فيدياس
(490-431ق.م)
يعدّ فيدياس Phidias من أكثر النحاتين الإغريق عبقرية. ولد في أثينا لأب اسمه خارميديس Charmidès. اكتسب خبرته الفنية والجمالية من هيبياس Hippias of Elis وآغِلاداس Agéladas.
كان فيدياس شغوفاً بالشعر ومحباً للمعرفة والتاريخ. وكثيراً ما كان يرتاد ربوة الأكروبول، ويصغي إلى أقوال الممثلين، معجباً بكل ما يشاهده، ثم يختلي بنفسه مطلقاً لخياله الخلاق العنان، فتتحول تلك الصور الجميلة التي رآها إلى أشكال رمزية راسخة خلدت اسمه إلى الأبد.
أبدع فيدياس في بداية حياته الفنية تمثال أبولون كاسل الذي ظهرت فيه النزعة الفنية والجمالية المعبرة عن جلال الأرباب وعظمتهم؛ والأفكار السامية التي أحاطها المجتمع بهم. كما أبدع التمثال الضخم للربة أثينا بارثينوس Parthenos تخليداً لذكرى انتصار الإغريق على الفرس في الحروب الميدية المشهورة في القرن الخامس قبل الميلاد. وقد تميزت تقنية هذا التمثال باستخدام الخشب المذهب وجعل الوجه واليدين والقدمين من المرمر. وتعرف تقانة هذا التمثال باسم العاجيات المذهبة Chryselephantine.
وصل خبر هذا التمثال الضخم إلى مسامع حاكم أثينا (بِريكلِسPerikles ما بين 495ق.م-429ق.م)، فعيّنه مديراً للفنون الجميلة والإشراف على المشروعات المعمارية والفنية الضخمة على ربوة الأكروبول. وكان ذلك بعد انتصار الإغريق على الفرس في الحروب المذكورة، فأخذ بريكلِس يدعو إلى وجوب شكر الأرباب على نعمة النصر وتحرير البلاد والتمتع بنشوة العز والكرامة، مما يتطلب تشييد أضخم المنشآت المعمارية الدينية على شرف الأرباب. فمضى بريكلِس يعد كل ما يلزم لهذه المشروعات ويخصص لها الاعتمادات المالية الكافية تعبيراً عن وجدان أثينا الحي في حماستها واندفاعها. وكان مهندسا معبد أثينا الكبير (البارثينون) المهندسين المعماريين الكبيرين إيكتينوس Ictinos، وكاليكراتس Callicratès.
وضع فيدياس مخططات هذا المشروع الضخم وتفاصيله. وكانت لديه بالنسبة لمنحوتات إفريز هذا المعبد الضخم فكرة تمثل الفترة التي سبقت تشكيل موكب الاحتفال الديني الرسمي الكبير الذي يشمل مشاهد اجتماعية مختلفة تنبض بالحياة. ومن أجمل منحوتات هذا المعبد:
ـ موكب (عذارى مدينة أثينا) في احتفال ديني ورسمي مهيب (يقام مرة كل أربع سنوات؛ ليقدمن كسوة الرداء الجميل الذي أعددنه لربتهن (أثينا)، وتماثيل الأرباب والشيوخ والفرسان ومقدمي الأضاحي، والموسيقيين وأخرى تمثل الأضاحي والمسؤولين عنها.
ويمتد الإفريز الداخلي نحو 160 متراً يتضمن نحو 360 شخصاً منحوتاً في المرمر الأبيض الناصع.
وإذا كان ثمة شكوك حول قيام فيدياس بتنفيذ كل هذه المنحوتات بنفسه إلا أنه من المؤكد أنه كان المخطط لها والمشرف على مراحل تنفيذ المشروع ونحت أهم المنحوتات.
وفي إفريز معبد البارثينون هذا تميّزت الألواح المستطيلة (الميتوب métopes حشوة المنحوتات التي تقع بين الكمرات) بالنسب الجميلة، والبحث الفني والجمالي، وحسن ترتيب الموضوعات. فليس ثمة رتابة تثير الشعور بالملل.
وزُيِّن سطح الجبهة المثلثة الشرقية والغربية بمنحوتات الفنان فيدياس الذي جسد بها روح الإغريق وفكرهم وفلسفتهم، مما جعل معبد البارثينون بمنزلة معبد للفكر.
