اكتفاء ذاتي
Self-sufficiency / Autarky - Autarcie
الاكتفاء الذاتي
الاكتفاء الذاتي autarcie تعبير يعني قدرة الكائن الحي على مواجهة مشكلاته بالاعتماد على ذاته حصراً. أما في المجال الاقتصادي فيعني السياسة التي تتبعها دولة ما بهدف تحقيق اكتفائها بالاعتماد على مواردها الذاتية فقط. وقد يكون الاكتفاء الذاتي طبيعياً كما في بعض الأقاليم من البلدان المتخلفة التي تعيش في ظل اقتصاد الكفاف، أي تعيش على المنتجات التي تنتجها بنفسها من دون التعامل مع العالم الخارجي، أو يكون الاكتفاء الذاتي اقتصادياً، حين توجد مناطق جغرافية صالحة بطبيعتها لتكون مناطق اكتفاء اقتصادي، وفي غنى عن الارتباط بالعالم الخارجي. وقد فرَّق الاقتصاديون بين الاكتفاء الذاتي المطلق والاكتفاء الذاتي النسبي: أمَّا الأول فلا يتجلى إلا في نموذج مجرد، ولاسيما عندما يتناول حدود دولة معينة بمعنى الدولة المنعزلة أو الدولة التجارية المغلقة وفق تعبير الفيلسوف الألماني فيخته J.G.Fichte وهي التي لا تصدر أي جزء من إنتاجها ولا تستورد أي قسم مما تستهلكه إنما تستهلك كل ما تنتجه وتنتج فقط ما تستهلكه. أما الثاني أي الاكتفاء الذاتي النسبي فهو ممارسة اقتصادية عملية تهدف إلى تقليص اعتماد الدولة على علاقاتها مع العالم الخارجي وإلى تحقيق أكبر قدر ممكن من الاكتفاء الذاتي الاقتصادي. وفي الواقع ليس هناك اكتفاء ذاتي مطلق، بل اكتفاء ذاتي نسبي تختلف درجاته من دولة إلى أخرى، وتسعى كل الدول إلى تحقيق الاكتفاء الذاتي الاقتصادي إلى هذا الحد أو ذاك بحسب إمكاناتها الطبيعية والبشرية والمالية.
المنظور التاريخي
يرد مؤرخو الأفكار والوقائع الاقتصادية ظهور فكرة الاكتفاء الذاتي الاقتصادي القومي إلى الفيلسوف اليوناني أرسطو الذي صاغ في كتابه «السياسة»، وفي الجزء السابع منه، نظرية الاكتفاء الاقتصادي القومي، إذ قال بضرورة أن تكون المدينة المستقلة (أساس التنظيم السياسي عند الإغريق) أقل ما يمكن اتساعاً على أن توفر لسكانها رفاهية كافية. واستمر اليونانيون في تأكيد هذا المطلب في كتاباتهم حتى بعد أن حققت مدنهم ازدهاراً بوساطة المبادلات الخارجية. ولعل في القول العربي «ويل لأمة تأكل مما لا تزرع وتلبس مما لا تنسج» تأكيداً لأهمية الاكتفاء الذاتي الاقتصادي في حياة الأمم والشعوب وخطورة الاعتماد على استهلاك إنتاج الآخرين. وفيما عدا بعض أنصار المذهب التجاري المتزمتين لم تجد فكرة الاكتفاء الذاتي الاقتصادي مدافعين عنها، فقد كان كتّاب القرن السادس عشر وبداية القرن السابع عشر يرفضون نظرية الاكتفاء الذاتي المطلق، ويدافعون عن فكرة الاكتفاء الذاتي الاقتصادي النسبي. وقد دعا هؤلاء إلى منع استيراد البضائع التي تنافس المنتجات الوطنية، وإلى منع تصدير المواد الأولية اللازمة لتطوير الصناعة.
وكان أنصار الاكتفاء الذاتي الاقتصادي يدعون إلى تطوير الصناعة أكثر من دعوتهم إلى الانعزال عن العالم الخارجي، كما يدعون إلى تحقيق فائض في المبادلات الاقتصادية الخارجية وليس إلى تحديدها.
