امتيازات اجنبيه
Capitulations - Capitulations
الامتيازات الأجنبية
كانت الامتيازات الأجنبية Les capitulations تعني من القرن السادس عشر إلى القرن الثامن عشر النظام القانوني والتجاري والاقتصادي والدولي الذي كان نافذاً في السلطنة العثمانية في عهد انحطاطها وتخلفها، وقويت فيه شوكة الدول الأجنبية ورعاياها في جميع أرجاء السلطنة العثمانية. أَمَّا قبل ذلك فقد كانت الامتيازات الأجنبية وجهاً من وجوه التسامح الديني والتعايش الطائفي اللذين كانا يقضيان باحترام المعتقدات والشعائر الدينية لغير المسلمين المقيمين في ديار السلطنة العثمانية.
تقول المصادر التاريخية إن معاهدة الصداقة المعقودة عام 1535 بين الباب العالي La Sublime Porte وفرنسة كانت أول ما سُميَ بالامتيازات الأجنبية في عهد السلطنة العثمانية. وكانت تتألف من 17 مادة منها ما يتعلق بالإقامة ومنها ما يتعلق بالتجارة ومنها ما يتعلق بممارسة الشعائر الدينية والمعتقدات المسيحية. وتضيف تلك المصادر أن الدول الأجنبية الأخرى بادرت إلى عقد معاهداتها مع الباب العالي وذلك على التفصيل التالي: إنكلترة عام 1583، هولندة عام 1613، النمسة عام 1718، السويد عام 1737، مملكة الصقليين عام 1740، توسكانة عام 1747، الدنمارك عام 1756، بروسية عام 1761، إسبانية عام 1782، روسية عام 1783، الولايات المتحدة عام 1830، وبلجيكة عام 1838 وأخيراً اليونان عام 1855. وقيل إن جمهورية البندقية سبقت فرنسة في عقد معاهدتها مع الباب العالي عام 1455 وإنها كانت معاهدة نموذجية في سلسلة تلك الامتيازات التي نصت على منح الأجانب حريات مختلفة. ومن هذه الحريات ما يلي:
1ـ حرية الإقامة في جميع أرجاء السلطنة وذلك شريطة التسجيل القنصلي في قنصلية الدولة التي ينتمي إليها الأجنبي من جهة وألاّ يكون في هذه الإقامة ما يعكر الأمن العام أو ما يسبب خطراً على النظام العام من جهة أخرى.
2ـ حرية المسكن فلا يجوز انتهاك حرمة المسكن إلا بإجازة قنصلية الدولة التي ينتمي إليها هذا الأجنبي وفي هذه الحالة يجب حضور القنصل أو من يقوم مقامه عندما تدعو الحاجة إلى دخول تلك المساكن.
3ـ حرية التنقل في جميع أرجاء السلطنة وذلك بموجب وثيقة مرور أو تنقل تمنحها سلطات الأمن استناداً إلى جواز سفر الأجنبي.
4ـ حرية التجارة وهي متصلة اتصالاً وثيقاً بحرية الإقامة والتنقل لممارسة الأعمال التجارية وما قد يتفرع عنها من دفع الرسوم المالية والجمركية والعقارية. وقد نصت أغلب المعاهدات المعقودة مع الدول الأجنبية على إعفاء رعاياها من تلك الرسوم.
5ـ حرية المعتقدات الدينية وما يتبع ذلك من ممارسة الشعائر الدينية.
6ـ الحصانة القضائية والتشريعية فلا تجوز مقاضاة الأجنبي أَمام المحاكم الوطنية بل أَمام قنصلية بلاده ووفقاً لقانون بلاده أيضاً. وهنا فرقت الامتيازات بين حالات ثلاث:
الأولى: إذا كان المتداعون ينتمون إلى جنسية بلد أجنبي واحد. والثانية: إذا كانوا ينتمون إلى جنسيات بلدان متعددة. والثالثة: إذا كان بين المتداعين الأجانب المقيمين في السلطنة أحد الرعايا العثمانيين.
وتتألف المحكمة القنصلية من ثلاثة أعضاء: القنصل أو من يقوم مقامه واثنان آخران يُختاران من وجهاء الجالية الأجنبية المقيمين في السلطنة، وقلما تؤخذ الأحكام الصادرة من هذه المحكمة بالأكثرية. ويرجح على العموم الجانب الذي يقف فيه القنصل أو نائبه. هذا في الحالتين الأولى والثانية.
