رحلة إلى بلاد المجد المفقود للفنان الرفيق مصطفى فروخ
928
ولأن في التاريخ بدايات المستقبل…
تُخصّصُ «البناء« هذه الصفحة، لتحتضنَ محطات مشرقة من تاريخ الحزب السوري القومي الاجتماعي، صنعها قوميون اجتماعيون في مراحل صعبة، وقد سجلت في رصيد حزبهم وتاريخه، وقفات عز راسخات على طريق النصر العظيم.
وحتى يبقى المستقبل في دائرة رؤيتنا، يجب أن لا يسقط من تاريخنا أي تفصيل، ذلك أننا كأمّة، استمرار مادي روحي راح يتدفق منذ ما قبل التاريخ الجلي، وبالتالي فإن إبراز محطات الحزب النضالية، هو في الوقت عينه تأكيد وحدة الوجود القومي منذ انبثاقه وإلى أن تنطفئ الشمس.
أنّ نكتب تاريخنا،..فإننا نرسم مستقبل أمتنا.
إعداد: لبيب ناصيف
رحلة إلى بلاد المجد المفقود للفنان الرفيق مصطفى فروخ
} عمر فرّوخ
تسنى لي مؤخراً أن أطلع على كتاب كان صدر عام 1933 للفنان الرفيق مصطفى فروخ، بعنوان بلاد المجد المفقود.
من الكتاب أنشر أدناه النص الكامل للكلمة التي أوردها الدكتور عمر فروخ.
ل. ن
«هو مصطفى بن محمد بن صالح بن عبد القادر بن محمد فروخ، وأمه أنيسة بنت حسن شميسمة ـ من اهل مدينة بيروت.
كان والده أميّاً لا يقرأ ولا يكتب. ولكنّه كان حافظاً للأخبار والأشعار والقصص والأمثال، حسَن الحديث حاضر النكتة. وكان «مبيّضاً» (يجلي الأواني النحاسية بالقصدير). ولم يكن له محلّ ثابت، بل كان يدور بصنعته هذه في الأنحاء المختلفة، وربّما أبعَدَ بها حتى وصل الى قرية عين عار (بين بكفيا وبيت شباب).
«كذلك أمّه كانت أميّة لا تُحسن قراءةً ولا كتابة، وبينما كان أبوه رجلاً مرحاً يرغب في عشرة الناس، ويرغب الناس في عشرته ـ يستوي في ذلك أهله وغير أهله ـ كانت أمّه تحبّ العزلة في بيتها، قائمة على تربية أولادها وخدمتهم.
ويحسن أن أضيف الى ذلك انّ أمّه كانت امرأة طيّبة القلب فطرية التفكير محدودة الأفق.
وفي بيت صغير في محلة البسطة التحتا (عند الزاوية الشمالية الحاصلة مع تقاطع الطريق النازل من برج ابي حيدر والطريق النافذ من محطة البسطة التحتا من الشرق الى الغرب)، وعلى نحو نصف كيلومتر من قلب مدينة بيروت في ذاك الحين (وخارج مدينة بيروت في ذلك الحين ايضاً) ولد مصطفى فروخ، وقد هُدم هذا البيت الآن وقام مكانه بناءٌ جديد من أبنية هذه الأيام التي تشبه «علب السردين».
«ترك مصطفى فروخ عدداً من جوازات السفر ومن تذاكر النفوس، وعليها عام 1904 أو عام 1906 تاريخاً لمولده. غير أننا اذا قرأنا في المذكرات التي خطّها بيمينه (من غير أن يفطن الى هاتين السنتين) ورأيناه يذكر (كما نقرأ في مذكراته في الدفتر الأسود الذي سننشر محتوياته قريباً)، الأحداث التالية:
في عام 1908 – أو العام الذي يليه – كان خطيب المدرسة (الابتدائية) التي كان طاهر التنّير قد أنشأها.
في أواخر عام 1912 كان يرسم صوراً «كاريكاتورية» بالحبر الصيني لمجلة «المصوّر» التي أنشأها أيضاً طاهر التنّير.
وهنالك صورة لمصطفى فروخ، من أوائل عام 1913، يظهر فيها وفي يده «راحة الألوان»، وامامه «لوحة» يرسم عليها، وبقربه كاترينا ابنة المصوّر الألماني المشهور جول لند (وكان محله على الزيتونة، وهو المحل الذي كان فيه، في ما بعد، المصور الفوتوغرافي أسعد دقوني).
وفي اُثناء الحرب البلقانية (1912-1913) كان يرسم صوراً للمعارك الحربية بين البوارج العثمانية والبوارج البلقانية. وفي ذلك الحين نفسه رسم فروخ صوراً بالقلم الرصاص (أو الفحم؟) لنفرٍ من أعيان بيروت منهم أحمد مختار بيهم وسليم البوّاب وسليم علي سلام (والد صائب سلام) ويوسف بيضون (والد رشيد بيضون مؤسس المدرسة العامليّة)
وكانت صورة يوسف بيضون بالحجم الطبيعي أو قريباً من ذلك.
