الاكمال ، وهو يحرص على عرض رغبته الواسعة في الاستقصاء ، وعلى استعمال امكانيات عبقريته الخلاقة التي لا ينضب معينها ، أكثر مما يحرص على اظهار تمكنه من الفن .
ولابد أن يفطن المرء الى البون الشاسع بين تصرف بيكاسو هذا وبين مزاج براك الذي لم يحدث له أبداً أن أهمل ناحية الصناعة اليدوية في التصوير ولذلك نراه يتطور تطوراً لا تعجل فيه ولا تردد ، ولا يضحي أبداً بالمتانة في سبيل الاتيان ببدعة. ومما يسترعي الاهتمام أن الحرب العالمية الأولى لم تؤثر أي تأثير على فنه. في حين أن الحرب العالمية الثانية تركت فيه بعض آثار . ففي عام ۱۹۳۹ صور لوحة سماها « الصلف » وهي تمثل جمجمة موضوعة فوق مائدة الى جانب صليب ومسبحة صلاة . وان الجمجمة والصليب يعودان الى الظهور في عدد من اللوحات التي أنتجها أثناء الحرب .
وعندما صور عام ۱۹٤٢ امرأة تلهو بورق اللعب ، كانت خطوطه ممزقة ، عصبية ، وأحياناً ، متشنجة . بيد أن براك يظل في الاجمال مصور الطبيعة الصامتة ، والبيوت العائلية الهادئة أنه يلجأ من وقت لآخر الى الألوان الحمراء والبرتقالية فهو يوفق في التعبير أكبر التوفيق باستعماله الألوان الصماء . وقد أبتدأ عام ۱۹٤٩ بانتاج سلسلة من لوحات تمثل مراسم فنية فتحت فصلا جديدا في تطوره . ففيها تفقد الأشياء السماكة التي كانت تبدو فيها حوالي ۱۹۲۰ . فهي لا تتسطح فحسب ، أحيانا شفافة بحيث تبدو وكأن مادتها قد تبخرت وأن بعض الأشياء تتوارى فلا يبقى منها الا أطرها . أما اللون ، فان بعض الأشياء تشترك فيه الأشياء الأخرى المجاورة أو جدار الخلفية . فهو لا يلغي عمق المكان، غير أننا لانتوصل بسهولة الى التعرف على المستويات ، كما أننا نتردد في معرفة هوية الأشياء المختلفة . ونحن نشعر أننا أمام حياة هامسة غامضة. وأمام ترابط بين أشكال وألوان مليئة بالتلميحات، تتولد من الخيال أكثر مما تتولد من العالم الخارجي . وأن الخيال هو الذي أدخل في هذه اللوحات صورة طلبة ، غالبا ماتكون كبيرة ، لطائر يطير صامتا بين هذه الاشياء ذات الوجود الجزئي . وهذا الطائر يبدو أيضاً في اللوحات التي رسمت في عهد أقرب الينا . وهو يظهر هنا أقل وهما لأنه يبدو بين أشياء أقل غرابة عنه . بيد أنه يظل خرافيا كما كان من قبل . وهذا الطائر بالذات هو الذي يرافق شيخوخة الفنان ناشرا جناحيه على سعتهما فيضم بينهما الرحاب التي يجتازها بفضل أحلام هذا الرجل ورغبته الدائمة في الهروب .
أما بالنسبة لفيللون فالشيخوخة هي أخصب فترات انتاجه الفني فهو لم يبدأ تفتحه الحقيقي الا حوالي ١٩٤٠ وهو في الخامسة والستين وقد اضطرته الحوادث وقتئذ الى مغادرة باريس والاقامة فترة في الريف حيث وجد لذة وسرورا في ملاحظة تأثير الهواء الطلق . ومنذ ذلك الوقت أخذ يصور المناظر الطبيعية بشكل خاص . واذا كان يعالج هذه المناظر بحساسية الانطباعي ، فانه يركب صورتها متذكراً التكعيبية ، ويحول معطيات الطبيعة الى حد التجريد . وبعبارة أخرى ، فانه ينطلق من الواقع الحقيقي ، ويعالج مواضيع معينة ، فاذا كانت اللوحة تصور مطار أورلي أو بورجيه فان المشاهد يرى فيها طائرات . واذا كانت اللوحة تحمل اسم « المدخل الى الحديقة » ، تظهر فيها نباتات تسر لها العين بسبب الوانها الضاحكة المتعددة والنادرة . الا أن الأشياء تصبح هنا ذات وجود متواضع يكاد لا يظهر بوضوح . والى جانب خضرة المروج أو صفرة حزمة من القمح يضع فيللون بكل بساطة وبصورة طبيعية ، بقعا سوداء وبنفسجية وحمراء فاقعة وزرقاء مشبعة بالزرقة .
