آمنة ابو صفط
الأشياء القابلة للتلف، تتلاشى ببطء يستحق المغفرة.
* ورسان شاير
في المشهد الأخير من فيلم "مائة زهرة" (2022) للمخرج الياباني غينكي كاوامورا، تستند يوريكو كاساي المصابة بالخرف على جدار الشرفة بصحبة ابنها إيزومي مقابل الأبنية البعيدة. تبدو يوريكو خاوية تمامًا، بعينين فارغتين من أي شعور بالسعادة أو الندم، تُحدِّق في اللاشيء دون ردة فعل واحدة. حينها، ينتبه إيزومي إلى أنصاف الألعاب النارية التي تظهر من فوق المباني العالية، فيتذكر فجأة شغف والدته بها، ويحاول حثّها على التفاعل معها، لكن دون جدوى، فهي لم تعد تتذكّر حتى الأشياء التي لطالما قالت مستبعدةً نسيانها: "أنّى لهذا الجمال أن يُنسى!".
يجهش إيزومي بالبكاء مدركًا أن والدته قد غابت إلى الأبد هذه المرة. يتوسل إليها أن تسامحه لكنها الآن خفيفة إلى درجةٍ مربكة، بلا أخطاء أو فضائل تجعلها بحاجة لأن تعتذر أو تُسامح.
"إن فعل النسيان يستهلك قوة الدماغ إلى حد كبير مقارنة بالجهد المطلوب لفعل التذكر".
* مقالة علمية
تبدو هذه العبارة مذهلة، إذ لم نعتد على النسيان الذي "يريح العقل من الإرهاق" كفعل إرادي، فهو يحدث من تلقاء نفسه ووفق مخططات الدماغ، على العكس من التذكر، حيث نحاول بإرادةٍ واضحة استرجاع ما نسيناه إذا رغبنا بذلك.
يروي فيلم "مائة زهرة" قصة امرأة مُصابة بالزهايمر يقدّم من خلال علاقتها بابنها درسًا ملهمًا ومهمًا في معنى التذكّر والنسيان
في مرض الزهايمر، يستهلك النسيان قوة الدماغ وهوية الفرد بالكامل خلال سنوات قليلة من ذيوعه في الأعصاب، وهو مرض ناتج عن ترسب نوع من البروتين في الخلايا العصبية الدماغية التي تبدأ بالموت تباعًا.
يؤكد الطبيب لإيزومي أن مرضى الخرف لا ينسون كل شيء تمامًا، ربما يتذكرون أحداثًا ماضية بعيدة، كما أنهم لا يشعرون دومًا بالارتباك الذي يصاحب النسيان. ويمكن للأدوية أن تؤخر الأعراض الفادحة للمرض أو تقللها لبعض الوقت، ولكن ليس هناك شفاء منه حتى الآن.
تُعتبر الذاكرة، وفقًا لجون لوك، محددًا أساسيًا لهوية الشخص.
يعمل إيزومي في شركة تُعنى بنظم الذكاء الاصطناعي على تطوير "كوي"، وهي على حد تعبيرهم فنانة الذكريات، إذ يتم تزويدها ببيانات وذكريات وصور تخص ألف فنان لتُعيد استحداث الألحان والكلمات. ولكن، مع ذلك، هناك شيء أصيل ينقصها. يقول المشرف: "إن امتلاكها للكثير من الذكريات العشوائية يجعلها بلا هوية". يعلّق إيزومي: "ربما كان يجب أن نمنحها القدرة على النسيان، هذا يجعلها تبدو أكثر إنسانية".
المفارقة هنا أن الخرف الذي يجرد الإنسان من ذكرياته وبياناته والبديهيات التي تعلمها، يُعتبر الوجه الآخر لذاكرة الذكاء الاصطناعي الخارقة التي تحتفظ بكل شيء، بما في ذلك ما نحن بحاجة لنسيانه أيضًا، فالنسيان المطلق والتذكر المطلق كلاهما في سبيل شقاء الإنسان.
في ذكريات إيزومي، هناك زهرة صفراء قدّمها لأمه في يوم ميلادها عندما كان صغيرًا. تحتفل يوريكو بالهدية المحببة، وتُحافظ منذ ذلك اليوم، على وضع زهرة صفراء واحدة كل يوم في المنزل.
يجهل إيزومي سبب حرص والدته على وضع زهرة صفراء واحدة كل يوم إلى أن يكتشف مرضها عند عودته إلى المنزل، بعد نقلها إلى دار الرعاية، ليوضب بعض الفوضى. يدخل حينها غرفتها كما لو أنه لم يفعل ذلك منذ زمن بعيد، فيتفاجأ بأنها كانت تقرأ كتبًا عن الخرف، وأنها دوّنت على أوراق صغيرة ملاحظات مهمة، كيوم ميلادها واسم زوجة إيزومي. وإحدى هذه الملاحظات كانت لتذكيرها بوضع زهرة في المنزل كل يوم، ليُدرك أخيرًا أنها تحتفل يوميًا، ومنذ سنين طويلة، بالهدية التي قدّمها لها في زمن بعيد.
