نص قراءتي النقدية في ديوان «حروف ثائرة» للشاعرة المغربية حفيظة أعبيزة
د. خالد بوزيان الموساوي ناقد وكاتب من المغرب
نافذة النقد: دعوة للقراءة… دعوة للبقاء في المنازل.
نص قراءتي النقدية في ديوان «حروف ثائرة» للشاعرة المغربية حفيظة أعبيزة، تحت عنوان:
مقاربة عناصر «الاختلاف»، و «السؤال»، و «الكشف»، و «التجاوز» في الكتابة الشعرية للشاعرة حفيظة أعبيزة.
ذ. بوزيان موساوي. وجدة المغرب.
ـ مدخل:
الشعر يوحي و لا يقول… (La poésie ne dit pas, elle suggère…): هي إحدى المسلمات الواصفة لاشتغال الخطاب الشعري، مع بعض الاستثناءات المعزولة في الشعر الحديث الموجه لمنابر معينة و لأهداف قبلية حيث لا نفرق بين الشعر و التصريح المباشر كبعض قصائد «جاك بيريفير»، و «ليو فيري»، و «غارسيا لوركا»، و «بابلو نيرودا»، و «محمود درويش»، و «نزار قباني»… التي تعتمد في بنائها على الصور الايقاعية، و تقنيات الإلقاء، و اختيار المفردات الحماسية أو الحساسة المؤثرة من حقول معجمية ذات علاقة مع مواضيع منتقاة لكسب تفاعل و انفعال المتلقي…
و هذا ربما ما لمّح إليه الأستاذ سعيد يفلح العمراني في «تقديم» هذا الديوان (ص. 8) حين كتب:
«و أنا أتسلم باقة قصائد هذا الديوان الشعري حين كان خديجا و الذي سمّته الشاعرة «حروفا ثائرة» تذكرت أن الشعر و إن تعدّدت صفاته و أوصافه و أغراضه و أتباعه و رواده و مريدوه… فإن الكينونة الشعورية هي التي أوجدته أولا حتي قيل: كلاما موزونا… و قبله همسا نبيلا من المدينة الفاضلة… و بالأمس و حتى اليوم رقصا بالكلمات…»
ال»رقص بالكلمات» ليس بالضرورة للتعبيرعن لحظات عابرة من ترح أو فرح، بل تشبه طقوسه «شطحات صوفية» مُبْتغاها «الخروج من شرنقة ما»…
تقول الشاعرة حفيظة أعبيزة في إحدى «الأوراق الخارجية للديوان» تحت عنوان «كلمتي» (ص. 10):
«لا شك في أن واقع الانسانية المُدَوّن شعرا، واقع يتأرجح بين التصدي و التحدي و المكابدة مشوب بهواجس الألق و القلق للخروج من شرنقة ما…». هو ذا «الخط التحريري» الذي تبنّته الشاعرة حفيظة أعبيزة من خلال ديوانها هذا «حروف ثائرة»…
ـ حيثيات منهجية:
سؤال رقم 1 : لماذا اخترتُ ديوان «حروف ثائرة» للشاعرة المغربية حفيظة أعبيزة ضمن فقرات برنامج نافذتي النقدية؟
لا أحب تكرار نفسي من قراءة نقدية لأخرى، لكن المقام يفرض علي تكرار ما كتبه الناقد المبدع الفلسطيني عبد الكريم عليان في نفس السياق، لما قال: لا أقف إزاء القصائد إلا إذا أدهشتني وحركتني ارتكازاتها وحركت في داخلي ارتباطا بين اللغة الشاعرية وبين انزياحاتها الفاعلة، ولا أتذكر من القائل: «أشعر الناس من أنت في شعره حتى تفرع منه»، فإذا ما عشتُ أنا في النص؛ فإن قلمي يخرج عن طوعي ولا أدري كيف يسوح».