تمثل منحوتات الجبهة المثلثة الشرقية الموضوع الأسطوري (الميثولوجي) (الولادة العجيبة للربة أثينا) وتماثيل الأرباب مثل زيوس Zeus، وأثينا Athènes، ونيكِه Nike، وهيرا Héra، وديونيسوس Dionysos، وديميتير Déméter. فالربّات آفروديت Aphrodite وديونيه Dioné وليتو Léto يمثلّن كبرياء المرأة وحنانها وشبابها، وبدت تماثيلهن البديعة كثلاثة أبيات من الشعر تغنت بجمال المرأة وحسنها.
وتمثل منحوتات الجبهة المثلثة الغربية الموضوع الأسطوري: نزاع أثينا (ربة الحكمة) مع بوسيدون Poséidon (إله البحار). ففي الوسط تدق أثينا الأرض برمحها فتنبت شجرة الزيتون المقدسة. وبوسيدون يدق الأرض بصولجانه، فينبجس الماء الأجاج، ووراء كل منهما عربة تجرها أجمل الخيول. وكان وراء عربة أثينا هرمس Hermes، ونيكه. ووراء عربة بوسيدون إيريس Iris، وأمفيتريت Amphitrite. ومما يؤسف له أنه لم يبق من منحوتات هذا المعبد إلا المنحوتات المحفوظة في المتحف البريطاني ومتحف اللوڤر ومتحف أثينا.
والجدير بالذكر أن منحوتات معبد البارثينون ليست هي التي جعلت الفنان فيدياس مشهوراً، وإنما تماثيله الضخمة من العاج والذهب التي عُدّت في عصرها والعصور اللاحقة ذروة الإبداع، وكان أهمّها:
ـ تمثال أثينا بارثينوس لمعبد البارثينون: تمّ نحته عام 438ق.م. ووصفه باوسانياس Pausanias بأنه يمثل الربّة واقفة يزين صدرها رأس ميدوزا Méduse.
ـ تمثال زيوس لمعبد أولمبيا، وقد وصفه باوسانياس قائلاً في ضخامته: لو نهض الربّ لخرق رأسه سقف المعبد، ومن المؤسف أنه لم يبق من روائع الفنان الكبير فيدياس إلا بعض الذكريات على نقود Elide.
كان فيدياس ينعم برضا بريكلِس، وبودِّ زوجـته أسبازيا Aspasia التي كانت ملهمته، وأحـاطته بلطفها وتشجيعها، ووفرت له مناخاً مناسباً للعمل. وفي عام 433ق.م. وقع الفنان ضحية الصراع الحزبي، فقد اتهم بسوء التصرف بمادتي الذهب والعاج، وأقيمت دعوى ضده بهدف الإساءة إلى بريكلِس، وزج به في السجن. وتختلف الروايات المتعلقة بمأساته والسنوات الأخيرة من حياته، فثمة من قال أنه قضى نحبه في السجن مسموماً، والأرجح أنه نفي إلى إليس Elis.
اعتمدت جمالية فن فيدياس على البحث عن الحقيقة الجمالية وإضفاء المثل العليا على روائعه الفنية. وقد اتسم فنه بالرصانة وقوة التعبير عن السكينة والاغتباط وحسن الإيحاء بعظمة الأرباب وجمالية الإنسان والاهتمام بالتفاصيل الضرورية، إذ أدرك دور الفن في توحيد المجتمع وخلود الأمم والشعوب، فجعل فنه بمنزلة إمبراطورية فكرية وروحية لمدينته الخالدة أثينا توحد بلاد الإغريق ومشاعر مواطنيها.
ترك فيدياس أثره في فنون العصور اللاحقة، فقد أسّس مع مساعديه وطلابه مدرسة فنية من أركانها: ألكامين Alcamène وأغوراكريت Agoracrite.
وظلت الأجيال المتعاقبة تستوحي من مباني الأكروبول ومنحوتاتها دروساً وحلولاً مفيدة.
حافظ فيدياس على شهرته عبر العصور. وقال عنه الفيلسوف الرواقي إبيكتيت Epictète: «عليك أن تذهب إلى أولمبيا لتمتّع عينيك برؤية تمثال فيدياس؛ لأنه من التعاسة أن يموت المرء دون أن يراه...». وعبّر النحات الكبير رودانRodin ما بين (1840-1917) عن إعجابه بروائع فيدياس قائلاً: «عندما تلفظ شفتاي اسم فيدياس، فإنني أفكر في كل آثار فن النحت الإغريقي؛ وذلك لأن عبقرية فيدياس أسمى تعبير عن هذا الفن».
