مشتى الحلو وحكاية 170 عاماً من ذكريات معمل حريرها
70
طرطوس ـ سانا
ازدهرت صناعة الحرير الطبيعي وزراعة شجر التوت وتربية دودة القز في منطقة مشتى الحلو حيث كانت تعبر فتيات بعمر الورد على الطريق الطويل إلى معمل الحرير في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.
كان الحرير الطبيعيّ مصدر رزق أهالي المنطقة الذين أتقنوا صناعة خيوطه بجميع تفاصيلها، وهو ما أوضحه حسان عجي من أبناء المنطقة الذين عاصروا حياة المعمل، إضافة إلى إنتاج الحرير الطبيعيّ في منازل أهالي المشتى.
وفي لقاء مع وكالة سانا تحدّث عجي عن حكاية الحرير الطبيعي في المشتى وتطوّر فصولها: “كانت السيدات تقمن بوضع قطعة من القماش وبداخلها البيوض على أجسادهن وكأنهن قطعة منهن للحفاظ على درجة حرارة معينة لتفقس بحرارة أجسادهن، وصولاً إلى خيط الحرير المشتاوي.
تطور العمل في صناعة الحرير إلى إنشاء المحامل “المفقس” وهو بحسب “عجي” عبارة عن قطعة قماش محمولة على ركائز خشبية توضع عليها البيوض وكان يوضع تحتها قناديل مضيئة أو موقد نار لمنح البيوض درجة حرارة مناسبة، إضافة إلى “المخانق” التي كانت متواجدة في البلدة لخنق الديدان في الشرانق بواسطة الماء المغلي، ووجود رفوف كبيرة لتجفيف الشرانق، لتأتي المرحلة النهائية وهي عملية حل الشرانق بواسطة دولاب حل عربي للوصول إلى خيوط الحرير الطبيعية، ليتم تصديرها كما كان يتم تصنيع جزء من الإنتاج في البلدة بواسطة النول اليدوي.
سمعة الحرير المصنوع في مشتى الحلو ذاع صيتها وجعلت البلدة مركزاً تجارياً شكل ثقلاً في صناعة الحرير الطبيعي، وهو ما جذب اللبناني فيليب فرعون إلى المشتى ليقوم بشراء قطعة أرض من آل الحلو وبنى عليها معملاً للحرير عام 1852 وكان يسمّى في ذلك الوقت “الشركة السورية اللبنانية لإنتاج الحرير الطبيعي”، والذي اعتبر يومها النسخة الثالثة عن معمل ليون في فرنسا.
وكان معمل الحرير في المشتى، الذي بدأ الإنتاج فيه عام 1855، يتضمن أدوات كاملة منها 40 دولاباً لحل الحرير، وأداة تسمى “الخلقين” وهي وفق “عجي” عبارة عن وعاء يشبه الطنجرة بداخله مجموعة من الثقوب يوضع الماء الساخن بداخلها، والذي يأتي من المرجل الذي كان يطلق عليه بلغة أهل البلدة “بابور الحديد” وهو عبارة عن موقد كبير من الحطب يضخ المياه الساخنة بواسطة أنابيب ممدودة داخل المعمل لتصل إلى الخلقين، إضافة إلى مدخنة كبيرة يخرج منها الدخان.
ومن الأدوات أيضاً “المخنق والمكبس”، حيث أوضح عجي أنه كان يوضع بداخلها ما ينتج عن الحرير، بهدف حفظه بشكل أنيق وغيرها من الأدوات.
وأضاف عجي: “إنه في عام 1875 تمّ بيع المعمل لشركة فرنسية والتي أرسلت السيد “ديلوم” من معمل ليون لإدارة المعمل، وقامت بتطوير وتحديث الآلات والأجهزة في المعمل، ليصبح 80 دولاباً موضوعة في صالتين، وكل صالة تحتوي 40 دولاباً، إضافة لتغيير موقد الحطب إلى الفيول وتركيب أجهزة خاصة به، وكان يستوعب حوالي 400 عامل وعاملة، والعدد الأكبر منهم من الفتيات والنساء وعدد قليل من الرجال.
وخلال سنوات عمله استقبل معمل حرير مشتى الحلو الشرانق من مناطق مختلفة كمنطقة وادي العيون والقدموس وريف مصياف وقرى عكار والدريكيش وغيرها.
وأوضح عجي أن خيط الحرير الواحد المعدّ للتصدير في معمل حرير المشتى يحتاج لسبع شرانق فقط بينما المعمل الموجود في لبنان كان يحتاج إلى 14 شرنقة لتشكيل خيط حرير واحد، وهذا يدلّ على مهنية واحترافية سكان المشتى وتفننهم بتطويع الشرنقة على آلات معملهم للخروج بخيط حرير متماسك ومتين.
وذكر عجي أن بداية الإنتاج كانت الخيوط الحريرية المصنوعة بلون يميل للأصفر، موضحاً أنه تمّ استيراد بيوض تنتج الحرير الأبيض وتم تخزينها في جبل صنين بمغارة ثلجية للحفاظ عليها لحين قدوم الموسم وتوزيعها على المربين.