سؤال رقم 2 : كيف نقرأ إذن «حروف ثائرة» للشاعرة حفيظة أعبيزة؟
يقول الباحث فوزي سعد عيسى: « إذا كانت جهود كثير من النقاد قد انصرفت إلى التنظير، فإن الحاجة ماسة إلى جهود مماثلة بل مضاعفة في ميدان النقد التطبيقي… ».و هذا ما يدفعنا إلى (بل يفرض علينا) الانطلاق من النصوص و الوصول إليها، لا إخضاعها لمجهر هذه النظرية النقدية أو تلك…
و استنادا لهذا المبدأ، و من خلال «تجوالنا» الطويل و المتأني عبر ربوع الديوان عموديا و أفقيا بتقنية «المسح المتتالي»، توقّفنا عند بعض «المفاتيح» («الدالّات») التي اعتبرناها عناصر مقاربة ممكنة لهذا الديوان، تُشبه إلى حدّ بعيد مرتكزات الشاعر «الحداثي» من منظور الأستاذ الباحث الدكتور سلام مهدي رضيوي الموسوي (العراق): الشاعرة الحداثية حفيظة أعبيزة لم تنطلق في وضعها لأفق الحداثة الشعرية من عالم جلي، و واضح، لذا جاءت محاكاتها لهذا العالم غير منسجمة و تجسيداته المرئية، إذ أخذت تقرأ الوجود من خلال ما يكتنف ذاتها، و ليس قراءة خارجية لهذا الكون، أي أنها تسقط ما تراه بمنظور رؤيتها على هذا العالم، لذا حفلت نصوصها الشعرية بجملة من الجماليات، التي تشكل فرادة جديدة كشروط «الاختلاف»، و «السؤال»، و «الكشف»،
و «التجاوز»».
1 ـ الاختلاف:
«الفرادة» هنا بمعنى «الاختلاف»، و مفاده عدم السقوط في التكرار و إعادة تكريس «الكليشيهات» المنقولة من «ابتكارات» سابقة، أي ليس في ما أتى قبله ما يماثله…
في هذا السياق، لابد من التذكير بأن «التركيب اللغوي يأخذ في حيّز البنية الشعرية الجانب الأوفر من العملية النقدية التطبيقية التي تقوم بتشخيص تقنيات تركيب لغة الشعر في تعدد و تنوع وظائفها المعجمية، و الدلالية، و الإقاعية، و البلاغية، و الأسلوبية، و التشكيلية…
و سيكتشف قارئ نصوص هذا الديوان (إن لم يكن قد فعل ذلك) توظيف عدة تقنيات لتكريس هذا الاختلاف من منظور الشاعرة حفيظة أعبيزة… نتوقف هنا (لقصر المجال) عند تقنيتين:
أ ـ تقنية تغييب النص الشعري داخل النص شعري نفسه:
نقرأ هذا المقطع من النص رقم 3 « لو أملك قلما» (ص. 24):
«لو تشرق الشمس يوما
بألوان حبري
و ينحبس الغيم
في جفون السماء
و تسمح بمرور دمعي
بها أسقي حقول الكَلِم
و تفرغ ضوء القلم
على جسد يلتحف
تعبيرا
يتنفس عسر مخاض..».
يتميز هذا المقطع بتوظيف «لو» في مطلعه؛ و هي لا تفيد في سياق التركيب النحوي و الدلالي في هذا المقطع
ــ «التقليل» لأن الفعل المقابل إيجابية بناء، و منها «يتنفس بعد مخاض»..
ـ و لا «الشرط» لأن فعل جواب الشرط لا يكون إلا ماضيا…
«لو» في سياقنا هنا «حرف مصري» للعرض و للتمني، مع الاستغناء عن «فاء السببية»: «يتنفس بعد مخاض» بدل «فيتنفس بعد مخاض»…
لكن التمني في هذا السياق الذي يفيد تغييب النص (الموهوم) داخل النص (المعلوم) سريعا ما يفقد وظيفته (مجرد تمني) بفضل تدفق «أفعال الحركة» («ينحبس»، و «تسمح»، و «أسقي»، و «تفرغ»، و «تلتحف») مربوطة بحرف العطف «و»، و كان القصيدة تشهد ولادتها («تتنفس بعد مخاض») بالتمني… هي نفسها التي قرأنا مقطعا منها.. و كأننا في حضرة «جدلية نفي النفي» الهيجيلية..
ب ـ تقنية «التشخيص البلاغي» للقصيدة: توحّد كينونة القصيدة مع ذات الشاعرة:
نقرأ هذا النص تحت عنوان»من أكون؟» (ص. 94):
«أنسج الهذيان
في منوال الترقب
و يقطفني حب البقاء هنا
و يلملم عمري
في باقة من الأحزان…
أغرد كعصفورة
لا تحط طويلا على الأيك
و على أشجار الرمان..
أنا قلب امرأة تنتسب
إلى قافلة الإنسان..
