إسماعيل بن إبراهيم باشا (الخديوي-)
اسماعيل ابراهيم باشا (خديوي)
Ishmael bin Ibrahim Pasha (khedive) - Ismaël ben Ibrahim Pacha (khédive)
إسماعيل بن إبراهيم باشا (الخديوي)
(1245ـ 1312هـ/ 1830ـ 1895م)
الابن الثاني لإبراهيم باشا بن محمد علي باشا [ر]. ولد بالقاهرة وتعلم في مدرسة القصر الخاصة التي أنشأها جده لتعليم أفراد أسرته، فدرس الفرنسية وبعض العلوم الحديثة ومنها الهندسة. وبعد وفاة جده محمد علي تولى ابن عمه عباس حلمي الأول ابن طوسون حكم مصر. وأمضى إسماعيل بعض الوقت في اصطنبول سعياً وراء دعم السلطان عبد المجيد لمواجهة عباس، وقد سمّاه السلطان عضواً في مجلس الدولة. وعاد إسماعيل إلى مصر إثر تولي عمه سعيد باشا الحكم (1854م) فَعُيِّن رئيساً لمجلس الدولة. وفي العام التالي أُوفد بمهمة إلى امبراطور فرنسة نابليون الثالث للحصول على تأييده في نيل قدر أكبر من الاستقلال عن الباب العالي مستثمراً مشاركة مصر في حرب القرم (1854-1856م)، كما أُوفد بمهمة إلى الفاتيكان، ثم عينه سعيد قائداً عاماً للجيش «سرداراً» فتمكن من إخماد الثورة التي قامت بها قبائل السودان.
تولى إسماعيل حكم مصر في أوائل عام 1863 بعد أن اكتسب خبرة دبلوماسية وعسكرية حسنة، وكان لديه معرفة مباشرة بأوربة وسياسة الباب العالي. وتعدّ مرحلة حكم إسماعيل من أخطر مراحل تاريخ مصر في القرن التاسع عشر. ففيه استكملت مصر استقلالها الداخلي.
كان إسماعيل طموحاً، ولكن أحوال مصر السياسية والاقتصادية كانت صعبة، وقد حاول أن يحقق الكثير من الإصلاحات الاقتصادية والإدارية والعلمية والقضائية، وكانت سياسته ترمي إلى تحقيق ثلاثة أهداف رئيسة: تحقيق أكبر قدر من الاستقلال عن السلطان العثماني، والإسراع في تحديث مصر في المجالات التجارية والعسكرية والثقافية، والحفاظ على ممتلكات مصر في إفريقية. وقد أدت به هذه الأهداف الثلاثة إلى إقامة علاقات محفوفة بالمخاطر مع الدول الأوربية الاستعمارية كبريطانية وفرنسة، وإلى مواجهة مع السلطان العثماني وإلى نفقات باهظة ناءت بثقلها خزانته. فسياسة الاستقلال عن السلطان اعتمدت على الدعم المالي والسياسي من الدول الأوربية وأدت إلى التدخل الأجنبي في شؤون مصر، ومن ثم إلى الاحتلال البريطاني. وسياسة التحديث بالاقتباس من أوربة انطوت على أخطار داهمة إذ بذرت بذور التصدع الاقتصادي والاجتماعي، وكانت المدخل الذي دلف منه الاستعمار الأوربي لاحتلال مصر. وهذه النتائج المشؤومة أثارت غضب المصريين على أوربة وعلى حكامهم الذين يتحملون تبعة ضياع الاستقلال الذي تمتعت به مصر قبل العام 1875.