وفي العام 1917 اهتمّ به والي بيروت عزمي بك، ولما جاء أنور باشا وجمال باشا (في ذلك العام نفسه) الى مدينة بيروت. قدّمه عزمي بك إليهما في اثناء حفلة أقيمت في فندق كاسمن الالماني (على باب إدريس)، وكان مصطفى فروخ قد صنع لأنور باشا ولجمال باشا ـ وبطلب من عزمي بك ـ صورتين أعجب القائدان العسكريان بهما.
«فإذا نحن نظرنا في هذه الأحداث في هذه التواريخ ـ ثم حسبنا أيضاً العبقرية التي كانت في مصطفى فروخ ـ فإننا نستبعد ان يكون قد ولد في عام 1906، ثم اتصل بأنور باشا وجمال باشا وصنع لهما صورتين (على الطبيعة؟) وعمره عشر سنين. من أجل ذلك يجب ان نرجع بمولده الى سنة 1318-1319 للهجرة (1901م) حتى نجد شيئاً من الوفاق بين أحداث حياته والسنين التي وقعت فيها تلك الأحداث.
يبدو انّ مصطفى فروخ لم يتلقّ تعليماً نظامياً: كان في مدرسة «الشيخ جمعة» وهي من « الكتاتيب» (نحو 1908) ثم انتقل (في العام نفسه أو في العام الذي يليه) الى مدرسة أسّسها طاهر التنّير.
وأغلق طاهر التنّير مدرسته وشيكاً. ولكننا لا نعرف بعد ذلك مدرسةً دخلها مصطفى فروخ قبل «دار العلوم» (لعبد الجبار خيري الهندي وأخيه عبد الستّار)، وقد قضى فيها ستة أشهر من عام 1912. ويبدو أيضاً انه قضى مدّة في الكلية العثمانية ( الكليّة الاسلامية في ما بعد) لصاحبها الشيخ أحمد عباس الأزهري.
«وكذلك دخل المدرسة الإيطالية، نحو عام 1919، ليتعلم شيئاً من اللغة الإيطالية لأنه كان يفكر في الذهاب الى إيطاليا. ولكن في ذلك الحين (بعد الحرب العالمية الأولى) انتقلت المدرسة الإيطالية الى عهدة سعيد سنّو لتكون مدرسة وطنية تعلّم اللغة الإيطالية أيضاً. ويبدو ان هذه المدرسة لم تُعَمِّر طويلاً.
ولم يتلقّ مصطفى فروخ درساً فنياً في الرسم قبل ان اتّصَل (عام 1916) بالرسّام المعروف حبيب سرور (توفي في أيلول/ سبتمبر من عام 1938)».
*
في روما
« ومنذ الحرب العالمية الأولى كان مصطفى فروخ يكسب من فنه مبالغ طيّبة ينفق منها على نفسه (وعلى أشياء كثيرة في بيت أهله)، ثم يدّخر جانباَ منها حمله معه وجعل وجهته (15/9/1924) مدينة روما ليثـقـّف عبقريّته الطبيعية بأصول الفن على شيوخ الفن، وليكتسب من الاختبار الذي يُتاح للفنان في الغرب ولا يُتاح له مثله في الشرق.
سجّل مصطفى فرّوخ اسمه في الأكاديمية الملكية للفنون الجميلة (في روما) فطًلب منه «امتحان دخول» فاحتاط لذلك بأن دخل، في هذه الأثناء (وقبل موعد الامتحان) مدرسة خاصة ليتمرّن فيها على ما يُطلب عادة في امتحان الدخول في مدرسة للفن. وأكثر مواد هذا الامتحان ـ كما يذكر مصطفى فروخ نفسه ـ نماذج من الجسم البشري، على الطبيعة. وهذا يقتضي معرفة بشيء من تشريح الجسم الإنساني. ونجح في امتحان الدخول ثم استطاع بعبقريّته وبجدّه أن «يختصر» عاماً مدرسياً.
«وفي أثناء ذلك كان قد دخل مدرسة للفنّ الزخرفي ونجح فيها ونال منها جائزة أيضاً. ثم عاد الى بيروت.
وفي بيروت (في 1/1/1928) أقام مصطفى فروخ معرضاً خاصاً لرسومه في دار الوجيه أحمد أيّاس (قرب محطة ـ غراهام ـ قبيل الجامعة الأميركية). ثم انه أقام معرضاً عاماً ـ عقب ذلك ـ في الجامعة الأميركية (في الغرفة الخضراء من منتدى وست هول)، فكان هذا المعرض ناجحاً نجاحاً كبيراً مادياً وأدبياً.
*
في باريس
«كانت رحلة مصطفى فروخ الى روما للتعلّم. أما رحلته الى باريس (تشرين الثاني/ نوفمبر 1929).
فكانت كما يقول ابن خلدون في مثل تلك الحال، في سبيل «مزيد كمال في التعلّم ولقاء المشيخة» (كبار القوم من اهل الفن). وكان مصطفى فروخ، قبل ان عاد من روما الى بيروت، وقد جعل طريقه على باريس (25/9/1927). ولقد خيّبت باريس في ذلك الحين آماله ولم توافق صورتُها خياله.