وعلى امتداد القرن التاسع عشر ظهرت اتجاهات الاكتفاء الذاتي الاقتصادي القومي خاصة في الولايات المتحدة الأمريكية، ويمكن تلمس مثل هذه الاتجاهات في فرنسة وألمانية. ولكن مع الأزمة الاقتصادية العامة لعام 1929 بدأت فكرة القومية الاقتصادية تتجلى بوضوح، وبرز الاتجاه نحو الانكفاء الاقتصادي على الذات القومية. حتى إن اللورد كينز Keynes الاقتصادي البريطاني المعروف نشر دراسة حول الاكتفاء الذاتي القومي عام 1923 مدافعاً عن فكرة الاكتفاء الذاتي القومي ومشيراً إلى أن مزاياها في الأحوال الراهنة (آنذاك) أعلى بكثير من الفوائد التي تحصل عليها الأمة نتيجة التخصص الدولي. وما الاتجاه نحو التجمعات الاقتصادية الكبيرة كالأسواق المشتركة أو الانضمام إلى الاتفاقيات والاتحادات الجمركية أو حتى البحث عن وحدات سياسية تامة كالوحدة الأوربية وفكرة الوحدة العربية ببعيد عن فكرة الاكتفاء الذاتي الاقتصادي. وتعدّ سياسات الحماية الجمركية التي تتبعها الدول في الوقت الراهن في باب سياسة الاكتفاء الذاتي الاقتصادي. ومما يلاحظ أن الدول، في كل مرة ترى أن مصلحتها القومية الاقتصادية متضررة من حرية التجارة الخارجية، تلجأ إلى تقييد الواردات بأسلوب أو بآخر مما يندرج تحت سياسة الاكتفاء الذاتي الاقتصادي النسبي.
مشكلات الاكتفاء الذاتي
تقتضي المصلحة الاقتصادية القومية والضرورة الاستراتيجية تحقيق قدر معين من الاكتفاء الذاتي الاقتصادي يوفّر حداً مقبولاً من التوازن مع العالم الخارجي ومستوى محدداً من الأمن وحرية اتخاذ القرار الوطني، بعيداً عن الضغوط وفي منأى عن التبعية. ولا يجوز بأي حال من الأحوال أن تُترك القرارات الاقتصادية القومية رهناً بحسابات الربح التجاري فقط. وتقدم تجارب الدول، والعربية منها خاصة، دليلاً واضحاً على ذلك، فمصر كادت تقع في المجاعة عام 1961 عندما امتنعت الولايات المتحدة الأمريكية عن توريد شحنات القمح المتعاقد عليها لولا قيام القيادة السوفييتية آنذاك بتحويل السفن المحملة بالقمح المتوجهة إلى الموانئ الروسية إلى مصر. كما أن الاقتصاد الجزائري تعرض إلى ما يشبه الانهيار عندما امتنعت فرنسة عن استيراد الخمر الجزائري إثر لجوء الجزائر إلى وقف العمل بالاتفاق النفطي المعقود مع فرنسة بموجب اتفاقيات إيفيان. كما سقطت حكومة نيكروما في غانة بسبب تقليص الولايات المتحدة استيراد الكاكاو وهو المحصول الرئيسي في غانة. وتعرضت المملكة العربية السعودية إلى تهديد خطير بمنع المواد الغذائية عنها عقب حرب تشرين التحريرية واتخاذ القادة العرب قراراً بحظر النفط عن الدول التي دعمت العدوان الإسرائيلي على الأمة العربية. والأمثلة كثيرة جداً على خطورة الانكشاف الاقتصادي على حرية الدول واستقلالها وسيادتها.