مخلوق من نار
و ماء و ورقة و حنان…»
من صورة «تغييب» النص داخل النص ليكتمل الوجود بمبدأ «نفي النفي»، تنتقل بنا الشاعرة حفيظة أعبيزة من خلال هذا النص إلى صورة مجازية أخرى تتَّحِد فيها ذات الشاعرة بذات القصيدة في ملكوت جديد يشبه بطقوس الهذيان («أنسج الهذيان») الاحتضار، أو الجنون… و ذلك في مشهد «ميلودرامي»/ «عبثي» يؤثث فضاءه الحزن («في باقة من الحزن»)، و التلعثم و التردد («أغرد كعصفورة لا تحط طويلا على الأيك…»)، لتعلن الذات المتكلمة في النص (الشاعرة) وجودها و ماهيتها على شكل مخلوق عجائبي/ غرائبي بقلب إنسان، و من فصيلة الجان («أنا قلب امرأة تنتسب إلى قافلة الإنسان… مخلوق من نار»): هي الشاعرة / القصيدة («ماء و ورقة
2 ـ السؤال:
بعودتنا للعنوان الرئيس للديوان «حروف ثائرة»، يحق السؤال: ـ كيف تثور حروف الشاعرة حفيظة أعبيزة؟
لا يوجد نص بهذا العنوان في فهرس الديوان كما عادة بعض الشعراء الذي يستعيرون عنوان نص من النصوص ليصبح عنوانا رئيسا للديوان. قد يتمّ تأويل هذه الملاحظة على أن كل نصوص الديوان «حروف ثائرة»؛ و من ثَمّ السؤال: هل هي ثورة ضد أشكال نمطية معينة للكتابة الشعرية؟ أم هي الحروف (كخطاب فكري) تثور ضد منظومة قِيّم، و واقع معيش…؟
ربما أول قناعة تولّدت عند الشاعرة، هي أن «تثور حروفها» من حيث الشكل على القصيدة العمودية التقليدية… و هو ليس هروبا بسبب جهل للقواعد (كما يفعل البعض) لأن الشاعرة حفيظة أعبيزة أستاذة بالتعليم الثانوي لمادة اللغة العربية و آدابها … فرغم التأثير الواضح لشعر التفعيلة و بعض الأوزان على بعض قصائد الديوان،
و رغم «بعض الجهد» المضني للبحث عن القوافي لتناغم الإيقاعات، نجحت الشاعرة في «خلع جلباب» القصيدة النمطية التقليدية لينسجم شكل القصيدة مع مضامينها المعاصرة الحداثية : مضامين تروم الثورة على القهر، والتحرر من التخلف والتعقيد والقيود الاجتماعية.، و الاهتمام بالحديث عن الإنسان، وهو محور لاهتماماتها.
فعن التحدي كتبتْ تقول في نص «هكذا تغير حالي» (هذا مطلعه، ص. 59):
«عجيبة تحدياتك
لاغية قراراتك
يا حالي
و إن ثارت ضدي الأهالي
سأمنح لقلبي سلطة الوصاية
فما بالك بهذا القرار؟…»
و تضيف الشاعرة في نفس السياق في نص «إضراب عن الكلام» (هذه مقاطع منها، ص. 84 و 85):
«تحدّاني كيفما تشاء…
فأنا لست مثل
النساء… (…)
و لا تنتظر بنات شفاهي
و قد أضربت عن الكلام
بكبرياء…
هناك ألف اتجاه
و أنا لم أنحنِ شفقة
أو أعرف هذا الانحناء.»
قد تبدو المشاعر»أحاسيساعلى ورق» داخل ديوان هو الآخر كائن ورقي من خيال تتمظهر فيه الأنثى عبر بورتريهات العاشقة، و المستلبة، و الضعيفة/ المكسورة الخاطر، و الخانعة، و الغاضبة، و المتحدية، و المهددة،
و القوية/ المتجبرة، و المحترقة، و المولودة من حطامها/ رمادها… هل كلّ هذا من وحي خيال؟ هل يستوجب المقام أن ينتسب الديوان لرومانسية جديدة؟ … أم أن واقع الحال يقول إن كل حرف من هذا الزخم الوجداني قد وُلِد من رحِمِ معاناة حقيقية ل «أنا» الشاعرة، ومن خلالها «الأنا» الجمعية المحيطة بها… و من هنا يتدخّل عنصر «الكشف» في الديوان:
3 ـ الكشف:
يكتشف القارئ في تجواله عبر ربوع ديوان «حروف ثائرة» للشاعرة المغربية حفيظة أعبيزة أن عليه التوقف مرارا و تكرارا عند محطات مختلفة تحتوي على مضامين هي عصارة رسائل الشاعرة لقرائها.
