اندلس (تاريخيا جغرافيا)
Al-Andalus - Al-Andalûs
الأندلس تاريخياً
فتح الأندلس
1ـ أحوال الأندلس قبل الفتح: اتسم فتح الأندلس باليسر والسرعة مقارنة بفتح المغرب الذي سبقها مباشرة. ويمكن تفسير ذلك بوضع الأندلس التي كانت تعيش آنذاك مرحلة أزمة تفاقمت لعدة عقود، كان الحكام قبلها وهم قوط غزاة قد أفلحوا في تحقيق الاندماج بين مجتمعهم والمجتمع الإسباني، وذلك بالتخلي عن مذهبهم الأريوسي واعتناق الكاثوليكية مذهب السكان، وبوضع قانون واحد مبني على تقاليد الطرفين وأعرافهما ضمن الوحدة القانونية. لكن هذا المجتمع لم يلبث أن انقسم إلى نبلاء يملكون معظم الأرض، وأقنان يعملون فيها. أما على الصعيد الديني فقد علا مقام رجال الكنيسة الكبار فأفلحوا في توجيه سياسة الدولة نحو اضطهاد الأقلية اليهودية حتى فُرِض التنصر عليهم، ونزع أولادهم منهم بحجة عدم صدقهم في التنصر، والخشية من تربية هؤلاء الأولاد على اليهودية، مما خلق أقلية بالغة النقمة تنشد الخلاص ولو على يد غاز. وفي الوقت نفسه تفاقمت أزمة سياسية بين مؤيدي تطوير النظام الجرماني من الملكية الانتخابية إلى الوراثية، والنبلاء الحريصين على امتيازاتهم في انتخاب الملك. وقد نال ويتيثا Witiza الذي يسميه العرب غيطشة، عرشه وراثة عن أبيه، وقد خفف من اضطهاد اليهود، فأثار عليه بذلك سخط النبلاء ورجال الكنيسة، وزاد هذا السخط محاولته تأكيد نظام الوراثة بتسمية ابنه أخيلا Aquila (وِقْلَة عند العرب) ولياً لعهده وإعطائه حكم شمالي إسبانية. ولما توفي غيطشة عام 90هـ /708م، لم يتمكن ابنه من دخول طُلَيْطُلة والجلوس على العرش، وقام النبلاء بانتخاب دوق قُرْطُبة رودريغو Rodrigo (لذريق أو رذريق عند العرب) فقدم إلى العاصمة التي هرب منها أفراد أسرة غيطشة. ثم قوى سلطانه بعد أن خضع له أَخَوان لوِقْلَة وتسلم وظائف مهمة في جيشه.
تزامن هذا الاضطراب السياسي الجديد في الداخل مع قحط دام ثلاث سنوات، ووباء أودى بحياة ما يزيد على نصف السكان، ومن الخارج وصل العرب المسلمون الفاتحون إلى المضيق، وكان يقودهم موسى بن نصير، أمير المغرب الذي وصل إلى طَنْجةَ سنة 89هـ/ 707م وأنزل العرب فيها، وجعلها لهم قاعدة يقودهم فيها مولاه طارق بن زياد. ومن هذه القاعدة كرر العرب هجماتهم على سَبْتَة التي استعصى عليهم فتحها لطبيعتها، فقد كانت لساناً برياً داخلاً في البحر، وكان يحكمها يوليان، وهو حاكم بيزنطي، على ما يرجح، تقوّى بعد انقراض سلطان دولته في المغرب بتوثيق علاقته بأسرة غيطشة مالكة الأندلس قبل سقوطها. بهذا تجمعت الظروف التي قادت يوليان وأصحابه من الأسرة المالكة المخلوعة إلى التحالف مع العرب لتحطيم عرش لذريق بعدما أخفقوا في مجابهته بقواهم وحدها، يضاف إلى ذلك رغبة يوليان في توجيه اندفاع العرب بعيداً عن ملكه، وعزمه على الانتقام الشخصي من لذريق الذي اعتدى على عفاف ابنته الوصيفة في القصر الملكي بطُلَيْطلُة. أما العرب فكان القيام بفتح الأندلس عندهم تنفيذاً لفريضة الجهاد، ولذلك كان من المنتظر بعد إتمام فتح المغرب الاستمرار في الفتح الذي يصعب متابعته جنوباً لوجود الصحراء، في حين كان يمكن متابعته شمالاً أي في الأندلس. ولم يكن عرض الحاجز المائي، وهو المضيق، يتجاوز تسعة عشر كيلومتراً في بعض النقاط ولكن كان ثمة عقبات أخرى تفرض عليهم التوقف ولو لأمد، ريثما تتوافر وسائل العبور على الأقل. وهنا جاء تدخل يوليان في الاتصال بهم وتشجيعهم وعرض معونته عليهم من السفن والأَدلاء، ميسراً بدء أعمال فتح الأندلس في السنة التالية لفتح طَنْجة.