وسبب ذلك أن غاية هذا الفنان ليست أن يمثل الينا العالم الخارجي في صورة ، وانما غايته أن ينقل البنا هذا العالم الخارجي في صورة ساحرة. فهو يتحرى فتنة التلوين بأقوى ما في هذا التعبير من معنى ، لاحقيقة اللون بصورة حرفية ، بل يسعى الى مافيه من رقة ..... ولا نعرف في الفنانين الا عددا قليلا استطاعوا أن يقدموا أصباغاً بمثل هذه النقاوة ، وهذه الرقة وهذه اللذة التي تقدمها ألوان فيللون . وعلاوة على ذلك فلسنا نجد في هذه اللوحات التي أدخل فيها الكثير من الاختراع الجريء.... لسنا نجد فيها الا الاتقان الكامل فالدراسة تتلاءم فيها مع الوحي والالهام . كما أن الصبغة الهندسية في الرسم ، والوضوح في الترتيب يتوافقان مع شاعرية الألوان ، توافقا تاما .
وكان ليجيه واحدا أولئك الذين أداروا ظهورهم لفرنسا المحتلة من عام ١٩٤٠ . واختاروا الولايات المتحدة منفى لهم . وقد أقام فيها خمس سنوات . فهل تحول فنه التصويري في هذه السنوات ؟ أصبح رسمه أكثر اتساعاً ، والتلوين أكثر عنفا . الا أن العناصر الميكانيكية لاتزال على ما كانت عليه ، تحتل في أعماله مكانا أقل من المكان الذي تحتله الألواح والحبال ، والجذور والجذوع والأغصان والأوراق والغيوم . أما الكائن البشري فلم يختلف عما كان عليه حوالي ١٩٣٥ . الا أنه أصبح يظهر في أوضاع جديدة ، وفي شكل الجماعات في معظم الأحيان . فترى في لوحات ليجيه جماعات من الغواصين ، وجماعات من الراقصين ، وجماعات من راكبي الدراجات أو من لاعبي السيرك . ذلك أنه أصبح يهتم أكثر من ذي قبل بمسليات الشعب حتى أن بعض هذه المواضيع ظلت تشغل باله طوال السنوات التالية . وفي عام ١٩٤٩ أتم تصوير لوحة (تحية لداوود ) ( وربما كانت هذه اللوحة » تحية للجمركي روسو ) : وفيها يظهر بعض راكبي الدراجات في الريف وقد وقفوا الى جانب دراجاتهم ، تماما كما كان يفعل الناس لتؤخذ لهم صورة العائلة والأشكال في هذه اللوحة واضحة ومليئة ، ومحددة بخط قوي اللون فهو براق ، مباشر ، « بدون نعومة » كما يقول عنه الفنان نفسه وأن مافيه من صراحة ، وبساطة انما يتحلى به الفن الشعبي ، لأن هدف ليجيه في تلك الفترة أن يكون ( مفهوماً من الجميع ) .
ولاشك في أن هذه الرغبة هي التي دفعته أيضاً عام ١٩٥٠ الى أن أحد مواضيعه من عالم العمل ، وأن عمالاً يعملون في تشیید أحد المصانع أنه جهد في اظهار التناقض مابين الانسان . ومع وبين مخترعاته ، وما بين العامل وبين هذه الهندسة المعدنية ، بقساوتها وأكوامها الحديدية وبراغيها ومساميرها فأن لوحته « البناؤون» لاتكاد تنجو من صفة الحكاية أو التصوير التجاري . وعلى كل حال فانها لا تمثل ذروة في فن ليجيه ولاهي وصيته الأخيرة . وعندما أخذ عام ١٩٥٣ وعام ١٩٥٤ يصور أشكالا عدة للوحته نزهة في الريف أو لوحته « عرض في السيرك » نراه يستعيد الرنين والقوة اللذين تميزت بهما لوحة تحية لداوود وفي أجمل هذه الاعمال نجد لكل من الرسم والتلوين حياته المستقلة . واذا كان الرسم تصويرياً ، فالتلوين تجريدي ، الأول يقص ويروي ، والثاني ذو قيمة موسيقية ... وقد بدأ ليجيه يعمد الى فصل اللون عن الرسم حوالي عام ١٩٤٢ .