وتوّجت باريس فن مصطفى فروخ لمّا قبلت صورةٌ له في «صالون باريس» (عام 1930). ولا تُقبل في هذا الصالون (المعرض الدولي الخاص بالفن) إلا الصور البارعة المبتكرة الدالّة على اتجاهٍ. وكذلك عرض صوره في معرض الفنّانين الفرنسيين (باريس 1931).
« وقد كانت إقامته في باريس قصيرة، فإنه رجع منها في العام 1931 نفسه من طريق اسبانيا. وقد كانت هذه «الرحلة الأندلسية» لمصطفى فروخ كما كان «نفي أحمد شوقي الى الأندلس» (في أثناء الحرب العالمية الأولى) جلاءً جديداً لعبقريتهما. لقد امتلأت نفس مصطفى فروخ بعد هذه الرحلة بروحٍ فياضٍ من المجد العربي ومن الفن العربي. ولن أطيل الكلام على هذا الوجه من حياة مصطفى فروخ لأنّ الكتاب الذي بين يدي القارئ الآن كان من نتاج تلك الرحلة.
والذين يكتبون تراجم أعلام العرب والمسلمين قلَّ أن يحفلوا بالحياة الزوجية لأولئك الأعلام. ونحن اليوم لا نكاد نعلم شيئاً من الحياة الزوجية لأعلام من أمثال أبي تمام والبحتري والمتنبّي وابن رشد وابن خلدون.
«ولمّا أراد مصطفى فروخ أن يتزوّج (عام 1935) اختار زوجة لنفسه بنفسه. تزوج ثريا ينت أحمد تميم. وآل تميم فروع من أسرة محافظة ومعروفة في رأس بيروت، وعلى شيء من الجاه والثروة من العمل التجاري في الأكثر، ومن الأملاك المبنيّة في الأقل. ولقد ساعده زواجه هذا على أن يبني أسرة صحيحة. وللعباقرة رأي في الحياة لا يقرّه جمهور الناس. وكان من حسن حظ مصطفى فروخ أن وجد زوجاً تتغاضى عن كثير من حقوقها الاجتماعية في لقاء الناس ومشاركتهم في نزهاتهم واحتفالاتهم واهتمامهم بأزيائهم في سبيل أن تتحمّل الحياة معه، فيكون وقته كلّه وقفاً على فنه. ولقد كان لها بذلك عليه فضلٌ كبير.
«ورزق مصطفى فروخ (23/11/1936) صبيّاً سمّاه «هانئا»، إعجاباً بهاني بن مسعود الشيباني زعيم المعركة التي انتصر فيها العرب على الفرس (قبيل الإسلام) في يوم ذي قار. ثم رزق بنتاً (عام 1945) سمّاها «هناء».
ونشب في مصطفى فروخ داء اللوكيميا (سرطان الدم)، ولم ينتبه لذلك في وقت باكر. كان يشعر أحياناً بشيْ من التعب. ثم اتّفق أن خلع ضرساً فطال عليه من جراء ذلك نزيفٌ شديد. عندئذ، وجد من الحاجة ان يعرض نفسه على الطبيب. ويبدو أنّ هذا الداء قد بدأ في جسمه منذ عام 1935 أو قبل ذلك بقليل. وعولج من هذا المرض الذي كان يقعده في فترات متقطعة متباعدة أو متقاربة. ودخل المستشفى للمراقبة مرّتين أو ثلاثاً. ثم توفيّ بدائه هذا في الساعة الخامسة صباحاً من يوم السبت (16/02/1957) في مستشفى المقاصد.
*
الفنّان في زمانه ومكانه
فروخ وفنه في زمانهما
«يرى مصطفى فروخ أنّ الطبيعة هي المعلم الأول للفن (ولكن يجب أن يكون في الإنسان استعدادٌ للتعلم). والفن الحقيقي شيء وراء المادة (وراء الورقة والخط واللون، ووراء المنظر الطبيعي نفسه: انّ العيون المختلفة ترى منظراً واحداً رؤيةً طبيعيّة واحدة، ولكنّها تنفعل بهذا المنظر الواحد أنواعاً مختلفة من الانفعال، ثم يعبّر كلّ فنان عما يرى تعبيراً مختلفاً يسمو أو ينخفض بنسبة ما في نفس كلّ فنان من ذلك).
وأغرم مصطفى فروخ برسم الرجال والنساء من أولئك الذين حفلت أساريرهم (تقاطيع وجوههم) بالعزم والقوة خاصّة. ولشيوخ بني معروف وللبدويّات نصيبٌ كبير من ريشته.
أما المثل المعجز في ذلك فهو صورة الأمير بشير (الثاني الشهابي).
كان الأمير بشير هذا رجلاً صغير الجسم. وهنالك صورة لفنانٍ فرنسيّ يبدو فيها الأمير بشير واقفاً (ولعلّ هذه الصورة مأخوذة على الطبيعة)، كما يبدو نصفه الأدنى أضعف من نصفه الأعلى أيضاً.