ولتحقيق الاستقلال عن السلطنة، حصل إسماعيل على فرمان أيار 1866، وبموجبه تنتقل ولاية مصر وملحقاتها إلى أكبر أولاد إسماعيل الذكور بالوراثة بدلاً من القانون العثماني الذي يقضي بأن تكون الوراثة للأكبر (الأرشد) في الأسرة المالكة. كما حصل على حق زيادة حجم جيشه، ثم مُنح لقب «الخديوي» وهي كلمة فارسية معناها الملك والوزير والسيد، ومع أن لقب «الخديوية» لم يقدم أية حقوق استقلالية لمصر عن السلطنة، فإن تغيير نظام الوراثة أعطى الخديوي امتيازاً لا ينكر بين ولاة السلطنة العاديين. وأخذ إسماعيل يتطلع إلى الاستقلال التام، فأدى ذلك إلى تأزم العلاقات بين الطرفين، ثم انفرجت الأزمة بعد سفر الخديوي إسماعيل إلى اصطنبول واسترضاء الصدر الأعظم الجديد محمود نديم ومعاونيه بالهدايا، فحصل على الحق في عقد القروض الخارجية وسنّ القوانين من دون استئذان السلطان. وفي مقابل ذلك ضاعفت مصر مقدار الإتاوة التي تدفعها إلى الآستانة ولم يبق للسلطان سوى سيادة اسمية لا تتعدى سك العملة باسمه، والخطبة له على المنابر، وتمثيل مصر في الخارج من قبل السفراء العثمانيين، وبقي ذلك التقليد حتى عام 1923 حين نزلت السلطنة عن حقوق سيادتها على مصر بمعاهدة لوزان.
ازدادت الامتيازات الأجنبية في عهد إسماعيل عن طريق المحاكم القنصلية وأخذ القناصل يمارسون بها الحماية على المواطنين، ولم يستطع إسماعيل إلغاء تلك المحاكم القنصلية إلا في نهاية عهده، وحلت محلها المحاكم المختلطة التي يشترك فيها قضاة مصريون وأجانب، وكُلفت الفصل في الخصومات بين المصريين والأجانب.
أدت سياسة إسماعيل إلى ازدياد عدد الأجانب ولاسيما اليونانيين والإيطاليين حتى جاوز عددهم السبعين ألفاً عام 1878، الأمر الذي انتقص من سيادة مصر وأضعف سلطة الخديوي وحكومته.
وقّع إسماعيل امتياز حفر قناة السويس، وقدم لشركة القناة امتيازات سخية أثرت في الاقتصاد الزراعي المصري. ولما حاول تقليص تلك الامتيازات أخفق، وفرضت على مصر غرامة مالية كبيرة، فاضطرإلى الاقتراض من الدول الأجنبية لدفع الغرامة ولسداد نفقات الاحتفال بافتتاح القناة، وقد تجاوزت المليون جنيه.
وبذلك واجه إسماعيل مصاعب مالية كبيرة، واتضح أن زراعة قصب السكر وإقامة مصانع السكر التي شجع عليها البريطانيون لم تحقق نجاحاً يذكر، ولذا تشدّد في جمع الضرائب، ولكن مواردها عجزت عن الوفاء بديونه المستحقة للأجانب أو سدّ حاجات الدولة، فحاول الحصول على المال بقانون «المقابلة» للعام 1871، الذي يلزم الأهالي بأداء الضرائب عن أطيانهم مسبقاً لست سنوات، لقاء إعفائهم على الدوام من نصف الضريبة المطلوبة. ولكن الداء كان يكمن في ارتفاع سعر الفائدة التي أصرّ عليها الدائنون الأجانب، وكانت السبب الرئيسي في الارتباك المالي الخطير. وحين تجاوزت ديون مصر الـ 90 مليون جنيه استرليني، اضطر إسماعيل إلى بيع أسهم الحكومة في قناة السويس (1875) وعددها نحو 176 ألف سهم، إلى الحكومة البريطانية، لقاء دفع أربعة ملايين جنيه فوراً، ساعدت على تأجيل الانهيار المالي مؤقتاً.
