فرويد (سيغموند -)
(1856-1939)
سيغموند فرويد Sigmund Freud طبيب أعصاب نمساوي ومؤسس التحليل النفسي psychoanalysis، ولد في بلدة فرايبرغ Freiberg الواقعة في تشيكيا حالياً، وكانت حينذاك تابعة للامبراطورية النمساوية، وتوفي في لندن. وهو سليل عائلة يهودية برجوازية، إذ كان والده ياكوب Jakob تاجر أصواف، تزوج ثلاث مرات، وكان جداً في الأربعين حين ولادة سيغموند، ذا نشأة وتربية أبوية صارمتين. أما والدته أمالْيِه ناتانْزون Amalie Nathansohn ذات العشرين عاماً حين الزواج، فكانت ذات تربية يهودية تقليدية، فلقّنت بِكرها أصول اليهودية وشعائرها، في حين كانت مربيته تشيكية كاثوليكية ناطقة بالألمانية تأخذه معها دائماً إلى القداسات الكنسية. وقد انعكست هذه الازدواجية في أولى دراساته حول الدين التي نشرها عام 1907 بعنوان «سلوكيات قسرية وممارسات دينية» Zwangshandlungen und Religionsübungen.
كان فرويد في الرابعة من عمره جينما اضطرت عائلته، بسبب مضايقات دينية وتجارية، إلى الهجرة إلى مدينة لايبزيغ Leipzig في ألمانيا، ثم إلى العودة بعد مدة قصيرة إلى ڤيينا عاصمة الامبراطورية، حيث عانى وعائلته من المضايقات اللاسامية، لدرجة أن فَقَدَ احترامه لوالده نتيجة خضوعه لاضطهاد «الغالبية المضللَّة». وعلى الرغم من ذلك كان فرويد دائماً الأول في صفوفه الدراسية، فدخل الجامعة وهو في السابعة عشرة ليدرس الطب. وقد أعجب بنظرية داروين في «النشوء والارتقاء» وجعلها مبدأه العام في تفسير الظواهر الحياتية، وتتلمذ مدة ست سنوات على يد العَّلامة إرنست بروكِّه Ernst Brücke القائل إنه لا يوجد في الجهاز العضوي من عمليات قابلة للتفسير سوى الكيمياوية والفيزيائية، فطبَّق فرويد هذا المبدأ على العمليات النفسية كافة. حصل عام 1881 على درجة الدكتوراه في الطب، لكنه لم يكن قادراً مادياً على افتتاح عيادة خاصة؛ فتابع العمل في الجامعة في قسم التجارب والتحاليل المخبرية، لكن المردود لم يقم بأوده، فقبل نصيحة بروكِّه ووساطته للعمل في قسم الأمراض العصبية في مستشفى خاص في ڤيينا، كما حصل على فرصة التقدم للدكتوراه الثانية Habilitation التي أهلَّته للتدريس في الجامعة، وكان موضوع الأطروحة في ميدان أسباب وعوارض الأمراض العصبية. وافتتح عيادته التخصصية العصبية، وطرد مربيته التي حمَّلها مسؤولية بعض اضطراباته العصبية، وتزوج من اليهودية مارتا بِرْنايز Martha Bernays التي التقاها قبل أربع سنوات وكتب لها تسعمئة رسالة، موافقاً على عقد قران يهودي رسمي ولكن من دون الشعائر التقليدية المرافقة. وكانت زيجة ناجحة بثلاثة أبناء وثلاث بنات.