«وأراد مصطفى فروخ أن يرى شيئاً وراء قامة الأمير بشير ووراء صفحة وجهه، فرسم له صورةً نصفيّة وجعل له لحيةً كبيرةً جداً تستر صدره الضيّق، ثم وضع في عينيه نوراً بارزاً. هذه الصورة، التي لا تحمل الخصائص الطبيعية التي كانت في الأمير بشير. أصبحت الصورة المقبولة للأمير بشير. إنّ مصطفى فروخ يضع على صفحات الوجوه في صوره ما يقرأه هو من خبايا النفوس. ومن هنا جاءت القيمة الكبرى في رسومه.
وله أيضاً بالحبر الأسود روائع عبقريّة: هنالك الرأس الذي رسمه من استمرار خطّ واحد، وهنالك الخطوط التي لا ظلال لها، ولكنّها تنطق بملامح صاحب الصورة، حتى لا يخطئ الناظر إليها في معرفة ما رأت عين الفنان وهو جالس الى لوحته.
« في عام 1935، كتبتُ دراسة لأبي نواس ورغبتُ الى مصطفى ان يرسم له صورة رمزيّة. وجمعتُ خصائص أبي نواس وقدمتُها له. وانصرف هو الى العمل في الصورة. وبعد أيام عــدت إليه فكانت الصورة جاهزةّ بالحــبر الأسود. لقد كانت صورة عجيبة. اخذتُ الصورة ومررت في طريقي بالأســتاذ عبدالله المشــنوق (وكان يومــذاك في جريدة «بيروت»، في باب إدريس). رفعت يــدي بالصورة، وقــلتُ له: من هذا؟ فقــال، بلا توقــف: «أبو النواس». ثم اتفــق أن مررت بعد ذلك بالشاعر عبد الرحيــم قليلات (في متجــره في شارع أللنبي). فما إن رفعت يدي بالصورة حتى قال، قبل أن اسأله: «هذا أبو نواس».
«لقد شاهدتُ مصطفى فروخ يرسم في بيته، وكنتُ معه مراراً وهو يرسم خارج بيته، وسألته مرّة بعد مرّة عن هذا الخط وعن ذلك اللون وعن شجرة ينقلها من اليمين الى اليسار، ثم عن شجرات أربع يجعلهنّ ثلاثاً أو أثنتين فقط. ورسم مصطفى فروخ بالفحم والزيت وبالريشة أحياناً وبإبهامه حيناً، بالألوان القاتمة وبالألوان الفاقعة، وعلى المذاهب القديمة المألوفة والمذاهب الحديثة المبتكرة. ولكنّ هذه الصفحات تضيق عن ذكر ذلك كله. ولي دراسة أوسع في كتاب «الفن والحياة» (دار العلم للملايين – بيروت 1967، ص. 14-13) فليرجع إليها من أحب.
«لقد شاهدت متاحف كثيرة (في روما وباريس وبرلين ومنشن أو ميونيخ ومدريد وفي لندن وفي نيويورك وواشنطن) وحرصتُ على أن أرى الأقسام الحديثة. إنّ مصطفى فروخ أحق أن يُعدّ في صفّ الأولين من أصحاب المذهب الإيطالي (ولا نقول: المدرسة الإيطالية)، والمذهب الهولندي والمذهب الإسباني. وقد رأيت أجنحةً عرضت فيها نماذج حديثة، فلم أجد في أكثرها ما يقرب من رسوم مصطفى فروخ. إنّ رسوم بيكاسّو وأتباعه (ما كان منها على الأسلوب المألوف ـ الكلاسيك ـ أو الأسلوب الحديث، أي المشوّه) كانت كلّها أهلاً لأن يُضحَك منها. أنا أرى ـ بقليل معرفتي بالفن ـ أن الرسّامين الذين يمكن أن يقارنوا بمصطفى فروخ، في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر ثم في القرن العشرين خاصّة قليلون جداً، إن وُجدوا.
*
… وفي مكانهما
«لم يكن مصطفى فروخ راضياً عن مكانه في بلده كلّ الرضا.
إنّ مجموع أهل البلد لم يكن يقدّر الفن حق قدره. وكثيراً ما كان أحدهم ـ في ذلك الحين ـ يريد أن تُرسم له صورة أو أن يشتري صورة على سبيل المباهاة أو للدلالة على أنه غني أو وجيه. وقلّ منهم من كان يرغب في الصورة الفنيّة لأنه كان يدرك الجانب الحضاريّ في فنّ الرسم. ولقد نما الذوق الفنيّ الآن قليلاً، وعسى أن يزداد نموّه.
هنالك أشياء كثيرة قد أغفلت في هذه الكلمة الموجزة. وسيرى القارئ شيئاً مما أغفلته هنا في هذا الكتاب نفسه. ثم إن هذه الناحية ستفوز بتفصيلٍ واف في «المذكرات» التي ستنشر قريباً. غير أني أريد هنا أن أنبّه على أمرٍ واحد. إنّ جميع الذين وُضعوا في وجه مصطفى فروخ قد زالوا من تلقاء أنفسهم بالقانون الاجتماعي الذي يشبه القوانين الطبيعية. إنك قد تستطيع أن تصنع من الطين شكلاً يشبه التفاحة ثم تصبغ هذا الشكل باللون الأحمر أو الأصفر أو الأخضر أو الأبيض. ولكنّك لا تستطيع أن تجعل من الطين تفاحة.
