فخر الدين المعني الثاني
(980-1045هـ/1572-1635م)
فخر الدين بن قرقماز بن فخر الدين الأول، من آل معن، من أكبر أمراء هذه الأسرة، كان لبعض أسلافه في أيام الحروب الصليبية شأن. ولد في بعقلين، في منطقة الشوف. والدته الأميرة نسب الخازنية من قرية عبية. مات أبوه سنة 1584 وهو في الثانية عشرة، فعهدت أمه به وبأخيه يونس إلى آل الخازن في كسروان، وبقيا هناك حتى بلغا سن الرشد. وكان لأمه الأميرة نسب الخازنية أثر بارز في نشأته وتربيته وتوجيهه، وهي التي أسهمت في شهرة فخر الدين ونجاحه، وكانت الساعد الأيمن له، وكان يحترمها ويقدرها، ولا يبرم أمراً دون مشورتها، وهي التي أشارت عليه بالقضاء على آل سيفا، وباللجوء إلى أوربا، وأدارت شؤون الجبل في غيابه، وسجنت مراراً. وقابلت الأمراء والولاة العثمانيين حتى أصدر السلطان أمره بالعفو عن ولدها، وكان لوفاتها سنة 1633م أثر كبير في نفس ولدها فخر الدين الذي شعر بأن ركناً مكيناً من حياته قد انهار.
وقد وصفه مؤرخوه أنه كان مهاباً جليلاً، يعطي الجزيل، قوي العزم، شديد الحزم، حسن التدبير، يعطف على الغني والفقير على حد سواء، متواضعاً، حليماً عند الغضب، يصغي إلى المظلوم وينصفه من ظالمه. وكان يصلي ويصوم رمضان ويعامل جميع طوائف لبنان الكثيرة بالتسامح والمحبة، حتى إنه أطلق لحاخامات اليهود حريتهم في ممارسة شعائرهم وطقوسهم الدينية فأحبوه وآزروه.
وقد بنى في لبنان وفلسطين مساجد كثيرة لا تزال إلى اليوم وجعل ابنه علياً أميراً للحج، ومع ذلك فإن هناك من يرى أنه لم يكن مسلماً، شأنه في ذلك شأن الأمير بشير الشهابي الثاني.
تولى فخر الدين إمارة الشوف سنة 1590م، وشرع بعد ذلك بضم بيروت وصيدا وطرابلس والبقاع وصفد وطبريا والناصرة وغيرها.
وفي سنة 1608م وقع معاهدة مع فرديناند دوق توسكانا الأكبر، وكانت فيها بنود سرية ضد الدولة العثمانية وهو ما لم يُسبق إليه من قبل. وفي سنة 1613م هُزِم فخر الدين أمام القوات العثمانية فالتجأ إلى حلفائه في توسكانا مع أهله، وبقي هناك خمس سنين، أصبح في أثنائها من أشهر رجال الشرق في نظر الأوربيين لما كتبه عنه الشعراء والرحالة والأدباء.
في أيلول/سبتمبر سنة 1618م عاد إلى إمارته، وكان همه إعادة بنائها وتصفية الحساب مع ألد أعدائه آل سيفا في طرابلس، وقد تم له ما أراد في كانون الأول/ديسمبر 1618م عندما هزم عدوه ابن سيفا ودحر جيشه ودمر قصوره واستباح طرابلس أربعين يوماً كما يذكر مؤرخوه أنفسهم، ولم يتركه إلا بعد أن فرض عليه مبلغاً كبيراً من المال، واستولى على مقاطعتي البترون وجبيل.
وفي سنة 1623م هزم مصطفى باشا والي دمشق وأسره، فرأى السلطان مراد أن من الأنسب مهادنته، فمنحه سنة 1624م لقب سلطان البر ووالي عربستان، لكنه لم يكن غافلاً عن تحالفاته وأطماعه. فلما جدد فخر الدين علاقاته بتوسكانا، وكثرت الشكاوى عليه من أمراء الجبل الآخرين وما أكثرهم، وماطل في دفع الأموال السلطانية، وأعاد بناء الحصون والقلاع والتوسع على حساب جيرانه، هذه العوامل أوغرت صدر السلطان مراد عليه، فقرر وضع حدّ نهائي له، وعهد إلى والي دمشق كجك أحمد باشا بقيادة الحملة العسكرية الكبرى ووضع نهاية لفخر الدين.