عالج فرويد بعض المرضى في تلك المرحلة بالكوكايين، وحينما ثبت إخفاق العلاج فَقَدَ فرويد فرصة الحصول على منصب أستاذ بكرسي في الجامعة. فقدَّم له أستاذه بروكِّه منحة إلى باريس مدة خمسة شهور للتدرب على طريقة طبيب الأعصاب الفرنسي جان شاركو Jean Charcot في معالجة حالات الهستيريا بالتنويم المغنطيسي hypnotic suggestion. وعند عودته إلى ڤيينا لم تلق هذه الطريقة قبولاً في الأوساط الطبية، لكنه استخدمها مع مرضاه مطوراً إياها نحو طريقة التداعي الحر Freie Assoziation، حتى توصل إلى صياغة «نظرية الكبت» Verdrängungstheorie ثم طريقة التطهير Methode der Katharsis بين 1889-1891، وهي أساس التحليل النفسي. وقد استمر فرويد بالعمل في عيادته، وبنشر مقالاته وكتبه، وفي الجامعة حيث مُنح في عام 1902 مرتبة أستاذ فوق العادة ضَمِنت له راتباً تقاعدياً معقولاً. ومنذ عام 1908 صار مساعده الأول الطبيب النفسي السويسري كارل غوستاف يونغ[ر]C.G.Jung ما بين (1875-1961). وفي عام 1924 أصيب فرويد بسرطان في سقف الحلق، فأُجري له حتى وفاته أكثر من ثلاثين عملاً جراحياً، من دون جدوى. وعندما احتل النازيون النمسا عام 1938 أقنعه أصدقاؤه بالهروب إلى إنكلترا. وفي أيلول/سبتمبر عام 1939 أقنع فرويد طبيبه الإنكليزي الخاص بإعطائه جرعة زائدة من المورفين، ينهي بها حياته، فوافق الطبيب.
درس فرويد أهمية الدوافع والعواطف اللاشعورية والعوامل الجنسية ولاسيما في طور الطفولة، وتخصص في معالجة مشكلات الجهاز العصبي، ولاسيما الاضطرابات العصابية وكيفية علاجها، في وقت عجز فيه الأطباء عن فهمها ومعالجتها. وشاعت أفكاره في الأوساط العامة ونفذت بالتدريج إلى العلوم الإنسانية كلها، وتجاوز التحليل النفسي مجالات الطب وعلم النفس والأنثروبولوجيا، لينطبق على التربية والأدب والفن وعلم الأساطير.
منهج فرويد في التحليل النفسي
اهتم فرويد منذ البداية بالنفس البشرية، وبالأدب والفلسفة وأدب الأساطير القديمة إذ استطاع من مطالعاته أن يوظف هذا كله في نظريته (التحليل النفسي). وكانت نظريته وآراؤه تعد غريبة ومستهجنة في ذلك الحين. وعمل مع طبيب آخر كانت له شهرة في ڤيينا هو يوزِف بروير Joseph Breuer الذي اشترك معه في كتابة بحوث ودراسات عن الهستريا فنشرا كتاباً بعنوان «دراسات في الهستيريا»Studien über Hysterie عام (1895)، ويمكن أن يُعد ظهور هذا الكتاب بدءاً لتاريخ التحليل النفسي. وواصل فرويد بحوثه وحيداً بعد انفصاله عن بروير؛ لاختلافهما بشأن أهمية العامل الجنسي في الهستيريا. وكانت السنوات الأربع الأخيرة من القرن التاسع عشر أكثر السنوات إنتاجاً في حياته، طور فيها كثيراً من مفاهيم التحليل النفسي.
بدأ فرويد بالبحث عن علاج نفسي للمرضى العصابيين عوضاً من علاج الأعراض الجسمية الذي كان سائداً ورآه غير مجدٍ، فتبنى في البداية أسلوب التنويم المغنطيسي ثم رآه بعد ذلك غير مناسب لعدم وصول كل فرد إلى حالة النوم، إضافة إلى أن التنويم المغنطيسي يؤدي إلى شفاء مؤقت وظهور أعراض جديدة لاحقاً، وتوصل فرويد إلى طريقة «التداعي الحر»، وبحسب هذه الطريقة يستلقي المريض على أريكة ويشجعه فرويد على الحديث بكل ما يرد على ذهنه، ثم يحلل ما يحصل عليه من بيانات باحثاً ومؤكداً الرغبات والصراعات والمخاوف اللاشعورية التي يعانيها المريض، ويكون بذلك قد جلب ما هو لاشعوري عند المريض إلى الشعور والوعي. ورأى فرويد أن هذه الطريقة تساعد على تفسير سلوك المريض.
وانطلاقاً من ذلك كون فرويد نظرياته عن الشخصية السوية واللاسوية، واستمر في تنقيح ما كان يتوصل إليه بحسب ما أثبته له فحص المريض من ملاحظات، ومركزاً على المجالات اللاشعورية في الشخصية التي تتكون من ثلاثة نظم أساسية: الهو Id، والأنا Ego، والأنا الأعلى Super ego.
واعتقد فرويد أن اللاشعور أو مرحلة ما قبل الشعور مدفونة تحت الوعي ويمكن أن تستدعى بسهولة، وهي تدخل في منطقة الوعي (الشعور) في صورة متخفية، وتظهر في الأحلام وزلات اللسان والأخطاء.