وقال عجي: “بعد صدور قانون التأميم قام الفرنسيون ببيع المعمل لأنطوان السمان من حمص ووديع ديب بيطار ثم اشتراه منهما أولاد عيسى نصار من المشتى، واستمر المعمل بعد ذلك بالإنتاج ولكن بوتيرة أقل ما يعادل نصف القدرة الإنتاجية حتى أوائل السبعينيات من القرن الماضي حيث تم إغلاقه”.
ومن عوامل قلة الإنتاج أيضاً، اختفاء أشجار التوت في المشتى وجوارها وحلت محلها أشجار التفاح وكتل البناء ولكن ما بقي من عملية إنتاج الحرير الطبيعي في مشتى الحلو هو بناء المعمل الذي يشكل تحفة أثرية.
وتحدثت الجدة محاسن نسيم التي تبلغ 95 عاماً وهي آخر عاملات معمل حرير مشتى الحلو عن حكايتها وحكاية بنات جيلها، حيث بدأت العمل بعمر 10 سنوات واستمرت بالعمل فيه لمدة 4 سنوات، مستعرضة تفاصيل العمل ومراحله والذكريات التي حملتها في ذلك الوقت إلى أن شاركت إحدى بناتها في مسابقة ملكات جمال الحرير السوري والتي كانت تقام على هامش مهرجان الحرير الأول والثاني بين عامي 1960-1961 والذي تضمّنت فعالياته عرض المنسوجات الحريرية المختلفة وفقرات الشعر وانتخاب ملكة جمال الحرير السوري.
اليوم وبعد إغلاق معمل الحرير منذ 50 عاماً عاد جرس المعمل يدق من جديد بطريقة جديدة ليدون فصلاً جديداً من فصول الحكاية عبر إرادة المجتمع المحلي في مشتى الحلو، وذلك من خلال إقامة فعاليات موسيقية فيه بعنوان “طريق الحرير” لكورال الحجرة التابع للمعهد العالي للموسيقا بقيادة المايسترو ميساك باغبودريان و”وصايا الحرير” بقيادة الموسيقي جورج طنوس، من خلال مهرجان دلبة مشتى الحلو الحادي عشر للثقافة والفنون “صدى التوت والحرير” الذي أقامته وزارة الثقافة، بالتعاون مع مؤسسة الملتقى الثقافي الخيري والفعاليات الأهلية والاغترابية بالمشتى.
70
طرطوس ـ سانا
ازدهرت صناعة الحرير الطبيعي وزراعة شجر التوت وتربية دودة القز في منطقة مشتى الحلو حيث كانت تعبر فتيات بعمر الورد على الطريق الطويل إلى معمل الحرير في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.
كان الحرير الطبيعيّ مصدر رزق أهالي المنطقة الذين أتقنوا صناعة خيوطه بجميع تفاصيلها، وهو ما أوضحه حسان عجي من أبناء المنطقة الذين عاصروا حياة المعمل، إضافة إلى إنتاج الحرير الطبيعيّ في منازل أهالي المشتى.
وفي لقاء مع وكالة سانا تحدّث عجي عن حكاية الحرير الطبيعي في المشتى وتطوّر فصولها: “كانت السيدات تقمن بوضع قطعة من القماش وبداخلها البيوض على أجسادهن وكأنهن قطعة منهن للحفاظ على درجة حرارة معينة لتفقس بحرارة أجسادهن، وصولاً إلى خيط الحرير المشتاوي.
تطور العمل في صناعة الحرير إلى إنشاء المحامل “المفقس” وهو بحسب “عجي” عبارة عن قطعة قماش محمولة على ركائز خشبية توضع عليها البيوض وكان يوضع تحتها قناديل مضيئة أو موقد نار لمنح البيوض درجة حرارة مناسبة، إضافة إلى “المخانق” التي كانت متواجدة في البلدة لخنق الديدان في الشرانق بواسطة الماء المغلي، ووجود رفوف كبيرة لتجفيف الشرانق، لتأتي المرحلة النهائية وهي عملية حل الشرانق بواسطة دولاب حل عربي للوصول إلى خيوط الحرير الطبيعية، ليتم تصديرها كما كان يتم تصنيع جزء من الإنتاج في البلدة بواسطة النول اليدوي.
سمعة الحرير المصنوع في مشتى الحلو ذاع صيتها وجعلت البلدة مركزاً تجارياً شكل ثقلاً في صناعة الحرير الطبيعي، وهو ما جذب اللبناني فيليب فرعون إلى المشتى ليقوم بشراء قطعة أرض من آل الحلو وبنى عليها معملاً للحرير عام 1852 وكان يسمّى في ذلك الوقت “الشركة السورية اللبنانية لإنتاج الحرير الطبيعي”، والذي اعتبر يومها النسخة الثالثة عن معمل ليون في فرنسا.