في بعض هذه المحطات تكون فيها ذات الشاعرة «الأنا» مفردة و كأنها هي وحدها «مركز الكون»؛ نقرأ:
« (…) أنا الآن ضيفي
فلا شكوى و لا تقديم
ندائي
يا ألما أنت آلمتني
لهيبا أنت في أوردتي
عشقي حريتي… (من نص «على رصيف كبرياء»، ص. 37).
و في نصوص أخرى تتحوّل «أنا» الشاعرة من مجرد صوت يعبر عن حالات وجدانية شخصية فردية ل «أنا» ذات انتماء قومي سبّبَ امتعاضها و حسرتها؛ نقرأ:
« (…) ليتني ذاك العربي
الذي لم يرض
لبيت شعر قيل
في بنت القرية
فأشعل فتيل
غيظ غيرة الأعرابي
فأين أنت من هذا
و ذاك يا عربي؟؟؟ (…)
ليتني لا أدري
ما أدري…
من ركوع للقهر العربي.» (من نص «ليتني»، ص. 30 و 31).
ثم تنتقل «أنا» الشاعرة إلى حالة النضج العليا لتسمو فوق الاعتبارات الذاتية بمواصفات الإنسان/ «الكائن المطلق»؛ نقرأ:
« (…) يا حرف اللين
مداد قلبي يُشنق
يُعصَر
يحتضر
يُخترق
كيف
أطفئ نارا
تغمر كياني المطلق؟…» (من نص «غروب»، ص. 34).
4 ـ التجاوز:
يقترن مبدأ «التجاوز» في الابداع الأدبي الشعري منه خاصة، بمبدأ التجديد كمرادف لمبدأ التغيير… كتب الباحث ميشال خليل جحا في هذا السياق:
«إن دلالة التجديد الأولى في الشعر هي طاقة التغيير التي يمارسها بالنسبة إلى ما قبله و ما بعده، إلى طاقة الخروج على الماضي من جهة، و طاقة احتضان المستقبل من جهة ثانية…»
غير أن مبدأ التجاوز هذا أثار الكثير من الجدل لدى الباحثين و النقاد نختزل فحواه (لضيق المجال) في سؤال إشكالي طرحه الباحث منصور قيسومة (كتاب: «حداثة الشعر العربي. شعرية الحداثة»، ص. 37) كالتالي:
«إذا كان التجاوز موقفا واعيا من الإبداع، موقفا فكريا و نظريا تنظيريا، و إذا كان تشكيلا لما لم يتشكّل بعد أو ابتكارا لأشكال غير معروفة في الابداع، فهل يكفي الشكل للدلالة على خلفياته؟ (…) قد يطغى الشكل إذّاك على المضمون فيهمله أو يلغيه…»
و لأن الشاعرة حفيظة أعبيزة (بحكم تخصصها الأكاديمي في الأدب العربي) جدّ واعية بما يكتنف مبدأ التجاوز/ التجديد من غموض و ملابسات مثيرة للجدل، فلقد تعاملت بذكاء حذر على طول ديوانها «حروف ثائرة» باعتماد آليات تقنية/ فنية تتأرجح بين الصمت و التصريح، بين نفي النص و كتابته، بين المحافظة و التجديد:
ففي ورقة خارجية للديوان تحت عنوان «كلمتي» التزمت شاعرتنا الصمت بخصوص مشروع كتابتها الشعرية (ديوانها) من ناحية الشكل (أي «البناء المعماري» للنصوص الشعرية»)؛ و لا كلمة واحدة عن تصورها الشخصي لشكل القصيدة الحديثة. مقابل ذلك كان تصريحها المباشر على طول الورقة مُخَصّصا للمضامين
و الأغراض الشعرية التي تناولتها نصوص ديوانها…
و في نفس السياق ساعدنا استنطاق العديد من نصوص ديوانها على استنتاج توظيفها لتقنية نفي النص داخل النص (كما رأينا ذلك في المبحث الأول من هذه القراءة)، و كأنها بذلك (الشاعرة) تفتح باب النقاش حول النص الممكن من وجهة نظرها…
و يتجلى التجاوز الحذر كذلك الذي تبنّته الشاعرة حفيظة أعبيزة في ما يشبه التردّد على مستوى بُنى النصوص بين المحافظة و التجديد حين تعرض نصوصها عموديا على شكل سطور تتشبّه بنصوص الشعر الحر، و أفقيّا على شكل إيقاعات تحنّ وزنا وقافية للشعر التقليدي العمودي…
مبارك لك هذا المولود شاعرتنا حفيظة أعبيزة.. ولكل القراء عبر ربوع الوطن العربي و خارجه.