2ـ عمليات الفتح: اتصل يوليان بموسى بن نصير، مباشرة أو عن طريق طارق بن زياد وعرض عليه إمداده بالسفن والأدلاء لغزو الأندلس، كما هوّن من شأن المقاومة فيها. وبناء على أمر الخليفة تم التأكد من صدق يوليان ومن عداوته للذريق، بقيامه بغارة على جهات الجزيرة الخضراء، عاد منها بسرعة حاملاً الغنائم والسبي. كما اختبر العرب ضعف المقاومة بتوجيه غارة قاد فيها طريف بن مالك أربعمئة راجل ومئة فارس نزلوا في ميناء أندلسي قريب من الشاطىء المغربي للمضيق، حمل منذ ذلك الوقت اسم طريف Tarrif، وأحرزوا نجاحاً مماثلاً لما حققه يوليان.
قامت الحملة الكبرى في رجب أو شعبان سنة 91هـ/ نيسان أو أيار سنة 710م، بقيادة طارق بن زياد وتألفت من سبعة آلاف مجاهد حملتهم أربع سفن ليوليان على دفعات وأنزلتهم في سفح جبل كالبي Calpe الذي حمل اسم طارق فيما بعد. ورفده موسى بن نصير بعد ذلك بخمسة آلاف مقاتل. توافقت عملية الإنزال مع انشغال لذريق بمحاربة الخارجين عليه في بمبلونة بأقصى شمالي الأندلس. وتبعه تحرك طارق لاحتلال بقية الخليج المتصل بالجبل، الذي تقع في أعلاه مدينة قرطجنة Cartagena الصغيرة، وينتهي على بعد ستة أميال بالموقع الذي سمي الجزيرة الخضراء، مما يدل على سعيه لإيجاد خليج بحري للاتصال مع قاعدته. لكن روايات متأخرة تنفرد بنسبة عملين آخرين إلى طارق أولهما إحراق السفن وثانيهما خطبته المشهورة. وهذان الأمران موضع نظر وبحث.
بعدما علم لذريق بنزول طارق اتجه مسرعاً إلى الجنوب على رأس جيش اختلفت الروايات في تقدير عدده بين الأربعين ألفاً والمئة ألف. أما طارق فلم يسر إلا مسافة يسيرة نحو الشمال الغربي نحو بحيرة خاندا التي تمتد عدة كيلومترات في موازاة البحر، ويعبرها نهر بَرْبَاط Barbat (الشائع تسميته في المصادر العربية بوادي لكُّه)، وهناك حمى طارق جناحي جيشه بمانعين طبيعيين هما البحيرة من جانب ومرتفعات جبال ريتين المجاورة من جانب آخر، وبذلك حرم خصمه الاستفادة من نقاط تفوقه في العدد لأن الميدان ضيق.
بدأت المعركة في 28 رمضان91هـ/31 تموز 710م ودامت ثمانية أيام انتهت بهزيمة لذريق وموته غرقاً على الأرجح. وربما ساعد العرب على إحراز هذا النصر خيانة جرت في جيش لذريق، إذ إن ششبرت وأبه قريبي وقلة، كانا يقودان الميمنة والميسرة في جيش لذريق وقد انسحبا في أوج المعركة كي يجرا عليه الهزيمة وكانا يظنان أن العرب سوف ينسحبون من الأندلس بعد امتلاء أيديهم بالغنائم، أما ابن القوطية، سليل أسرة غيطشة من ناحية الأم والمولع بالاعتماد على روايات الشعوبيين من مولدي الأندلس، فيذكر أن الانسحاب تم بالاتفاق مع طارق الذي وعدهما برد ضياع أبيهما إليهما البالغ عددها ثلاثة آلاف ضيعة.