ولم يفعل ذلك في أعقاب بحث نظري أو تحت تأثير نزوة . وقد قال في هذا الصدد : « لم أكن لأخترع ذلك ، ولست رجلا ذا نزوات فعندما كنت في نيويورك دهشت بشدة من المصابيح الكاشفة الاعلانية في حي برودواي تكنس الشوارع . وانك لتقف هنالك وتتحدث مع أحد الناس ، وفجأة ترى الرجل قد أصبح أزرق اللون ، ثم تذهب الزرقة ، ويأتي لون آخر ، فيصبح أحمر ... ثم أصفر . ان ذلك اللون ، لون المصابيح الكاشفة ، لهو لون حر . وهو في الفراغ . وقد أردت أن أفعل الشيء نفسه في لوحاتي .
وكذلك أثرت نيويورك في مندريان الذي وصل اليها في عام ١٩٤٠ . واذا كان لم يتخل عن خطوطه العمودية ، وخطوطه الأفقية ، وزواياه القائمة ، واذا كان لا يلجأ الى تلوين أكثر غني ، فانه استبعد اللون الأسود ، وأصبحت خطوطه صفراء اللون ، ريثما يعمد إلى المستطيلات الصغيرة أو المربعات الصغيرة من حمراء وصفراء وزرقاء ورمادية وبسبب ذلك اكتسب منه بعض البهجة وكف عن السكون ، حتى أن المرء ليحس صخب المدينة الكبرى وجلبتها في لوحتي برود واي بوجي ووجي Brod way Booster Woogle ( ١٩٤٢ -١٩٤٣) فكتوري بوجي ووجي Victory Boogie Woogie . ( ١٩٤٣ - ١٩٤٤ ) . ولاشك في أن من المبالغة التعرف فيها الى صفوف الأنوار تتراكب بعضها فوق بعض في نوافذ ناطحات السحاب ، أو الى المصابيح ذات الأضواء الخفاقة في السيارات التي تتلاصق صفا طويلا . وأما أن تكون هذه المشاهد قد أثرت على حساسية الفنان فذلك أمر أكثر من احتمالي. وبكل حال ، فموندريان أدخل على لوحاته الأخيرة بهجة وديناميكية حقيقيتين ، وان كانتا محدودتين ، ولم يكن في لوحاته التي صنعها في باريز ما يبشر بشيء من ذلك .
ومن بين المصورين الذين أموا الولايات المتحدة فرارا من الهتلرية، بعد شاغال بدون ريب الفنان الذي يحمل فنه أوضح طابع لفظائع تلك الفترة ، فهنالك يهود مصلوبون أو مشدودون الى الأعمدة ، ونساء يبكين أو يضممن الى صدور من أطفالا مذعورين ، وهناك عازفو كمان يثيرون السخرية في عالم مزعزع الأركان ، تأكل فيه النيران البيوت، وهناك ملاك مذعور يهوي وهو أحمر كالنار أو كالدم ، وهناك حيوانات ذات حنان لانفع فيه ، اللهم الا انه يبرز تجرد القسوة البشرية من أي معنى . . . ذلكم مانجده في الكثير من اللوحات التي صورها في أميركا .
وفيها أيضاً أثر جرح أكثر اتصالا بالفنان ، الا وهو وفاة زوجته التي طالما أبرزت لوحات كثيرة ماكان في وجودها الى قربه من راحة له ذلك فان اسلوبه لم يتغير الا من حيث أن الألوان و تشجيع .... ومع أصبحت أكثر عنفاً وتجاورها أكثر تصادما .
وبعد رجع أغاني شاغال إلى فرنسا عام ١٩٤٧ ، عاد إلى تصوير أكثر هدوءاً . وأن بعض اللوحات التي صورها حوالي ١٩٥٦ هي نشوانه معطرة ببعض الحنين مهداة إلى الحب، وإلى الأزهار ، وإلى كل ماقد يوجد من ود بين الانسان والحيوانات ، والنباتات ومناظر الطبيعة .
