انطباعيه (في ادب)
Impressionism - Impressionnisme
الانطباعية في الأدب
جاء مصطلح الانطباعية impressionnisme من فن التصوير، على أثر لوحة عرضها الرسام الفرنسي كلود مونيه[ر] Claude Monet عام 1874 تحت عنوان: «انطباع: شروق الشمس» Impression, soleil levant. ثم أطلق المصطلح على كل نهج فني وأدبي يعتمد نظرة جمالية في وصف المجتمع المعاصر، ويعمد إلى إعادة إحياء الأحاسيس والانطباعات التي يثيرها شيء ما في ذهن الفنان أو الكاتب.
إن رسم الحدود الفاصلة بين الطبيعية[ر] naturalisme والانطباعية ليس أمراً هيناً، لصعوبة التفريق التاريخي والفكري بينهما. فتغير أساليب التعبير له علاقة بتطور الاقتصاد واستقرار الحياة الاجتماعية.
ومن الناحية السياسية، لم يكن للأحداث التي وقعت عام 1871م، ولاسيما سقوط كومونة La commune باريس إلا آثار عابرة في تاريخ فرنسة، إذ استمرت الطبقة العليا، التي كانت متوسطة كما هي من دون أن يطرأ عليها أي تغيير، وحلت الجمهورية المحافظة محل الامبراطورية المتحررة. ولم يستتب الأمر لتلك الجمهورية إلا لأنها كانت تبدو وكأنها تضمن حلولاً سلمية للمشكلات السياسية، لكن لم تنشأ علاقات وديّة بين الجمهورية وطبقات المجتمع إلا بعد القضاء على مؤيدي كومونة باريس. ووجد الناس عزاءً في النظرية القائلة إن الفصد ضروري، لأنه قادر على تحقيق الشفاء. في حين أخذت شريحة المثقفين تواجه الأحداث وهي عاجزة تماماً. وأما الحياة الاقتصادية فدخلت مرحلة الرأسمالية الكبيرة، وتحولت من تعامل حرٍّ إلى نظام ترشيدي مُنسق، وإلى شبكة من مناطق النفوذ والمناطق الجمركية ومجالات الاحتكار والكارتلات cartels والتروستات trusts والاتحادات وغيرها. ويوصف هذا التركيز والتوحيد النمطي للحياة الاقتصادية بأنه علامة من علامات الشيخوخة، لهذا يمكن تعرف مظاهر عدم الاستقرار ونذر الانحلال في جميع فئات الطبقة الوسطى. صحيح أن «الكومونة» انتهت بهزيمة للثوار قلما عرفتها ثورة سابقة، لكنها كانت أول ثورة أشرفت عليها حركة عمالية دولية وأعقبها انتصار للبورجوازية مرتبط بشعور داهم بالخطر. وقد أدى هذا الشعور بالأزمة إلى بعث الاتجاهات المثالية والصوفية، وترتبت عليه موجة قوية من الإيمان كانت ردّ فعل على روح التشاؤم السائد. وفي هذه المرحلة فقدت الانطباعية صلتها بالنزعة الطبيعية، وتحوّلت في ميدان الأدب، إلى شكل جديد من أشكال الإبداعية. وقد أدى تطور التكنولوجية الحديثة إلى قيام اتجاه حيوي، لم يسبق له نظير، في موقف الإنسان من الحياة بأسرها. وكان هذا الإحساس الجديد بالسرعة والتغيير، هو المعنى الرئيسي الذي عبّرت عنه الانطباعية. فتطورت المراكز الثقافية إلى مدن كبيرة كوّنت تربة ينمو فيها الفن الحديث. إن الانطباعية كانت وليدة المدن، ونظرت إلى العالم بعيني رجل المدينة، واستجابت للانطباعات الخارجية بأعصاب الإنسان التقني الحديث، الشديد الرهافة والإرهاق.
والانطباعية تصف حياة المدينة بما فيها من تفكير، وإيقاع عصبي، ومن انطباعات مفاجئة، حادة، لكنها دائماً عابرة وزائلة. لهذا فهي تنطوي على حِدّةٍ زائدة في القدرة على الإحساس. وهي تُعدّ مع غوته والإبداعيين، واحدة من أهم نقاط التحول في تاريخ الفن الغربي.