وحين أوقف الخديوي دفع أقساط الديون مؤقتاً، انتشر الذعر في الأوساط المالية الأوربية. فسعى الخديوي إلى تهدئة الخواطر بتأسيس لجنة الرقابة الثنائية الأوربية على المالية المصرية، وإقامة صندوق الدين العمومي المؤلف من ممثلي الدول الدائنة، ومهمته تسلّم إيرادات المكوس (الجمارك) والسكك الحديدية ودَخْل أكبر مديريات القطر، ضمانة لتسديد أقساط الدين. ثم أذعن إسماعيل لطلب إنكلترة وفرنسة بتأليف وزارة مختلطة في مصر برئاسة «نوبار» الأرمني الأصل، تحلّ محل الرقابة الثنائية، ويدخلها وزيران أوربيان أحدهما إنكليزي للمالية والثاني فرنسي للأشغال العامة يتمتعان بحق «الفيتو». وحين أطاحت حركة الضباط (شباط 1879) بوزارة نوبار، وتألفت وزارة توفيق بن إسماعيل ولي العهد، واصل الوزيران الأوربيان تحدي الخديوي، وسلب مجلس شورى النواب أهم حقوقه، (وكان إسماعيل قد أنشأه عام 1866 ليعاونه على الخروج من الأزمات المستعصية) مما أثار المشاعر الوطنية. فاستغل إسماعيل حركة الضباط لمقاومة التدخل الأجنبي والتصدي له، وزاد تقاربه من المجلس لتوحيد الرأي العام وراء سياسته الاستقلالية. وتقدم النواب والعلماء وشيخ الإسلام وزعماء الطوائف الدينية بلائحة وطنية يطالبون فيها بتأليف وزارة مصرية بحتة، وإقرار مبدأ مسؤولية الوزارة أمام المجلس، وتسوية الديون دونما حاجة لإشهار إفلاس البلاد. واستقالت وزارة توفيق، وألف شريف باشا الوزارة، فوجهت فرنسة وبريطانية تهديداً إلى الخديوي لإعادة الوزيرين الأوربيين، فأجاب أن الشعب يرفض ذلك، وقدم شريف باشا إلى المجلس لائحة أساسية (دستوراً) تضمنت مبدأ فصل السلطة التشريعية عن السلطة التنفيذية، وأعلنت أن شعب مصر والسودان هو مصدر السيادة والسلطة.
ازداد نتيجة ذلك ضغط الدائنين الأوربيين الذين كانوا يرتابون في الخديوي، ورأوا أن أموالهم مهددة، ولم يشفع لإسماعيل انضمامه إلى جانب السلطان في الحرب الروسية العثمانية التي نشبت عام 1877، إذ أذعن السلطان لإلحاح فرنسة وألمانية وبريطانية، فعزل الخديوي إسماعيل عام 1879، وولى ابنه محمد توفيق، وغادر إسماعيل الاسكندرية إلى نابولي، وبقي في المنفى بأوربة ثم توفي بالآستانة.
شهد عهد إسماعيل إنشاء مدينة الإسماعيلية وشق قناتي الري الرئيستين: قناة الإبراهيمية في مصر العليا، وقناة الإسماعيلية بين السويس والقاهرة. إضافة إلى بناء قصر عابدين ودار الأوبرا وترع النيل والجسور وميناء الاسكندرية، ومدّ السكك الحديدية في مصر والسودان وخطوط البرق وإنشاء شركة ملاحية كبيرة، وتطوير الصناعات النسيجية والمعدنية. إضافة إلى تأسيس النظام التعليمي ومجموعة من المؤسسات والجمعيات العلمية، منها المكتبة الخديوية والمتحف المصري، والجمعية الجغرافية للبحث الجغرافي والكشف الإفريقي. وأصبحت صحيفة «الوقائع المصرية» يومية في عهد إسماعيل، وقدّمت المعونات للصحف والمجلات، فازداد عددها، ومنها جريدة الأهرام (1876). وتوسعت المطبعة الرسمية في بولاق، وأنشئت أول خدمة بريد رسمية في مصر، كما قُسمت البلاد إلى أربع عشرة مديرية بقيت أساس التقسيم الإداري في السنوات المئة التالية. وقد اجتذب إنشاء البلديات في القاهرة والمدن الكبرى الاستثمارات الأجنبية، وتأسست الشركات والمصارف، وتضاعفت صادرات مصر في عشر سنوات، وزاد الدخل السنوي للدولة من 5 ملايين جنيه استرليني عام 1864م إلى 145 مليوناً عام 1875م.