كان نصر العرب مُكلفاً إذ خسروا ربع عددهم، لكنه كان من ناحية أخرى الحدث الحاسم في الفتح، لأنه حطم أكبر قوة ضاربة أمكن للقوط جمعها، كما كان من جملة غنائم المسلمين خيول كافية لإركاب المجاهدين جميعاً وقد مكنتهم من طي المراحل بسرعة. إذ إن طارقاً لم يتوقف في مكانه بانتظار سيده كما أُمِر، بل تابع تقدمه لاستثمار النصر، فهاجم أولاً مدينة إِستِجَة على نهر شنيل حيث احتمت فلول المنهزمين، وأحرز نصراً آخر بعد معركة حامية. لكن متابعة الفتح بهذا الأسلوب، من حرب المعاقل كان يضطره إلى التوقف عند كل مدينة مما يفسح في المجال للقوط لجمع أمرهم، لذلك عمل بنصيحة يوليان مرافقه باتباع طريقة الحرب الخاطفة، فأرسل قوات قليلة إلى مدن مالَقَة وغرناطة وقُرْطُبَة. وقد فتحت هذه الأخيرة بعد حصار المولى مغيث لها ثلاثة شهور، في حين كان طارق يخترق شبه الجزيرة من وسطها بسرعة خاطفة حتى وصل إلى طُلَيْطُلة العاصمة قبل حلول الشتاء. ويبدو أن وصوله كان مفاجأة كاملة لأصحابها فهرب كبار النبلاء ورجال الكنيسة، ولم تبد المدينة مقاومة تذكر فدخلها طارق وجنده وغنموا كثيراً من النفائس التي بهرت عقول الناس، فأطلق بعضهم العنان لخياله في ابتداع الصور الخيالية عنها. ويبدو أن طارقاً تابع تقدمه نحو الجبال المحيطة بها ففتح وادي الحجارة ثم عاد إلى طليطلة لقضاء فصل الشتاء.
نزل موسى بن نصير في الجزيرة الخضراء في رمضان سنة 92هـ/ حزيران وتموز 711م، مع عشرة آلاف أو ثمانية عشر ألف مجاهد، أكثرهم من العرب. ولم يكن قدومه إلى الأندلس بدافع الحسد لاستئثار طارق بشرف الفتح، كما يرى بعض المؤرخين، بل كان استجابة لضرورات تأمين الفتح واستكماله لأن طارق بن زياد اخترق الجزيرة من وسطها وترك على جانبيه معاقل مهمة قوتها بالمقاومة الشديدة التي واجهت بها موسى، بحيث استغرق فتح معاقل الغرب من الجنوب إلى الوسط أكثر من سنة. بدأت غزوات موسى بفتح مدينة شَذُونة Medina Sidonia ثم قَرْمُوِنة الحصينة التي فتحت بالحيلة، وبعدها اضطر إلى التوقف أمام إشْبِيليَة محاصراً عدة شهور. وأبدت ماردَة إثر ذلك مقاومة أشد، إذ حاربه أهلها خارجها كما أوقعوا بالذين حاولوا اختراق السور ثم استسلمت. ولما غادرها موسى شمالاً نحو طُلَيْطُلة خرج طارق للقائه فاجتمعا في مدينة طَلَبِيرَة، وكان اللقاء عاصفاً بحسب الروايات التي تباينت قي تحديد مدى الجفاء الذي أظهره موسى لتابعه، ومع ذلك أبقى موسى طارقاً في موقعه القيادي وأمره بمتابعة الفتح، سواء كان برفقة مولاه كما حصل عند فتح سَرَقُسْطَة على وادي إِبرو، أو منفرداً عندما سار على خط روماني قديم متجهاً غرباً نحو جليقية حيث مدن أماية وليون واشتُرقة Astorga في السفوح الجنوبية لجبال أشتوريش وجليقية. وقام موسى في أثناء ذلك بفتح لارِدَة على أحد روافد الإبْرو، ثم اتجه غرباً ليفتح مدن الساحل الشمالي الذي يحيط بجبال مناطق أشتوريش وجليقية من الشمال مثل أوبيدو (أوفيدو) وخيخون. وبذلك اضطر بعض سكان السهول المحيطة بهذه الجبال، سواء في الشمال أو في الجنوب، ممن لم يرغب في الاستسلام للعرب إلى ارتقاء هذه الجبال الوعرة والتحصن بها، حيث تكونت النواة الأولى للمقاومة الإسبانية في المراحل اللاحقة.