ولابد أن يفطن المرء الى البون الشاسع بين تصرف بيكاسو هذا وبين مزاج براك الذي لم يحدث له أبداً أن أهمل ناحية الصناعة اليدوية في التصوير ولذلك نراه يتطور تطوراً لا تعجل فيه ولا تردد ، ولا يضحي أبداً بالمتانة في سبيل الاتيان ببدعة. ومما يسترعي الاهتمام أن الحرب العالمية الأولى لم تؤثر أي تأثير على فنه. في حين أن الحرب العالمية الثانية تركت فيه بعض آثار . ففي عام ۱۹۳۹ صور لوحة سماها « الصلف » وهي تمثل جمجمة موضوعة فوق مائدة الى جانب صليب ومسبحة صلاة . وان الجمجمة والصليب يعودان الى الظهور في عدد من اللوحات التي أنتجها أثناء الحرب .
وعندما صور عام ۱۹٤٢ امرأة تلهو بورق اللعب ، كانت خطوطه ممزقة ، عصبية ، وأحياناً ، متشنجة . بيد أن براك يظل في الاجمال مصور الطبيعة الصامتة ، والبيوت العائلية الهادئة أنه يلجأ من وقت لآخر الى الألوان الحمراء والبرتقالية فهو يوفق في التعبير أكبر التوفيق باستعماله الألوان الصماء . وقد أبتدأ عام ۱۹٤٩ بانتاج سلسلة من لوحات تمثل مراسم فنية فتحت فصلا جديدا في تطوره . ففيها تفقد الأشياء السماكة التي كانت تبدو فيها حوالي ۱۹۲۰ . فهي لا تتسطح فحسب ، أحيانا شفافة بحيث تبدو وكأن مادتها قد تبخرت وأن بعض الأشياء تتوارى فلا يبقى منها الا أطرها . أما اللون ، فان بعض الأشياء تشترك فيه الأشياء الأخرى المجاورة أو جدار الخلفية . فهو لا يلغي عمق المكان، غير أننا لانتوصل بسهولة الى التعرف على المستويات ، كما أننا نتردد في معرفة هوية الأشياء المختلفة . ونحن نشعر أننا أمام حياة هامسة غامضة. وأمام ترابط بين أشكال وألوان مليئة بالتلميحات، تتولد من الخيال أكثر مما تتولد من العالم الخارجي . وأن الخيال هو الذي أدخل في هذه اللوحات صورة طلبة ، غالبا ماتكون كبيرة ، لطائر يطير صامتا بين هذه الاشياء ذات الوجود الجزئي . وهذا الطائر يبدو أيضاً في اللوحات التي رسمت في عهد أقرب الينا . وهو يظهر هنا أقل وهما لأنه يبدو بين أشياء أقل غرابة عنه . بيد أنه يظل خرافيا كما كان من قبل . وهذا الطائر بالذات هو الذي يرافق شيخوخة الفنان ناشرا جناحيه على سعتهما فيضم بينهما الرحاب التي يجتازها بفضل أحلام هذا الرجل ورغبته الدائمة في الهروب .
أما بالنسبة لفيللون فالشيخوخة هي أخصب فترات انتاجه الفني فهو لم يبدأ تفتحه الحقيقي الا حوالي ١٩٤٠ وهو في الخامسة والستين وقد اضطرته الحوادث وقتئذ الى مغادرة باريس والاقامة فترة في الريف حيث وجد لذة وسرورا في ملاحظة تأثير الهواء الطلق . ومنذ ذلك الوقت أخذ يصور المناظر الطبيعية بشكل خاص . واذا كان يعالج هذه المناظر بحساسية الانطباعي ، فانه يركب صورتها متذكراً التكعيبية ، ويحول معطيات الطبيعة الى حد التجريد . وبعبارة أخرى ، فانه ينطلق من الواقع الحقيقي ، ويعالج مواضيع معينة ، فاذا كانت اللوحة تصور مطار أورلي أو بورجيه فان المشاهد يرى فيها طائرات . واذا كانت اللوحة تحمل اسم « المدخل الى الحديقة » ، تظهر فيها نباتات تسر لها العين بسبب الوانها الضاحكة المتعددة والنادرة . الا أن الأشياء تصبح هنا ذات وجود متواضع يكاد لا يظهر بوضوح . والى جانب خضرة المروج أو صفرة حزمة من القمح يضع فيللون بكل بساطة وبصورة طبيعية ، بقعا سوداء وبنفسجية وحمراء فاقعة وزرقاء مشبعة بالزرقة .