وفي السودان، تابع إسماعيل سياسة سلفه سعيد باشا في «سودنة» الوظائف المهمة، فشغل السودانيون مختلف الوظائف الإدارية المهمة. وأنشأ المجالس المحلية للفصل في القضايا الداخلية، وأشرك شيوخ القبائل مع الأهلين في تحمّل مسؤوليات الحكم. وظهر الاهتمام بالتعليم والزراعة والتجارة، واستمر إسماعيل في مكافحة الرق والنخاسة، فشن حرباً حقيقية على تجار الرقيق وعصاباتهم المسلحة، مما استتبع التوسع المصري في الجنوب، بضم مديرية خط الاستواء. وفي الشرق والجنوب بضم بوغوص وهرر وتاغورة وزيلع وبربرة وساحل البحر الأحمر الغربي حتى مضيق باب المندب، وبلاد الصومال حتى نهر جوبا، وفي الغرب بضم دارفور. وتسبب التوسع في السودان الشرقي بنشوب حرب بين مصر والحبشة (1876)، وأدى إلى عقد معاهدة إلغاء الرقيق مع بريطانية (آب 1877)، ثم بعد نحو شهر، إلى توقيع المعاهدة المصرية البريطانية بشأن ساحل الصومال. ولكن التشدد في مكافحة تجارة الرقيق، وإصرار مصر على إبطالها نهائياً سجل فصلاً جديداً في تصاعد الأزمة الداخلية في السودان، وأفضى إلى الثورة المهدية.
أحمد طربين
اسماعيل ابراهيم باشا (خديوي)
Ishmael bin Ibrahim Pasha (khedive) - Ismaël ben Ibrahim Pacha (khédive)
إسماعيل بن إبراهيم باشا (الخديوي)
(1245ـ 1312هـ/ 1830ـ 1895م)
الابن الثاني لإبراهيم باشا بن محمد علي باشا [ر]. ولد بالقاهرة وتعلم في مدرسة القصر الخاصة التي أنشأها جده لتعليم أفراد أسرته، فدرس الفرنسية وبعض العلوم الحديثة ومنها الهندسة. وبعد وفاة جده محمد علي تولى ابن عمه عباس حلمي الأول ابن طوسون حكم مصر. وأمضى إسماعيل بعض الوقت في اصطنبول سعياً وراء دعم السلطان عبد المجيد لمواجهة عباس، وقد سمّاه السلطان عضواً في مجلس الدولة. وعاد إسماعيل إلى مصر إثر تولي عمه سعيد باشا الحكم (1854م) فَعُيِّن رئيساً لمجلس الدولة. وفي العام التالي أُوفد بمهمة إلى امبراطور فرنسة نابليون الثالث للحصول على تأييده في نيل قدر أكبر من الاستقلال عن الباب العالي مستثمراً مشاركة مصر في حرب القرم (1854-1856م)، كما أُوفد بمهمة إلى الفاتيكان، ثم عينه سعيد قائداً عاماً للجيش «سرداراً» فتمكن من إخماد الثورة التي قامت بها قبائل السودان.
تولى إسماعيل حكم مصر في أوائل عام 1863 بعد أن اكتسب خبرة دبلوماسية وعسكرية حسنة، وكان لديه معرفة مباشرة بأوربة وسياسة الباب العالي. وتعدّ مرحلة حكم إسماعيل من أخطر مراحل تاريخ مصر في القرن التاسع عشر. ففيه استكملت مصر استقلالها الداخلي.