وبحسب رأي فرويد فإن الحوافز والعوامل التي ساعدت على تكوين الشخصية والصراعات النفسية تميل إلى أن تكون لاشعورية. وأعطى الحوافز الجنسية دوراً مهماً في توليد كمية محدودة من الطاقة النفسية سماها الليبيدو libido، وهي عنده تساوي الطاقة الجسمية وإن كانت مختلفة عنها، وإذا لم تشبع هذه الطاقة فإنها تزيد الصراعات والتوتر، ولكي يظل الناس في حالة توازن فلابد من تفريغ هذا التوتر حتى لا يصل الكائن الحي إلى حالة الانفجار أو الشذوذ.
أعطى فرويد أهمية كبيرة للخبرات المبكرة التي يمر بها الأطفال في تكوين شخصياتهم والمراحل النفسية التي مروا فيها، وأطلق عليها المراحل «النفسية الجنسية» وقال إن هذه الطاقة الجنسية تتمركز في مناطق مختلفة من الجسم وفقاً لمراحل النمو (الفم، الشرج، الأعضاء التناسلية)، وإذا حرم الأطفال أو أفرطوا في مرحلة معينة في أحد المناطق الثلاث المذكورة فإن الليبيدو يتعطل ويتوقف في هذه المرحلة.
أعمال فرويد
كان فرويد غزير الإنتاج، وذا أسلوب نثري متميز حتى إنه حصل على جائزة غوته في الأدب سنة 1930. وكان على دراية باللغتين الإنكليزية والفرنسية، ودرس اللاتينية والإغريقية، وتعلم ذاتياً الإيطالية والإسبانية، وله 187 مؤلفاً بين المقالة والبحث والخطاب والكتاب، ومن أهم مؤلفاته: «تفسير الأحلام»Die Traumdeutung عام (1900)، «النكتة وعلاقتها باللاوعي»Der Witz und seine Beziehung zum Unbewussten عـام (1911)، «الطوطمية والتابو» Totem und Tabu عـام (1913)، «ثلاث مقالات في نظرية الجنس» Drei Abhandlungen zur Sexualtheorie عـام (1920)، «ما وراء مبدأ اللذة» Jenseits des Lustprinzips عام (1921)، «علم نفس الجماهير وتحليل الأنا» Massenpsychologie und Ich-Analyse عام (1921)، «الأنا والهو» Das Ich und das Es عـام (1923)، «محاضرات تمـهيديـة في التحـليـل النفسي» Vorlesungen zur Einführung in die Psychoanalyse عـام (1924)، «مستقبل وهـم»Die Zukunft einer Illusion عام (1927)، «دستويفسكي وقتل الأب»Dostojewski und die Vatertötung عـام (1928)، «عُسر الحضارة» Das Unbehagen in der Kultur عـام (1930)، «موسى والتوحيد» Der Mann Moses und die monotheistische Religion عام (1938).
الانتقادات الموجهة إلى نظرية فرويد
لم ينظر فرويد إلى أفكاره على أنها نهائية وتامة، فقد استمر طوال حياته يعدل فيها، ومع ذلك وجهت انتقادات إلى نظريته من أهمها:
ـ تركيزه على الدافع الجنسي.
ـ عدم إعطاء وزن مناسب للتأثيرات الاجتماعية والثقافية في مفهومه للشخص.
ـ هناك كثير من المصطلحات التي أتى بها فرويد ولا يمكن التحقق منها، مثل الهو، الليبيدو، الأنا العليا.
ـ افتقاره إلى الموضوعية والدقة والاتجاه العلمي في الأسس التي بنى عليها أفكار التحليل النفسي وأن ثمة قصوراً خطيراً في الخطوات التجريبية التي استخدمها فرويد في إثبات صدق فرضياته.
ـ وقوعه، كما يرى السلوكيون، في أخطاء منطقية ولاسيما في قوله إن الذكور في السنوات الأربع الأولى من عمرهم يميلون إلى الأم أكثر من ميلهم إلى الأب.