وصدرت الأوامر إلى والي حلب وأمراء طرابلس وغزة والقدس ونابلس واللجون وعجلون وحمص وحماة، أن يكونوا تحت إمرة والي دمشق كجك أحمد باشا، ولم يكتف السلطان مراد بذلك، بل سيّر أسطولاً ضخماً مقابل سواحل المدن التابعة لفخر الدين لمنع وصول أي إِمدادات له من حلفائه في توسكانا وغيرها، وتحرّكت الحملة يوم 12 صفر 1043هـ/9 آب 1633م، وكان الأمير فخر الدين قد قرر مسالمة الدولة العثمانية والانصياع لطلباتها أملاً منه في كسب الوقت، ولذلك لم يحاول التصدي للأسطول العثماني، ونفذ طلبات كجك أحمد باشا، ووزع قواته الكثيرة على المدن والقلاع على أمل إيقاف التحرك العثماني نحوه. وكان ذلك كله وبالاً عليه لأنه لم يعد يملك القوة العسكرية التي تستطيع دحر جيوش السلطان، كما حصل في قرية عنجر مع الوالي مصطفى باشا.
وعلاوة على ذلك، فقد أصيب فخر الدين بضربة قاضية عندما بلغه مصرع ابنه علي وجنده في حاصبيّا، وهو الذي كان يعده للدفاع عنه في تلك الأيام العصيبة، وزاد الأمر سوءاً أن من كان معه من العسكر هرب من عنده بعد مقتل ابنه علي، وفي الوقت نفسه كان كجك باشا يتقدم في سهل البقاع بكل ثقة وطمأنينة، وتوجّه الأمير حسن إلى كجك أحمد باشا الذي استدرجه إليه مكراً وخديعة، بعدما حمل إليه 50.000 غرش ووعده بالانسحاب إلى دمشق والكف عن والده فخر الدين، وبعد أن تمكن الباشا أمر بقتل حسن المذكور وتقدم نحو قلعة نيحا في الشوف، لما بلغه أن فيها خزائن آل معن وشهاب ونساءهم وأولادهم.
وقد قام بوضع الألغام في جوانب القلعة وأفسد المياه المنحدرة إليها، فاستسلم من فيها من النساء والأولاد وصادر ما فيها من أموال وذخائر. وكان الباشا يريد العودة إلى دمشق لهجوم فصل الشتاء، ولكن لسوء حظ فخر الدين أسر أحد مماليكه الذي أخبر الباشا بأن فخر الدين في مغارة جزين، فصمم على التوجه إليها، وزرع فيها الألغام وأنذر من فيها بالتسليم، فخرج الأمير فخر الدين وأسرته. فعامله كجك باشا بما يليق به وسيَّره إلى القسطنطينية معززاً مكرماً، وكان ذلك في شهر شباط/فبراير من سنة 1635م.
وصل فخر الدين إلى القسطنطنينة يوم 12 آذار/مارس سنة 1635م، فعامله السلطان برفق هو ومن معه. ولم تكد تمضي أسابيع على ذلك حتى وصلت السلطان أنباء عن تمرد الأمير ملحم بن يونس، ابن أخي فخر الدين الذي أراد الثأر لعمه فقضى عليه. وأمر السلطان بقتل نساء فخر الدين اللائي كنَّ في دمشق، ثم أعقب ذلك بقتل الأمير فخر الدين وأولاده الثلاثة؛ بلكك وحيدر ومنصور، ولم يبق من ذريته إِلا ولده الأمير حسين الذي أُبقي عليه لصغر سنه، وكان مقتل فخر الدين يوم 13 نيسان/أبريل 1635م.
أعمال فخر الدين العمرانية والحضارية
كان فخر الدين يعلم أن قوام إماراته بالأموال، وكان يرى أن إرهاق كاهل الفلاحين بالرسوم والضرائب هو الذي دفعهم إلى مغادرة قراهم، وإلى تدهور الزراعة التي كانت المصدر الرئيسي للدخل في ذلك الوقت، لذلك عمد إلى تطبيق نظام ضريبي عادل ورعاية الريف والفلاحين وعدم إرهاقهم بالمصادرات والمظالم، وشجّع التوسّع في بعض الزراعات الصناعيّة مثل شجر التوت والقطن والأشنان وقصب السكر والغابات والأحراج. إضافة إلى الحبوب والفواكه والورود وأشجار الزينة. وقد أدّى ذلك إلى قيام صناعات مهمة، مثل صناعة الحرير والمنسوجات الحريرية والقطنية والصوفية والكتَّانية، وصناعة الزيوت والصابون والزجاج والصناعات الخشبية والجلدية والمعدنية.