928
ولأن في التاريخ بدايات المستقبل…
تُخصّصُ «البناء« هذه الصفحة، لتحتضنَ محطات مشرقة من تاريخ الحزب السوري القومي الاجتماعي، صنعها قوميون اجتماعيون في مراحل صعبة، وقد سجلت في رصيد حزبهم وتاريخه، وقفات عز راسخات على طريق النصر العظيم.
وحتى يبقى المستقبل في دائرة رؤيتنا، يجب أن لا يسقط من تاريخنا أي تفصيل، ذلك أننا كأمّة، استمرار مادي روحي راح يتدفق منذ ما قبل التاريخ الجلي، وبالتالي فإن إبراز محطات الحزب النضالية، هو في الوقت عينه تأكيد وحدة الوجود القومي منذ انبثاقه وإلى أن تنطفئ الشمس.
أنّ نكتب تاريخنا،..فإننا نرسم مستقبل أمتنا.
إعداد: لبيب ناصيف
رحلة إلى بلاد المجد المفقود للفنان الرفيق مصطفى فروخ
} عمر فرّوخ
تسنى لي مؤخراً أن أطلع على كتاب كان صدر عام 1933 للفنان الرفيق مصطفى فروخ، بعنوان بلاد المجد المفقود.
من الكتاب أنشر أدناه النص الكامل للكلمة التي أوردها الدكتور عمر فروخ.
ل. ن
«هو مصطفى بن محمد بن صالح بن عبد القادر بن محمد فروخ، وأمه أنيسة بنت حسن شميسمة ـ من اهل مدينة بيروت.
كان والده أميّاً لا يقرأ ولا يكتب. ولكنّه كان حافظاً للأخبار والأشعار والقصص والأمثال، حسَن الحديث حاضر النكتة. وكان «مبيّضاً» (يجلي الأواني النحاسية بالقصدير). ولم يكن له محلّ ثابت، بل كان يدور بصنعته هذه في الأنحاء المختلفة، وربّما أبعَدَ بها حتى وصل الى قرية عين عار (بين بكفيا وبيت شباب).
«كذلك أمّه كانت أميّة لا تُحسن قراءةً ولا كتابة، وبينما كان أبوه رجلاً مرحاً يرغب في عشرة الناس، ويرغب الناس في عشرته ـ يستوي في ذلك أهله وغير أهله ـ كانت أمّه تحبّ العزلة في بيتها، قائمة على تربية أولادها وخدمتهم.
ويحسن أن أضيف الى ذلك انّ أمّه كانت امرأة طيّبة القلب فطرية التفكير محدودة الأفق.
وفي بيت صغير في محلة البسطة التحتا (عند الزاوية الشمالية الحاصلة مع تقاطع الطريق النازل من برج ابي حيدر والطريق النافذ من محطة البسطة التحتا من الشرق الى الغرب)، وعلى نحو نصف كيلومتر من قلب مدينة بيروت في ذاك الحين (وخارج مدينة بيروت في ذلك الحين ايضاً) ولد مصطفى فروخ، وقد هُدم هذا البيت الآن وقام مكانه بناءٌ جديد من أبنية هذه الأيام التي تشبه «علب السردين».
«ترك مصطفى فروخ عدداً من جوازات السفر ومن تذاكر النفوس، وعليها عام 1904 أو عام 1906 تاريخاً لمولده. غير أننا اذا قرأنا في المذكرات التي خطّها بيمينه (من غير أن يفطن الى هاتين السنتين) ورأيناه يذكر (كما نقرأ في مذكراته في الدفتر الأسود الذي سننشر محتوياته قريباً)، الأحداث التالية:
في عام 1908 – أو العام الذي يليه – كان خطيب المدرسة (الابتدائية) التي كان طاهر التنّير قد أنشأها.
في أواخر عام 1912 كان يرسم صوراً «كاريكاتورية» بالحبر الصيني لمجلة «المصوّر» التي أنشأها أيضاً طاهر التنّير.
وهنالك صورة لمصطفى فروخ، من أوائل عام 1913، يظهر فيها وفي يده «راحة الألوان»، وامامه «لوحة» يرسم عليها، وبقربه كاترينا ابنة المصوّر الألماني المشهور جول لند (وكان محله على الزيتونة، وهو المحل الذي كان فيه، في ما بعد، المصور الفوتوغرافي أسعد دقوني).
وفي اُثناء الحرب البلقانية (1912-1913) كان يرسم صوراً للمعارك الحربية بين البوارج العثمانية والبوارج البلقانية. وفي ذلك الحين نفسه رسم فروخ صوراً بالقلم الرصاص (أو الفحم؟) لنفرٍ من أعيان بيروت منهم أحمد مختار بيهم وسليم البوّاب وسليم علي سلام (والد صائب سلام) ويوسف بيضون (والد رشيد بيضون مؤسس المدرسة العامليّة)
وكانت صورة يوسف بيضون بالحجم الطبيعي أو قريباً من ذلك.