الفرويدية الجديدة
على الرغم من الأخطاء التي وقع فيها فرويد فإن نظريته في التحليل النفسي لم تمت، فما زال حتى اليوم بعض علماء النفس والطب النفسي يؤيدون أفكاره في التحليل النفسي، وقد استخدم المؤرخون أسلوبه في التحليل النفسي في تحليل شخصيات تاريخية بارزة مثل هتلر، ونيكسون، وفي الوقت نفسه أيد العلماء السلوكيون، أفكار الفرويدية الجديدة التي هي بمنزلة تعديل لنظريات فرويد في التحليل النفسي وتنقيحها، أمثال: ألفرد أدلرA.Adler ما يبن (1870-1937) الطبيب النفسي النمساوي، وكارل غوستاف يونغ، وعالمة التحليل النفسي الألمانية كارن هورني K.Horney، وإريك فرومE.Fromm ما بين (1900-1980) من علماء التحليل النفسي الألمان أيضاً، وهاري ستاك سوليفانH.S.Sullivan ما بين (1892-1949) الطبيب النفسي الأمريكي، وعارض هؤلاء فرويد في بعض أفكاره أو انفصلوا عنه بسبب مبالغته في تقدير أهمية الحياة الجنسية للإنسان، وركزوا على التأثيرات الثقافية والاجتماعية، وأن الناس يرثون اللاشعور الجمعي الذي يجمع ذكريات الأجداد وعلاقاتهم وخبراتهم، وأكدوا النسق الاجتماعي والاختلاف الثقافي وتأثير ذلك في الشخصية الإنسانية، وأعطوا الحرية والعدالة والحقيقة معاني وأهمية كبيرة في التحليل النفسي.
بقيت نظرية فرويد وأفكاره موضع جدل وتطوير وتحديث، واستمرت تأثيراتها واضحة في علم النفس والطب النفسي إضافة إلى الأدب والفن والفلسفة والميادين المرتبطة بها كنظرية فهم الشخصية والأمراض النفسية وعلاجها، في الوقت الذي ما زال ينظر إلى فرويد على أنه أحد عمالقة الفكر الحديث.
فرويد والأدب والفن
كان فرويد طوال مراحل عمره على صلة وثيقة بالحركة الثقافية عامة، وبالأدب والفن خاصة، وكان يرتبط بعلاقات شخصية متنوعة مع فناني وأدباء عصره في النمسا وألمانيا ويتابع الأدب الأوربي عن كثب. ولتحليل علاقته الوثيقة بالأدب لابد من متابعتها على صعيدين، فعلى صعيد التلقي كان فرويد قارئاً نهماً، فتعمق في قراءة التوراة والإنجيل بترجمة مارتين لوتر، كما قرأ الأدب الإغريقي وتوقف مطولاً عند سوفوكليس، وقرأ غوته الذي حفَّزته تجاربه العلمية على دراسة الطب، وسرڤانتس (ثربانتس) وهاينه وستندال وديدرو ونيتشه ودستويڤسكي. ووفرت له موضوعات الأدب العالمي إلى جانب أحلام وسيَر مرضاه مادة غنية للتوغل في آليات ومجريات النفس البشرية. ولاشك في أن صياغته المهمة لـ «عقدة أوديب» Oedipuskomplex تدين لأدباء سابقين، يأتي في مقدمتهم ديدرو. وعلى صعيد تاريخ الفكر يأتي فرويد في نهاية الحقبة الرومنسية (الإبداعية) إذ إنه تابع بطرائقه العلمية حركة «البحث عن الأنا» التي ميَّزت الأدب والفن الرومنسيين.
وتكمن أهمية فرويد البالغة في أدب القرن العشرين في أعمال مجموعة من كبار أدبائه من مثل جيمس جويس (المونولوغ الداخلي) ومارسيل بروست (تداعي الذكريات)، علماً أنه ليس ثمة ما يثبت بثقة أنهما اطّلعا على أعمال فرويد. وحتى زعْم السرياليين انتماءهم إلى فرويد، أبي تفسير الأحلام، يراه بعضهم نوعاً من العقلنة اللاحقة أكثر من كونه مصدراً لإلهامهم الفني. أما الأدباء الذيـن يتجلى تأثيـر فرويد في أعمالهم بصورة واضحة فهم: كافكا (الشعور بالذنب، الحاجة إلى العقاب)، وتوماس مَن (تفسير ومعالجة الأساطير كما في ثلاثيته الروائية «يوسف وإخوته Joseph und seine Brüder»)، وسارتر على الرغم من نأيه عنه فكرياً. ودخلت مصطلحات التحليل النفسي الفرويدي في صلب النقد الأدبي. ومن المعروف أن دراسة فرويد الشهيرة في تحليل شخصية ليوناردو داڤنشي من خلال تمثال «موسى» أسهمت لاحقاً في تأسيس ما عُرف بـ«علم الجمال الفرويدي» الذي عرضته وشرحته الباحثة الفرنسية سارة كوفمَن Sara Kofman في كتابها «طفولة الفن» L’enfance de l’art. إلا أن الأهم من هذا كله هو تأثير فرويد التنويري البالغ في طموح إنسان القرن العشرين إلى تحرير النفس وفهم أعماقها.