ففي المسار الجدلي (الديالكتيكي) الذي يمثله تاريخ التصوير، والذي يتناوب فيه التصميم واللون، والتنظيم المجرّد والحياة العضوية، تمثل الانطباعية قمة التطور الذي اُعترفَ فيه بالعناصر الدينامية والعضوية في التجربة، والذي أدى إلى القضاء نهائياً على نظرة العصور الوسطى السكونية إلى العالَم. فمن الممكن تتبع خطٍ متصل من الفن القوطي إلى الانطباعية، مشابه للخط المؤدي من اقتصاد العصور الوسطى المتأخر إلى الرأسمالية الكبيرة. والإنسان الحديث هو نتيجة هذا التطور المزدوج الذي كان في أساسه تطوراً مطرداً.
ويمكن تلخيص الانطباعية في أنها تعبر عن سيادة اللحظة على الدوام والاتصال، والشعور بأن كل ظاهرة هي حادث عابر لن يتكرر أبداً وموجة يجرفها تيار الزمان، ذلك «النهر الذي لا يستطيع المرء أن ينزل فيه مرتين» كما يقول هيراقليط[ر]. ومنهج الانطباعية بكل أساليبه وحيله الفنية يهدف إلى التعبير عن هذه النظرة الهيراقليطية إلى العالم، وتأكيد أن الحقيقة ليست وجوداً بل صيرورة، وليست حالة ثابتة، بل عملية ومسار. وكل لوحة انطباعية هي تسجيل للّحظة في حركة الوجود الدائمة، وعرض لتوازن مهدد غير مستقر لتفاعل القوى المتصارعة. والرؤية الانطباعية تحوّل الطبيعة إلى عملية نمو وانحلال، فكل ما هو ثابت متماسك ينحلّ إلى تحولات ويتخذ طابعاً متجزئاً غير مكتمل. وبفضلها يكتمل التعبير عن عملية الرؤية الذاتية بدلاً من مادة الرؤية الموضوعية. إن الانطباعية ليست ظاهرة محددة المعالم بدقة في ذاتها، ومن الصعب تبيّن بداياتها في النزعة الطبيعية المعقدة، كما أن الأشكال اللاحقة لتطورها ممتزجة بظواهر الرمزية امتزاجاً كاملاً. وهناك تباين، من حيث الترتيب الزمني بين الانطباعية في الأدب وفي التصوير. فلما كانت الخصائص الأسلوبية المميزة للانطباعية قد بدأت تظهر في الأدب، كانت أخصب مرحلة للانطباعية في التصوير قد انتهت.
بلغت النزعة الجمالية قمة التطور في عصر الانطباعية، فأصبحت معاييرها المميزة، وهي الموقف السلبي التأملي الخالص من الحياة، والطابع العرضي غير الملتزم للتجربة، ونزعة اللذة الحسية، هي المعايير التي حكم بها على الفن عامة. لقد اعتقد بروست[ر] Proust، آخر القائلين بالانطباعية، وبمذهب اللذة الجمالي، أن الحياة لا تنمو فتصبح حقيقة ذات دلالة إلا في الذاكرة والرؤية والتجربة الجمالية. فتجاربنا التي نحياها لا تبلغ أقصى درجات العمق عندما نواجه الناس والأشياء في الواقع - إذ إن «زمان» هذه التجارب وحاضرها «مفقود» دائماً - بل عندما «نستعيد الزمان» وحينما لا نعود نشترك في تمثيل حياتنا، بل نقف منها موقف المتفرج وحين نخلق أعمالاً فنية أو نستمتع بها، أي حينما نتذكر. لقد فقدت الطبيعة البكر جاذبيتها الجمالية وحلَّ المثل الأعلى للحالة الصناعية محل المثل الأعلى للحالة الطبيعية. فهذا بودلير[ر] Baudelaire يكره الريف، والأخوان غونكور[ر] Les Goncourt يعدان الطبيعة عدواً. ولم يعد الناس يهربون من الواقع الاجتماعي إلى الطبيعة بل إلى عالم أعلى، كما في رواية «أكسل» Axel لفيلييه دي ليل آدام Villiers de L'Isle-Adam. وفي رواية «بالمقلوب» A Rebours لويسمانز[ر] (1884) Huysmans، وهي أهم وثيقة لهذه النزعة الجمالية المضادة للطبيعة وللواقع العملي، ويتكامل هذا الاتجاه بالاستعاضة عن الحياة العملية بالحياة الروحية. وكونت هذه المواقف نوعاً من الرد على روسو[ر] Rousseau، فضاعت قيمة كل ما هو بسيط وواضح وغريزي وساذج وصار الهدف حينذاك هو البحث عن الحالة العقلية غير الطبيعية للحضارة. وبالتالي فقد كوّنت الانطباعية فناً للمعارضة كغيرها من الاتجاهات التقدمية. وكان هذا التمرد الكامن في نظرة الانطباعيين إلى الحياة ضمن الأسباب التي دفعت الجمهور البرجوازي إلى رفض الفن الجديد، وإن لم يكن الانطباعيون أنفسهم قد أدركوا ذلك في كل الأحيان.