غادر موسى إثر ذلك الأندلس برفقة مولاه طارق تنفيذاً لأمر الخليفة أواخر سنة 95هـ/أيلول 714م، تاركاً حكمها لابنه عبد العزيز. وصل موكبه الكبير الذي ضم الأسرى والسبي والغنائم إلى دمشق قبيل وفاة الوليد بن عبد الملك سنة 96هـ/715م.
Al-Andalus - Al-Andalûs
الأندلس تاريخياً
فتح الأندلس
1ـ أحوال الأندلس قبل الفتح: اتسم فتح الأندلس باليسر والسرعة مقارنة بفتح المغرب الذي سبقها مباشرة. ويمكن تفسير ذلك بوضع الأندلس التي كانت تعيش آنذاك مرحلة أزمة تفاقمت لعدة عقود، كان الحكام قبلها وهم قوط غزاة قد أفلحوا في تحقيق الاندماج بين مجتمعهم والمجتمع الإسباني، وذلك بالتخلي عن مذهبهم الأريوسي واعتناق الكاثوليكية مذهب السكان، وبوضع قانون واحد مبني على تقاليد الطرفين وأعرافهما ضمن الوحدة القانونية. لكن هذا المجتمع لم يلبث أن انقسم إلى نبلاء يملكون معظم الأرض، وأقنان يعملون فيها. أما على الصعيد الديني فقد علا مقام رجال الكنيسة الكبار فأفلحوا في توجيه سياسة الدولة نحو اضطهاد الأقلية اليهودية حتى فُرِض التنصر عليهم، ونزع أولادهم منهم بحجة عدم صدقهم في التنصر، والخشية من تربية هؤلاء الأولاد على اليهودية، مما خلق أقلية بالغة النقمة تنشد الخلاص ولو على يد غاز. وفي الوقت نفسه تفاقمت أزمة سياسية بين مؤيدي تطوير النظام الجرماني من الملكية الانتخابية إلى الوراثية، والنبلاء الحريصين على امتيازاتهم في انتخاب الملك. وقد نال ويتيثا Witiza الذي يسميه العرب غيطشة، عرشه وراثة عن أبيه، وقد خفف من اضطهاد اليهود، فأثار عليه بذلك سخط النبلاء ورجال الكنيسة، وزاد هذا السخط محاولته تأكيد نظام الوراثة بتسمية ابنه أخيلا Aquila (وِقْلَة عند العرب) ولياً لعهده وإعطائه حكم شمالي إسبانية. ولما توفي غيطشة عام 90هـ /708م، لم يتمكن ابنه من دخول طُلَيْطُلة والجلوس على العرش، وقام النبلاء بانتخاب دوق قُرْطُبة رودريغو Rodrigo (لذريق أو رذريق عند العرب) فقدم إلى العاصمة التي هرب منها أفراد أسرة غيطشة. ثم قوى سلطانه بعد أن خضع له أَخَوان لوِقْلَة وتسلم وظائف مهمة في جيشه.