كمال أبو شهدا، نبيل الحفار
(1856-1939)
كان فرويد في الرابعة من عمره جينما اضطرت عائلته، بسبب مضايقات دينية وتجارية، إلى الهجرة إلى مدينة لايبزيغ Leipzig في ألمانيا، ثم إلى العودة بعد مدة قصيرة إلى ڤيينا عاصمة الامبراطورية، حيث عانى وعائلته من المضايقات اللاسامية، لدرجة أن فَقَدَ احترامه لوالده نتيجة خضوعه لاضطهاد «الغالبية المضللَّة». وعلى الرغم من ذلك كان فرويد دائماً الأول في صفوفه الدراسية، فدخل الجامعة وهو في السابعة عشرة ليدرس الطب. وقد أعجب بنظرية داروين في «النشوء والارتقاء» وجعلها مبدأه العام في تفسير الظواهر الحياتية، وتتلمذ مدة ست سنوات على يد العَّلامة إرنست بروكِّه Ernst Brücke القائل إنه لا يوجد في الجهاز العضوي من عمليات قابلة للتفسير سوى الكيمياوية والفيزيائية، فطبَّق فرويد هذا المبدأ على العمليات النفسية كافة. حصل عام 1881 على درجة الدكتوراه في الطب، لكنه لم يكن قادراً مادياً على افتتاح عيادة خاصة؛ فتابع العمل في الجامعة في قسم التجارب والتحاليل المخبرية، لكن المردود لم يقم بأوده، فقبل نصيحة بروكِّه ووساطته للعمل في قسم الأمراض العصبية في مستشفى خاص في ڤيينا، كما حصل على فرصة التقدم للدكتوراه الثانية Habilitation التي أهلَّته للتدريس في الجامعة، وكان موضوع الأطروحة في ميدان أسباب وعوارض الأمراض العصبية. وافتتح عيادته التخصصية العصبية، وطرد مربيته التي حمَّلها مسؤولية بعض اضطراباته العصبية، وتزوج من اليهودية مارتا بِرْنايز Martha Bernays التي التقاها قبل أربع سنوات وكتب لها تسعمئة رسالة، موافقاً على عقد قران يهودي رسمي ولكن من دون الشعائر التقليدية المرافقة. وكانت زيجة ناجحة بثلاثة أبناء وثلاث بنات.
عالج فرويد بعض المرضى في تلك المرحلة بالكوكايين، وحينما ثبت إخفاق العلاج فَقَدَ فرويد فرصة الحصول على منصب أستاذ بكرسي في الجامعة. فقدَّم له أستاذه بروكِّه منحة إلى باريس مدة خمسة شهور للتدرب على طريقة طبيب الأعصاب الفرنسي جان شاركو Jean Charcot في معالجة حالات الهستيريا بالتنويم المغنطيسي hypnotic suggestion. وعند عودته إلى ڤيينا لم تلق هذه الطريقة قبولاً في الأوساط الطبية، لكنه استخدمها مع مرضاه مطوراً إياها نحو طريقة التداعي الحر Freie Assoziation، حتى توصل إلى صياغة «نظرية الكبت» Verdrängungstheorie ثم طريقة التطهير Methode der Katharsis بين 1889-1891، وهي أساس التحليل النفسي. وقد استمر فرويد بالعمل في عيادته، وبنشر مقالاته وكتبه، وفي الجامعة حيث مُنح في عام 1902 مرتبة أستاذ فوق العادة ضَمِنت له راتباً تقاعدياً معقولاً. ومنذ عام 1908 صار مساعده الأول الطبيب النفسي السويسري كارل غوستاف يونغ[ر]C.G.Jung ما بين (1875-1961). وفي عام 1924 أصيب فرويد بسرطان في سقف الحلق، فأُجري له حتى وفاته أكثر من ثلاثين عملاً جراحياً، من دون جدوى. وعندما احتل النازيون النمسا عام 1938 أقنعه أصدقاؤه بالهروب إلى إنكلترا. وفي أيلول/سبتمبر عام 1939 أقنع فرويد طبيبه الإنكليزي الخاص بإعطائه جرعة زائدة من المورفين، ينهي بها حياته، فوافق الطبيب.