أنتج عصر الانطباعية نوعين متطرفين من الفنان الحديث المغترب عن المجتمع: البوهيميين الجدد الذين اختاروا الهجرة الداخلية، وأولئك الذين رحلوا عن الحضارة الغربية ملتجئين إلى بلاد بعيدة ساحرة، فاختاروا الهروب الحقيقي. وبعد عام 1890 بدأ الناس يتحدثون عن الرمزية وكأنها «انطباعية» في مؤثراتها البصرية والسمعية، وفي جمعها بين مختلف المعطيات الحسية، التي تنطوي بنظرتها الروحانية اللاعقلانية، على رد فعلٍ حاد على الانطباعية المتأثرة بالنزعة الطبيعية والمادية.
وقرب نهاية القرن التاسع عشر أصبحت الانطباعية هي الأسلوب السائد في جميع أرجاء أوربة فمنذ ذلك الحين بدأ يظهر في كل مكان شعراء للأحوال النفسية، ولانطباعات الجو، ولفصول السنة الضائعة وللساعات الهاربة في اليوم. وأصبح الناس حائرين حيال أشعار غنائية تعبّر عن أحاسيس عابرة مبهمة، وعن منبهات حسية غير محددة، وغير قابلة للتحديد، وعن ألوان رقيقة وأصوات متعبة. وأصبح الموضوع الرئيسي للشعر القلق والغموض، وما يتحرك في أدنى حدود الإدراك الحسي، ومع ذلك فإن موضوع اهتمام الشعراء لم يكن الواقع الموضوعي، بل انفعالاتهم المتعلقة بحساسيتهم الخاصة وقدرتهم على التجربة. ومن ينظر في الأدب الفرنسي وحده يسهل عليه أن يوحّد بين الانطباعية والرمزية. وكان فكتور هوغو[ر] Hugo يخاطب مالارميه Mallarmé (الرمزي) في شبابه بقوله: «يا عزيزي الشاعر الانطباعي». لكن تفحص الاتجاهين كفيل بإيضاح الفوارق بينهما، فالانطباعية مادية وحسية، مهما كانت رقة موضوعاتها، على حين أن الرمزية مثالية وروحية، مع أن عالم الأفكار لديها ليس إلا تسامياً بعالم الحواس. لكن أهم الفوارق بينهما هو أن الرمزية الفرنسية والرمزية البلجيكية ومذهب برغسون وغيرها، كانت اتجاهاً تحوّل إلى إيجابية فعّالة، على حين أن انطباعية كتّاب فيينة والكتّاب الألمان والإيطاليين والروس مثل شنيتسلر[ر] Schnitzler، وهوفمانستال[ر] Hofmannsthal، وريلكه[ر] Rilke، ودانونتسيو[ر] D'annunzio، وتشيخوف[ر] Tchekhov عبرت عن فلسفة سلبية واستسلام تام للبيئة المباشرة، واندماج في اللحظة العابرة بلا مقاومة. لكن ظهور شعراء مثل ستيفان غيوركه[ر] ودانونتسيو بيّن مدى عمق الروابط بين الانطباعية والرمزية، ومدى غلبة العامل اللا معقول فيهما معاً وتحوّل السلبية إلى إيجابية. ويمثّل كتّاب فيينة أنقى صور الانطباعية التي لم تعد تقاوم تيّار التجربة. ومن الجائز القول إن ما أضفى على انطباعية فيينة طابعها السلبي الرقيق المميز لها، هو ثقافة هذه المدينة التي كانت مستهلكة تفتقر إلى السياسة القومية الإيجابية. فهذه الانطباعية كانت فن أبناء