وأراد أن ينقل ما أثر فيه ، فإذا به يقترب من التشبيهية . وقد نقل إلى اللوحة بألوان موحدة تكسوها ، وتمتاز بالشدة والسخاء ، حركات اللاعبين وضراوتهم ، وفعل المصابيح الكشافة التي تنتزعهم من الليل ، بحيث يبدو المشهد وكأنه شيء من الخيال . وهنالك لونان يتقاسمان اللوحة بصورة خاصة ، أحدهما اللون الأزرق العميق الضارب إلى السواد ، وثانيهما الأحمر الرنان إلى أقصى درجة ، ويوجد بينهما ، هنا وهناك ، بقعة سمراء وألوان بيضاء مفروكة بالأزرق الصافي أو الزهري. وليس من السهل دائماً أن يتعرف المرء على هوية الأشخاص البادين في هذه المجمعات من البلاط الملون وتبدو بعض اللوحات غير مفهومة حتى لمن يعرف موضوعها . بيد أن نشوة مادية معدية تنبعث من هذه اللوحات ، إذ نرى فيها قوى متعارضة تؤكد وجودها باندفاع ، وتهتاج وتتصادم ، وتتوازن .
وفي اللوحات التي جاءت بعدئذ ، أصبحت التشبيهية أكثر ظهوراً . إلا أن الواقعية ظلت منفية عنها. فسواء أكانت اللوحة تمثل أجساماً عارية أم مشاهد طبيعية أم طبيعة صامتة ، فالمهم في نظر ستايل هو أن يخلق الصور خلقاً. فإذا كادت الأشكال تقترب من حقيقتها في الحياة ، فإنه لا يستوحي الألوان إلا من نفسه ، ومن أحاسيسه ومحاولاته التصويرية . وهكذا فإن رحلة قام بها إلى صقلية في ١٩٥٤ كانت مبعث لوحات ترينا أرضاً حمراء تحت سماء بنفسجية ، أو سماء ارجوانية فوق أرض صفراء وبرتقالية . وفي ذلك نقل مباشر للحرارة المسكرة التي لا تحتمل ، حرارة الصيف في صقلية و هناك لوحات صورها في السنة نفسها أو في السنة التالية وهي سنة وفاته نرى فيها الألوان أقل حيوية . فالاصبغة فيها ليست مخففة فحسب بل فيها شيئاً من الغموض ومن السحاب ، وأحياناً من التعب . وقد رقت المادة مرة ثانية ولم يعد الشكل يخلو من بعض الرخاوة ستايل نفسه منزجاً في درب مسدود ؟ وهل وضع حداً لحياته لمجرد أن يهرب من هذا الدرب ؟ ان من العسير جداً أن نحاول اعطاء جواب على هذا السؤال ... ولكن بدلاً من أن نبني الافتراضات التي لاطائل تحتها ، من الأفضل أن نقتصر على دراسة العمل الفني الذي بقي لنا ، والذي يعد ، في جملته ، واحداً من أعظم الأعمال في فترة ما بعد الحرب. وسواء أكان ستايل تجريدياً أم تشبيهياً ، فقد خلف لنا فناً لذيذاً و كثيفاً ، مليئاً بالهوى وبالقريحة الوقادة ، مع أنه لا يخلو من الحنو . وفي الحقيقة ، إذا كان يحب الأشياء البراقة والأشياء الحادة الصاخبة ، فهو يعرف أيضاً أن يكثر في لوحاته التدرجات الرقيقة ذات الطعم المنعش . وفي حين أن ستايل هو في جوهره فنان ملون نجد أن أتلان Atlan ، مصور بصورة رئيسية ، أو أنه على الأقل يعبر عن نفسه بالخطوط ، قبل كل شيء ، والخطوط عنده عريضة ، سوداء غالباً وهو يزيد في تقويتها كلما مضى في تطوره ، ومسيرة هذه الخطوط مختلفة جداً عن الخطوط في لوحات هارتونغ . فهي لاتكون ترسيماً بقدر ما تكون أشكالاً مسطحة تنحني تارة وتنكسر طوراً ، وتنساب أحياناً وتتصلب أحياناً أخرى. وقد يحدث أن تنتظم بين تشعباتها ألوان حية، إلا أن التلوين بصورة عامة ، أصم ، وتارة جاف. ويعود ذلك إلى أن أتلان بدلاً من أن يحاول التحلي بالظرف ، يظهر ، بالعكس ، فظاً ، متوحشاً ، بربرياً ، متزمتاً . وحتى لو كنا نجهل أنه أعجب اعجاباً شديداً بالأقنعة الزنجية وبالفن القاسي الذي امتاز به أقوام الازتك . . . . فإن مجرد اطلاعنا على لوحاته يجعلنا ندرك ذلك . ومع أنه لا يصور مسوخاً بشعة ( لأن المسخ يعرف بالمقارنة مع نموذج طبيعي ، في حين أن الأشكال هنا نابعة كلها من خيال الفنان ولا يمكن أن تقارن مباشرة بأشياء موجودة فعلا ) . . . . ، فهو يلمح دائماً إلى قوى مظلمة ، وغالباً ما يخيل إلينا أننا نرى كائنات لاهوية لها ، مسلحة بمناقير حادة ، وبأعاجيز ، وبأسنان كأسنان المنشار ، وبدروع حيوانية قاسية . وأن من زوايا ورؤوس ، واندفاعات عدوانية ، وحرارة قائمة والمظهر العنيد لبعض خطوطه المتشابكة ، إن لرسمه هذا شيء من المظهر العسكري ، أو على الأقل يوحي بأوضاع وتظاهرات حربية ، سواء أكانت صادرة عن ديك من الديكة أم عن قوم من الأقوام البدائية .
وإذا كانت أشكال أتلان تتميز بقساوتها ، فإن أشكال برام فان فلدر Bram Van Velde التي يعرضها علينا منذ بعض الزمن.
تعليق