درس فرويد أهمية الدوافع والعواطف اللاشعورية والعوامل الجنسية ولاسيما في طور الطفولة، وتخصص في معالجة مشكلات الجهاز العصبي، ولاسيما الاضطرابات العصابية وكيفية علاجها، في وقت عجز فيه الأطباء عن فهمها ومعالجتها. وشاعت أفكاره في الأوساط العامة ونفذت بالتدريج إلى العلوم الإنسانية كلها، وتجاوز التحليل النفسي مجالات الطب وعلم النفس والأنثروبولوجيا، لينطبق على التربية والأدب والفن وعلم الأساطير.
منهج فرويد في التحليل النفسي
اهتم فرويد منذ البداية بالنفس البشرية، وبالأدب والفلسفة وأدب الأساطير القديمة إذ استطاع من مطالعاته أن يوظف هذا كله في نظريته (التحليل النفسي). وكانت نظريته وآراؤه تعد غريبة ومستهجنة في ذلك الحين. وعمل مع طبيب آخر كانت له شهرة في ڤيينا هو يوزِف بروير Joseph Breuer الذي اشترك معه في كتابة بحوث ودراسات عن الهستريا فنشرا كتاباً بعنوان «دراسات في الهستيريا»Studien über Hysterie عام (1895)، ويمكن أن يُعد ظهور هذا الكتاب بدءاً لتاريخ التحليل النفسي. وواصل فرويد بحوثه وحيداً بعد انفصاله عن بروير؛ لاختلافهما بشأن أهمية العامل الجنسي في الهستيريا. وكانت السنوات الأربع الأخيرة من القرن التاسع عشر أكثر السنوات إنتاجاً في حياته، طور فيها كثيراً من مفاهيم التحليل النفسي.
بدأ فرويد بالبحث عن علاج نفسي للمرضى العصابيين عوضاً من علاج الأعراض الجسمية الذي كان سائداً ورآه غير مجدٍ، فتبنى في البداية أسلوب التنويم المغنطيسي ثم رآه بعد ذلك غير مناسب لعدم وصول كل فرد إلى حالة النوم، إضافة إلى أن التنويم المغنطيسي يؤدي إلى شفاء مؤقت وظهور أعراض جديدة لاحقاً، وتوصل فرويد إلى طريقة «التداعي الحر»، وبحسب هذه الطريقة يستلقي المريض على أريكة ويشجعه فرويد على الحديث بكل ما يرد على ذهنه، ثم يحلل ما يحصل عليه من بيانات باحثاً ومؤكداً الرغبات والصراعات والمخاوف اللاشعورية التي يعانيها المريض، ويكون بذلك قد جلب ما هو لاشعوري عند المريض إلى الشعور والوعي. ورأى فرويد أن هذه الطريقة تساعد على تفسير سلوك المريض.
وانطلاقاً من ذلك كون فرويد نظرياته عن الشخصية السوية واللاسوية، واستمر في تنقيح ما كان يتوصل إليه بحسب ما أثبته له فحص المريض من ملاحظات، ومركزاً على المجالات اللاشعورية في الشخصية التي تتكون من ثلاثة نظم أساسية: الهو Id، والأنا Ego، والأنا الأعلى Super ego.
واعتقد فرويد أن اللاشعور أو مرحلة ما قبل الشعور مدفونة تحت الوعي ويمكن أن تستدعى بسهولة، وهي تدخل في منطقة الوعي (الشعور) في صورة متخفية، وتظهر في الأحلام وزلات اللسان والأخطاء.
وبحسب رأي فرويد فإن الحوافز والعوامل التي ساعدت على تكوين الشخصية والصراعات النفسية تميل إلى أن تكون لاشعورية. وأعطى الحوافز الجنسية دوراً مهماً في توليد كمية محدودة من الطاقة النفسية سماها الليبيدو libido، وهي عنده تساوي الطاقة الجسمية وإن كانت مختلفة عنها، وإذا لم تشبع هذه الطاقة فإنها تزيد الصراعات والتوتر، ولكي يظل الناس في حالة توازن فلابد من تفريغ هذا التوتر حتى لا يصل الكائن الحي إلى حالة الانفجار أو الشذوذ.