وكان معمل الحرير في المشتى، الذي بدأ الإنتاج فيه عام 1855، يتضمن أدوات كاملة منها 40 دولاباً لحل الحرير، وأداة تسمى “الخلقين” وهي وفق “عجي” عبارة عن وعاء يشبه الطنجرة بداخله مجموعة من الثقوب يوضع الماء الساخن بداخلها، والذي يأتي من المرجل الذي كان يطلق عليه بلغة أهل البلدة “بابور الحديد” وهو عبارة عن موقد كبير من الحطب يضخ المياه الساخنة بواسطة أنابيب ممدودة داخل المعمل لتصل إلى الخلقين، إضافة إلى مدخنة كبيرة يخرج منها الدخان.
ومن الأدوات أيضاً “المخنق والمكبس”، حيث أوضح عجي أنه كان يوضع بداخلها ما ينتج عن الحرير، بهدف حفظه بشكل أنيق وغيرها من الأدوات.
وأضاف عجي: “إنه في عام 1875 تمّ بيع المعمل لشركة فرنسية والتي أرسلت السيد “ديلوم” من معمل ليون لإدارة المعمل، وقامت بتطوير وتحديث الآلات والأجهزة في المعمل، ليصبح 80 دولاباً موضوعة في صالتين، وكل صالة تحتوي 40 دولاباً، إضافة لتغيير موقد الحطب إلى الفيول وتركيب أجهزة خاصة به، وكان يستوعب حوالي 400 عامل وعاملة، والعدد الأكبر منهم من الفتيات والنساء وعدد قليل من الرجال.
وخلال سنوات عمله استقبل معمل حرير مشتى الحلو الشرانق من مناطق مختلفة كمنطقة وادي العيون والقدموس وريف مصياف وقرى عكار والدريكيش وغيرها.
وأوضح عجي أن خيط الحرير الواحد المعدّ للتصدير في معمل حرير المشتى يحتاج لسبع شرانق فقط بينما المعمل الموجود في لبنان كان يحتاج إلى 14 شرنقة لتشكيل خيط حرير واحد، وهذا يدلّ على مهنية واحترافية سكان المشتى وتفننهم بتطويع الشرنقة على آلات معملهم للخروج بخيط حرير متماسك ومتين.
وذكر عجي أن بداية الإنتاج كانت الخيوط الحريرية المصنوعة بلون يميل للأصفر، موضحاً أنه تمّ استيراد بيوض تنتج الحرير الأبيض وتم تخزينها في جبل صنين بمغارة ثلجية للحفاظ عليها لحين قدوم الموسم وتوزيعها على المربين.
وقال عجي: “بعد صدور قانون التأميم قام الفرنسيون ببيع المعمل لأنطوان السمان من حمص ووديع ديب بيطار ثم اشتراه منهما أولاد عيسى نصار من المشتى، واستمر المعمل بعد ذلك بالإنتاج ولكن بوتيرة أقل ما يعادل نصف القدرة الإنتاجية حتى أوائل السبعينيات من القرن الماضي حيث تم إغلاقه”.
ومن عوامل قلة الإنتاج أيضاً، اختفاء أشجار التوت في المشتى وجوارها وحلت محلها أشجار التفاح وكتل البناء ولكن ما بقي من عملية إنتاج الحرير الطبيعي في مشتى الحلو هو بناء المعمل الذي يشكل تحفة أثرية.
وتحدثت الجدة محاسن نسيم التي تبلغ 95 عاماً وهي آخر عاملات معمل حرير مشتى الحلو عن حكايتها وحكاية بنات جيلها، حيث بدأت العمل بعمر 10 سنوات واستمرت بالعمل فيه لمدة 4 سنوات، مستعرضة تفاصيل العمل ومراحله والذكريات التي حملتها في ذلك الوقت إلى أن شاركت إحدى بناتها في مسابقة ملكات جمال الحرير السوري والتي كانت تقام على هامش مهرجان الحرير الأول والثاني بين عامي 1960-1961 والذي تضمّنت فعالياته عرض المنسوجات الحريرية المختلفة وفقرات الشعر وانتخاب ملكة جمال الحرير السوري.
اليوم وبعد إغلاق معمل الحرير منذ 50 عاماً عاد جرس المعمل يدق من جديد بطريقة جديدة ليدون فصلاً جديداً من فصول الحكاية عبر إرادة المجتمع المحلي في مشتى الحلو، وذلك من خلال إقامة فعاليات موسيقية فيه بعنوان “طريق الحرير” لكورال الحجرة التابع للمعهد العالي للموسيقا بقيادة المايسترو ميساك باغبودريان و”وصايا الحرير” بقيادة الموسيقي جورج طنوس، من خلال مهرجان دلبة مشتى الحلو الحادي عشر للثقافة والفنون “صدى التوت والحرير” الذي أقامته وزارة الثقافة، بالتعاون مع مؤسسة الملتقى الثقافي الخيري والفعاليات الأهلية والاغترابية بالمشتى.