د. خالد بوزيان الموساوي ناقد وكاتب من المغرب
نافذة النقد: دعوة للقراءة… دعوة للبقاء في المنازل.
نص قراءتي النقدية في ديوان «حروف ثائرة» للشاعرة المغربية حفيظة أعبيزة، تحت عنوان:
مقاربة عناصر «الاختلاف»، و «السؤال»، و «الكشف»، و «التجاوز» في الكتابة الشعرية للشاعرة حفيظة أعبيزة.
ذ. بوزيان موساوي. وجدة المغرب.
ـ مدخل:
الشعر يوحي و لا يقول… (La poésie ne dit pas, elle suggère…): هي إحدى المسلمات الواصفة لاشتغال الخطاب الشعري، مع بعض الاستثناءات المعزولة في الشعر الحديث الموجه لمنابر معينة و لأهداف قبلية حيث لا نفرق بين الشعر و التصريح المباشر كبعض قصائد «جاك بيريفير»، و «ليو فيري»، و «غارسيا لوركا»، و «بابلو نيرودا»، و «محمود درويش»، و «نزار قباني»… التي تعتمد في بنائها على الصور الايقاعية، و تقنيات الإلقاء، و اختيار المفردات الحماسية أو الحساسة المؤثرة من حقول معجمية ذات علاقة مع مواضيع منتقاة لكسب تفاعل و انفعال المتلقي…
و هذا ربما ما لمّح إليه الأستاذ سعيد يفلح العمراني في «تقديم» هذا الديوان (ص. 8) حين كتب:
«و أنا أتسلم باقة قصائد هذا الديوان الشعري حين كان خديجا و الذي سمّته الشاعرة «حروفا ثائرة» تذكرت أن الشعر و إن تعدّدت صفاته و أوصافه و أغراضه و أتباعه و رواده و مريدوه… فإن الكينونة الشعورية هي التي أوجدته أولا حتي قيل: كلاما موزونا… و قبله همسا نبيلا من المدينة الفاضلة… و بالأمس و حتى اليوم رقصا بالكلمات…»
ال»رقص بالكلمات» ليس بالضرورة للتعبيرعن لحظات عابرة من ترح أو فرح، بل تشبه طقوسه «شطحات صوفية» مُبْتغاها «الخروج من شرنقة ما»…
تقول الشاعرة حفيظة أعبيزة في إحدى «الأوراق الخارجية للديوان» تحت عنوان «كلمتي» (ص. 10):
«لا شك في أن واقع الانسانية المُدَوّن شعرا، واقع يتأرجح بين التصدي و التحدي و المكابدة مشوب بهواجس الألق و القلق للخروج من شرنقة ما…». هو ذا «الخط التحريري» الذي تبنّته الشاعرة حفيظة أعبيزة من خلال ديوانها هذا «حروف ثائرة»…
ـ حيثيات منهجية:
سؤال رقم 1 : لماذا اخترتُ ديوان «حروف ثائرة» للشاعرة المغربية حفيظة أعبيزة ضمن فقرات برنامج نافذتي النقدية؟
لا أحب تكرار نفسي من قراءة نقدية لأخرى، لكن المقام يفرض علي تكرار ما كتبه الناقد المبدع الفلسطيني عبد الكريم عليان في نفس السياق، لما قال: لا أقف إزاء القصائد إلا إذا أدهشتني وحركتني ارتكازاتها وحركت في داخلي ارتباطا بين اللغة الشاعرية وبين انزياحاتها الفاعلة، ولا أتذكر من القائل: «أشعر الناس من أنت في شعره حتى تفرع منه»، فإذا ما عشتُ أنا في النص؛ فإن قلمي يخرج عن طوعي ولا أدري كيف يسوح».