غير أن للاكتفاء الذاتي مشكلاته ومخاطره الاقتصادية والسياسية والأمنية أيضاً. فمن الناحية الاقتصادية البحتة يميل الاكتفاء الذاتي الاقتصادي إلى تحقيق التنمية الاقتصادية المتوازنة لاقتصاد متعدد الأنشطة ليس على أساس نظرية التكاليف النسبية التي تعني أن تتخصص كل دولة بإنتاج السلع والخدمات التي تتمتع بمزايا نسبية في إنتاجها، بل على أساس أولوية اختيار الاستثمارات الأكثر إنتاجية على المستوى الوطني، وبالتالي فإن اعتماد سياسة الاكتفاء الذاتي سوف يعرض الاقتصاد الوطني إلى هدر الموارد باستغلالها في إنتاج سلع وخدمات بتكلفة أعلى كان يمكن الحصول عليها بتكلفة أقل. حتى أنصار هذه السياسة (الاكتفاء الذاتي) يرون فيها ضرورة مؤقتة من أجل تشجيع البلدان غير الصناعية على النمو والتقدم ويعدونها نوعاً من الحماية الاقتصادية المشددة لمساعدة هذه البلدان على تحقيق التنمية. ولكن على الدول الراغبة في تحقيق قدر معين من الاكتفاء الذاتي أن تكون مستعدة لتحمل مقدار معين من التضحيات من أجل سيادتها وحريتها. ومن الناحية السياسية الأمنية فإن لجوء أي دولة إلى اعتماد سياسة الاكتفاء الذاتي سيقود دولاً أخرى تضررت من هذه السياسة إلى اتخاذ إجراءات وقائية مقابلة قد يترتب عليها صراعات تصل إلى الحرب أحياناً. كما أن سياسة الاكتفاء الذاتي الاقتصادي المطلق من شأنها أن تقود إلى تبني مواقف توسعية تقوم على الادعاء بالحاجة إلى مناطق أو موارد جديدة قادرة على تحقيق الاكتفاء الذاتي الاقتصادي، كما حدث مع النازيين بدعوتهم إلى ضرورة توفير المجال الحيوي الذي يضمن توافق المناطق الاقتصادية والكيانات الدستورية مع ما يسمى بمناطق الاكتفاء الذاتي الطبيعية أي بما يضمن الاكتفاء الذاتي الاقتصادي القومي. وليست مواقف الكيان الصهيوني وادعاءاته ببعيدة عن مثل هذا الاتجاه إذ يزعم الصهاينة أنهم في حاجة إلى حدود طبيعية آمنة إضافة إلى حصة كافية من موارد المياه في المنطقة لسد حاجتهم الحيوية. والنتيجة المنطقية لمثل هذه السياسة هي السعي إلى السيطرة على موارد الآخرين ومن ثم إلى الحرب. لقد كانت ألمانية بدعواها حول المجال الحيوي سبباً في اندلاع حربين عالميتين، كما أشعل الكيان الصهيوني حرباً على الأمة العربية مازالت مستمرة بسبب دعاواه حول الحدود الآمنة، ونصيب «مناسب» من المياه والثروات الطبيعية في المنطقة.
الاكتفاء الذاتي والتعاون الدولي
من المؤكد أن الأخذ بسياسة الاكتفاء الذاتي الاقتصادي القومي يؤثر سلباً في التبادل التجاري بين الأمم ويعرقل التعاون الاقتصادي الدولي. ومن المؤكد أيضاً أن تنمية الدول المتخلفة تقتضي بحكم الضرورة الاقتصادية تحريرها من التبعية للخارج، لأن التقسيم الدولي الراهن للعمل والتقلبات في السوق الدولية إضافة إلى التفاوت الكبير في إنتاجية العمل بينها وبين الدول المتقدمة تقود كلها إلى تحويل الفوائض الاقتصادية منها باتجاه الدول الصناعية المتقدمة. يختلف الاقتصاديون فيما بينهم حول اعتماد استراتيجية التنمية المتوازنة أو استراتيجية النمو غير المتوازن. فأنصار الاستراتيجية الأولى يشيرون إلى ضرورة تحقيق نمو متوازن في كل قطاعات الاقتصاد الوطني يجعل من مخرجات كل قطاع مدخلات للقطاعات الأخرى. فيتحقق بذلك الاندماج الاقتصادي الوطني، مما يتوافق تقريباً مع نظرية الاكتفاء الذاتي القومي، ويقود إلى تقليص التبادل والتعاون الدوليين. أما أنصار الاستراتيجية الثانية فيرون أن الدول المتخلفة غير قادرة على تحقيق النمو دفعة واحدة وفي جميع القطاعات، ولذا يرون أن على هذه الدول تنمية بعض القطاعات التي تحرض النمو في قطاعات أخرى، ولكن حتى هؤلاء يوصون البلدان النامية بالسعي، قدر المستطاع، إلى تقليص الصادرات والواردات من أجل تركيز الآثار التحريضية للاستثمارات داخل الاقتصاد القومي. وهكذا يتضح وجود تعارض بين الاكتفاء الاقتصادي القومي وحرية التبادل التجاري التي يقتضيها التعاون الدولي، فهل يمكن إيجاد نقاط جوهرية مشتركة بين الاكتفاء الذاتي القومي المطلق أو النسبي، وحرية التبادل التجاري؟ في الواقع هناك احتمالان: فإما أن يطبق الاكتفاء الذاتي على العالم بأسره منظوراً إليه على أنه كل موحد، أي دولة واحدة يكون فيها الاكتفاء الذاتي انفتاحاً في الوقت ذاته لأنه لن يكون هناك داخل تجب حمايته ولن يكون هناك خارج للانفتاح عليه. ومادام العالم منقسماً إلى دول ومجموعات اقتصادية متباينة في درجة نموها، وبعضها متقدم أكثر من الآخر، فإن من مصلحة البلدان المتقدمة تركيز الاهتمام على حرية التبادل التجاري في حين ترى الدول الأقل تقدماً أو المتخلفة ضرورة اتباع نظام الحماية [ر] الذي يعد صيغة من صيغ الاكتفاء الذاتي النسبي على الأقل. من هنا بدأ العالم بالتكتل في مجموعات اقتصادية في إطار أسواق مشتركة توفر حرية التبادل التجاري داخل حدود دول السوق، وفي الوقت نفسه ينمو الاتجاه نحو الاكتفاء الذاتي الاقتصادي في إطار هذه الدول، وتوضع العقبات في وجه حرية التبادل التجاري على الصعيد الدولي. لقد شهد العالم ولادة أسواق مشتركة كثيرة ومناطق جمركية متعددة بين دول متقاربة في مستوى نموها تهدف كلها إلى حماية الدول الأعضاء في المواجهات الاقتصادية المقبلة، كتلك التي تلاحظ بين اليابان وأوربة وأمريكة، والتي يصفها الكاتب الأمريكي ليستر ثورو في كتابه «رأس لرأس» بأنها مواجهات بين امبراطوريات. لقد قام الاتحاد الأوربي [ر] رداً على التحدي الأمريكي ولحماية الاقتصادات الأوربية من الغزو الأمريكي كما من الغزو الياباني.
وعندما شعرت الولايات المتحدة الأمريكية بالخطرين الياباني والأوربي سارعت إلى توقيع اتفاقية التجارة الحرة NAFTA مع كل من كندا والمكسيك في 7 تشرين أول 1992. وتعمل اليوم على توسيعها لتشمل كل دول القارة الأمريكية بشماليها وجنوبيها. وبدأت اليابان رداً على ذلك بخطط لتوسيع كتلتها لتشمل كلاً من كورية الشمالية وفييتنام إضافة إلى كورية الجنوبية وتايوان وسنغافورة وماليزية وإندونيسية وهونغ كونغ والفيليبين، ولا يستبعد أن تعمد هذه الدول إلى توقيع اتفاقية تجارة حرة بينها. ومن المرجح أن التعاون الدولي سيكون قريباً بين مجموعات اقتصادية كبيرة تستطيع كل منها تحقيق الحماية المشتركة لأعضائها والتعامل مع المجموعات الأخرى في إطار سياسة ثنائية من الاكتفاء الذاتي الداخلي والانفتاح التجاري الخارجي على المستوى الدولي. أمّا الدول التي سوف تبقى منفردة بدافع الشعور المبالغ فيه بالسيادة الوطنية وتغليب المصالح الآنية الظاهرية على المصالح الحقيقية (اتفاقية السوق العربية المشتركة الموقعة منذ ثلاثة عقود ولم تجد طريقها إلى التطبيق بعد)؛ فيخشى ألا تجد لها مكاناً في التعاون الدولي وتبقى دولاً هامشية تابعة، فتفقد بذلك سيادتها وتكون قد وصلت إلى عكس ما تهدف إليه.
إن سياسة الاكتفاء الذاتي الإقليمي والتبادل التجاري والتعاون بين التكتلات الاقتصادية الكبيرة على المستوى الدولي تتيح الجمع بين التقسيم الدولي للعمل وفقاً لنظرية التكاليف النسبية من جهة، والتخصص داخل التكتلات ذاتها وفقاً لنظرية مستوى الإنتاجية الأفضل من جهة ثانية. وبهذا المعنى يمكن للاكتفاء الذاتي الإقليمي أن يسهم في تنظيم العلاقات الاقتصادية الدولية ولاسيما العلاقات بين الدول ذات مستويات النمو المختلفة، ويراعي شروط التخطيط للتنمية داخل مجموعات الدول. ولا بد، في حال تحقق ذلك من أن تعطى مجموعات الدول الأقل تطوراً حرية أكبر في اتباع سياسة حماية أكثر تشدداً في علاقاتها الخارجية مع المجموعات الأكثر تقدماً من دون المعاملة بالمثل من جانب هذه الأخيرة حتى تتمكن من تشجيع صناعاتها الناشئة وتحمي فوائضها الاقتصادية من الانسياب نحو الخارج.
ومن شأن ذلك أن يساعد مجموعات الدول المتخلفة على النمو بسرعة أكبر ليتم ردم الهوة الكبيرة التي تفصل بينها وبين الدول الصناعية المتقدمة مما يسهم في بناء عالم أكثر انسجاماً وأقل تناقضاً.