وكان للصناعات الحربية عناية خاصّة، فقد استقدم «الخبراء» الأجانب إلى بلاده وأنشأ فيها معامل لإنتاج الأسلحة المختلفة، وسرعان ما تعلم الناس صبّ الأسلحة وإعداد الذخائر الحربية والمتفجّرات، ولم يكتف بذلك بل استورد ما كان ينقصُه من السلاح والعتاد حتى صارت لديه قوّة عسكرية كبرى متمثلة بجيشٍ يزيد على 100.000 رجل مسلحين بأفضل السّلاح. ومن جهة أخرى اعتنى فخر الدين بإقامة المنشآت العسكرية والمدنيّة في عشرات المدن والقرى التابعة له، ففي بيروت بنى قصراً كبيراً، وصار فيما بعد سراي الحكومة، وبنى في بيروت حمّاماً واسعاً كان الحمام الوحيد فيها عندما زارها الشيخ عبد الغني النابلسي، وبنى في صيدا قصراً صار هو الآخر مقراً للحكومة، كما بنى الجامع البرّاني خارج البوابة، وبنى فيها أيضاً ما يعرف بخان الإفرنج، وجدّد في دير القمر، المسجد الجامع الذي أنشأه جدُّه عثمان الأول المعني سنة 1493م. وبنى فيها «قصر الخرج» بعد رجوعه من أوربا، والقيسارية الكبرى لصناعة المنسوجات الحريرية، وبنى فيها حماماً فيه عشرون مقصورة. وعلاوة على ذلك فقد بنى ورمّم حصوناً وقلاعاً ومساجد في بعلبك وقبّ إلياس وشعيف قيرون وشعيف أرنون وصلخد والكرك والمرقب وحصن الأكراد والمسيلحة وجبيل وجزّين والصبيبة «بانياس» وقلعة تدمر القديمة وغيرها، ولا يزال كثير من آثاره ماثلاً للعيان حتى اليوم.
كاميليا أبو جبل
(980-1045هـ/1572-1635م)
فخر الدين بن قرقماز بن فخر الدين الأول، من آل معن، من أكبر أمراء هذه الأسرة، كان لبعض أسلافه في أيام الحروب الصليبية شأن. ولد في بعقلين، في منطقة الشوف. والدته الأميرة نسب الخازنية من قرية عبية. مات أبوه سنة 1584 وهو في الثانية عشرة، فعهدت أمه به وبأخيه يونس إلى آل الخازن في كسروان، وبقيا هناك حتى بلغا سن الرشد. وكان لأمه الأميرة نسب الخازنية أثر بارز في نشأته وتربيته وتوجيهه، وهي التي أسهمت في شهرة فخر الدين ونجاحه، وكانت الساعد الأيمن له، وكان يحترمها ويقدرها، ولا يبرم أمراً دون مشورتها، وهي التي أشارت عليه بالقضاء على آل سيفا، وباللجوء إلى أوربا، وأدارت شؤون الجبل في غيابه، وسجنت مراراً. وقابلت الأمراء والولاة العثمانيين حتى أصدر السلطان أمره بالعفو عن ولدها، وكان لوفاتها سنة 1633م أثر كبير في نفس ولدها فخر الدين الذي شعر بأن ركناً مكيناً من حياته قد انهار.
وقد وصفه مؤرخوه أنه كان مهاباً جليلاً، يعطي الجزيل، قوي العزم، شديد الحزم، حسن التدبير، يعطف على الغني والفقير على حد سواء، متواضعاً، حليماً عند الغضب، يصغي إلى المظلوم وينصفه من ظالمه. وكان يصلي ويصوم رمضان ويعامل جميع طوائف لبنان الكثيرة بالتسامح والمحبة، حتى إنه أطلق لحاخامات اليهود حريتهم في ممارسة شعائرهم وطقوسهم الدينية فأحبوه وآزروه.
وقد بنى في لبنان وفلسطين مساجد كثيرة لا تزال إلى اليوم وجعل ابنه علياً أميراً للحج، ومع ذلك فإن هناك من يرى أنه لم يكن مسلماً، شأنه في ذلك شأن الأمير بشير الشهابي الثاني.