سؤال رقم 2 : كيف نقرأ إذن «حروف ثائرة» للشاعرة حفيظة أعبيزة؟
يقول الباحث فوزي سعد عيسى: « إذا كانت جهود كثير من النقاد قد انصرفت إلى التنظير، فإن الحاجة ماسة إلى جهود مماثلة بل مضاعفة في ميدان النقد التطبيقي… ».و هذا ما يدفعنا إلى (بل يفرض علينا) الانطلاق من النصوص و الوصول إليها، لا إخضاعها لمجهر هذه النظرية النقدية أو تلك…
و استنادا لهذا المبدأ، و من خلال «تجوالنا» الطويل و المتأني عبر ربوع الديوان عموديا و أفقيا بتقنية «المسح المتتالي»، توقّفنا عند بعض «المفاتيح» («الدالّات») التي اعتبرناها عناصر مقاربة ممكنة لهذا الديوان، تُشبه إلى حدّ بعيد مرتكزات الشاعر «الحداثي» من منظور الأستاذ الباحث الدكتور سلام مهدي رضيوي الموسوي (العراق): الشاعرة الحداثية حفيظة أعبيزة لم تنطلق في وضعها لأفق الحداثة الشعرية من عالم جلي، و واضح، لذا جاءت محاكاتها لهذا العالم غير منسجمة و تجسيداته المرئية، إذ أخذت تقرأ الوجود من خلال ما يكتنف ذاتها، و ليس قراءة خارجية لهذا الكون، أي أنها تسقط ما تراه بمنظور رؤيتها على هذا العالم، لذا حفلت نصوصها الشعرية بجملة من الجماليات، التي تشكل فرادة جديدة كشروط «الاختلاف»، و «السؤال»، و «الكشف»،
و «التجاوز»».
1 ـ الاختلاف:
«الفرادة» هنا بمعنى «الاختلاف»، و مفاده عدم السقوط في التكرار و إعادة تكريس «الكليشيهات» المنقولة من «ابتكارات» سابقة، أي ليس في ما أتى قبله ما يماثله…
في هذا السياق، لابد من التذكير بأن «التركيب اللغوي يأخذ في حيّز البنية الشعرية الجانب الأوفر من العملية النقدية التطبيقية التي تقوم بتشخيص تقنيات تركيب لغة الشعر في تعدد و تنوع وظائفها المعجمية، و الدلالية، و الإقاعية، و البلاغية، و الأسلوبية، و التشكيلية…
و سيكتشف قارئ نصوص هذا الديوان (إن لم يكن قد فعل ذلك) توظيف عدة تقنيات لتكريس هذا الاختلاف من منظور الشاعرة حفيظة أعبيزة… نتوقف هنا (لقصر المجال) عند تقنيتين:
أ ـ تقنية تغييب النص الشعري داخل النص شعري نفسه:
نقرأ هذا المقطع من النص رقم 3 « لو أملك قلما» (ص. 24):
«لو تشرق الشمس يوما
بألوان حبري
و ينحبس الغيم
في جفون السماء
و تسمح بمرور دمعي
بها أسقي حقول الكَلِم
و تفرغ ضوء القلم
على جسد يلتحف
تعبيرا
يتنفس عسر مخاض..».
يتميز هذا المقطع بتوظيف «لو» في مطلعه؛ و هي لا تفيد في سياق التركيب النحوي و الدلالي في هذا المقطع
ــ «التقليل» لأن الفعل المقابل إيجابية بناء، و منها «يتنفس بعد مخاض»..
ـ و لا «الشرط» لأن فعل جواب الشرط لا يكون إلا ماضيا…
«لو» في سياقنا هنا «حرف مصري» للعرض و للتمني، مع الاستغناء عن «فاء السببية»: «يتنفس بعد مخاض» بدل «فيتنفس بعد مخاض»…
لكن التمني في هذا السياق الذي يفيد تغييب النص (الموهوم) داخل النص (المعلوم) سريعا ما يفقد وظيفته (مجرد تمني) بفضل تدفق «أفعال الحركة» («ينحبس»، و «تسمح»، و «أسقي»، و «تفرغ»، و «تلتحف») مربوطة بحرف العطف «و»، و كان القصيدة تشهد ولادتها («تتنفس بعد مخاض») بالتمني… هي نفسها التي قرأنا مقطعا منها.. و كأننا في حضرة «جدلية نفي النفي» الهيجيلية..
ب ـ تقنية «التشخيص البلاغي» للقصيدة: توحّد كينونة القصيدة مع ذات الشاعرة:
نقرأ هذا النص تحت عنوان»من أكون؟» (ص. 94):
«أنسج الهذيان
في منوال الترقب
و يقطفني حب البقاء هنا
و يلملم عمري
في باقة من الأحزان…
أغرد كعصفورة
لا تحط طويلا على الأيك
و على أشجار الرمان..
أنا قلب امرأة تنتسب
إلى قافلة الإنسان..