مطانيوس حبيب
Self-sufficiency / Autarky - Autarcie
الاكتفاء الذاتي
الاكتفاء الذاتي autarcie تعبير يعني قدرة الكائن الحي على مواجهة مشكلاته بالاعتماد على ذاته حصراً. أما في المجال الاقتصادي فيعني السياسة التي تتبعها دولة ما بهدف تحقيق اكتفائها بالاعتماد على مواردها الذاتية فقط. وقد يكون الاكتفاء الذاتي طبيعياً كما في بعض الأقاليم من البلدان المتخلفة التي تعيش في ظل اقتصاد الكفاف، أي تعيش على المنتجات التي تنتجها بنفسها من دون التعامل مع العالم الخارجي، أو يكون الاكتفاء الذاتي اقتصادياً، حين توجد مناطق جغرافية صالحة بطبيعتها لتكون مناطق اكتفاء اقتصادي، وفي غنى عن الارتباط بالعالم الخارجي. وقد فرَّق الاقتصاديون بين الاكتفاء الذاتي المطلق والاكتفاء الذاتي النسبي: أمَّا الأول فلا يتجلى إلا في نموذج مجرد، ولاسيما عندما يتناول حدود دولة معينة بمعنى الدولة المنعزلة أو الدولة التجارية المغلقة وفق تعبير الفيلسوف الألماني فيخته J.G.Fichte وهي التي لا تصدر أي جزء من إنتاجها ولا تستورد أي قسم مما تستهلكه إنما تستهلك كل ما تنتجه وتنتج فقط ما تستهلكه. أما الثاني أي الاكتفاء الذاتي النسبي فهو ممارسة اقتصادية عملية تهدف إلى تقليص اعتماد الدولة على علاقاتها مع العالم الخارجي وإلى تحقيق أكبر قدر ممكن من الاكتفاء الذاتي الاقتصادي. وفي الواقع ليس هناك اكتفاء ذاتي مطلق، بل اكتفاء ذاتي نسبي تختلف درجاته من دولة إلى أخرى، وتسعى كل الدول إلى تحقيق الاكتفاء الذاتي الاقتصادي إلى هذا الحد أو ذاك بحسب إمكاناتها الطبيعية والبشرية والمالية.
المنظور التاريخي
يرد مؤرخو الأفكار والوقائع الاقتصادية ظهور فكرة الاكتفاء الذاتي الاقتصادي القومي إلى الفيلسوف اليوناني أرسطو الذي صاغ في كتابه «السياسة»، وفي الجزء السابع منه، نظرية الاكتفاء الاقتصادي القومي، إذ قال بضرورة أن تكون المدينة المستقلة (أساس التنظيم السياسي عند الإغريق) أقل ما يمكن اتساعاً على أن توفر لسكانها رفاهية كافية. واستمر اليونانيون في تأكيد هذا المطلب في كتاباتهم حتى بعد أن حققت مدنهم ازدهاراً بوساطة المبادلات الخارجية. ولعل في القول العربي «ويل لأمة تأكل مما لا تزرع وتلبس مما لا تنسج» تأكيداً لأهمية الاكتفاء الذاتي الاقتصادي في حياة الأمم والشعوب وخطورة الاعتماد على استهلاك إنتاج الآخرين. وفيما عدا بعض أنصار المذهب التجاري المتزمتين لم تجد فكرة الاكتفاء الذاتي الاقتصادي مدافعين عنها، فقد كان كتّاب القرن السادس عشر وبداية القرن السابع عشر يرفضون نظرية الاكتفاء الذاتي المطلق، ويدافعون عن فكرة الاكتفاء الذاتي الاقتصادي النسبي. وقد دعا هؤلاء إلى منع استيراد البضائع التي تنافس المنتجات الوطنية، وإلى منع تصدير المواد الأولية اللازمة لتطوير الصناعة.
وكان أنصار الاكتفاء الذاتي الاقتصادي يدعون إلى تطوير الصناعة أكثر من دعوتهم إلى الانعزال عن العالم الخارجي، كما يدعون إلى تحقيق فائض في المبادلات الاقتصادية الخارجية وليس إلى تحديدها.