أَمَّا في الحالة الثالثة فقد درج العرف على أن تتولى المحاكم الوطنية الفصل فيها إضافة إلى الغرف التجارية والصناعية والزراعية الموزعة في أرجاء السلطنة وفي هذه الحالة تتألف الهيئة القضائية من خمسة أعضاء ثلاثة منهم عثمانيون والاثنان الآخران من جنسية الأجنبي أو الأجانب الأطراف في الدعوى. كما جرت الأعراف أيضاً على التفريق بين الدعاوى المدنية والتجارية التي تتفاوت فيها صلاحيات تلك المحاكم تبعاً للمبالغ المحددة فيها. أَمَّا في الدعاوى الجزائية فيجري الاستناد فيها إلى القوانين والأنظمة السائدة في أجهزة الأمن العثمانية والسلطانية وتحكم فيها المحاكم السلطانية أيضاً. وفي جميع هذه التصنيفات الثلاثة من الدعاوى يستدعي الأمر حضور مترجم (ترجمان Drogman) يقوم بمهمة ترجمة أقوال المواطنين العثمانيين ودفاعهم وأسانيدهم في الدعوى.
وهنا لا بد من الإشارة السريعة إلى الخاصتين التاليتين عند ممارسة الأعمال التجارية في إطار حرية التجارة وهما:
1ـ إن مفهوم الرعايا الأجانب Les sujets étrangers يشمل في رأي بعض الفقهاء والمشرعين الأشخاص الطبيعيين Les personnes physiques بقدر ما يشمل الأشخاص الاعتباريين Les personnes morales، كالشركات التجارية والمؤسسات المالية والصناعية والزراعية والسياحية والفندقية التي يقيمها الأجانب في السلطنة. ومع ما تعرض له هذا الاجتهاد من الانتقاد الذي وصل عند بعض المجتهدين إلى درجة الرفض الكامل فقد جرى القضاء القنصلي على تطبيق مبدأ الشمول.
2ـ إن شرط الأمة الأكثر رعاية في معاملة الشركات والمؤسسات الأجنبية عند عقد المعاهدات والاتفاقات الدولية يمكن أن تطالب به أي جهة أجنبية لمصلحة رعاياها العاملين في السلطنة. ومع معارضة القضاء السلطاني مبدأ المطالبة بهذا الشرط حفاظاً على المصلحة الوطنية والعامة. فإن وزارة الخارجية السلطانية أفتت على العكس بقبول تطبيق هذا الشرط مستجيبة لشتى الضغوط السياسية الأجنبية في تلك الأيام.
وقد تعرضت الامتيازات الأجنبية لانتقادات كثيرة في المحافل السياسية والدولية والوطنية والقضائية والقانونية يمكن إجمالها في النقاط التالية:
ـ إنها في مجموعها افتئات على السيادة الوطنية للسلطة العثمانية.
ـ إنها تضع السلطنة العثمانية حيث الرعايا الأجانب تحت وصاية الدول الأجنبية التي ينتمي إليها أولئك الرعايا.
ـ إنها تعترف للأجانب بحقوق أكثر من الحقوق الممنوحة عادة للمواطنين العثمانيين.
ـ إن القضاء القنصلي كثيراً ما يذهب مذهب التحيز والمحاباة لمصالح الرعايا الأجانب على حساب رعايا السلطنة ومؤسساتها الوطنية.
ـ كما أن لجوء المتداعين الأجانب أنفسهم إلى قضائهم الوطني في بلادهم عند استئناف أحكام المحاكم القنصلية يسبب بطبيعة الحال شيئاً من البطء والتسويف والمماطلة في المقاضاة ويكلف المتداعين مصاريف ونفقات قضائية جديدة ليست في صالحهم. كما أن الصعوبة الماثلة أَمام القضاء الوطني والمحاكم القنصلية عند تنفيذ تلك الأحكام النهائية تكتنفها شتى المداخلات والضغوط الخارجية بما يخرج هذه الأحكام عن مقاصدها ومراميها.