مخلوق من نار
و ماء و ورقة و حنان…»
من صورة «تغييب» النص داخل النص ليكتمل الوجود بمبدأ «نفي النفي»، تنتقل بنا الشاعرة حفيظة أعبيزة من خلال هذا النص إلى صورة مجازية أخرى تتَّحِد فيها ذات الشاعرة بذات القصيدة في ملكوت جديد يشبه بطقوس الهذيان («أنسج الهذيان») الاحتضار، أو الجنون… و ذلك في مشهد «ميلودرامي»/ «عبثي» يؤثث فضاءه الحزن («في باقة من الحزن»)، و التلعثم و التردد («أغرد كعصفورة لا تحط طويلا على الأيك…»)، لتعلن الذات المتكلمة في النص (الشاعرة) وجودها و ماهيتها على شكل مخلوق عجائبي/ غرائبي بقلب إنسان، و من فصيلة الجان («أنا قلب امرأة تنتسب إلى قافلة الإنسان… مخلوق من نار»): هي الشاعرة / القصيدة («ماء و ورقة
2 ـ السؤال:
بعودتنا للعنوان الرئيس للديوان «حروف ثائرة»، يحق السؤال: ـ كيف تثور حروف الشاعرة حفيظة أعبيزة؟
لا يوجد نص بهذا العنوان في فهرس الديوان كما عادة بعض الشعراء الذي يستعيرون عنوان نص من النصوص ليصبح عنوانا رئيسا للديوان. قد يتمّ تأويل هذه الملاحظة على أن كل نصوص الديوان «حروف ثائرة»؛ و من ثَمّ السؤال: هل هي ثورة ضد أشكال نمطية معينة للكتابة الشعرية؟ أم هي الحروف (كخطاب فكري) تثور ضد منظومة قِيّم، و واقع معيش…؟
ربما أول قناعة تولّدت عند الشاعرة، هي أن «تثور حروفها» من حيث الشكل على القصيدة العمودية التقليدية… و هو ليس هروبا بسبب جهل للقواعد (كما يفعل البعض) لأن الشاعرة حفيظة أعبيزة أستاذة بالتعليم الثانوي لمادة اللغة العربية و آدابها … فرغم التأثير الواضح لشعر التفعيلة و بعض الأوزان على بعض قصائد الديوان،
و رغم «بعض الجهد» المضني للبحث عن القوافي لتناغم الإيقاعات، نجحت الشاعرة في «خلع جلباب» القصيدة النمطية التقليدية لينسجم شكل القصيدة مع مضامينها المعاصرة الحداثية : مضامين تروم الثورة على القهر، والتحرر من التخلف والتعقيد والقيود الاجتماعية.، و الاهتمام بالحديث عن الإنسان، وهو محور لاهتماماتها.
فعن التحدي كتبتْ تقول في نص «هكذا تغير حالي» (هذا مطلعه، ص. 59):
«عجيبة تحدياتك
لاغية قراراتك
يا حالي
و إن ثارت ضدي الأهالي
سأمنح لقلبي سلطة الوصاية
فما بالك بهذا القرار؟…»
و تضيف الشاعرة في نفس السياق في نص «إضراب عن الكلام» (هذه مقاطع منها، ص. 84 و 85):
«تحدّاني كيفما تشاء…
فأنا لست مثل
النساء… (…)
و لا تنتظر بنات شفاهي
و قد أضربت عن الكلام
بكبرياء…
هناك ألف اتجاه
و أنا لم أنحنِ شفقة
أو أعرف هذا الانحناء.»
قد تبدو المشاعر»أحاسيساعلى ورق» داخل ديوان هو الآخر كائن ورقي من خيال تتمظهر فيه الأنثى عبر بورتريهات العاشقة، و المستلبة، و الضعيفة/ المكسورة الخاطر، و الخانعة، و الغاضبة، و المتحدية، و المهددة،
و القوية/ المتجبرة، و المحترقة، و المولودة من حطامها/ رمادها… هل كلّ هذا من وحي خيال؟ هل يستوجب المقام أن ينتسب الديوان لرومانسية جديدة؟ … أم أن واقع الحال يقول إن كل حرف من هذا الزخم الوجداني قد وُلِد من رحِمِ معاناة حقيقية ل «أنا» الشاعرة، ومن خلالها «الأنا» الجمعية المحيطة بها… و من هنا يتدخّل عنصر «الكشف» في الديوان:
3 ـ الكشف:
يكتشف القارئ في تجواله عبر ربوع ديوان «حروف ثائرة» للشاعرة المغربية حفيظة أعبيزة أن عليه التوقف مرارا و تكرارا عند محطات مختلفة تحتوي على مضامين هي عصارة رسائل الشاعرة لقرائها.
