النقل الجديد للواقع
سبق لي أن قلت أن الشبان الذين بدوا أثناء الحرب دعاة لطريقة جديدة في التصوير ، قد اختاروا اتجاههم هذا قبل اندلاعها . فمنذ عام ۱۹۲۷ صور ( لابيك Lapicgue ) وهو أكبر هم. اسمها : « تحية إلى بالسترينا وهي عمل في تجريدي تماماً . بمدة ما ، أخذ يهتم بمشاهد العالم الخارجي . ولكنه لم يقصر انتاجه على اللوحات الواقعية ، بل ابتعد أيضاً عن مظاهر الحياة ، وراح ينشئ لوحاته مستعيناً بعناصر محرفة .
أما استيف Esteve فقد تقرر مصيره الفني نهائياً منذ عام ۱۹۲۹ . ولم يكن له بعد ذلك عودة ما إلى الوراء . ومهما أطنبوا حواليه في مدح اولئك الذين يؤثرون احترام المبادئ المجربة على روح المغامرة ، فهو يخطو خطواته الأولى على طريق ( الوهمي ) مستنداً إلى ليجيه الذي بعد الأقل تساهلاً والأكثر تشدداً ، بين جميع الفنانين الذي خلقوا التصوير الحديث. وبعد ذلك انضم تأثير بونار وماتيس إلى تأثير ليجيه . ولكن استيف تمثل كل هذه التأثيرات ولم ينجح أي منها في إبهاره ، وظل نحو عشر سنوات في محاولات متنوعة. فنراه يجرب مجالات ولكنه لا يطيل المكوث في واحد منها ، ونراه يفتتح سبلاً ، يأتي غيره فيما بعد ويسلكها . ونراه ، بصورة خاصة ، ينتج لوحات لم تكن مجرد محاولات : أو مجرد التبشير بفن جديد . وإذا كانت الأشخاص تقتصر في بعض لوحاته المصورة عام ۱۹۲۹ ، على كونها رسمات ظل ذات ألوان فاقعة ، فإن وجوه هذه الأشخاص بدأت في ١٩٣٦ تظهر مثقلة بالقلق والألم . كما أن أشكالها بدت مضعضعة ، وأصبحت ألوانها صارخة تكاد تمزق النظر . ذلك أن الفنان قد اضطرب إلى الأعماق وقعت في اسبانيا ، فراحت صوره تعكس مشاغله ، بدون قصد منه وهذه الفترة هي الفترة التعبيرية الوحيدة في كل انتاجه ، الفترة الوحيدة التي يمكن أن تذكرنا ببيكاسو . مع أنه لا يشعر بأي تجانس الأخير . وهي على كل حال فترة قصيرة ، إذ تجاوزها منذ ١٩٣٧ . بيد أن الاشخاص في اللوحات التي جاءت بعدئذ، يبدون أكثر من ذي قبل، متحسسين بالعواطف ولكنهم يظهرون ذلك من خلال شكل بسيط التركيب لا يسمح بإبراز حالاتهم النفسية بصورة دقيقة .
وإذا كان استيف أكثر ثقافة وأثبت خطى من جميع المصورين الذين فرضوا أنفسهم على انتباه الجمهور في مطالع الأربعينات ، بيد أن ثمة فنانين مثل « بينيون Pignon » ، و « بازین Bazaine و لوموال Le Moal ، تحرروا قبل الحرب من فن الجمال الواقعي. وأنتجوا أعمالاً فنية حقيقة بالتقدير . على أنهم لم يشكلوا ، إلا في حوالي ١٩٤١ ، تياراً فنياً له من الأهمية ما يجعله يحتل مكانه في التاريخ .