وإزاء هذه الانتقادات الوجيهة عملت الدول المنفصلة عن جسم السلطنة العثمانية (الرجل المريض) في أعقاب الحرب العالمية الأولى (1914- 1918)، بعد إقامة عصبة الأمم ولاسيما سورية ولبنان ومصر والأردن وفلسطين والعراق، على إثارة هذه النقاط السلبية عند وضع الاتفاقات والمعاهدات الدولية التي كانت طرفاً فيها بصورة مباشرة أو بصورة غير مباشرة كمعاهدة سيفر Sévres عام 1920 ومعاهدة سان ريمو عام 1920 أيضاً ومعاهدة لوزان عام 1923، وطلبت إلغاء الامتيازات الأجنبية المطبقة فيها والاستعاضة عنها في مرحلة أولى بالمحاكم المختلطة ومن ثم بالمحاكم الوطنية في مرحلة ثانية. كما أن تركية نفسها وهي الوريثة القانونية والشرعية للسلطنة العثمانية طالبت بإلغاء الامتيازات الأجنبية بعد انتصارها المفاجئ في معركة صقاريا Sakaria على اليونان بقيادة مصطفى كمال أتاتورك. وقد استجابت الدول الأجنبية (دول الحلفاء وغيرها) إلى هذا الطلب بعدما استعادت تركية سمعتها الدولية في أعقاب هذا الانتصار، وذلك بعد أن قدمت التعهدات الدولية الكافية بالامتثال للمواثيق والعهود الدولية والقانون الدولي. ويذكر هنا أن السلطة المنتدبة على سورية سارعت بتاريخ 1 تشرين الثاني 1923 إلى إصدار قرار بالاستناد إلى اتفاقية لوزان 1923 ألغت بموجبه الامتيازات والحصانات التي كان يتمتع بها الأجانب في أقاليم السلطنة العثمانية وأنشأت نظام القضاء المختلط عن طريق المحاكم المختلطة التي ما لبثت هي الأخرى أن ألغيت عام 1949 وحل محلها القضاء الوطني، بعد حصول سورية على استقلالها الناجز وسيادتها الوطنية وإقامة الحكم الوطني.
ونحو هذا الإجراء تمّ في لبنان أيضاً. أَمَّا في مصر فقد ألغيت الامتيازات الأجنبية والمحاكم المختلطة تباعاً عام 1949 أيضاً، وبذلك عادت جميع المنازعات القضائية والحقوقية إلى المحاكم الوطنية جملةً وتفصيلاً. ومن الطبيعي أن تتعهد هذه الدول التي كانت مسرحاً للامتيازات الأجنبية، في الاتفاقات والمعاهدات التي عقدت في أعقاب الحرب العالمية الأولى، وكذلك على المنابر الدولية، باحترام المواثيق الدولية ومبادئ القانون الدولي وأغراض التعاون الدولي ومبادئه مع جميع الأمم والشعوب.
زكريا السباهي
Capitulations - Capitulations
الامتيازات الأجنبية
كانت الامتيازات الأجنبية Les capitulations تعني من القرن السادس عشر إلى القرن الثامن عشر النظام القانوني والتجاري والاقتصادي والدولي الذي كان نافذاً في السلطنة العثمانية في عهد انحطاطها وتخلفها، وقويت فيه شوكة الدول الأجنبية ورعاياها في جميع أرجاء السلطنة العثمانية. أَمَّا قبل ذلك فقد كانت الامتيازات الأجنبية وجهاً من وجوه التسامح الديني والتعايش الطائفي اللذين كانا يقضيان باحترام المعتقدات والشعائر الدينية لغير المسلمين المقيمين في ديار السلطنة العثمانية.
تقول المصادر التاريخية إن معاهدة الصداقة المعقودة عام 1535 بين الباب العالي La Sublime Porte وفرنسة كانت أول ما سُميَ بالامتيازات الأجنبية في عهد السلطنة العثمانية. وكانت تتألف من 17 مادة منها ما يتعلق بالإقامة ومنها ما يتعلق بالتجارة ومنها ما يتعلق بممارسة الشعائر الدينية والمعتقدات المسيحية. وتضيف تلك المصادر أن الدول الأجنبية الأخرى بادرت إلى عقد معاهداتها مع الباب العالي وذلك على التفصيل التالي: إنكلترة عام 1583، هولندة عام 1613، النمسة عام 1718، السويد عام 1737، مملكة الصقليين عام 1740، توسكانة عام 1747، الدنمارك عام 1756، بروسية عام 1761، إسبانية عام 1782، روسية عام 1783، الولايات المتحدة عام 1830، وبلجيكة عام 1838 وأخيراً اليونان عام 1855. وقيل إن جمهورية البندقية سبقت فرنسة في عقد معاهدتها مع الباب العالي عام 1455 وإنها كانت معاهدة نموذجية في سلسلة تلك الامتيازات التي نصت على منح الأجانب حريات مختلفة. ومن هذه الحريات ما يلي:
1ـ حرية الإقامة في جميع أرجاء السلطنة وذلك شريطة التسجيل القنصلي في قنصلية الدولة التي ينتمي إليها الأجنبي من جهة وألاّ يكون في هذه الإقامة ما يعكر الأمن العام أو ما يسبب خطراً على النظام العام من جهة أخرى.