كان إسماعيل طموحاً، ولكن أحوال مصر السياسية والاقتصادية كانت صعبة، وقد حاول أن يحقق الكثير من الإصلاحات الاقتصادية والإدارية والعلمية والقضائية، وكانت سياسته ترمي إلى تحقيق ثلاثة أهداف رئيسة: تحقيق أكبر قدر من الاستقلال عن السلطان العثماني، والإسراع في تحديث مصر في المجالات التجارية والعسكرية والثقافية، والحفاظ على ممتلكات مصر في إفريقية. وقد أدت به هذه الأهداف الثلاثة إلى إقامة علاقات محفوفة بالمخاطر مع الدول الأوربية الاستعمارية كبريطانية وفرنسة، وإلى مواجهة مع السلطان العثماني وإلى نفقات باهظة ناءت بثقلها خزانته. فسياسة الاستقلال عن السلطان اعتمدت على الدعم المالي والسياسي من الدول الأوربية وأدت إلى التدخل الأجنبي في شؤون مصر، ومن ثم إلى الاحتلال البريطاني. وسياسة التحديث بالاقتباس من أوربة انطوت على أخطار داهمة إذ بذرت بذور التصدع الاقتصادي والاجتماعي، وكانت المدخل الذي دلف منه الاستعمار الأوربي لاحتلال مصر. وهذه النتائج المشؤومة أثارت غضب المصريين على أوربة وعلى حكامهم الذين يتحملون تبعة ضياع الاستقلال الذي تمتعت به مصر قبل العام 1875.
ولتحقيق الاستقلال عن السلطنة، حصل إسماعيل على فرمان أيار 1866، وبموجبه تنتقل ولاية مصر وملحقاتها إلى أكبر أولاد إسماعيل الذكور بالوراثة بدلاً من القانون العثماني الذي يقضي بأن تكون الوراثة للأكبر (الأرشد) في الأسرة المالكة. كما حصل على حق زيادة حجم جيشه، ثم مُنح لقب «الخديوي» وهي كلمة فارسية معناها الملك والوزير والسيد، ومع أن لقب «الخديوية» لم يقدم أية حقوق استقلالية لمصر عن السلطنة، فإن تغيير نظام الوراثة أعطى الخديوي امتيازاً لا ينكر بين ولاة السلطنة العاديين. وأخذ إسماعيل يتطلع إلى الاستقلال التام، فأدى ذلك إلى تأزم العلاقات بين الطرفين، ثم انفرجت الأزمة بعد سفر الخديوي إسماعيل إلى اصطنبول واسترضاء الصدر الأعظم الجديد محمود نديم ومعاونيه بالهدايا، فحصل على الحق في عقد القروض الخارجية وسنّ القوانين من دون استئذان السلطان. وفي مقابل ذلك ضاعفت مصر مقدار الإتاوة التي تدفعها إلى الآستانة ولم يبق للسلطان سوى سيادة اسمية لا تتعدى سك العملة باسمه، والخطبة له على المنابر، وتمثيل مصر في الخارج من قبل السفراء العثمانيين، وبقي ذلك التقليد حتى عام 1923 حين نزلت السلطنة عن حقوق سيادتها على مصر بمعاهدة لوزان.
ازدادت الامتيازات الأجنبية في عهد إسماعيل عن طريق المحاكم القنصلية وأخذ القناصل يمارسون بها الحماية على المواطنين، ولم يستطع إسماعيل إلغاء تلك المحاكم القنصلية إلا في نهاية عهده، وحلت محلها المحاكم المختلطة التي يشترك فيها قضاة مصريون وأجانب، وكُلفت الفصل في الخصومات بين المصريين والأجانب.
أدت سياسة إسماعيل إلى ازدياد عدد الأجانب ولاسيما اليونانيين والإيطاليين حتى جاوز عددهم السبعين ألفاً عام 1878، الأمر الذي انتقص من سيادة مصر وأضعف سلطة الخديوي وحكومته.