البرجوازيين من أصحاب الثروة، وتعبيراً عن اللذة المملّة عند ذلك الجيل الثاني الذي عاش على ثمار عمل آبائه. وقد كان أولئك الشعراء متعبين نفسياً يعانون الشعور بالضياع، وعصبيين يستبد بهم الحزن والعناء، يسيرون بلا هدف ويتشككون في أنفسهم ويسخرون منها، وهنا تصبح التجربة الأساسية هي المضمون الكامن في الانطباعية، وهو تطابق القريب والبعيد وغرابة أقرب الأشياء إلى المرء وأكثرها تردداً في حياته اليومية. وأغرب الظواهر في تاريخ الانطباعية هو امتدادها إلى روسية، وظهور كاتب مثل تشيخوف الذي يوصف بأنه أنقى ممثل للحركة بأكملها. علماً أن روسية لم تعرف ذلك الجو العقلي لعصر التنوير. وكانت النزعة الجمالية والانحلالية التي اقترنت بظهور الانطباعية في الغرب غريبة بالتالي عن تشيخوف. لكن الأفكار انتشرت بسرعة بفضل التقدم التقني مما أدى إلى إدخال الاقتصاد الصناعي إلى روسية فتكونت فئة مثقفة موازية لتلك التي تكونت في الغرب، وتولدت نظرة للحياة مشابهة لنظرة «السأم». وقد اعترف غوركي[ر] Gorki أن تشيخوف يمثل نهاية عهد، وأن أسلوبه يجذب الجيل الجديد.
وفي فن المسرح أدى الإحساس بعدم وجود معنى أو دلالة للأحداث الخارجية وبطابعها المجزأ غير المكتمل، إلى انكماش العقدة المسرحية إلى الحد الأدنى، والتخلي عن تلك التأثيرات التي كانت من أخص مميزات «المسرحية المحبوكة». وقد تخلت المسرحية الشعرية عن الأساليب البنائية السابقة لحساب التعبير الغنائي المباشر، كما هي الحال عند ميترلينك[ر] M.Maeterlink والمسرح الانطباعي عند تشيخوف. وربما كان الأسلوب المسرحي عند هذا الأخير أقل الأساليب مسرحية طوال تاريخ المسرح. ومنذ ظهور هذا النوع من المسرحية الخالية من الأحداث والحركات، أثيرت شكوك حول وجودها، وتساءل البعض، إن كانت هذه مسرحية حقيقية ومسرحاً حقيقياً أصيلاً، لكن تاريخ المسرح أثبت خلاف ذلك.
وقد كانت فلسفة برغسون أنقى تعبير عن الفكر الانطباعي، وخاصة في تفسيره للزمان وهو الوسيط الذي اتخذته الانطباعية عنصراً حيوياً. فقد كانت التجربة الأساسية للقرن التاسع عشر هي «تفرّد» اللحظة التي لم توجد أبداً من قبل ولن تتكرر أبداً. وكانت رواية النزعة الطبيعية بأسرها، عند فلوبير[ر] Flaubert خاصة، وصفاً وتحليلاً لهذه التجربة. لكن الفارق الرئيسي بين فلسفة فلوبير وفلسفة برغسون هو أن الأول كان ما يزال ينظر إلى الزمان على أنه عنصر يؤدي إلى التحلل، يتحطم بالجوهر المثالي للحياة. وقد حدث التغير في فهمنا للزمان، وبالتالي في كامل تجربتنا للواقع تدريجياً، وذلك أولاً في التصوير الانطباعي، ثم في فلسفة برغسون، وأخيراً في أعمال بروست الروائية.