وفي العام 1917 اهتمّ به والي بيروت عزمي بك، ولما جاء أنور باشا وجمال باشا (في ذلك العام نفسه) الى مدينة بيروت. قدّمه عزمي بك إليهما في اثناء حفلة أقيمت في فندق كاسمن الالماني (على باب إدريس)، وكان مصطفى فروخ قد صنع لأنور باشا ولجمال باشا ـ وبطلب من عزمي بك ـ صورتين أعجب القائدان العسكريان بهما.
«فإذا نحن نظرنا في هذه الأحداث في هذه التواريخ ـ ثم حسبنا أيضاً العبقرية التي كانت في مصطفى فروخ ـ فإننا نستبعد ان يكون قد ولد في عام 1906، ثم اتصل بأنور باشا وجمال باشا وصنع لهما صورتين (على الطبيعة؟) وعمره عشر سنين. من أجل ذلك يجب ان نرجع بمولده الى سنة 1318-1319 للهجرة (1901م) حتى نجد شيئاً من الوفاق بين أحداث حياته والسنين التي وقعت فيها تلك الأحداث.
يبدو انّ مصطفى فروخ لم يتلقّ تعليماً نظامياً: كان في مدرسة «الشيخ جمعة» وهي من « الكتاتيب» (نحو 1908) ثم انتقل (في العام نفسه أو في العام الذي يليه) الى مدرسة أسّسها طاهر التنّير.
وأغلق طاهر التنّير مدرسته وشيكاً. ولكننا لا نعرف بعد ذلك مدرسةً دخلها مصطفى فروخ قبل «دار العلوم» (لعبد الجبار خيري الهندي وأخيه عبد الستّار)، وقد قضى فيها ستة أشهر من عام 1912. ويبدو أيضاً انه قضى مدّة في الكلية العثمانية ( الكليّة الاسلامية في ما بعد) لصاحبها الشيخ أحمد عباس الأزهري.
«وكذلك دخل المدرسة الإيطالية، نحو عام 1919، ليتعلم شيئاً من اللغة الإيطالية لأنه كان يفكر في الذهاب الى إيطاليا. ولكن في ذلك الحين (بعد الحرب العالمية الأولى) انتقلت المدرسة الإيطالية الى عهدة سعيد سنّو لتكون مدرسة وطنية تعلّم اللغة الإيطالية أيضاً. ويبدو ان هذه المدرسة لم تُعَمِّر طويلاً.
ولم يتلقّ مصطفى فروخ درساً فنياً في الرسم قبل ان اتّصَل (عام 1916) بالرسّام المعروف حبيب سرور (توفي في أيلول/ سبتمبر من عام 1938)».
*
في روما
« ومنذ الحرب العالمية الأولى كان مصطفى فروخ يكسب من فنه مبالغ طيّبة ينفق منها على نفسه (وعلى أشياء كثيرة في بيت أهله)، ثم يدّخر جانباَ منها حمله معه وجعل وجهته (15/9/1924) مدينة روما ليثـقـّف عبقريّته الطبيعية بأصول الفن على شيوخ الفن، وليكتسب من الاختبار الذي يُتاح للفنان في الغرب ولا يُتاح له مثله في الشرق.
سجّل مصطفى فرّوخ اسمه في الأكاديمية الملكية للفنون الجميلة (في روما) فطًلب منه «امتحان دخول» فاحتاط لذلك بأن دخل، في هذه الأثناء (وقبل موعد الامتحان) مدرسة خاصة ليتمرّن فيها على ما يُطلب عادة في امتحان الدخول في مدرسة للفن. وأكثر مواد هذا الامتحان ـ كما يذكر مصطفى فروخ نفسه ـ نماذج من الجسم البشري، على الطبيعة. وهذا يقتضي معرفة بشيء من تشريح الجسم الإنساني. ونجح في امتحان الدخول ثم استطاع بعبقريّته وبجدّه أن «يختصر» عاماً مدرسياً.
«وفي أثناء ذلك كان قد دخل مدرسة للفنّ الزخرفي ونجح فيها ونال منها جائزة أيضاً. ثم عاد الى بيروت.
وفي بيروت (في 1/1/1928) أقام مصطفى فروخ معرضاً خاصاً لرسومه في دار الوجيه أحمد أيّاس (قرب محطة ـ غراهام ـ قبيل الجامعة الأميركية). ثم انه أقام معرضاً عاماً ـ عقب ذلك ـ في الجامعة الأميركية (في الغرفة الخضراء من منتدى وست هول)، فكان هذا المعرض ناجحاً نجاحاً كبيراً مادياً وأدبياً.
*
في باريس
«كانت رحلة مصطفى فروخ الى روما للتعلّم. أما رحلته الى باريس (تشرين الثاني/ نوفمبر 1929).
فكانت كما يقول ابن خلدون في مثل تلك الحال، في سبيل «مزيد كمال في التعلّم ولقاء المشيخة» (كبار القوم من اهل الفن). وكان مصطفى فروخ، قبل ان عاد من روما الى بيروت، وقد جعل طريقه على باريس (25/9/1927). ولقد خيّبت باريس في ذلك الحين آماله ولم توافق صورتُها خياله.