ولكن ! بم يتميز هذا التيار ؟ نستطيع القول باختصار ، أن ممثليه يريدون متابعة طرق الملونين » و « التعكيبيين » بآن واحد ، وأنهم يريدون الجمع بين ماجاء به هؤلاء واولئك . إلا أنه من الأصح القول بأنهم كانوا يعالجون مشاكل مشابهة للتي كان أسلافهم منشغلين بها . فهم لم يضلوا في متاهات الاسلوب الانتقائي ولم يسعوا إلى مزج . وأن ما كانوا يصبون إليه من عمال أسلافهم هو المنشطات أكثر من النماذج . والواقع أنهم لم يشكلوا مدرسة خاصة وإذا كانت لوحاتهم تتجاور في المعارض ، فلا يعني ذلك بالضرورة أنهم يتكلمون لغة واحدة. بل ان الفروق بينهم ازدادت بعد ١٩٤٦ ، يتخلى عن تصوير الأشياء بشكل يتعرف به بعضهم عليها ، بينما استمر البعض الآخر في الانجذاب إلى امكانيات الطرق الحديثة في تصوير الأشياء .
وبين هؤلاء ليس من فنان يهتم اهتماماً واعياً باستثمار تركة الوحشيين والتكعيبيين مثل ( جيشيا Gischia ). وإن الدقة الهندسية في الشكل تبرز عنده بقدر ما تبرز نقاوة اللون. وهذا يذكرنا بفنان مثل ليجيه يسيره الذكاء أكثر من الغريزة. ويذكرنا بفنان مثل ماتيس يستلهم التفكير أكثر مما يستلهم الشهوانية . وعلى كل حال فإن جيشيا أخذ يبسط بصورة تدريجية تصويره للاشخاص وللطبيعة الصامتة ، لوحاته هذه مجرد رسوم نهائية ذات نطاقات متعرجة . وليس في هذا الفن أي مكان للصدفة أو للتقريب . وكل عنصر من عناصره يوحي بأنه وضع عن قصد . وليس من الممكن الانكار بأن خلقاً بهذا الذكاء يرافقه بعض البرودة. ذلك فإن في فن جيشيا هوى . ولئن كان كلفا ومع بالوضوح والصفاء ، فإن هذا الكلف لا يمنعه من تنويع الأشكال والألوان التي تؤثر في النفس تارة عن طريق بريقها وطوراً عن طريق تأنقها المتستر .
أما لا بيك Lapicque فيدهشنا لأول وهلة بما فيه من اندفاع ، غير أن التفكير يلعب لديه أيضاً دوراً من أهم الأدوار. فعندما صور حوالي ١٩٤٠ لوحته « جان دارك تعبر نهر اللوار » أظهر لنا خوذة جان دارك وأظهر في الوقت نفسه وجه جان الذي تغطيه الخوذة فلا يكتفي لابيك إذن بأن يرينا ما يقع تحت البصر فحسب ، بل يظهر لنا أيضاً ماهو موجود في فكره هو ، وذلك اسوة بالتكعيبيين ، ولكن على طريقة مختلفة عن طريقتهم. إذا ماصور مزرعة ، أظهرها كما يعرفها من طاف حولها ، ورآها من جميع جوانبها . انه يجعلها شفافة ، بحيث نراها ونرى في الوقت نفسه الأشجار المنتصبة خلفها ، وإذا صور سباق قوارب أو سباق جياد ، خيل لمن يرى اللوحة أن المصور قد جرى من مكان إلى مكان ليلتقط هذا المنظر هنا ، وذاك المنظر هناك وثمة بعض التفاصيل أخذت عن بعد ، وثمة بعضها أخذ . عن قرب ( أحياناً بواسطة منظار ) . وان الأشياء التي تتعاقب تبرز صورها لنا في الوقت نفسه .
وكل هذا يشهد بأن لابيك بعيد عن أن يكون غير مبال بالموضوع . بل قد يطيب له أن يختار موضوعه من مجال كان من المتفق عليه تقريباً أن الفنان الحديث غير خليق بأن يبحث فيه عن موضوع ، أي مجال التاريخ . ففي ۱۹۳۵ صور لوحة ( استيلاء الأميرال كوربيه على ميكونغ). وفي ١٩٤٩ عالج معركة واترلو . وفي ١٩٥٠ صور عدة شخصيات تاريخية مثل « هنري الثالث» و «غريما لدى» و « شارل داكيتين » في لوحات سماها بأسماء هؤلاء الرجال . إلا أن الأشكال في هذه الأعمال الأخيرة ، وكذلك الألوان وهي نقية وحارة تتمتع باستقلال يبلغ أحياناً درجة يصعب معها على الناظر فهم تركيب الصورة . بيد أنه ،
سبق لي أن قلت أن الشبان الذين بدوا أثناء الحرب دعاة لطريقة جديدة في التصوير ، قد اختاروا اتجاههم هذا قبل اندلاعها . فمنذ عام ۱۹۲۷ صور ( لابيك Lapicgue ) وهو أكبر هم. اسمها : « تحية إلى بالسترينا وهي عمل في تجريدي تماماً . بمدة ما ، أخذ يهتم بمشاهد العالم الخارجي . ولكنه لم يقصر انتاجه على اللوحات الواقعية ، بل ابتعد أيضاً عن مظاهر الحياة ، وراح ينشئ لوحاته مستعيناً بعناصر محرفة .