قاسم مقداد
Impressionism - Impressionnisme
الانطباعية في الأدب
جاء مصطلح الانطباعية impressionnisme من فن التصوير، على أثر لوحة عرضها الرسام الفرنسي كلود مونيه[ر] Claude Monet عام 1874 تحت عنوان: «انطباع: شروق الشمس» Impression, soleil levant. ثم أطلق المصطلح على كل نهج فني وأدبي يعتمد نظرة جمالية في وصف المجتمع المعاصر، ويعمد إلى إعادة إحياء الأحاسيس والانطباعات التي يثيرها شيء ما في ذهن الفنان أو الكاتب.
إن رسم الحدود الفاصلة بين الطبيعية[ر] naturalisme والانطباعية ليس أمراً هيناً، لصعوبة التفريق التاريخي والفكري بينهما. فتغير أساليب التعبير له علاقة بتطور الاقتصاد واستقرار الحياة الاجتماعية.
ومن الناحية السياسية، لم يكن للأحداث التي وقعت عام 1871م، ولاسيما سقوط كومونة La commune باريس إلا آثار عابرة في تاريخ فرنسة، إذ استمرت الطبقة العليا، التي كانت متوسطة كما هي من دون أن يطرأ عليها أي تغيير، وحلت الجمهورية المحافظة محل الامبراطورية المتحررة. ولم يستتب الأمر لتلك الجمهورية إلا لأنها كانت تبدو وكأنها تضمن حلولاً سلمية للمشكلات السياسية، لكن لم تنشأ علاقات وديّة بين الجمهورية وطبقات المجتمع إلا بعد القضاء على مؤيدي كومونة باريس. ووجد الناس عزاءً في النظرية القائلة إن الفصد ضروري، لأنه قادر على تحقيق الشفاء. في حين أخذت شريحة المثقفين تواجه الأحداث وهي عاجزة تماماً. وأما الحياة الاقتصادية فدخلت مرحلة الرأسمالية الكبيرة، وتحولت من تعامل حرٍّ إلى نظام ترشيدي مُنسق، وإلى شبكة من مناطق النفوذ والمناطق الجمركية ومجالات الاحتكار والكارتلات cartels والتروستات trusts والاتحادات وغيرها. ويوصف هذا التركيز والتوحيد النمطي للحياة الاقتصادية بأنه علامة من علامات الشيخوخة، لهذا يمكن تعرف مظاهر عدم الاستقرار ونذر الانحلال في جميع فئات الطبقة الوسطى. صحيح أن «الكومونة» انتهت بهزيمة للثوار قلما عرفتها ثورة سابقة، لكنها كانت أول ثورة أشرفت عليها حركة عمالية دولية وأعقبها انتصار للبورجوازية مرتبط بشعور داهم بالخطر. وقد أدى هذا الشعور بالأزمة إلى بعث الاتجاهات المثالية والصوفية، وترتبت عليه موجة قوية من الإيمان كانت ردّ فعل على روح التشاؤم السائد. وفي هذه المرحلة فقدت الانطباعية صلتها بالنزعة الطبيعية، وتحوّلت في ميدان الأدب، إلى شكل جديد من أشكال الإبداعية. وقد أدى تطور التكنولوجية الحديثة إلى قيام اتجاه حيوي، لم يسبق له نظير، في موقف الإنسان من الحياة بأسرها. وكان هذا الإحساس الجديد بالسرعة والتغيير، هو المعنى الرئيسي الذي عبّرت عنه الانطباعية. فتطورت المراكز الثقافية إلى مدن كبيرة كوّنت تربة ينمو فيها الفن الحديث. إن الانطباعية كانت وليدة المدن، ونظرت إلى العالم بعيني رجل المدينة، واستجابت للانطباعات الخارجية بأعصاب الإنسان التقني الحديث، الشديد الرهافة والإرهاق.
والانطباعية تصف حياة المدينة بما فيها من تفكير، وإيقاع عصبي، ومن انطباعات مفاجئة، حادة، لكنها دائماً عابرة وزائلة. لهذا فهي تنطوي على حِدّةٍ زائدة في القدرة على الإحساس. وهي تُعدّ مع غوته والإبداعيين، واحدة من أهم نقاط التحول في تاريخ الفن الغربي.