وقّع إسماعيل امتياز حفر قناة السويس، وقدم لشركة القناة امتيازات سخية أثرت في الاقتصاد الزراعي المصري. ولما حاول تقليص تلك الامتيازات أخفق، وفرضت على مصر غرامة مالية كبيرة، فاضطرإلى الاقتراض من الدول الأجنبية لدفع الغرامة ولسداد نفقات الاحتفال بافتتاح القناة، وقد تجاوزت المليون جنيه.
وبذلك واجه إسماعيل مصاعب مالية كبيرة، واتضح أن زراعة قصب السكر وإقامة مصانع السكر التي شجع عليها البريطانيون لم تحقق نجاحاً يذكر، ولذا تشدّد في جمع الضرائب، ولكن مواردها عجزت عن الوفاء بديونه المستحقة للأجانب أو سدّ حاجات الدولة، فحاول الحصول على المال بقانون «المقابلة» للعام 1871، الذي يلزم الأهالي بأداء الضرائب عن أطيانهم مسبقاً لست سنوات، لقاء إعفائهم على الدوام من نصف الضريبة المطلوبة. ولكن الداء كان يكمن في ارتفاع سعر الفائدة التي أصرّ عليها الدائنون الأجانب، وكانت السبب الرئيسي في الارتباك المالي الخطير. وحين تجاوزت ديون مصر الـ 90 مليون جنيه استرليني، اضطر إسماعيل إلى بيع أسهم الحكومة في قناة السويس (1875) وعددها نحو 176 ألف سهم، إلى الحكومة البريطانية، لقاء دفع أربعة ملايين جنيه فوراً، ساعدت على تأجيل الانهيار المالي مؤقتاً.
وحين أوقف الخديوي دفع أقساط الديون مؤقتاً، انتشر الذعر في الأوساط المالية الأوربية. فسعى الخديوي إلى تهدئة الخواطر بتأسيس لجنة الرقابة الثنائية الأوربية على المالية المصرية، وإقامة صندوق الدين العمومي المؤلف من ممثلي الدول الدائنة، ومهمته تسلّم إيرادات المكوس (الجمارك) والسكك الحديدية ودَخْل أكبر مديريات القطر، ضمانة لتسديد أقساط الدين. ثم أذعن إسماعيل لطلب إنكلترة وفرنسة بتأليف وزارة مختلطة في مصر برئاسة «نوبار» الأرمني الأصل، تحلّ محل الرقابة الثنائية، ويدخلها وزيران أوربيان أحدهما إنكليزي للمالية والثاني فرنسي للأشغال العامة يتمتعان بحق «الفيتو». وحين أطاحت حركة الضباط (شباط 1879) بوزارة نوبار، وتألفت وزارة توفيق بن إسماعيل ولي العهد، واصل الوزيران الأوربيان تحدي الخديوي، وسلب مجلس شورى النواب أهم حقوقه، (وكان إسماعيل قد أنشأه عام 1866 ليعاونه على الخروج من الأزمات المستعصية) مما أثار المشاعر الوطنية. فاستغل إسماعيل حركة الضباط لمقاومة التدخل الأجنبي والتصدي له، وزاد تقاربه من المجلس لتوحيد الرأي العام وراء سياسته الاستقلالية. وتقدم النواب والعلماء وشيخ الإسلام وزعماء الطوائف الدينية بلائحة وطنية يطالبون فيها بتأليف وزارة مصرية بحتة، وإقرار مبدأ مسؤولية الوزارة أمام المجلس، وتسوية الديون دونما حاجة لإشهار إفلاس البلاد. واستقالت وزارة توفيق، وألف شريف باشا الوزارة، فوجهت فرنسة وبريطانية تهديداً إلى الخديوي لإعادة الوزيرين الأوربيين، فأجاب أن الشعب يرفض ذلك، وقدم شريف باشا إلى المجلس لائحة أساسية (دستوراً) تضمنت مبدأ فصل السلطة التشريعية عن السلطة التنفيذية، وأعلنت أن شعب مصر والسودان هو مصدر السيادة والسلطة.