2ـ عمليات الفتح: اتصل يوليان بموسى بن نصير، مباشرة أو عن طريق طارق بن زياد وعرض عليه إمداده بالسفن والأدلاء لغزو الأندلس، كما هوّن من شأن المقاومة فيها. وبناء على أمر الخليفة تم التأكد من صدق يوليان ومن عداوته للذريق، بقيامه بغارة على جهات الجزيرة الخضراء، عاد منها بسرعة حاملاً الغنائم والسبي. كما اختبر العرب ضعف المقاومة بتوجيه غارة قاد فيها طريف بن مالك أربعمئة راجل ومئة فارس نزلوا في ميناء أندلسي قريب من الشاطىء المغربي للمضيق، حمل منذ ذلك الوقت اسم طريف Tarrif، وأحرزوا نجاحاً مماثلاً لما حققه يوليان.
قامت الحملة الكبرى في رجب أو شعبان سنة 91هـ/ نيسان أو أيار سنة 710م، بقيادة طارق بن زياد وتألفت من سبعة آلاف مجاهد حملتهم أربع سفن ليوليان على دفعات وأنزلتهم في سفح جبل كالبي Calpe الذي حمل اسم طارق فيما بعد. ورفده موسى بن نصير بعد ذلك بخمسة آلاف مقاتل. توافقت عملية الإنزال مع انشغال لذريق بمحاربة الخارجين عليه في بمبلونة بأقصى شمالي الأندلس. وتبعه تحرك طارق لاحتلال بقية الخليج المتصل بالجبل، الذي تقع في أعلاه مدينة قرطجنة Cartagena الصغيرة، وينتهي على بعد ستة أميال بالموقع الذي سمي الجزيرة الخضراء، مما يدل على سعيه لإيجاد خليج بحري للاتصال مع قاعدته. لكن روايات متأخرة تنفرد بنسبة عملين آخرين إلى طارق أولهما إحراق السفن وثانيهما خطبته المشهورة. وهذان الأمران موضع نظر وبحث.
بعدما علم لذريق بنزول طارق اتجه مسرعاً إلى الجنوب على رأس جيش اختلفت الروايات في تقدير عدده بين الأربعين ألفاً والمئة ألف. أما طارق فلم يسر إلا مسافة يسيرة نحو الشمال الغربي نحو بحيرة خاندا التي تمتد عدة كيلومترات في موازاة البحر، ويعبرها نهر بَرْبَاط Barbat (الشائع تسميته في المصادر العربية بوادي لكُّه)، وهناك حمى طارق جناحي جيشه بمانعين طبيعيين هما البحيرة من جانب ومرتفعات جبال ريتين المجاورة من جانب آخر، وبذلك حرم خصمه الاستفادة من نقاط تفوقه في العدد لأن الميدان ضيق.
بدأت المعركة في 28 رمضان91هـ/31 تموز 710م ودامت ثمانية أيام انتهت بهزيمة لذريق وموته غرقاً على الأرجح. وربما ساعد العرب على إحراز هذا النصر خيانة جرت في جيش لذريق، إذ إن ششبرت وأبه قريبي وقلة، كانا يقودان الميمنة والميسرة في جيش لذريق وقد انسحبا في أوج المعركة كي يجرا عليه الهزيمة وكانا يظنان أن العرب سوف ينسحبون من الأندلس بعد امتلاء أيديهم بالغنائم، أما ابن القوطية، سليل أسرة غيطشة من ناحية الأم والمولع بالاعتماد على روايات الشعوبيين من مولدي الأندلس، فيذكر أن الانسحاب تم بالاتفاق مع طارق الذي وعدهما برد ضياع أبيهما إليهما البالغ عددها ثلاثة آلاف ضيعة.