ففي المسار الجدلي (الديالكتيكي) الذي يمثله تاريخ التصوير، والذي يتناوب فيه التصميم واللون، والتنظيم المجرّد والحياة العضوية، تمثل الانطباعية قمة التطور الذي اُعترفَ فيه بالعناصر الدينامية والعضوية في التجربة، والذي أدى إلى القضاء نهائياً على نظرة العصور الوسطى السكونية إلى العالَم. فمن الممكن تتبع خطٍ متصل من الفن القوطي إلى الانطباعية، مشابه للخط المؤدي من اقتصاد العصور الوسطى المتأخر إلى الرأسمالية الكبيرة. والإنسان الحديث هو نتيجة هذا التطور المزدوج الذي كان في أساسه تطوراً مطرداً.
ويمكن تلخيص الانطباعية في أنها تعبر عن سيادة اللحظة على الدوام والاتصال، والشعور بأن كل ظاهرة هي حادث عابر لن يتكرر أبداً وموجة يجرفها تيار الزمان، ذلك «النهر الذي لا يستطيع المرء أن ينزل فيه مرتين» كما يقول هيراقليط[ر]. ومنهج الانطباعية بكل أساليبه وحيله الفنية يهدف إلى التعبير عن هذه النظرة الهيراقليطية إلى العالم، وتأكيد أن الحقيقة ليست وجوداً بل صيرورة، وليست حالة ثابتة، بل عملية ومسار. وكل لوحة انطباعية هي تسجيل للّحظة في حركة الوجود الدائمة، وعرض لتوازن مهدد غير مستقر لتفاعل القوى المتصارعة. والرؤية الانطباعية تحوّل الطبيعة إلى عملية نمو وانحلال، فكل ما هو ثابت متماسك ينحلّ إلى تحولات ويتخذ طابعاً متجزئاً غير مكتمل. وبفضلها يكتمل التعبير عن عملية الرؤية الذاتية بدلاً من مادة الرؤية الموضوعية. إن الانطباعية ليست ظاهرة محددة المعالم بدقة في ذاتها، ومن الصعب تبيّن بداياتها في النزعة الطبيعية المعقدة، كما أن الأشكال اللاحقة لتطورها ممتزجة بظواهر الرمزية امتزاجاً كاملاً. وهناك تباين، من حيث الترتيب الزمني بين الانطباعية في الأدب وفي التصوير. فلما كانت الخصائص الأسلوبية المميزة للانطباعية قد بدأت تظهر في الأدب، كانت أخصب مرحلة للانطباعية في التصوير قد انتهت.
بلغت النزعة الجمالية قمة التطور في عصر الانطباعية، فأصبحت معاييرها المميزة، وهي الموقف السلبي التأملي الخالص من الحياة، والطابع العرضي غير الملتزم للتجربة، ونزعة اللذة الحسية، هي المعايير التي حكم بها على الفن عامة. لقد اعتقد بروست[ر] Proust، آخر القائلين بالانطباعية، وبمذهب اللذة الجمالي، أن الحياة لا تنمو فتصبح حقيقة ذات دلالة إلا في الذاكرة والرؤية والتجربة الجمالية. فتجاربنا التي نحياها لا تبلغ أقصى درجات العمق عندما نواجه الناس والأشياء في الواقع - إذ إن «زمان» هذه التجارب وحاضرها «مفقود» دائماً - بل عندما «نستعيد الزمان» وحينما لا نعود نشترك في تمثيل حياتنا، بل نقف منها موقف المتفرج وحين نخلق أعمالاً فنية أو نستمتع بها، أي حينما نتذكر. لقد فقدت الطبيعة البكر جاذبيتها الجمالية وحلَّ المثل الأعلى للحالة الصناعية محل المثل الأعلى للحالة الطبيعية. فهذا بودلير[ر] Baudelaire يكره الريف، والأخوان غونكور[ر] Les Goncourt يعدان الطبيعة عدواً. ولم يعد الناس يهربون من الواقع الاجتماعي إلى الطبيعة بل إلى عالم أعلى، كما في رواية «أكسل» Axel لفيلييه دي ليل آدام Villiers de L'Isle-Adam. وفي رواية «بالمقلوب» A Rebours لويسمانز[ر] (1884) Huysmans، وهي أهم وثيقة لهذه النزعة الجمالية المضادة للطبيعة وللواقع العملي، ويتكامل هذا الاتجاه بالاستعاضة عن الحياة العملية بالحياة الروحية. وكونت هذه المواقف نوعاً من الرد على روسو[ر] Rousseau، فضاعت قيمة كل ما هو بسيط وواضح وغريزي وساذج وصار الهدف حينذاك هو البحث عن الحالة العقلية غير الطبيعية للحضارة. وبالتالي فقد كوّنت الانطباعية فناً للمعارضة كغيرها من الاتجاهات التقدمية. وكان هذا التمرد الكامن في نظرة الانطباعيين إلى الحياة ضمن الأسباب التي دفعت الجمهور البرجوازي إلى رفض الفن الجديد، وإن لم يكن الانطباعيون أنفسهم قد أدركوا ذلك في كل الأحيان.