وسبب ذلك أن غاية هذا الفنان ليست أن يمثل الينا العالم الخارجي في صورة ، وانما غايته أن ينقل البنا هذا العالم الخارجي في صورة ساحرة. فهو يتحرى فتنة التلوين بأقوى ما في هذا التعبير من معنى ، لاحقيقة اللون بصورة حرفية ، بل يسعى الى مافيه من رقة ..... ولا نعرف في الفنانين الا عددا قليلا استطاعوا أن يقدموا أصباغاً بمثل هذه النقاوة ، وهذه الرقة وهذه اللذة التي تقدمها ألوان فيللون . وعلاوة على ذلك فلسنا نجد في هذه اللوحات التي أدخل فيها الكثير من الاختراع الجريء.... لسنا نجد فيها الا الاتقان الكامل فالدراسة تتلاءم فيها مع الوحي والالهام . كما أن الصبغة الهندسية في الرسم ، والوضوح في الترتيب يتوافقان مع شاعرية الألوان ، توافقا تاما .
وكان ليجيه واحدا أولئك الذين أداروا ظهورهم لفرنسا المحتلة من عام ١٩٤٠ . واختاروا الولايات المتحدة منفى لهم . وقد أقام فيها خمس سنوات . فهل تحول فنه التصويري في هذه السنوات ؟ أصبح رسمه أكثر اتساعاً ، والتلوين أكثر عنفا . الا أن العناصر الميكانيكية لاتزال على ما كانت عليه ، تحتل في أعماله مكانا أقل من المكان الذي تحتله الألواح والحبال ، والجذور والجذوع والأغصان والأوراق والغيوم . أما الكائن البشري فلم يختلف عما كان عليه حوالي ١٩٣٥ . الا أنه أصبح يظهر في أوضاع جديدة ، وفي شكل الجماعات في معظم الأحيان . فترى في لوحات ليجيه جماعات من الغواصين ، وجماعات من الراقصين ، وجماعات من راكبي الدراجات أو من لاعبي السيرك . ذلك أنه أصبح يهتم أكثر من ذي قبل بمسليات الشعب حتى أن بعض هذه المواضيع ظلت تشغل باله طوال السنوات التالية . وفي عام ١٩٤٩ أتم تصوير لوحة (تحية لداوود ) ( وربما كانت هذه اللوحة » تحية للجمركي روسو ) : وفيها يظهر بعض راكبي الدراجات في الريف وقد وقفوا الى جانب دراجاتهم ، تماما كما كان يفعل الناس لتؤخذ لهم صورة العائلة والأشكال في هذه اللوحة واضحة ومليئة ، ومحددة بخط قوي اللون فهو براق ، مباشر ، « بدون نعومة » كما يقول عنه الفنان نفسه وأن مافيه من صراحة ، وبساطة انما يتحلى به الفن الشعبي ، لأن هدف ليجيه في تلك الفترة أن يكون ( مفهوماً من الجميع ) .
ولاشك في أن هذه الرغبة هي التي دفعته أيضاً عام ١٩٥٠ الى أن أحد مواضيعه من عالم العمل ، وأن عمالاً يعملون في تشیید أحد المصانع أنه جهد في اظهار التناقض مابين الانسان . ومع وبين مخترعاته ، وما بين العامل وبين هذه الهندسة المعدنية ، بقساوتها وأكوامها الحديدية وبراغيها ومساميرها فأن لوحته « البناؤون» لاتكاد تنجو من صفة الحكاية أو التصوير التجاري . وعلى كل حال فانها لا تمثل ذروة في فن ليجيه ولاهي وصيته الأخيرة . وعندما أخذ عام ١٩٥٣ وعام ١٩٥٤ يصور أشكالا عدة للوحته نزهة في الريف أو لوحته « عرض في السيرك » نراه يستعيد الرنين والقوة اللذين تميزت بهما لوحة تحية لداوود وفي أجمل هذه الاعمال نجد لكل من الرسم والتلوين حياته المستقلة . واذا كان الرسم تصويرياً ، فالتلوين تجريدي ، الأول يقص ويروي ، والثاني ذو قيمة موسيقية ... وقد بدأ ليجيه يعمد الى فصل اللون عن الرسم حوالي عام ١٩٤٢ .