كان نصر العرب مُكلفاً إذ خسروا ربع عددهم، لكنه كان من ناحية أخرى الحدث الحاسم في الفتح، لأنه حطم أكبر قوة ضاربة أمكن للقوط جمعها، كما كان من جملة غنائم المسلمين خيول كافية لإركاب المجاهدين جميعاً وقد مكنتهم من طي المراحل بسرعة. إذ إن طارقاً لم يتوقف في مكانه بانتظار سيده كما أُمِر، بل تابع تقدمه لاستثمار النصر، فهاجم أولاً مدينة إِستِجَة على نهر شنيل حيث احتمت فلول المنهزمين، وأحرز نصراً آخر بعد معركة حامية. لكن متابعة الفتح بهذا الأسلوب، من حرب المعاقل كان يضطره إلى التوقف عند كل مدينة مما يفسح في المجال للقوط لجمع أمرهم، لذلك عمل بنصيحة يوليان مرافقه باتباع طريقة الحرب الخاطفة، فأرسل قوات قليلة إلى مدن مالَقَة وغرناطة وقُرْطُبَة. وقد فتحت هذه الأخيرة بعد حصار المولى مغيث لها ثلاثة شهور، في حين كان طارق يخترق شبه الجزيرة من وسطها بسرعة خاطفة حتى وصل إلى طُلَيْطُلة العاصمة قبل حلول الشتاء. ويبدو أن وصوله كان مفاجأة كاملة لأصحابها فهرب كبار النبلاء ورجال الكنيسة، ولم تبد المدينة مقاومة تذكر فدخلها طارق وجنده وغنموا كثيراً من النفائس التي بهرت عقول الناس، فأطلق بعضهم العنان لخياله في ابتداع الصور الخيالية عنها. ويبدو أن طارقاً تابع تقدمه نحو الجبال المحيطة بها ففتح وادي الحجارة ثم عاد إلى طليطلة لقضاء فصل الشتاء.
نزل موسى بن نصير في الجزيرة الخضراء في رمضان سنة 92هـ/ حزيران وتموز 711م، مع عشرة آلاف أو ثمانية عشر ألف مجاهد، أكثرهم من العرب. ولم يكن قدومه إلى الأندلس بدافع الحسد لاستئثار طارق بشرف الفتح، كما يرى بعض المؤرخين، بل كان استجابة لضرورات تأمين الفتح واستكماله لأن طارق بن زياد اخترق الجزيرة من وسطها وترك على جانبيه معاقل مهمة قوتها بالمقاومة الشديدة التي واجهت بها موسى، بحيث استغرق فتح معاقل الغرب من الجنوب إلى الوسط أكثر من سنة. بدأت غزوات موسى بفتح مدينة شَذُونة Medina Sidonia ثم قَرْمُوِنة الحصينة التي فتحت بالحيلة، وبعدها اضطر إلى التوقف أمام إشْبِيليَة محاصراً عدة شهور. وأبدت ماردَة إثر ذلك مقاومة أشد، إذ حاربه أهلها خارجها كما أوقعوا بالذين حاولوا اختراق السور ثم استسلمت. ولما غادرها موسى شمالاً نحو طُلَيْطُلة خرج طارق للقائه فاجتمعا في مدينة طَلَبِيرَة، وكان اللقاء عاصفاً بحسب الروايات التي تباينت قي تحديد مدى الجفاء الذي أظهره موسى لتابعه، ومع ذلك أبقى موسى طارقاً في موقعه القيادي وأمره بمتابعة الفتح، سواء كان برفقة مولاه كما حصل عند فتح سَرَقُسْطَة على وادي إِبرو، أو منفرداً عندما سار على خط روماني قديم متجهاً غرباً نحو جليقية حيث مدن أماية وليون واشتُرقة Astorga في السفوح الجنوبية لجبال أشتوريش وجليقية. وقام موسى في أثناء ذلك بفتح لارِدَة على أحد روافد الإبْرو، ثم اتجه غرباً ليفتح مدن الساحل الشمالي الذي يحيط بجبال مناطق أشتوريش وجليقية من الشمال مثل أوبيدو (أوفيدو) وخيخون. وبذلك اضطر بعض سكان السهول المحيطة بهذه الجبال، سواء في الشمال أو في الجنوب، ممن لم يرغب في الاستسلام للعرب إلى ارتقاء هذه الجبال الوعرة والتحصن بها، حيث تكونت النواة الأولى للمقاومة الإسبانية في المراحل اللاحقة.
غادر موسى إثر ذلك الأندلس برفقة مولاه طارق تنفيذاً لأمر الخليفة أواخر سنة 95هـ/أيلول 714م، تاركاً حكمها لابنه عبد العزيز. وصل موكبه الكبير الذي ضم الأسرى والسبي والغنائم إلى دمشق قبيل وفاة الوليد بن عبد الملك سنة 96هـ/715م.
تعليق