أما استيف Esteve فقد تقرر مصيره الفني نهائياً منذ عام ۱۹۲۹ . ولم يكن له بعد ذلك عودة ما إلى الوراء . ومهما أطنبوا حواليه في مدح اولئك الذين يؤثرون احترام المبادئ المجربة على روح المغامرة ، فهو يخطو خطواته الأولى على طريق ( الوهمي ) مستنداً إلى ليجيه الذي بعد الأقل تساهلاً والأكثر تشدداً ، بين جميع الفنانين الذي خلقوا التصوير الحديث. وبعد ذلك انضم تأثير بونار وماتيس إلى تأثير ليجيه . ولكن استيف تمثل كل هذه التأثيرات ولم ينجح أي منها في إبهاره ، وظل نحو عشر سنوات في محاولات متنوعة. فنراه يجرب مجالات ولكنه لا يطيل المكوث في واحد منها ، ونراه يفتتح سبلاً ، يأتي غيره فيما بعد ويسلكها . ونراه ، بصورة خاصة ، ينتج لوحات لم تكن مجرد محاولات : أو مجرد التبشير بفن جديد . وإذا كانت الأشخاص تقتصر في بعض لوحاته المصورة عام ۱۹۲۹ ، على كونها رسمات ظل ذات ألوان فاقعة ، فإن وجوه هذه الأشخاص بدأت في ١٩٣٦ تظهر مثقلة بالقلق والألم . كما أن أشكالها بدت مضعضعة ، وأصبحت ألوانها صارخة تكاد تمزق النظر . ذلك أن الفنان قد اضطرب إلى الأعماق وقعت في اسبانيا ، فراحت صوره تعكس مشاغله ، بدون قصد منه وهذه الفترة هي الفترة التعبيرية الوحيدة في كل انتاجه ، الفترة الوحيدة التي يمكن أن تذكرنا ببيكاسو . مع أنه لا يشعر بأي تجانس الأخير . وهي على كل حال فترة قصيرة ، إذ تجاوزها منذ ١٩٣٧ . بيد أن الاشخاص في اللوحات التي جاءت بعدئذ، يبدون أكثر من ذي قبل، متحسسين بالعواطف ولكنهم يظهرون ذلك من خلال شكل بسيط التركيب لا يسمح بإبراز حالاتهم النفسية بصورة دقيقة .
وإذا كان استيف أكثر ثقافة وأثبت خطى من جميع المصورين الذين فرضوا أنفسهم على انتباه الجمهور في مطالع الأربعينات ، بيد أن ثمة فنانين مثل « بينيون Pignon » ، و « بازین Bazaine و لوموال Le Moal ، تحرروا قبل الحرب من فن الجمال الواقعي. وأنتجوا أعمالاً فنية حقيقة بالتقدير . على أنهم لم يشكلوا ، إلا في حوالي ١٩٤١ ، تياراً فنياً له من الأهمية ما يجعله يحتل مكانه في التاريخ .