وعلى امتداد القرن التاسع عشر ظهرت اتجاهات الاكتفاء الذاتي الاقتصادي القومي خاصة في الولايات المتحدة الأمريكية، ويمكن تلمس مثل هذه الاتجاهات في فرنسة وألمانية. ولكن مع الأزمة الاقتصادية العامة لعام 1929 بدأت فكرة القومية الاقتصادية تتجلى بوضوح، وبرز الاتجاه نحو الانكفاء الاقتصادي على الذات القومية. حتى إن اللورد كينز Keynes الاقتصادي البريطاني المعروف نشر دراسة حول الاكتفاء الذاتي القومي عام 1923 مدافعاً عن فكرة الاكتفاء الذاتي القومي ومشيراً إلى أن مزاياها في الأحوال الراهنة (آنذاك) أعلى بكثير من الفوائد التي تحصل عليها الأمة نتيجة التخصص الدولي. وما الاتجاه نحو التجمعات الاقتصادية الكبيرة كالأسواق المشتركة أو الانضمام إلى الاتفاقيات والاتحادات الجمركية أو حتى البحث عن وحدات سياسية تامة كالوحدة الأوربية وفكرة الوحدة العربية ببعيد عن فكرة الاكتفاء الذاتي الاقتصادي. وتعدّ سياسات الحماية الجمركية التي تتبعها الدول في الوقت الراهن في باب سياسة الاكتفاء الذاتي الاقتصادي. ومما يلاحظ أن الدول، في كل مرة ترى أن مصلحتها القومية الاقتصادية متضررة من حرية التجارة الخارجية، تلجأ إلى تقييد الواردات بأسلوب أو بآخر مما يندرج تحت سياسة الاكتفاء الذاتي الاقتصادي النسبي.
مشكلات الاكتفاء الذاتي
تقتضي المصلحة الاقتصادية القومية والضرورة الاستراتيجية تحقيق قدر معين من الاكتفاء الذاتي الاقتصادي يوفّر حداً مقبولاً من التوازن مع العالم الخارجي ومستوى محدداً من الأمن وحرية اتخاذ القرار الوطني، بعيداً عن الضغوط وفي منأى عن التبعية. ولا يجوز بأي حال من الأحوال أن تُترك القرارات الاقتصادية القومية رهناً بحسابات الربح التجاري فقط. وتقدم تجارب الدول، والعربية منها خاصة، دليلاً واضحاً على ذلك، فمصر كادت تقع في المجاعة عام 1961 عندما امتنعت الولايات المتحدة الأمريكية عن توريد شحنات القمح المتعاقد عليها لولا قيام القيادة السوفييتية آنذاك بتحويل السفن المحملة بالقمح المتوجهة إلى الموانئ الروسية إلى مصر. كما أن الاقتصاد الجزائري تعرض إلى ما يشبه الانهيار عندما امتنعت فرنسة عن استيراد الخمر الجزائري إثر لجوء الجزائر إلى وقف العمل بالاتفاق النفطي المعقود مع فرنسة بموجب اتفاقيات إيفيان. كما سقطت حكومة نيكروما في غانة بسبب تقليص الولايات المتحدة استيراد الكاكاو وهو المحصول الرئيسي في غانة. وتعرضت المملكة العربية السعودية إلى تهديد خطير بمنع المواد الغذائية عنها عقب حرب تشرين التحريرية واتخاذ القادة العرب قراراً بحظر النفط عن الدول التي دعمت العدوان الإسرائيلي على الأمة العربية. والأمثلة كثيرة جداً على خطورة الانكشاف الاقتصادي على حرية الدول واستقلالها وسيادتها.