أنتج عصر الانطباعية نوعين متطرفين من الفنان الحديث المغترب عن المجتمع: البوهيميين الجدد الذين اختاروا الهجرة الداخلية، وأولئك الذين رحلوا عن الحضارة الغربية ملتجئين إلى بلاد بعيدة ساحرة، فاختاروا الهروب الحقيقي. وبعد عام 1890 بدأ الناس يتحدثون عن الرمزية وكأنها «انطباعية» في مؤثراتها البصرية والسمعية، وفي جمعها بين مختلف المعطيات الحسية، التي تنطوي بنظرتها الروحانية اللاعقلانية، على رد فعلٍ حاد على الانطباعية المتأثرة بالنزعة الطبيعية والمادية.
وقرب نهاية القرن التاسع عشر أصبحت الانطباعية هي الأسلوب السائد في جميع أرجاء أوربة فمنذ ذلك الحين بدأ يظهر في كل مكان شعراء للأحوال النفسية، ولانطباعات الجو، ولفصول السنة الضائعة وللساعات الهاربة في اليوم. وأصبح الناس حائرين حيال أشعار غنائية تعبّر عن أحاسيس عابرة مبهمة، وعن منبهات حسية غير محددة، وغير قابلة للتحديد، وعن ألوان رقيقة وأصوات متعبة. وأصبح الموضوع الرئيسي للشعر القلق والغموض، وما يتحرك في أدنى حدود الإدراك الحسي، ومع ذلك فإن موضوع اهتمام الشعراء لم يكن الواقع الموضوعي، بل انفعالاتهم المتعلقة بحساسيتهم الخاصة وقدرتهم على التجربة. ومن ينظر في الأدب الفرنسي وحده يسهل عليه أن يوحّد بين الانطباعية والرمزية. وكان فكتور هوغو[ر] Hugo يخاطب مالارميه Mallarmé (الرمزي) في شبابه بقوله: «يا عزيزي الشاعر الانطباعي». لكن تفحص الاتجاهين كفيل بإيضاح الفوارق بينهما، فالانطباعية مادية وحسية، مهما كانت رقة موضوعاتها، على حين أن الرمزية مثالية وروحية، مع أن عالم الأفكار لديها ليس إلا تسامياً بعالم الحواس. لكن أهم الفوارق بينهما هو أن الرمزية الفرنسية والرمزية البلجيكية ومذهب برغسون وغيرها، كانت اتجاهاً تحوّل إلى إيجابية فعّالة، على حين أن انطباعية كتّاب فيينة والكتّاب الألمان والإيطاليين والروس مثل شنيتسلر[ر] Schnitzler، وهوفمانستال[ر] Hofmannsthal، وريلكه[ر] Rilke، ودانونتسيو[ر] D'annunzio، وتشيخوف[ر] Tchekhov عبرت عن فلسفة سلبية واستسلام تام للبيئة المباشرة، واندماج في اللحظة العابرة بلا مقاومة. لكن ظهور شعراء مثل ستيفان غيوركه[ر] ودانونتسيو بيّن مدى عمق الروابط بين الانطباعية والرمزية، ومدى غلبة العامل اللا معقول فيهما معاً وتحوّل السلبية إلى إيجابية. ويمثّل كتّاب فيينة أنقى صور الانطباعية التي لم تعد تقاوم تيّار التجربة. ومن الجائز القول إن ما أضفى على انطباعية فيينة طابعها السلبي الرقيق المميز لها، هو ثقافة هذه المدينة التي كانت مستهلكة تفتقر إلى السياسة القومية الإيجابية. فهذه الانطباعية كانت فن أبناء البرجوازيين