2ـ حرية المسكن فلا يجوز انتهاك حرمة المسكن إلا بإجازة قنصلية الدولة التي ينتمي إليها هذا الأجنبي وفي هذه الحالة يجب حضور القنصل أو من يقوم مقامه عندما تدعو الحاجة إلى دخول تلك المساكن.
3ـ حرية التنقل في جميع أرجاء السلطنة وذلك بموجب وثيقة مرور أو تنقل تمنحها سلطات الأمن استناداً إلى جواز سفر الأجنبي.
4ـ حرية التجارة وهي متصلة اتصالاً وثيقاً بحرية الإقامة والتنقل لممارسة الأعمال التجارية وما قد يتفرع عنها من دفع الرسوم المالية والجمركية والعقارية. وقد نصت أغلب المعاهدات المعقودة مع الدول الأجنبية على إعفاء رعاياها من تلك الرسوم.
5ـ حرية المعتقدات الدينية وما يتبع ذلك من ممارسة الشعائر الدينية.
6ـ الحصانة القضائية والتشريعية فلا تجوز مقاضاة الأجنبي أَمام المحاكم الوطنية بل أَمام قنصلية بلاده ووفقاً لقانون بلاده أيضاً. وهنا فرقت الامتيازات بين حالات ثلاث:
الأولى: إذا كان المتداعون ينتمون إلى جنسية بلد أجنبي واحد. والثانية: إذا كانوا ينتمون إلى جنسيات بلدان متعددة. والثالثة: إذا كان بين المتداعين الأجانب المقيمين في السلطنة أحد الرعايا العثمانيين.
وتتألف المحكمة القنصلية من ثلاثة أعضاء: القنصل أو من يقوم مقامه واثنان آخران يُختاران من وجهاء الجالية الأجنبية المقيمين في السلطنة، وقلما تؤخذ الأحكام الصادرة من هذه المحكمة بالأكثرية. ويرجح على العموم الجانب الذي يقف فيه القنصل أو نائبه. هذا في الحالتين الأولى والثانية.
أَمَّا في الحالة الثالثة فقد درج العرف على أن تتولى المحاكم الوطنية الفصل فيها إضافة إلى الغرف التجارية والصناعية والزراعية الموزعة في أرجاء السلطنة وفي هذه الحالة تتألف الهيئة القضائية من خمسة أعضاء ثلاثة منهم عثمانيون والاثنان الآخران من جنسية الأجنبي أو الأجانب الأطراف في الدعوى. كما جرت الأعراف أيضاً على التفريق بين الدعاوى المدنية والتجارية التي تتفاوت فيها صلاحيات تلك المحاكم تبعاً للمبالغ المحددة فيها. أَمَّا في الدعاوى الجزائية فيجري الاستناد فيها إلى القوانين والأنظمة السائدة في أجهزة الأمن العثمانية والسلطانية وتحكم فيها المحاكم السلطانية أيضاً. وفي جميع هذه التصنيفات الثلاثة من الدعاوى يستدعي الأمر حضور مترجم (ترجمان Drogman) يقوم بمهمة ترجمة أقوال المواطنين العثمانيين ودفاعهم وأسانيدهم في الدعوى.
وهنا لا بد من الإشارة السريعة إلى الخاصتين التاليتين عند ممارسة الأعمال التجارية في إطار حرية التجارة وهما:
1ـ إن مفهوم الرعايا الأجانب Les sujets étrangers يشمل في رأي بعض الفقهاء والمشرعين الأشخاص الطبيعيين Les personnes physiques بقدر ما يشمل الأشخاص الاعتباريين Les personnes morales، كالشركات التجارية والمؤسسات المالية والصناعية والزراعية والسياحية والفندقية التي يقيمها الأجانب في السلطنة. ومع ما تعرض له هذا الاجتهاد من الانتقاد الذي وصل عند بعض المجتهدين إلى درجة الرفض الكامل فقد جرى القضاء القنصلي على تطبيق مبدأ الشمول.
2ـ إن شرط الأمة الأكثر رعاية في معاملة الشركات والمؤسسات الأجنبية عند عقد المعاهدات والاتفاقات الدولية يمكن أن تطالب به أي جهة أجنبية لمصلحة رعاياها العاملين في السلطنة. ومع معارضة القضاء السلطاني مبدأ المطالبة بهذا الشرط حفاظاً على المصلحة الوطنية والعامة. فإن وزارة الخارجية السلطانية أفتت على العكس بقبول تطبيق هذا الشرط مستجيبة لشتى الضغوط السياسية الأجنبية في تلك الأيام.