ازداد نتيجة ذلك ضغط الدائنين الأوربيين الذين كانوا يرتابون في الخديوي، ورأوا أن أموالهم مهددة، ولم يشفع لإسماعيل انضمامه إلى جانب السلطان في الحرب الروسية العثمانية التي نشبت عام 1877، إذ أذعن السلطان لإلحاح فرنسة وألمانية وبريطانية، فعزل الخديوي إسماعيل عام 1879، وولى ابنه محمد توفيق، وغادر إسماعيل الاسكندرية إلى نابولي، وبقي في المنفى بأوربة ثم توفي بالآستانة.
شهد عهد إسماعيل إنشاء مدينة الإسماعيلية وشق قناتي الري الرئيستين: قناة الإبراهيمية في مصر العليا، وقناة الإسماعيلية بين السويس والقاهرة. إضافة إلى بناء قصر عابدين ودار الأوبرا وترع النيل والجسور وميناء الاسكندرية، ومدّ السكك الحديدية في مصر والسودان وخطوط البرق وإنشاء شركة ملاحية كبيرة، وتطوير الصناعات النسيجية والمعدنية. إضافة إلى تأسيس النظام التعليمي ومجموعة من المؤسسات والجمعيات العلمية، منها المكتبة الخديوية والمتحف المصري، والجمعية الجغرافية للبحث الجغرافي والكشف الإفريقي. وأصبحت صحيفة «الوقائع المصرية» يومية في عهد إسماعيل، وقدّمت المعونات للصحف والمجلات، فازداد عددها، ومنها جريدة الأهرام (1876). وتوسعت المطبعة الرسمية في بولاق، وأنشئت أول خدمة بريد رسمية في مصر، كما قُسمت البلاد إلى أربع عشرة مديرية بقيت أساس التقسيم الإداري في السنوات المئة التالية. وقد اجتذب إنشاء البلديات في القاهرة والمدن الكبرى الاستثمارات الأجنبية، وتأسست الشركات والمصارف، وتضاعفت صادرات مصر في عشر سنوات، وزاد الدخل السنوي للدولة من 5 ملايين جنيه استرليني عام 1864م إلى 145 مليوناً عام 1875م.
وفي السودان، تابع إسماعيل سياسة سلفه سعيد باشا في «سودنة» الوظائف المهمة، فشغل السودانيون مختلف الوظائف الإدارية المهمة. وأنشأ المجالس المحلية للفصل في القضايا الداخلية، وأشرك شيوخ القبائل مع الأهلين في تحمّل مسؤوليات الحكم. وظهر الاهتمام بالتعليم والزراعة والتجارة، واستمر إسماعيل في مكافحة الرق والنخاسة، فشن حرباً حقيقية على تجار الرقيق وعصاباتهم المسلحة، مما استتبع التوسع المصري في الجنوب، بضم مديرية خط الاستواء. وفي الشرق والجنوب بضم بوغوص وهرر وتاغورة وزيلع وبربرة وساحل البحر الأحمر الغربي حتى مضيق باب المندب، وبلاد الصومال حتى نهر جوبا، وفي الغرب بضم دارفور. وتسبب التوسع في السودان الشرقي بنشوب حرب بين مصر والحبشة (1876)، وأدى إلى عقد معاهدة إلغاء الرقيق مع بريطانية (آب 1877)، ثم بعد نحو شهر، إلى توقيع المعاهدة المصرية البريطانية بشأن ساحل الصومال. ولكن التشدد في مكافحة تجارة الرقيق، وإصرار مصر على إبطالها نهائياً سجل فصلاً جديداً في تصاعد الأزمة الداخلية في السودان، وأفضى إلى الثورة المهدية.
أحمد طربين