تولى فخر الدين إمارة الشوف سنة 1590م، وشرع بعد ذلك بضم بيروت وصيدا وطرابلس والبقاع وصفد وطبريا والناصرة وغيرها.
وفي سنة 1608م وقع معاهدة مع فرديناند دوق توسكانا الأكبر، وكانت فيها بنود سرية ضد الدولة العثمانية وهو ما لم يُسبق إليه من قبل. وفي سنة 1613م هُزِم فخر الدين أمام القوات العثمانية فالتجأ إلى حلفائه في توسكانا مع أهله، وبقي هناك خمس سنين، أصبح في أثنائها من أشهر رجال الشرق في نظر الأوربيين لما كتبه عنه الشعراء والرحالة والأدباء.
في أيلول/سبتمبر سنة 1618م عاد إلى إمارته، وكان همه إعادة بنائها وتصفية الحساب مع ألد أعدائه آل سيفا في طرابلس، وقد تم له ما أراد في كانون الأول/ديسمبر 1618م عندما هزم عدوه ابن سيفا ودحر جيشه ودمر قصوره واستباح طرابلس أربعين يوماً كما يذكر مؤرخوه أنفسهم، ولم يتركه إلا بعد أن فرض عليه مبلغاً كبيراً من المال، واستولى على مقاطعتي البترون وجبيل.
وفي سنة 1623م هزم مصطفى باشا والي دمشق وأسره، فرأى السلطان مراد أن من الأنسب مهادنته، فمنحه سنة 1624م لقب سلطان البر ووالي عربستان، لكنه لم يكن غافلاً عن تحالفاته وأطماعه. فلما جدد فخر الدين علاقاته بتوسكانا، وكثرت الشكاوى عليه من أمراء الجبل الآخرين وما أكثرهم، وماطل في دفع الأموال السلطانية، وأعاد بناء الحصون والقلاع والتوسع على حساب جيرانه، هذه العوامل أوغرت صدر السلطان مراد عليه، فقرر وضع حدّ نهائي له، وعهد إلى والي دمشق كجك أحمد باشا بقيادة الحملة العسكرية الكبرى ووضع نهاية لفخر الدين.
وصدرت الأوامر إلى والي حلب وأمراء طرابلس وغزة والقدس ونابلس واللجون وعجلون وحمص وحماة، أن يكونوا تحت إمرة والي دمشق كجك أحمد باشا، ولم يكتف السلطان مراد بذلك، بل سيّر أسطولاً ضخماً مقابل سواحل المدن التابعة لفخر الدين لمنع وصول أي إِمدادات له من حلفائه في توسكانا وغيرها، وتحرّكت الحملة يوم 12 صفر 1043هـ/9 آب 1633م، وكان الأمير فخر الدين قد قرر مسالمة الدولة العثمانية والانصياع لطلباتها أملاً منه في كسب الوقت، ولذلك لم يحاول التصدي للأسطول العثماني، ونفذ طلبات كجك أحمد باشا، ووزع قواته الكثيرة على المدن والقلاع على أمل إيقاف التحرك العثماني نحوه. وكان ذلك كله وبالاً عليه لأنه لم يعد يملك القوة العسكرية التي تستطيع دحر جيوش السلطان، كما حصل في قرية عنجر مع الوالي مصطفى باشا.
وعلاوة على ذلك، فقد أصيب فخر الدين بضربة قاضية عندما بلغه مصرع ابنه علي وجنده في حاصبيّا، وهو الذي كان يعده للدفاع عنه في تلك الأيام العصيبة، وزاد الأمر سوءاً أن من كان معه من العسكر هرب من عنده بعد مقتل ابنه علي، وفي الوقت نفسه كان كجك باشا يتقدم في سهل البقاع بكل ثقة وطمأنينة، وتوجّه الأمير حسن إلى كجك أحمد باشا الذي استدرجه إليه مكراً وخديعة، بعدما حمل إليه 50.000 غرش ووعده بالانسحاب إلى دمشق والكف عن والده فخر الدين، وبعد أن تمكن الباشا أمر بقتل حسن المذكور وتقدم نحو قلعة نيحا في الشوف، لما بلغه أن فيها خزائن آل معن وشهاب ونساءهم وأولادهم.