غير أن للاكتفاء الذاتي مشكلاته ومخاطره الاقتصادية والسياسية والأمنية أيضاً. فمن الناحية الاقتصادية البحتة يميل الاكتفاء الذاتي الاقتصادي إلى تحقيق التنمية الاقتصادية المتوازنة لاقتصاد متعدد الأنشطة ليس على أساس نظرية التكاليف النسبية التي تعني أن تتخصص كل دولة بإنتاج السلع والخدمات التي تتمتع بمزايا نسبية في إنتاجها، بل على أساس أولوية اختيار الاستثمارات الأكثر إنتاجية على المستوى الوطني، وبالتالي فإن اعتماد سياسة الاكتفاء الذاتي سوف يعرض الاقتصاد الوطني إلى هدر الموارد باستغلالها في إنتاج سلع وخدمات بتكلفة أعلى كان يمكن الحصول عليها بتكلفة أقل. حتى أنصار هذه السياسة (الاكتفاء الذاتي) يرون فيها ضرورة مؤقتة من أجل تشجيع البلدان غير الصناعية على النمو والتقدم ويعدونها نوعاً من الحماية الاقتصادية المشددة لمساعدة هذه البلدان على تحقيق التنمية. ولكن على الدول الراغبة في تحقيق قدر معين من الاكتفاء الذاتي أن تكون مستعدة لتحمل مقدار معين من التضحيات من أجل سيادتها وحريتها. ومن الناحية السياسية الأمنية فإن لجوء أي دولة إلى اعتماد سياسة الاكتفاء الذاتي سيقود دولاً أخرى تضررت من هذه السياسة إلى اتخاذ إجراءات وقائية مقابلة قد يترتب عليها صراعات تصل إلى الحرب أحياناً. كما أن سياسة الاكتفاء الذاتي الاقتصادي المطلق من شأنها أن تقود إلى تبني مواقف توسعية تقوم على الادعاء بالحاجة إلى مناطق أو موارد جديدة قادرة على تحقيق الاكتفاء الذاتي الاقتصادي، كما حدث مع النازيين بدعوتهم إلى ضرورة توفير المجال الحيوي الذي يضمن توافق المناطق الاقتصادية والكيانات الدستورية مع ما يسمى بمناطق الاكتفاء الذاتي الطبيعية أي بما يضمن الاكتفاء الذاتي الاقتصادي القومي. وليست مواقف الكيان الصهيوني وادعاءاته ببعيدة عن مثل هذا الاتجاه إذ يزعم الصهاينة أنهم في حاجة إلى حدود طبيعية آمنة إضافة إلى حصة كافية من موارد المياه في المنطقة لسد حاجتهم الحيوية. والنتيجة المنطقية لمثل هذه السياسة هي السعي إلى السيطرة على موارد الآخرين ومن ثم إلى الحرب. لقد كانت ألمانية بدعواها حول المجال الحيوي سبباً في اندلاع حربين عالميتين، كما أشعل الكيان الصهيوني حرباً على الأمة العربية مازالت مستمرة بسبب دعاواه حول الحدود الآمنة، ونصيب «مناسب» من المياه والثروات الطبيعية في المنطقة.
الاكتفاء الذاتي والتعاون الدولي
من المؤكد أن الأخذ بسياسة الاكتفاء الذاتي الاقتصادي القومي يؤثر سلباً في التبادل التجاري بين الأمم ويعرقل التعاون الاقتصادي الدولي. ومن المؤكد أيضاً أن تنمية الدول المتخلفة تقتضي بحكم الضرورة الاقتصادية تحريرها من التبعية للخارج، لأن التقسيم الدولي الراهن للعمل والتقلبات في السوق الدولية إضافة إلى التفاوت الكبير في إنتاجية العمل بينها وبين الدول المتقدمة تقود كلها إلى تحويل الفوائض الاقتصادية منها باتجاه الدول الصناعية المتقدمة. يختلف الاقتصاديون فيما بينهم حول اعتماد استراتيجية التنمية المتوازنة أو استراتيجية النمو غير المتوازن. فأنصار الاستراتيجية الأولى يشيرون إلى ضرورة تحقيق نمو متوازن في كل قطاعات الاقتصاد الوطني يجعل من مخرجات كل قطاع مدخلات للقطاعات الأخرى. فيتحقق بذلك الاندماج الاقتصادي الوطني، مما يتوافق تقريباً مع نظرية الاكتفاء الذاتي القومي، ويقود إلى تقليص التبادل والتعاون الدوليين. أما أنصار الاستراتيجية الثانية فيرون أن الدول المتخلفة غير قادرة على تحقيق النمو دفعة واحدة وفي جميع القطاعات، ولذا يرون أن على هذه الدول تنمية بعض القطاعات التي تحرض النمو في قطاعات أخرى، ولكن حتى هؤلاء يوصون البلدان النامية بالسعي، قدر المستطاع، إلى تقليص الصادرات والواردات من أجل تركيز الآثار التحريضية للاستثمارات داخل الاقتصاد القومي. وهكذا يتضح وجود تعارض بين الاكتفاء الاقتصادي القومي وحرية التبادل التجاري التي يقتضيها التعاون الدولي، فهل يمكن إيجاد نقاط جوهرية مشتركة بين الاكتفاء الذاتي القومي المطلق أو النسبي، وحرية التبادل التجاري؟ في الواقع هناك احتمالان: فإما أن يطبق الاكتفاء الذاتي على العالم بأسره منظوراً إليه على أنه كل موحد، أي دولة واحدة يكون فيها الاكتفاء الذاتي انفتاحاً في الوقت ذاته لأنه لن يكون هناك داخل تجب حمايته ولن يكون هناك خارج للانفتاح عليه. ومادام العالم منقسماً إلى دول ومجموعات اقتصادية متباينة في درجة نموها، وبعضها متقدم أكثر من الآخر، فإن من مصلحة البلدان المتقدمة تركيز الاهتمام على حرية التبادل التجاري في حين ترى الدول الأقل تقدماً أو المتخلفة ضرورة اتباع نظام الحماية [ر] الذي يعد صيغة من صيغ الاكتفاء الذاتي النسبي على الأقل. من هنا بدأ العالم بالتكتل في مجموعات اقتصادية في إطار أسواق مشتركة توفر حرية التبادل التجاري داخل حدود دول السوق، وفي الوقت نفسه ينمو الاتجاه نحو الاكتفاء الذاتي الاقتصادي في إطار هذه الدول، وتوضع العقبات في وجه حرية التبادل التجاري على الصعيد الدولي. لقد شهد العالم ولادة أسواق مشتركة كثيرة ومناطق جمركية متعددة بين دول متقاربة في مستوى نموها تهدف كلها إلى حماية الدول الأعضاء في المواجهات الاقتصادية المقبلة، كتلك التي تلاحظ بين اليابان وأوربة وأمريكة، والتي يصفها الكاتب الأمريكي ليستر ثورو في كتابه «رأس لرأس» بأنها مواجهات بين امبراطوريات. لقد قام الاتحاد الأوربي [ر] رداً على التحدي الأمريكي ولحماية الاقتصادات الأوربية من الغزو الأمريكي كما من الغزو الياباني.
وعندما شعرت الولايات المتحدة الأمريكية بالخطرين الياباني والأوربي سارعت إلى توقيع اتفاقية التجارة الحرة NAFTA مع كل من كندا والمكسيك في 7 تشرين أول 1992. وتعمل اليوم على توسيعها لتشمل كل دول القارة الأمريكية بشماليها وجنوبيها. وبدأت اليابان رداً على ذلك بخطط لتوسيع كتلتها لتشمل كلاً من كورية الشمالية وفييتنام إضافة إلى كورية الجنوبية وتايوان وسنغافورة وماليزية وإندونيسية وهونغ كونغ والفيليبين، ولا يستبعد أن تعمد هذه الدول إلى توقيع اتفاقية تجارة حرة بينها. ومن المرجح أن التعاون الدولي سيكون قريباً بين مجموعات اقتصادية كبيرة تستطيع كل منها تحقيق الحماية المشتركة لأعضائها والتعامل مع المجموعات الأخرى في إطار سياسة ثنائية من الاكتفاء الذاتي الداخلي والانفتاح التجاري الخارجي على المستوى الدولي. أمّا الدول التي سوف تبقى منفردة بدافع الشعور المبالغ فيه بالسيادة الوطنية وتغليب المصالح الآنية الظاهرية على المصالح الحقيقية (اتفاقية السوق العربية المشتركة الموقعة منذ ثلاثة عقود ولم تجد طريقها إلى التطبيق بعد)؛ فيخشى ألا تجد لها مكاناً في التعاون الدولي وتبقى دولاً هامشية تابعة، فتفقد بذلك سيادتها وتكون قد وصلت إلى عكس ما تهدف إليه.
إن سياسة الاكتفاء الذاتي الإقليمي والتبادل التجاري والتعاون بين التكتلات الاقتصادية الكبيرة على المستوى الدولي تتيح الجمع بين التقسيم الدولي للعمل وفقاً لنظرية التكاليف النسبية من جهة، والتخصص داخل التكتلات ذاتها وفقاً لنظرية مستوى الإنتاجية الأفضل من جهة ثانية. وبهذا المعنى يمكن للاكتفاء الذاتي الإقليمي أن يسهم في تنظيم العلاقات الاقتصادية الدولية ولاسيما العلاقات بين الدول ذات مستويات النمو المختلفة، ويراعي شروط التخطيط للتنمية داخل مجموعات الدول. ولا بد، في حال تحقق ذلك من أن تعطى مجموعات الدول الأقل تطوراً حرية أكبر في اتباع سياسة حماية أكثر تشدداً في علاقاتها الخارجية مع المجموعات الأكثر تقدماً من دون المعاملة بالمثل من جانب هذه الأخيرة حتى تتمكن من تشجيع صناعاتها الناشئة وتحمي فوائضها الاقتصادية من الانسياب نحو الخارج.
ومن شأن ذلك أن يساعد مجموعات الدول المتخلفة على النمو بسرعة أكبر ليتم ردم الهوة الكبيرة التي تفصل بينها وبين الدول الصناعية المتقدمة مما يسهم في بناء عالم أكثر انسجاماً وأقل تناقضاً.
مطانيوس حبيب