الفن أيقونة إنسانية
James Harithas
بشرى بن فاطمة
لم يكن James Harithas الذي رحل عن ساحة الفن التي أرهقها بعناده واستشرافه وبحثه، جامع لوحات أو فنانا أو مديرا شكليا يبحث عن الفنون لمجرد عرضها لقد كان صاحب فكرة وهدف وله تصوراته الأيقونية التي أعلت من القيم انتصارا للتجديد وتجاوزت الفعل نحو التجريب، كان يناضل من أجل أن تكون المتاحف فضاء للتعريف بالفن وليس لصنع الفن والبهرج الاشهاري، فالمتاحف حسب قوله التي تنخرط في الموضة وتبحث عن الشهرة السطحية الزائفة قبل الابداع والتعبير عن الإنسانية ليست إلا مرحلة خواء لا تسير أبعد من لحظتها أنا مهتم بالفنانين قبل المتحف، وهي الرؤية التي شكّلها وتركها.
فقد كان انسانا بدرجة باحث وباحثا بمرتبة فنان كان له الفضل في فتح بوابة الفنون أمام الفانين التشكيليين العرب في الولايات المتحدة الامريكية وأكمل توجهه بأن أصبح نموذجا مؤثرا للعديد من الأمريكيين لتأسيس متحف للفن الإنساني وقد كان وراء عديد المعارض التي قدمت الفنون العربية في الولايات المتحدة الامريكية.
رحل جيمس هاريتاس عن عمر يناهز التسعين عاما تاركا وراءه مسيرة أكثر من خمسين عاما من التشجيع والإفادة والمحاورات والنضال والتمرد الذي غيّر رؤى الفن الأمريكي وفتح أمام ناضريه عالما جديدا من التجريب وقبل ذلك صفة الفن الجديد القادم من المهاجرين الذين كانوا بمثابة غرباء ولم يسمح لهم بالعرض إلا نادرا وحسب مصالح معيّنة وإلغاء لذواتهم أو قمعا لتعبيرهم، كانت غايته واضحة في إقحام الفنون التي تهم الولايات المتحدة الامريكية وكل من يعيشون فيها باختلاف قضاياهم وأيديولوجياتهم ورغباتهم في التعبير بثقة وانتماء وحرية.
بدأ جيمس تعرّفه على عالم الفن عندما درس الفنون على أساس أن يكون فنانا تشكيليا، وينشأ كرسام طموح وباحثا متجدّدا عن أسباب التفرّد، لكنه أصبح بدلاً من ذلك قوة فنية عندما تولى منصب مدير لمعرض للفنون في واشنطن في أواخر الستينيات، قبل أن ينتقل إلى متحف إيفرسون للفنون في سيراكيوز نيويورك، وبعد ذلك متحف الفنون المعاصرة في هيوستن فكسب خبرة واسعة وعينا ناقدة وبصيرة لها استشرافها وروحا مغامرة في البحث عن الفنون.
كافح جيمس من أجل فتح تجربة المتحف أمام الفنانين “الغرباء” والرواد فكان ينظر خارج المشهد الفني للمؤسسة المعزولة، وأيضا كان ينظر خارج عالم الفن وتسلسلاته الهرمية إلى مجموعة أكبر بكثير من الفنانين الذين اعتقد أنه ينبغي أن تتاح لهم الفرص لتقديم أعمالهم وعرضها هو ما جعله متميزا.
أثناء إدارته لمتحف إفرسون في أوائل السبعينيات، طور جيمس ورشة عمل للنزلاء في سجن أوبورن، وبحث في رؤاهم وأتاح لهم فرص التعبير وتجرأ على عرض أعمالهم في معرض عام كان عنوانه “من الداخل”، بالتعاون مع المجموعة الوطنية للفنون الجميلة.
في نفس الفترة ساهم في إقامة معرض فني لمتمردي الساندينيستا اليساريين في نيكاراغوا.
أثناء الانتفاضة الفلسطينية الثانية نظم معرضًا لأعمال فنانين فلسطينيين من غزة والضفة الغربية في متحف المحطة للفن المعاصر في هيوستن، الذي لاقى رفضا كبيرا ولكنه واجه الرفض بالعرض وساهم في تقديم تجارب لفنانين فلسطينين قدّمهم لأمريكا بكل مواقفهم وتصوراتهم التي حاكت معايشاتها للاحتلال وظلمه، كان هذا المعرض بعنوان “صنع في فلسطين- Made in Palestine.
عاش جيمس مع عائلته التي تنحدر من أصول يونانية مهاجرة وقضى طفولته بين اوكلاهوما الولايات المتحدة والأمريكية وفرانكفورت ألمانيا أين استقرت عائلته بعد الحرب العالمية الثانية وجاء اهتمامه بالفن من والدته الرسامة كهواية في عام 1952 غادر ألمانيا وقرّر أن يدرس العلوم السياسية في جامعة مين، وكان في كل عطلة يعود إلى فرانكفورت لزيارة عائلته مقدّما محاولات في الرسم والعرض أين كان أول معرض تشكيلي له في التجربة التعبيرية التجريدية.
في سنة 1954 تم تجنيده في الجيش الأمريكي ورحل إلى فرنسا تابع أحداث النزاع الجزائري من أجل الاستقلال وقرّر أن يستقر في فرنسا بعد أن طلب تسريحه من الجيش هناك قدّم في جامعة نانسي للفنون الجميلة وتمّ قبوله فيها للدراسة وتحصّل منها على شهادة اكاديمية في الفنون.
عند عودته إلى الولايات المتحدة الامريكية سنة 1962 تم تعيينه مديرا لمتحف قرطبة في بوسطن ومتحف فونيكس وقتها كان جيمس رائدا في مجاله وسببا لظهور تطورات بصرية وفنية جديدة في عالم الفنون المعاصرة فقد فتح المجال امام أول رواد فن الفيديو آرت نام جون بايك وخوان داوني لتقديم عروض الفيديو البصرية.
يعتبر معرض صنع في فلسطين الذي قدّمه جيمس ضمن متحف المحطة من أبرز التجارب وأكثرها تحدّ للصورة العامة للفلسطيني ولمدى تشبّثه بأرضه وعلاقته الحقيقية معها عن هذه التجربة كان يقول إنها اكتشاف لفنانين لهم مستوى عالمي ولهم جرأة مدهشة ورغبة كبيرة في التحليق أبعد بالمستوى الجمالي.
المعرض كان يحتوي على لوحات وتصورات مفاهيمية وتجارب منها “عسقلان فن المعتقل” المهرّب من سجن إسرائيلي ورسومات بالحبر وصور فوتوغرافية وأعمال خزفية ونحت شملت خيمة لاجئين ترمز إلى القرى الفلسطينية التي دمرت وخمسة فساتين من الحرير للفلسطينية المغتربة ماري توما “قدمت استعارة لمكانة الشعب الذي يُعرف بظله على الأحداث الجارية أكثر من كونه معروفًا بظلاله”.
عرف المعرض نجاحا مستحقا كان من المفترض أن يستمر لمدة ثلاثة أشهر في هيوستن، مدده جيمس ثلاثة أشهر أخرى عندما اجتذب أكثر من 5000 شخص، “لقد غير المعرض المدينة فقد فتح الناس عقولهم على القضية الفلسطينية.”
إن جيمس يعتبر أيقونة فنية بحركته التي لا تهدأ وبحثه الدائم الذي لم يخفت لأنه أسّس لحركة ومسار سيبقى قائما ومستمرا لأنه أثّر بشكل كبير على أجيال من الفنانين والمهتمين بالفن.