ولم يفعل ذلك في أعقاب بحث نظري أو تحت تأثير نزوة . وقد قال في هذا الصدد : « لم أكن لأخترع ذلك ، ولست رجلا ذا نزوات فعندما كنت في نيويورك دهشت بشدة من المصابيح الكاشفة الاعلانية في حي برودواي تكنس الشوارع . وانك لتقف هنالك وتتحدث مع أحد الناس ، وفجأة ترى الرجل قد أصبح أزرق اللون ، ثم تذهب الزرقة ، ويأتي لون آخر ، فيصبح أحمر ... ثم أصفر . ان ذلك اللون ، لون المصابيح الكاشفة ، لهو لون حر . وهو في الفراغ . وقد أردت أن أفعل الشيء نفسه في لوحاتي .
وكذلك أثرت نيويورك في مندريان الذي وصل اليها في عام ١٩٤٠ . واذا كان لم يتخل عن خطوطه العمودية ، وخطوطه الأفقية ، وزواياه القائمة ، واذا كان لا يلجأ الى تلوين أكثر غني ، فانه استبعد اللون الأسود ، وأصبحت خطوطه صفراء اللون ، ريثما يعمد إلى المستطيلات الصغيرة أو المربعات الصغيرة من حمراء وصفراء وزرقاء ورمادية وبسبب ذلك اكتسب منه بعض البهجة وكف عن السكون ، حتى أن المرء ليحس صخب المدينة الكبرى وجلبتها في لوحتي برود واي بوجي ووجي Brod way Booster Woogle ( ١٩٤٢ -١٩٤٣) فكتوري بوجي ووجي Victory Boogie Woogie . ( ١٩٤٣ - ١٩٤٤ ) . ولاشك في أن من المبالغة التعرف فيها الى صفوف الأنوار تتراكب بعضها فوق بعض في نوافذ ناطحات السحاب ، أو الى المصابيح ذات الأضواء الخفاقة في السيارات التي تتلاصق صفا طويلا . وأما أن تكون هذه المشاهد قد أثرت على حساسية الفنان فذلك أمر أكثر من احتمالي. وبكل حال ، فموندريان أدخل على لوحاته الأخيرة بهجة وديناميكية حقيقيتين ، وان كانتا محدودتين ، ولم يكن في لوحاته التي صنعها في باريز ما يبشر بشيء من ذلك .
ومن بين المصورين الذين أموا الولايات المتحدة فرارا من الهتلرية، بعد شاغال بدون ريب الفنان الذي يحمل فنه أوضح طابع لفظائع تلك الفترة ، فهنالك يهود مصلوبون أو مشدودون الى الأعمدة ، ونساء يبكين أو يضممن الى صدور من أطفالا مذعورين ، وهناك عازفو كمان يثيرون السخرية في عالم مزعزع الأركان ، تأكل فيه النيران البيوت، وهناك ملاك مذعور يهوي وهو أحمر كالنار أو كالدم ، وهناك حيوانات ذات حنان لانفع فيه ، اللهم الا انه يبرز تجرد القسوة البشرية من أي معنى . . . ذلكم مانجده في الكثير من اللوحات التي صورها في أميركا .
وفيها أيضاً أثر جرح أكثر اتصالا بالفنان ، الا وهو وفاة زوجته التي طالما أبرزت لوحات كثيرة ماكان في وجودها الى قربه من راحة له ذلك فان اسلوبه لم يتغير الا من حيث أن الألوان و تشجيع .... ومع أصبحت أكثر عنفاً وتجاورها أكثر تصادما .
وبعد رجع أغاني شاغال إلى فرنسا عام ١٩٤٧ ، عاد إلى تصوير أكثر هدوءاً . وأن بعض اللوحات التي صورها حوالي ١٩٥٦ هي نشوانه معطرة ببعض الحنين مهداة إلى الحب، وإلى الأزهار ، وإلى كل ماقد يوجد من ود بين الانسان والحيوانات ، والنباتات ومناظر الطبيعة .
تعليق