تهجر يوريكو إيزومي وهو طفل لمدة عام كامل دون أن تقدّم أي تفسير لذلك، وقد تكرست هذه الحادثة لدى إيزومي، الذي يكاد أن يصبح أبًا، كذكرى قاسية تطغى على جميع ذكرياته الدافئة.
تجذبني الوتيرة الهادئة في السينما الآسيوية، خصوصًا تلك التي تتناول قضايا إنسانية، إضافةً إلى سحر الحوار الذي يُخفي عمقًا مؤثرًا في بساطته، وإظهار العادي في كل منا على أنه الحقيقة التي تستحق أن نعتني بها بشكل يخلو من "إيغو" البطل.
ثمة في الفيلم بعض الملل اللذيذ، وهذا يرجع برأيي إلى حرص المخرج على جعل اليومي يظهر بصورته المثلى، فمن منا يملك يومًا شيقًا بالمطلق؟! وهذه النقطة التي ربما تعتبر مأخذًا، تجعل القصة تلامسني أكثر وعلى نحو أكثر تطورًا تجعلني أكثر انتباهًا للساعات التي أمضيها كل يوم ظنًا مني أنها تتشابه بينما الحقيقة أن "لا شيء مرتين"(اسم ديوان شعري لشيمبروسكا)، فكل منا بالأفلام أو بالحقيقة، مستغرق بدور ما.
إن فعل النسيان يستهلك قوة الدماغ إلى حد كبير مقارنة بالجهد المطلوب لفعل التذكر
حتى وقت بعيد، كنت أستعين باسم المرض "زهايمر" لوصف كثرة النسيان بطريقة مضحكة، ولم أدرك حجم المعاناة التي يتكبدها المرضى وذويهم حتى أصيبت جدة صديقتي به. رأيت ذلك بعيني عندما كنت أؤمن أنهما لا تكفيان لرؤية كل شيء.
كان ذلك مروعًا بشكل لا يحتمل أن يروى كدعابة.
حدثتني صديقتي بأسى أن جدّتها كانت تبكي وتشكو لها أن أحدًا ما قام بضربها قبل لحظات، لكنها لا تعرف من. أردفت صديقتي قائلةً: "كنت أنا من ضربتها لأنني لم أعد أحتمل" ثم أجهشت بالبكاء.
يبدأ الفيلم بمشهد زهرة صفراء واهنة، سقطت بعض بتلاتها على الطاولة، ومن الغرفة المجاورة يجيء صوت الموسيقى فيستعيد المكان من الذبول.
الأشياء القابلة للتلف، تتلاشى ببطء يستحق المغفرة.
* ورسان شاير
في المشهد الأخير من فيلم "مائة زهرة" (2022) للمخرج الياباني غينكي كاوامورا، تستند يوريكو كاساي المصابة بالخرف على جدار الشرفة بصحبة ابنها إيزومي مقابل الأبنية البعيدة. تبدو يوريكو خاوية تمامًا، بعينين فارغتين من أي شعور بالسعادة أو الندم، تُحدِّق في اللاشيء دون ردة فعل واحدة. حينها، ينتبه إيزومي إلى أنصاف الألعاب النارية التي تظهر من فوق المباني العالية، فيتذكر فجأة شغف والدته بها، ويحاول حثّها على التفاعل معها، لكن دون جدوى، فهي لم تعد تتذكّر حتى الأشياء التي لطالما قالت مستبعدةً نسيانها: "أنّى لهذا الجمال أن يُنسى!".
يجهش إيزومي بالبكاء مدركًا أن والدته قد غابت إلى الأبد هذه المرة. يتوسل إليها أن تسامحه لكنها الآن خفيفة إلى درجةٍ مربكة، بلا أخطاء أو فضائل تجعلها بحاجة لأن تعتذر أو تُسامح.
"إن فعل النسيان يستهلك قوة الدماغ إلى حد كبير مقارنة بالجهد المطلوب لفعل التذكر".
* مقالة علمية
تبدو هذه العبارة مذهلة، إذ لم نعتد على النسيان الذي "يريح العقل من الإرهاق" كفعل إرادي، فهو يحدث من تلقاء نفسه ووفق مخططات الدماغ، على العكس من التذكر، حيث نحاول بإرادةٍ واضحة استرجاع ما نسيناه إذا رغبنا بذلك.
يروي فيلم "مائة زهرة" قصة امرأة مُصابة بالزهايمر يقدّم من خلال علاقتها بابنها درسًا ملهمًا ومهمًا في معنى التذكّر والنسيان
في مرض الزهايمر، يستهلك النسيان قوة الدماغ وهوية الفرد بالكامل خلال سنوات قليلة من ذيوعه في الأعصاب، وهو مرض ناتج عن ترسب نوع من البروتين في الخلايا العصبية الدماغية التي تبدأ بالموت تباعًا.