ولكن ! بم يتميز هذا التيار ؟ نستطيع القول باختصار ، أن ممثليه يريدون متابعة طرق الملونين » و « التعكيبيين » بآن واحد ، وأنهم يريدون الجمع بين ماجاء به هؤلاء واولئك . إلا أنه من الأصح القول بأنهم كانوا يعالجون مشاكل مشابهة للتي كان أسلافهم منشغلين بها . فهم لم يضلوا في متاهات الاسلوب الانتقائي ولم يسعوا إلى مزج . وأن ما كانوا يصبون إليه من عمال أسلافهم هو المنشطات أكثر من النماذج . والواقع أنهم لم يشكلوا مدرسة خاصة وإذا كانت لوحاتهم تتجاور في المعارض ، فلا يعني ذلك بالضرورة أنهم يتكلمون لغة واحدة. بل ان الفروق بينهم ازدادت بعد ١٩٤٦ ، يتخلى عن تصوير الأشياء بشكل يتعرف به بعضهم عليها ، بينما استمر البعض الآخر في الانجذاب إلى امكانيات الطرق الحديثة في تصوير الأشياء .
وبين هؤلاء ليس من فنان يهتم اهتماماً واعياً باستثمار تركة الوحشيين والتكعيبيين مثل ( جيشيا Gischia ). وإن الدقة الهندسية في الشكل تبرز عنده بقدر ما تبرز نقاوة اللون. وهذا يذكرنا بفنان مثل ليجيه يسيره الذكاء أكثر من الغريزة. ويذكرنا بفنان مثل ماتيس يستلهم التفكير أكثر مما يستلهم الشهوانية . وعلى كل حال فإن جيشيا أخذ يبسط بصورة تدريجية تصويره للاشخاص وللطبيعة الصامتة ، لوحاته هذه مجرد رسوم نهائية ذات نطاقات متعرجة . وليس في هذا الفن أي مكان للصدفة أو للتقريب . وكل عنصر من عناصره يوحي بأنه وضع عن قصد . وليس من الممكن الانكار بأن خلقاً بهذا الذكاء يرافقه بعض البرودة. ذلك فإن في فن جيشيا هوى . ولئن كان كلفا ومع بالوضوح والصفاء ، فإن هذا الكلف لا يمنعه من تنويع الأشكال والألوان التي تؤثر في النفس تارة عن طريق بريقها وطوراً عن طريق تأنقها المتستر .
أما لا بيك Lapicque فيدهشنا لأول وهلة بما فيه من اندفاع ، غير أن التفكير يلعب لديه أيضاً دوراً من أهم الأدوار. فعندما صور حوالي ١٩٤٠ لوحته « جان دارك تعبر نهر اللوار » أظهر لنا خوذة جان دارك وأظهر في الوقت نفسه وجه جان الذي تغطيه الخوذة فلا يكتفي لابيك إذن بأن يرينا ما يقع تحت البصر فحسب ، بل يظهر لنا أيضاً ماهو موجود في فكره هو ، وذلك اسوة بالتكعيبيين ، ولكن على طريقة مختلفة عن طريقتهم. إذا ماصور مزرعة ، أظهرها كما يعرفها من طاف حولها ، ورآها من جميع جوانبها . انه يجعلها شفافة ، بحيث نراها ونرى في الوقت نفسه الأشجار المنتصبة خلفها ، وإذا صور سباق قوارب أو سباق جياد ، خيل لمن يرى اللوحة أن المصور قد جرى من مكان إلى مكان ليلتقط هذا المنظر هنا ، وذاك المنظر هناك وثمة بعض التفاصيل أخذت عن بعد ، وثمة بعضها أخذ . عن قرب ( أحياناً بواسطة منظار ) . وان الأشياء التي تتعاقب تبرز صورها لنا في الوقت نفسه .
وكل هذا يشهد بأن لابيك بعيد عن أن يكون غير مبال بالموضوع . بل قد يطيب له أن يختار موضوعه من مجال كان من المتفق عليه تقريباً أن الفنان الحديث غير خليق بأن يبحث فيه عن موضوع ، أي مجال التاريخ . ففي ۱۹۳۵ صور لوحة ( استيلاء الأميرال كوربيه على ميكونغ). وفي ١٩٤٩ عالج معركة واترلو . وفي ١٩٥٠ صور عدة شخصيات تاريخية مثل « هنري الثالث» و «غريما لدى» و « شارل داكيتين » في لوحات سماها بأسماء هؤلاء الرجال . إلا أن الأشكال في هذه الأعمال الأخيرة ، وكذلك الألوان وهي نقية وحارة تتمتع باستقلال يبلغ أحياناً درجة يصعب معها على الناظر فهم تركيب الصورة . بيد أنه ،
تعليق