بشير زهدي
(490-431ق.م)
يعدّ فيدياس Phidias من أكثر النحاتين الإغريق عبقرية. ولد في أثينا لأب اسمه خارميديس Charmidès. اكتسب خبرته الفنية والجمالية من هيبياس Hippias of Elis وآغِلاداس Agéladas.
كان فيدياس شغوفاً بالشعر ومحباً للمعرفة والتاريخ. وكثيراً ما كان يرتاد ربوة الأكروبول، ويصغي إلى أقوال الممثلين، معجباً بكل ما يشاهده، ثم يختلي بنفسه مطلقاً لخياله الخلاق العنان، فتتحول تلك الصور الجميلة التي رآها إلى أشكال رمزية راسخة خلدت اسمه إلى الأبد.
أبدع فيدياس في بداية حياته الفنية تمثال أبولون كاسل الذي ظهرت فيه النزعة الفنية والجمالية المعبرة عن جلال الأرباب وعظمتهم؛ والأفكار السامية التي أحاطها المجتمع بهم. كما أبدع التمثال الضخم للربة أثينا بارثينوس Parthenos تخليداً لذكرى انتصار الإغريق على الفرس في الحروب الميدية المشهورة في القرن الخامس قبل الميلاد. وقد تميزت تقنية هذا التمثال باستخدام الخشب المذهب وجعل الوجه واليدين والقدمين من المرمر. وتعرف تقانة هذا التمثال باسم العاجيات المذهبة Chryselephantine.
وصل خبر هذا التمثال الضخم إلى مسامع حاكم أثينا (بِريكلِسPerikles ما بين 495ق.م-429ق.م)، فعيّنه مديراً للفنون الجميلة والإشراف على المشروعات المعمارية والفنية الضخمة على ربوة الأكروبول. وكان ذلك بعد انتصار الإغريق على الفرس في الحروب المذكورة، فأخذ بريكلِس يدعو إلى وجوب شكر الأرباب على نعمة النصر وتحرير البلاد والتمتع بنشوة العز والكرامة، مما يتطلب تشييد أضخم المنشآت المعمارية الدينية على شرف الأرباب. فمضى بريكلِس يعد كل ما يلزم لهذه المشروعات ويخصص لها الاعتمادات المالية الكافية تعبيراً عن وجدان أثينا الحي في حماستها واندفاعها. وكان مهندسا معبد أثينا الكبير (البارثينون) المهندسين المعماريين الكبيرين إيكتينوس Ictinos، وكاليكراتس Callicratès.
وضع فيدياس مخططات هذا المشروع الضخم وتفاصيله. وكانت لديه بالنسبة لمنحوتات إفريز هذا المعبد الضخم فكرة تمثل الفترة التي سبقت تشكيل موكب الاحتفال الديني الرسمي الكبير الذي يشمل مشاهد اجتماعية مختلفة تنبض بالحياة. ومن أجمل منحوتات هذا المعبد:
ـ موكب (عذارى مدينة أثينا) في احتفال ديني ورسمي مهيب (يقام مرة كل أربع سنوات؛ ليقدمن كسوة الرداء الجميل الذي أعددنه لربتهن (أثينا)، وتماثيل الأرباب والشيوخ والفرسان ومقدمي الأضاحي، والموسيقيين وأخرى تمثل الأضاحي والمسؤولين عنها.
ويمتد الإفريز الداخلي نحو 160 متراً يتضمن نحو 360 شخصاً منحوتاً في المرمر الأبيض الناصع.
من منحوتات إفريز معبد البارثنون: «الفرسان الشباب على رأس موكب الاحتفال» | |
(محفوظة في المتحف البريطاني) | |
من منحوتات الجبهة المثلثية في معبد البارثنون | |
(محفوظة في المتحف البريطاني) | |
وفي إفريز معبد البارثينون هذا تميّزت الألواح المستطيلة (الميتوب métopes حشوة المنحوتات التي تقع بين الكمرات) بالنسب الجميلة، والبحث الفني والجمالي، وحسن ترتيب الموضوعات. فليس ثمة رتابة تثير الشعور بالملل.
وزُيِّن سطح الجبهة المثلثة الشرقية والغربية بمنحوتات الفنان فيدياس الذي جسد بها روح الإغريق وفكرهم وفلسفتهم، مما جعل معبد البارثينون بمنزلة معبد للفكر.