في بعض هذه المحطات تكون فيها ذات الشاعرة «الأنا» مفردة و كأنها هي وحدها «مركز الكون»؛ نقرأ:
« (…) أنا الآن ضيفي
فلا شكوى و لا تقديم
ندائي
يا ألما أنت آلمتني
لهيبا أنت في أوردتي
عشقي حريتي… (من نص «على رصيف كبرياء»، ص. 37).
و في نصوص أخرى تتحوّل «أنا» الشاعرة من مجرد صوت يعبر عن حالات وجدانية شخصية فردية ل «أنا» ذات انتماء قومي سبّبَ امتعاضها و حسرتها؛ نقرأ:
« (…) ليتني ذاك العربي
الذي لم يرض
لبيت شعر قيل
في بنت القرية
فأشعل فتيل
غيظ غيرة الأعرابي
فأين أنت من هذا
و ذاك يا عربي؟؟؟ (…)
ليتني لا أدري
ما أدري…
من ركوع للقهر العربي.» (من نص «ليتني»، ص. 30 و 31).
ثم تنتقل «أنا» الشاعرة إلى حالة النضج العليا لتسمو فوق الاعتبارات الذاتية بمواصفات الإنسان/ «الكائن المطلق»؛ نقرأ:
« (…) يا حرف اللين
مداد قلبي يُشنق
يُعصَر
يحتضر
يُخترق
كيف
أطفئ نارا
تغمر كياني المطلق؟…» (من نص «غروب»، ص. 34).
4 ـ التجاوز:
يقترن مبدأ «التجاوز» في الابداع الأدبي الشعري منه خاصة، بمبدأ التجديد كمرادف لمبدأ التغيير… كتب الباحث ميشال خليل جحا في هذا السياق:
«إن دلالة التجديد الأولى في الشعر هي طاقة التغيير التي يمارسها بالنسبة إلى ما قبله و ما بعده، إلى طاقة الخروج على الماضي من جهة، و طاقة احتضان المستقبل من جهة ثانية…»
غير أن مبدأ التجاوز هذا أثار الكثير من الجدل لدى الباحثين و النقاد نختزل فحواه (لضيق المجال) في سؤال إشكالي طرحه الباحث منصور قيسومة (كتاب: «حداثة الشعر العربي. شعرية الحداثة»، ص. 37) كالتالي:
«إذا كان التجاوز موقفا واعيا من الإبداع، موقفا فكريا و نظريا تنظيريا، و إذا كان تشكيلا لما لم يتشكّل بعد أو ابتكارا لأشكال غير معروفة في الابداع، فهل يكفي الشكل للدلالة على خلفياته؟ (…) قد يطغى الشكل إذّاك على المضمون فيهمله أو يلغيه…»
و لأن الشاعرة حفيظة أعبيزة (بحكم تخصصها الأكاديمي في الأدب العربي) جدّ واعية بما يكتنف مبدأ التجاوز/ التجديد من غموض و ملابسات مثيرة للجدل، فلقد تعاملت بذكاء حذر على طول ديوانها «حروف ثائرة» باعتماد آليات تقنية/ فنية تتأرجح بين الصمت و التصريح، بين نفي النص و كتابته، بين المحافظة و التجديد:
ففي ورقة خارجية للديوان تحت عنوان «كلمتي» التزمت شاعرتنا الصمت بخصوص مشروع كتابتها الشعرية (ديوانها) من ناحية الشكل (أي «البناء المعماري» للنصوص الشعرية»)؛ و لا كلمة واحدة عن تصورها الشخصي لشكل القصيدة الحديثة. مقابل ذلك كان تصريحها المباشر على طول الورقة مُخَصّصا للمضامين
و الأغراض الشعرية التي تناولتها نصوص ديوانها…
و في نفس السياق ساعدنا استنطاق العديد من نصوص ديوانها على استنتاج توظيفها لتقنية نفي النص داخل النص (كما رأينا ذلك في المبحث الأول من هذه القراءة)، و كأنها بذلك (الشاعرة) تفتح باب النقاش حول النص الممكن من وجهة نظرها…
و يتجلى التجاوز الحذر كذلك الذي تبنّته الشاعرة حفيظة أعبيزة في ما يشبه التردّد على مستوى بُنى النصوص بين المحافظة و التجديد حين تعرض نصوصها عموديا على شكل سطور تتشبّه بنصوص الشعر الحر، و أفقيّا على شكل إيقاعات تحنّ وزنا وقافية للشعر التقليدي العمودي…
مبارك لك هذا المولود شاعرتنا حفيظة أعبيزة.. ولكل القراء عبر ربوع الوطن العربي و خارجه.