وتوّجت باريس فن مصطفى فروخ لمّا قبلت صورةٌ له في «صالون باريس» (عام 1930). ولا تُقبل في هذا الصالون (المعرض الدولي الخاص بالفن) إلا الصور البارعة المبتكرة الدالّة على اتجاهٍ. وكذلك عرض صوره في معرض الفنّانين الفرنسيين (باريس 1931).
« وقد كانت إقامته في باريس قصيرة، فإنه رجع منها في العام 1931 نفسه من طريق اسبانيا. وقد كانت هذه «الرحلة الأندلسية» لمصطفى فروخ كما كان «نفي أحمد شوقي الى الأندلس» (في أثناء الحرب العالمية الأولى) جلاءً جديداً لعبقريتهما. لقد امتلأت نفس مصطفى فروخ بعد هذه الرحلة بروحٍ فياضٍ من المجد العربي ومن الفن العربي. ولن أطيل الكلام على هذا الوجه من حياة مصطفى فروخ لأنّ الكتاب الذي بين يدي القارئ الآن كان من نتاج تلك الرحلة.
والذين يكتبون تراجم أعلام العرب والمسلمين قلَّ أن يحفلوا بالحياة الزوجية لأولئك الأعلام. ونحن اليوم لا نكاد نعلم شيئاً من الحياة الزوجية لأعلام من أمثال أبي تمام والبحتري والمتنبّي وابن رشد وابن خلدون.
«ولمّا أراد مصطفى فروخ أن يتزوّج (عام 1935) اختار زوجة لنفسه بنفسه. تزوج ثريا ينت أحمد تميم. وآل تميم فروع من أسرة محافظة ومعروفة في رأس بيروت، وعلى شيء من الجاه والثروة من العمل التجاري في الأكثر، ومن الأملاك المبنيّة في الأقل. ولقد ساعده زواجه هذا على أن يبني أسرة صحيحة. وللعباقرة رأي في الحياة لا يقرّه جمهور الناس. وكان من حسن حظ مصطفى فروخ أن وجد زوجاً تتغاضى عن كثير من حقوقها الاجتماعية في لقاء الناس ومشاركتهم في نزهاتهم واحتفالاتهم واهتمامهم بأزيائهم في سبيل أن تتحمّل الحياة معه، فيكون وقته كلّه وقفاً على فنه. ولقد كان لها بذلك عليه فضلٌ كبير.
«ورزق مصطفى فروخ (23/11/1936) صبيّاً سمّاه «هانئا»، إعجاباً بهاني بن مسعود الشيباني زعيم المعركة التي انتصر فيها العرب على الفرس (قبيل الإسلام) في يوم ذي قار. ثم رزق بنتاً (عام 1945) سمّاها «هناء».
ونشب في مصطفى فروخ داء اللوكيميا (سرطان الدم)، ولم ينتبه لذلك في وقت باكر. كان يشعر أحياناً بشيْ من التعب. ثم اتّفق أن خلع ضرساً فطال عليه من جراء ذلك نزيفٌ شديد. عندئذ، وجد من الحاجة ان يعرض نفسه على الطبيب. ويبدو أنّ هذا الداء قد بدأ في جسمه منذ عام 1935 أو قبل ذلك بقليل. وعولج من هذا المرض الذي كان يقعده في فترات متقطعة متباعدة أو متقاربة. ودخل المستشفى للمراقبة مرّتين أو ثلاثاً. ثم توفيّ بدائه هذا في الساعة الخامسة صباحاً من يوم السبت (16/02/1957) في مستشفى المقاصد.
*
الفنّان في زمانه ومكانه
فروخ وفنه في زمانهما
«يرى مصطفى فروخ أنّ الطبيعة هي المعلم الأول للفن (ولكن يجب أن يكون في الإنسان استعدادٌ للتعلم). والفن الحقيقي شيء وراء المادة (وراء الورقة والخط واللون، ووراء المنظر الطبيعي نفسه: انّ العيون المختلفة ترى منظراً واحداً رؤيةً طبيعيّة واحدة، ولكنّها تنفعل بهذا المنظر الواحد أنواعاً مختلفة من الانفعال، ثم يعبّر كلّ فنان عما يرى تعبيراً مختلفاً يسمو أو ينخفض بنسبة ما في نفس كلّ فنان من ذلك).
وأغرم مصطفى فروخ برسم الرجال والنساء من أولئك الذين حفلت أساريرهم (تقاطيع وجوههم) بالعزم والقوة خاصّة. ولشيوخ بني معروف وللبدويّات نصيبٌ كبير من ريشته.
أما المثل المعجز في ذلك فهو صورة الأمير بشير (الثاني الشهابي).
كان الأمير بشير هذا رجلاً صغير الجسم. وهنالك صورة لفنانٍ فرنسيّ يبدو فيها الأمير بشير واقفاً (ولعلّ هذه الصورة مأخوذة على الطبيعة)، كما يبدو نصفه الأدنى أضعف من نصفه الأعلى أيضاً.