أعطى فرويد أهمية كبيرة للخبرات المبكرة التي يمر بها الأطفال في تكوين شخصياتهم والمراحل النفسية التي مروا فيها، وأطلق عليها المراحل «النفسية الجنسية» وقال إن هذه الطاقة الجنسية تتمركز في مناطق مختلفة من الجسم وفقاً لمراحل النمو (الفم، الشرج، الأعضاء التناسلية)، وإذا حرم الأطفال أو أفرطوا في مرحلة معينة في أحد المناطق الثلاث المذكورة فإن الليبيدو يتعطل ويتوقف في هذه المرحلة.
أعمال فرويد
كان فرويد غزير الإنتاج، وذا أسلوب نثري متميز حتى إنه حصل على جائزة غوته في الأدب سنة 1930. وكان على دراية باللغتين الإنكليزية والفرنسية، ودرس اللاتينية والإغريقية، وتعلم ذاتياً الإيطالية والإسبانية، وله 187 مؤلفاً بين المقالة والبحث والخطاب والكتاب، ومن أهم مؤلفاته: «تفسير الأحلام»Die Traumdeutung عام (1900)، «النكتة وعلاقتها باللاوعي»Der Witz und seine Beziehung zum Unbewussten عـام (1911)، «الطوطمية والتابو» Totem und Tabu عـام (1913)، «ثلاث مقالات في نظرية الجنس» Drei Abhandlungen zur Sexualtheorie عـام (1920)، «ما وراء مبدأ اللذة» Jenseits des Lustprinzips عام (1921)، «علم نفس الجماهير وتحليل الأنا» Massenpsychologie und Ich-Analyse عام (1921)، «الأنا والهو» Das Ich und das Es عـام (1923)، «محاضرات تمـهيديـة في التحـليـل النفسي» Vorlesungen zur Einführung in die Psychoanalyse عـام (1924)، «مستقبل وهـم»Die Zukunft einer Illusion عام (1927)، «دستويفسكي وقتل الأب»Dostojewski und die Vatertötung عـام (1928)، «عُسر الحضارة» Das Unbehagen in der Kultur عـام (1930)، «موسى والتوحيد» Der Mann Moses und die monotheistische Religion عام (1938).
الانتقادات الموجهة إلى نظرية فرويد
لم ينظر فرويد إلى أفكاره على أنها نهائية وتامة، فقد استمر طوال حياته يعدل فيها، ومع ذلك وجهت انتقادات إلى نظريته من أهمها:
ـ تركيزه على الدافع الجنسي.
ـ عدم إعطاء وزن مناسب للتأثيرات الاجتماعية والثقافية في مفهومه للشخص.
ـ هناك كثير من المصطلحات التي أتى بها فرويد ولا يمكن التحقق منها، مثل الهو، الليبيدو، الأنا العليا.
ـ افتقاره إلى الموضوعية والدقة والاتجاه العلمي في الأسس التي بنى عليها أفكار التحليل النفسي وأن ثمة قصوراً خطيراً في الخطوات التجريبية التي استخدمها فرويد في إثبات صدق فرضياته.
ـ وقوعه، كما يرى السلوكيون، في أخطاء منطقية ولاسيما في قوله إن الذكور في السنوات الأربع الأولى من عمرهم يميلون إلى الأم أكثر من ميلهم إلى الأب.
الفرويدية الجديدة
على الرغم من الأخطاء التي وقع فيها فرويد فإن نظريته في التحليل النفسي لم تمت، فما زال حتى اليوم بعض علماء النفس والطب النفسي يؤيدون أفكاره في التحليل النفسي، وقد استخدم المؤرخون أسلوبه في التحليل النفسي في تحليل شخصيات تاريخية بارزة مثل هتلر، ونيكسون، وفي الوقت نفسه أيد العلماء السلوكيون، أفكار الفرويدية الجديدة التي هي بمنزلة تعديل لنظريات فرويد في التحليل النفسي وتنقيحها، أمثال: ألفرد أدلرA.Adler ما يبن (1870-1937) الطبيب النفسي النمساوي، وكارل غوستاف يونغ، وعالمة التحليل النفسي الألمانية كارن هورني K.Horney، وإريك فرومE.Fromm ما بين (1900-1980) من علماء التحليل النفسي الألمان أيضاً، وهاري ستاك سوليفانH.S.Sullivan ما بين (1892-1949) الطبيب النفسي الأمريكي، وعارض هؤلاء فرويد في بعض أفكاره أو انفصلوا عنه بسبب مبالغته في تقدير أهمية الحياة الجنسية للإنسان، وركزوا على التأثيرات الثقافية والاجتماعية، وأن الناس يرثون اللاشعور الجمعي الذي يجمع ذكريات الأجداد وعلاقاتهم وخبراتهم، وأكدوا النسق الاجتماعي والاختلاف الثقافي وتأثير ذلك في الشخصية الإنسانية، وأعطوا الحرية والعدالة والحقيقة معاني وأهمية كبيرة في التحليل النفسي.