وقد قام بوضع الألغام في جوانب القلعة وأفسد المياه المنحدرة إليها، فاستسلم من فيها من النساء والأولاد وصادر ما فيها من أموال وذخائر. وكان الباشا يريد العودة إلى دمشق لهجوم فصل الشتاء، ولكن لسوء حظ فخر الدين أسر أحد مماليكه الذي أخبر الباشا بأن فخر الدين في مغارة جزين، فصمم على التوجه إليها، وزرع فيها الألغام وأنذر من فيها بالتسليم، فخرج الأمير فخر الدين وأسرته. فعامله كجك باشا بما يليق به وسيَّره إلى القسطنطينية معززاً مكرماً، وكان ذلك في شهر شباط/فبراير من سنة 1635م.
وصل فخر الدين إلى القسطنطنينة يوم 12 آذار/مارس سنة 1635م، فعامله السلطان برفق هو ومن معه. ولم تكد تمضي أسابيع على ذلك حتى وصلت السلطان أنباء عن تمرد الأمير ملحم بن يونس، ابن أخي فخر الدين الذي أراد الثأر لعمه فقضى عليه. وأمر السلطان بقتل نساء فخر الدين اللائي كنَّ في دمشق، ثم أعقب ذلك بقتل الأمير فخر الدين وأولاده الثلاثة؛ بلكك وحيدر ومنصور، ولم يبق من ذريته إِلا ولده الأمير حسين الذي أُبقي عليه لصغر سنه، وكان مقتل فخر الدين يوم 13 نيسان/أبريل 1635م.
أعمال فخر الدين العمرانية والحضارية
كان فخر الدين يعلم أن قوام إماراته بالأموال، وكان يرى أن إرهاق كاهل الفلاحين بالرسوم والضرائب هو الذي دفعهم إلى مغادرة قراهم، وإلى تدهور الزراعة التي كانت المصدر الرئيسي للدخل في ذلك الوقت، لذلك عمد إلى تطبيق نظام ضريبي عادل ورعاية الريف والفلاحين وعدم إرهاقهم بالمصادرات والمظالم، وشجّع التوسّع في بعض الزراعات الصناعيّة مثل شجر التوت والقطن والأشنان وقصب السكر والغابات والأحراج. إضافة إلى الحبوب والفواكه والورود وأشجار الزينة. وقد أدّى ذلك إلى قيام صناعات مهمة، مثل صناعة الحرير والمنسوجات الحريرية والقطنية والصوفية والكتَّانية، وصناعة الزيوت والصابون والزجاج والصناعات الخشبية والجلدية والمعدنية.
وكان للصناعات الحربية عناية خاصّة، فقد استقدم «الخبراء» الأجانب إلى بلاده وأنشأ فيها معامل لإنتاج الأسلحة المختلفة، وسرعان ما تعلم الناس صبّ الأسلحة وإعداد الذخائر الحربية والمتفجّرات، ولم يكتف بذلك بل استورد ما كان ينقصُه من السلاح والعتاد حتى صارت لديه قوّة عسكرية كبرى متمثلة بجيشٍ يزيد على 100.000 رجل مسلحين بأفضل السّلاح. ومن جهة أخرى اعتنى فخر الدين بإقامة المنشآت العسكرية والمدنيّة في عشرات المدن والقرى التابعة له، ففي بيروت بنى قصراً كبيراً، وصار فيما بعد سراي الحكومة، وبنى في بيروت حمّاماً واسعاً كان الحمام الوحيد فيها عندما زارها الشيخ عبد الغني النابلسي، وبنى في صيدا قصراً صار هو الآخر مقراً للحكومة، كما بنى الجامع البرّاني خارج البوابة، وبنى فيها أيضاً ما يعرف بخان الإفرنج، وجدّد في دير القمر، المسجد الجامع الذي أنشأه جدُّه عثمان الأول المعني سنة 1493م. وبنى فيها «قصر الخرج» بعد رجوعه من أوربا، والقيسارية الكبرى لصناعة المنسوجات الحريرية، وبنى فيها حماماً فيه عشرون مقصورة. وعلاوة على ذلك فقد بنى ورمّم حصوناً وقلاعاً ومساجد في بعلبك وقبّ إلياس وشعيف قيرون وشعيف أرنون وصلخد والكرك والمرقب وحصن الأكراد والمسيلحة وجبيل وجزّين والصبيبة «بانياس» وقلعة تدمر القديمة وغيرها، ولا يزال كثير من آثاره ماثلاً للعيان حتى اليوم.
كاميليا أبو جبل