يؤكد الطبيب لإيزومي أن مرضى الخرف لا ينسون كل شيء تمامًا، ربما يتذكرون أحداثًا ماضية بعيدة، كما أنهم لا يشعرون دومًا بالارتباك الذي يصاحب النسيان. ويمكن للأدوية أن تؤخر الأعراض الفادحة للمرض أو تقللها لبعض الوقت، ولكن ليس هناك شفاء منه حتى الآن.
تُعتبر الذاكرة، وفقًا لجون لوك، محددًا أساسيًا لهوية الشخص.
يعمل إيزومي في شركة تُعنى بنظم الذكاء الاصطناعي على تطوير "كوي"، وهي على حد تعبيرهم فنانة الذكريات، إذ يتم تزويدها ببيانات وذكريات وصور تخص ألف فنان لتُعيد استحداث الألحان والكلمات. ولكن، مع ذلك، هناك شيء أصيل ينقصها. يقول المشرف: "إن امتلاكها للكثير من الذكريات العشوائية يجعلها بلا هوية". يعلّق إيزومي: "ربما كان يجب أن نمنحها القدرة على النسيان، هذا يجعلها تبدو أكثر إنسانية".
المفارقة هنا أن الخرف الذي يجرد الإنسان من ذكرياته وبياناته والبديهيات التي تعلمها، يُعتبر الوجه الآخر لذاكرة الذكاء الاصطناعي الخارقة التي تحتفظ بكل شيء، بما في ذلك ما نحن بحاجة لنسيانه أيضًا، فالنسيان المطلق والتذكر المطلق كلاهما في سبيل شقاء الإنسان.
في ذكريات إيزومي، هناك زهرة صفراء قدّمها لأمه في يوم ميلادها عندما كان صغيرًا. تحتفل يوريكو بالهدية المحببة، وتُحافظ منذ ذلك اليوم، على وضع زهرة صفراء واحدة كل يوم في المنزل.
يجهل إيزومي سبب حرص والدته على وضع زهرة صفراء واحدة كل يوم إلى أن يكتشف مرضها عند عودته إلى المنزل، بعد نقلها إلى دار الرعاية، ليوضب بعض الفوضى. يدخل حينها غرفتها كما لو أنه لم يفعل ذلك منذ زمن بعيد، فيتفاجأ بأنها كانت تقرأ كتبًا عن الخرف، وأنها دوّنت على أوراق صغيرة ملاحظات مهمة، كيوم ميلادها واسم زوجة إيزومي. وإحدى هذه الملاحظات كانت لتذكيرها بوضع زهرة في المنزل كل يوم، ليُدرك أخيرًا أنها تحتفل يوميًا، ومنذ سنين طويلة، بالهدية التي قدّمها لها في زمن بعيد.
تهجر يوريكو إيزومي وهو طفل لمدة عام كامل دون أن تقدّم أي تفسير لذلك، وقد تكرست هذه الحادثة لدى إيزومي، الذي يكاد أن يصبح أبًا، كذكرى قاسية تطغى على جميع ذكرياته الدافئة.
تجذبني الوتيرة الهادئة في السينما الآسيوية، خصوصًا تلك التي تتناول قضايا إنسانية، إضافةً إلى سحر الحوار الذي يُخفي عمقًا مؤثرًا في بساطته، وإظهار العادي في كل منا على أنه الحقيقة التي تستحق أن نعتني بها بشكل يخلو من "إيغو" البطل.
ثمة في الفيلم بعض الملل اللذيذ، وهذا يرجع برأيي إلى حرص المخرج على جعل اليومي يظهر بصورته المثلى، فمن منا يملك يومًا شيقًا بالمطلق؟! وهذه النقطة التي ربما تعتبر مأخذًا، تجعل القصة تلامسني أكثر وعلى نحو أكثر تطورًا تجعلني أكثر انتباهًا للساعات التي أمضيها كل يوم ظنًا مني أنها تتشابه بينما الحقيقة أن "لا شيء مرتين"(اسم ديوان شعري لشيمبروسكا)، فكل منا بالأفلام أو بالحقيقة، مستغرق بدور ما.
إن فعل النسيان يستهلك قوة الدماغ إلى حد كبير مقارنة بالجهد المطلوب لفعل التذكر
حتى وقت بعيد، كنت أستعين باسم المرض "زهايمر" لوصف كثرة النسيان بطريقة مضحكة، ولم أدرك حجم المعاناة التي يتكبدها المرضى وذويهم حتى أصيبت جدة صديقتي به. رأيت ذلك بعيني عندما كنت أؤمن أنهما لا تكفيان لرؤية كل شيء.
كان ذلك مروعًا بشكل لا يحتمل أن يروى كدعابة.
حدثتني صديقتي بأسى أن جدّتها كانت تبكي وتشكو لها أن أحدًا ما قام بضربها قبل لحظات، لكنها لا تعرف من. أردفت صديقتي قائلةً: "كنت أنا من ضربتها لأنني لم أعد أحتمل" ثم أجهشت بالبكاء.
يبدأ الفيلم بمشهد زهرة صفراء واهنة، سقطت بعض بتلاتها على الطاولة، ومن الغرفة المجاورة يجيء صوت الموسيقى فيستعيد المكان من الذبول.