«وأراد مصطفى فروخ أن يرى شيئاً وراء قامة الأمير بشير ووراء صفحة وجهه، فرسم له صورةً نصفيّة وجعل له لحيةً كبيرةً جداً تستر صدره الضيّق، ثم وضع في عينيه نوراً بارزاً. هذه الصورة، التي لا تحمل الخصائص الطبيعية التي كانت في الأمير بشير. أصبحت الصورة المقبولة للأمير بشير. إنّ مصطفى فروخ يضع على صفحات الوجوه في صوره ما يقرأه هو من خبايا النفوس. ومن هنا جاءت القيمة الكبرى في رسومه.
وله أيضاً بالحبر الأسود روائع عبقريّة: هنالك الرأس الذي رسمه من استمرار خطّ واحد، وهنالك الخطوط التي لا ظلال لها، ولكنّها تنطق بملامح صاحب الصورة، حتى لا يخطئ الناظر إليها في معرفة ما رأت عين الفنان وهو جالس الى لوحته.
« في عام 1935، كتبتُ دراسة لأبي نواس ورغبتُ الى مصطفى ان يرسم له صورة رمزيّة. وجمعتُ خصائص أبي نواس وقدمتُها له. وانصرف هو الى العمل في الصورة. وبعد أيام عــدت إليه فكانت الصورة جاهزةّ بالحــبر الأسود. لقد كانت صورة عجيبة. اخذتُ الصورة ومررت في طريقي بالأســتاذ عبدالله المشــنوق (وكان يومــذاك في جريدة «بيروت»، في باب إدريس). رفعت يــدي بالصورة، وقــلتُ له: من هذا؟ فقــال، بلا توقــف: «أبو النواس». ثم اتفــق أن مررت بعد ذلك بالشاعر عبد الرحيــم قليلات (في متجــره في شارع أللنبي). فما إن رفعت يدي بالصورة حتى قال، قبل أن اسأله: «هذا أبو نواس».
«لقد شاهدتُ مصطفى فروخ يرسم في بيته، وكنتُ معه مراراً وهو يرسم خارج بيته، وسألته مرّة بعد مرّة عن هذا الخط وعن ذلك اللون وعن شجرة ينقلها من اليمين الى اليسار، ثم عن شجرات أربع يجعلهنّ ثلاثاً أو أثنتين فقط. ورسم مصطفى فروخ بالفحم والزيت وبالريشة أحياناً وبإبهامه حيناً، بالألوان القاتمة وبالألوان الفاقعة، وعلى المذاهب القديمة المألوفة والمذاهب الحديثة المبتكرة. ولكنّ هذه الصفحات تضيق عن ذكر ذلك كله. ولي دراسة أوسع في كتاب «الفن والحياة» (دار العلم للملايين – بيروت 1967، ص. 14-13) فليرجع إليها من أحب.
«لقد شاهدت متاحف كثيرة (في روما وباريس وبرلين ومنشن أو ميونيخ ومدريد وفي لندن وفي نيويورك وواشنطن) وحرصتُ على أن أرى الأقسام الحديثة. إنّ مصطفى فروخ أحق أن يُعدّ في صفّ الأولين من أصحاب المذهب الإيطالي (ولا نقول: المدرسة الإيطالية)، والمذهب الهولندي والمذهب الإسباني. وقد رأيت أجنحةً عرضت فيها نماذج حديثة، فلم أجد في أكثرها ما يقرب من رسوم مصطفى فروخ. إنّ رسوم بيكاسّو وأتباعه (ما كان منها على الأسلوب المألوف ـ الكلاسيك ـ أو الأسلوب الحديث، أي المشوّه) كانت كلّها أهلاً لأن يُضحَك منها. أنا أرى ـ بقليل معرفتي بالفن ـ أن الرسّامين الذين يمكن أن يقارنوا بمصطفى فروخ، في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر ثم في القرن العشرين خاصّة قليلون جداً، إن وُجدوا.
*
… وفي مكانهما
«لم يكن مصطفى فروخ راضياً عن مكانه في بلده كلّ الرضا.
إنّ مجموع أهل البلد لم يكن يقدّر الفن حق قدره. وكثيراً ما كان أحدهم ـ في ذلك الحين ـ يريد أن تُرسم له صورة أو أن يشتري صورة على سبيل المباهاة أو للدلالة على أنه غني أو وجيه. وقلّ منهم من كان يرغب في الصورة الفنيّة لأنه كان يدرك الجانب الحضاريّ في فنّ الرسم. ولقد نما الذوق الفنيّ الآن قليلاً، وعسى أن يزداد نموّه.
هنالك أشياء كثيرة قد أغفلت في هذه الكلمة الموجزة. وسيرى القارئ شيئاً مما أغفلته هنا في هذا الكتاب نفسه. ثم إن هذه الناحية ستفوز بتفصيلٍ واف في «المذكرات» التي ستنشر قريباً. غير أني أريد هنا أن أنبّه على أمرٍ واحد. إنّ جميع الذين وُضعوا في وجه مصطفى فروخ قد زالوا من تلقاء أنفسهم بالقانون الاجتماعي الذي يشبه القوانين الطبيعية. إنك قد تستطيع أن تصنع من الطين شكلاً يشبه التفاحة ثم تصبغ هذا الشكل باللون الأحمر أو الأصفر أو الأخضر أو الأبيض. ولكنّك لا تستطيع أن تجعل من الطين تفاحة.