من أصحاب الثروة، وتعبيراً عن اللذة المملّة عند ذلك الجيل الثاني الذي عاش على ثمار عمل آبائه. وقد كان أولئك الشعراء متعبين نفسياً يعانون الشعور بالضياع، وعصبيين يستبد بهم الحزن والعناء، يسيرون بلا هدف ويتشككون في أنفسهم ويسخرون منها، وهنا تصبح التجربة الأساسية هي المضمون الكامن في الانطباعية، وهو تطابق القريب والبعيد وغرابة أقرب الأشياء إلى المرء وأكثرها تردداً في حياته اليومية. وأغرب الظواهر في تاريخ الانطباعية هو امتدادها إلى روسية، وظهور كاتب مثل تشيخوف الذي يوصف بأنه أنقى ممثل للحركة بأكملها. علماً أن روسية لم تعرف ذلك الجو العقلي لعصر التنوير. وكانت النزعة الجمالية والانحلالية التي اقترنت بظهور الانطباعية في الغرب غريبة بالتالي عن تشيخوف. لكن الأفكار انتشرت بسرعة بفضل التقدم التقني مما أدى إلى إدخال الاقتصاد الصناعي إلى روسية فتكونت فئة مثقفة موازية لتلك التي تكونت في الغرب، وتولدت نظرة للحياة مشابهة لنظرة «السأم». وقد اعترف غوركي[ر] Gorki أن تشيخوف يمثل نهاية عهد، وأن أسلوبه يجذب الجيل الجديد.
وفي فن المسرح أدى الإحساس بعدم وجود معنى أو دلالة للأحداث الخارجية وبطابعها المجزأ غير المكتمل، إلى انكماش العقدة المسرحية إلى الحد الأدنى، والتخلي عن تلك التأثيرات التي كانت من أخص مميزات «المسرحية المحبوكة». وقد تخلت المسرحية الشعرية عن الأساليب البنائية السابقة لحساب التعبير الغنائي المباشر، كما هي الحال عند ميترلينك[ر] M.Maeterlink والمسرح الانطباعي عند تشيخوف. وربما كان الأسلوب المسرحي عند هذا الأخير أقل الأساليب مسرحية طوال تاريخ المسرح. ومنذ ظهور هذا النوع من المسرحية الخالية من الأحداث والحركات، أثيرت شكوك حول وجودها، وتساءل البعض، إن كانت هذه مسرحية حقيقية ومسرحاً حقيقياً أصيلاً، لكن تاريخ المسرح أثبت خلاف ذلك.
وقد كانت فلسفة برغسون أنقى تعبير عن الفكر الانطباعي، وخاصة في تفسيره للزمان وهو الوسيط الذي اتخذته الانطباعية عنصراً حيوياً. فقد كانت التجربة الأساسية للقرن التاسع عشر هي «تفرّد» اللحظة التي لم توجد أبداً من قبل ولن تتكرر أبداً. وكانت رواية النزعة الطبيعية بأسرها، عند فلوبير[ر] Flaubert خاصة، وصفاً وتحليلاً لهذه التجربة. لكن الفارق الرئيسي بين فلسفة فلوبير وفلسفة برغسون هو أن الأول كان ما يزال ينظر إلى الزمان على أنه عنصر يؤدي إلى التحلل، يتحطم بالجوهر المثالي للحياة. وقد حدث التغير في فهمنا للزمان، وبالتالي في كامل تجربتنا للواقع تدريجياً، وذلك أولاً في التصوير الانطباعي، ثم في فلسفة برغسون، وأخيراً في أعمال بروست الروائية.
قاسم مقداد