وقد تعرضت الامتيازات الأجنبية لانتقادات كثيرة في المحافل السياسية والدولية والوطنية والقضائية والقانونية يمكن إجمالها في النقاط التالية:
ـ إنها في مجموعها افتئات على السيادة الوطنية للسلطة العثمانية.
ـ إنها تضع السلطنة العثمانية حيث الرعايا الأجانب تحت وصاية الدول الأجنبية التي ينتمي إليها أولئك الرعايا.
ـ إنها تعترف للأجانب بحقوق أكثر من الحقوق الممنوحة عادة للمواطنين العثمانيين.
ـ إن القضاء القنصلي كثيراً ما يذهب مذهب التحيز والمحاباة لمصالح الرعايا الأجانب على حساب رعايا السلطنة ومؤسساتها الوطنية.
ـ كما أن لجوء المتداعين الأجانب أنفسهم إلى قضائهم الوطني في بلادهم عند استئناف أحكام المحاكم القنصلية يسبب بطبيعة الحال شيئاً من البطء والتسويف والمماطلة في المقاضاة ويكلف المتداعين مصاريف ونفقات قضائية جديدة ليست في صالحهم. كما أن الصعوبة الماثلة أَمام القضاء الوطني والمحاكم القنصلية عند تنفيذ تلك الأحكام النهائية تكتنفها شتى المداخلات والضغوط الخارجية بما يخرج هذه الأحكام عن مقاصدها ومراميها.
وإزاء هذه الانتقادات الوجيهة عملت الدول المنفصلة عن جسم السلطنة العثمانية (الرجل المريض) في أعقاب الحرب العالمية الأولى (1914- 1918)، بعد إقامة عصبة الأمم ولاسيما سورية ولبنان ومصر والأردن وفلسطين والعراق، على إثارة هذه النقاط السلبية عند وضع الاتفاقات والمعاهدات الدولية التي كانت طرفاً فيها بصورة مباشرة أو بصورة غير مباشرة كمعاهدة سيفر Sévres عام 1920 ومعاهدة سان ريمو عام 1920 أيضاً ومعاهدة لوزان عام 1923، وطلبت إلغاء الامتيازات الأجنبية المطبقة فيها والاستعاضة عنها في مرحلة أولى بالمحاكم المختلطة ومن ثم بالمحاكم الوطنية في مرحلة ثانية. كما أن تركية نفسها وهي الوريثة القانونية والشرعية للسلطنة العثمانية طالبت بإلغاء الامتيازات الأجنبية بعد انتصارها المفاجئ في معركة صقاريا Sakaria على اليونان بقيادة مصطفى كمال أتاتورك. وقد استجابت الدول الأجنبية (دول الحلفاء وغيرها) إلى هذا الطلب بعدما استعادت تركية سمعتها الدولية في أعقاب هذا الانتصار، وذلك بعد أن قدمت التعهدات الدولية الكافية بالامتثال للمواثيق والعهود الدولية والقانون الدولي. ويذكر هنا أن السلطة المنتدبة على سورية سارعت بتاريخ 1 تشرين الثاني 1923 إلى إصدار قرار بالاستناد إلى اتفاقية لوزان 1923 ألغت بموجبه الامتيازات والحصانات التي كان يتمتع بها الأجانب في أقاليم السلطنة العثمانية وأنشأت نظام القضاء المختلط عن طريق المحاكم المختلطة التي ما لبثت هي الأخرى أن ألغيت عام 1949 وحل محلها القضاء الوطني، بعد حصول سورية على استقلالها الناجز وسيادتها الوطنية وإقامة الحكم الوطني.
ونحو هذا الإجراء تمّ في لبنان أيضاً. أَمَّا في مصر فقد ألغيت الامتيازات الأجنبية والمحاكم المختلطة تباعاً عام 1949 أيضاً، وبذلك عادت جميع المنازعات القضائية والحقوقية إلى المحاكم الوطنية جملةً وتفصيلاً. ومن الطبيعي أن تتعهد هذه الدول التي كانت مسرحاً للامتيازات الأجنبية، في الاتفاقات والمعاهدات التي عقدت في أعقاب الحرب العالمية الأولى، وكذلك على المنابر الدولية، باحترام المواثيق الدولية ومبادئ القانون الدولي وأغراض التعاون الدولي ومبادئه مع جميع الأمم والشعوب.
زكريا السباهي