بقيت نظرية فرويد وأفكاره موضع جدل وتطوير وتحديث، واستمرت تأثيراتها واضحة في علم النفس والطب النفسي إضافة إلى الأدب والفن والفلسفة والميادين المرتبطة بها كنظرية فهم الشخصية والأمراض النفسية وعلاجها، في الوقت الذي ما زال ينظر إلى فرويد على أنه أحد عمالقة الفكر الحديث.
فرويد والأدب والفن
كان فرويد طوال مراحل عمره على صلة وثيقة بالحركة الثقافية عامة، وبالأدب والفن خاصة، وكان يرتبط بعلاقات شخصية متنوعة مع فناني وأدباء عصره في النمسا وألمانيا ويتابع الأدب الأوربي عن كثب. ولتحليل علاقته الوثيقة بالأدب لابد من متابعتها على صعيدين، فعلى صعيد التلقي كان فرويد قارئاً نهماً، فتعمق في قراءة التوراة والإنجيل بترجمة مارتين لوتر، كما قرأ الأدب الإغريقي وتوقف مطولاً عند سوفوكليس، وقرأ غوته الذي حفَّزته تجاربه العلمية على دراسة الطب، وسرڤانتس (ثربانتس) وهاينه وستندال وديدرو ونيتشه ودستويڤسكي. ووفرت له موضوعات الأدب العالمي إلى جانب أحلام وسيَر مرضاه مادة غنية للتوغل في آليات ومجريات النفس البشرية. ولاشك في أن صياغته المهمة لـ «عقدة أوديب» Oedipuskomplex تدين لأدباء سابقين، يأتي في مقدمتهم ديدرو. وعلى صعيد تاريخ الفكر يأتي فرويد في نهاية الحقبة الرومنسية (الإبداعية) إذ إنه تابع بطرائقه العلمية حركة «البحث عن الأنا» التي ميَّزت الأدب والفن الرومنسيين.
وتكمن أهمية فرويد البالغة في أدب القرن العشرين في أعمال مجموعة من كبار أدبائه من مثل جيمس جويس (المونولوغ الداخلي) ومارسيل بروست (تداعي الذكريات)، علماً أنه ليس ثمة ما يثبت بثقة أنهما اطّلعا على أعمال فرويد. وحتى زعْم السرياليين انتماءهم إلى فرويد، أبي تفسير الأحلام، يراه بعضهم نوعاً من العقلنة اللاحقة أكثر من كونه مصدراً لإلهامهم الفني. أما الأدباء الذيـن يتجلى تأثيـر فرويد في أعمالهم بصورة واضحة فهم: كافكا (الشعور بالذنب، الحاجة إلى العقاب)، وتوماس مَن (تفسير ومعالجة الأساطير كما في ثلاثيته الروائية «يوسف وإخوته Joseph und seine Brüder»)، وسارتر على الرغم من نأيه عنه فكرياً. ودخلت مصطلحات التحليل النفسي الفرويدي في صلب النقد الأدبي. ومن المعروف أن دراسة فرويد الشهيرة في تحليل شخصية ليوناردو داڤنشي من خلال تمثال «موسى» أسهمت لاحقاً في تأسيس ما عُرف بـ«علم الجمال الفرويدي» الذي عرضته وشرحته الباحثة الفرنسية سارة كوفمَن Sara Kofman في كتابها «طفولة الفن» L’enfance de l’art. إلا أن الأهم من هذا كله هو تأثير فرويد التنويري البالغ في طموح إنسان القرن العشرين إلى تحرير النفس وفهم أعماقها.
كمال أبو شهدا، نبيل الحفار