تمثل منحوتات الجبهة المثلثة الشرقية الموضوع الأسطوري (الميثولوجي) (الولادة العجيبة للربة أثينا) وتماثيل الأرباب مثل زيوس Zeus، وأثينا Athènes، ونيكِه Nike، وهيرا Héra، وديونيسوس Dionysos، وديميتير Déméter. فالربّات آفروديت Aphrodite وديونيه Dioné وليتو Léto يمثلّن كبرياء المرأة وحنانها وشبابها، وبدت تماثيلهن البديعة كثلاثة أبيات من الشعر تغنت بجمال المرأة وحسنها.
وتمثل منحوتات الجبهة المثلثة الغربية الموضوع الأسطوري: نزاع أثينا (ربة الحكمة) مع بوسيدون Poséidon (إله البحار). ففي الوسط تدق أثينا الأرض برمحها فتنبت شجرة الزيتون المقدسة. وبوسيدون يدق الأرض بصولجانه، فينبجس الماء الأجاج، ووراء كل منهما عربة تجرها أجمل الخيول. وكان وراء عربة أثينا هرمس Hermes، ونيكه. ووراء عربة بوسيدون إيريس Iris، وأمفيتريت Amphitrite. ومما يؤسف له أنه لم يبق من منحوتات هذا المعبد إلا المنحوتات المحفوظة في المتحف البريطاني ومتحف اللوڤر ومتحف أثينا.
والجدير بالذكر أن منحوتات معبد البارثينون ليست هي التي جعلت الفنان فيدياس مشهوراً، وإنما تماثيله الضخمة من العاج والذهب التي عُدّت في عصرها والعصور اللاحقة ذروة الإبداع، وكان أهمّها:
ـ تمثال أثينا بارثينوس لمعبد البارثينون: تمّ نحته عام 438ق.م. ووصفه باوسانياس Pausanias بأنه يمثل الربّة واقفة يزين صدرها رأس ميدوزا Méduse.
ـ تمثال زيوس لمعبد أولمبيا، وقد وصفه باوسانياس قائلاً في ضخامته: لو نهض الربّ لخرق رأسه سقف المعبد، ومن المؤسف أنه لم يبق من روائع الفنان الكبير فيدياس إلا بعض الذكريات على نقود Elide.
كان فيدياس ينعم برضا بريكلِس، وبودِّ زوجـته أسبازيا Aspasia التي كانت ملهمته، وأحـاطته بلطفها وتشجيعها، ووفرت له مناخاً مناسباً للعمل. وفي عام 433ق.م. وقع الفنان ضحية الصراع الحزبي، فقد اتهم بسوء التصرف بمادتي الذهب والعاج، وأقيمت دعوى ضده بهدف الإساءة إلى بريكلِس، وزج به في السجن. وتختلف الروايات المتعلقة بمأساته والسنوات الأخيرة من حياته، فثمة من قال أنه قضى نحبه في السجن مسموماً، والأرجح أنه نفي إلى إليس Elis.
اعتمدت جمالية فن فيدياس على البحث عن الحقيقة الجمالية وإضفاء المثل العليا على روائعه الفنية. وقد اتسم فنه بالرصانة وقوة التعبير عن السكينة والاغتباط وحسن الإيحاء بعظمة الأرباب وجمالية الإنسان والاهتمام بالتفاصيل الضرورية، إذ أدرك دور الفن في توحيد المجتمع وخلود الأمم والشعوب، فجعل فنه بمنزلة إمبراطورية فكرية وروحية لمدينته الخالدة أثينا توحد بلاد الإغريق ومشاعر مواطنيها.
ترك فيدياس أثره في فنون العصور اللاحقة، فقد أسّس مع مساعديه وطلابه مدرسة فنية من أركانها: ألكامين Alcamène وأغوراكريت Agoracrite.
وظلت الأجيال المتعاقبة تستوحي من مباني الأكروبول ومنحوتاتها دروساً وحلولاً مفيدة.
حافظ فيدياس على شهرته عبر العصور. وقال عنه الفيلسوف الرواقي إبيكتيت Epictète: «عليك أن تذهب إلى أولمبيا لتمتّع عينيك برؤية تمثال فيدياس؛ لأنه من التعاسة أن يموت المرء دون أن يراه...». وعبّر النحات الكبير رودانRodin ما بين (1840-1917) عن إعجابه بروائع فيدياس قائلاً: «عندما تلفظ شفتاي اسم فيدياس، فإنني أفكر في كل آثار فن النحت الإغريقي؛ وذلك لأن عبقرية فيدياس أسمى تعبير عن هذا الفن».
بشير زهدي