حجما ، وراح رسمه يكتسب رسوخا واتساعا ، وفي عام ١٩٣١ _ ١٩٣٢ رسم مجموعة من اللوحات التنقيطية والخالية أيضا من كل برودة. علما بأن المذهب الانطباعي الجديد ، قد نبه الى مخاطر هذه التقنية المبالغة في الدقة التي تبلغ لدى كلي درجة تزيد لوحاته سرية ، وتجعل فيها ما يشبه الخلجات الشعرية. وفي أواخر حياته ، أي في عام ١٩٣٣، أجبرته النازية على العودة الى مسقط رأسه سويسرا وهناك زاد أيضاً في توسيع خطوطه ، وجعلها اهليلجية أكثر فأكثر . ولذلك نرى أن لوحاته تحمل أحياناً رمزية ليس من اليسير حلها . وعلاوة على ذلك ، فان المرض الذي يعاني منه اعتباراً من عام ۱۹۳۵ ، ودنو أجله المحتوم ، ينعكسان على فنه . وليست مواضيع اللوحات وحدها . التي تشهد بذلك (المقبرة . آلیا جاکتا است ) ( قرر القدر ) ، الملاك اليقظ ، والملاك الحائر ، الملاك الناسي . وانما يشهد بذلك أيضاً ما يلاحظ في الخطوط والألوان من الاعياء . ومع ذلك ، فان معظم اللوحات التي كان ماضيا في تصويرها لاتخلو من التحفز ، ومن الحزم.وفيها مجموعة رائعة من الصور المرسومة بأقلام البلستيل التي تمتاز بألوان مشبعة تتراوح بين ا والرصانة يحيطها فن تصويري متين .
وبالاجمال ، فان كلي لا يعرف المأساة ولا يعرف العنف ولا القنوط الممزق واذا ما شاهدنا شياطين في لوحاته ، شياطين خبيثة أو شريرة ، ولكنها ليست مريعة. لأن كلي لا يستهدف أن يبعث في نفوسنا الاضطراب . على أنه يجعلنا نحس بشيء من الغربة والمتعة . اذ يخرجنا مما في أوضاعنا من ضيق ، ومما فيها من أحوال مأساوية . وهو يعتبر الكائن البشري ، في الغالب ، مجرد رجل بسيط ( درویش ) ، مجرد مخلوق صغير . قامته قصيرة ، ووجهه وجه دمية ، وحركاته حركات شاخص ، وهذا الدرويش البسيط يمر بمغامرات طبعاً ولكنها مغامرات لا تختلف في شيء عن مغامرات نبتة في الأرض ، أو غيمة في السماء . ولذلك ينظر الفنان الى تلك المغامرات تارة نظرة اللامبالي. وطورا نظرة اللاهي الساخرة وعندما جاءه المرض ، وعندما دنا الأجل ، نراه متداعياً ، ولكننا لانراه أبداً ثائراً .
ومن المصورين الآخرين الذين ألقوا الدروس في معهد باو هاوز ، لسنا نجد فناناً جذاباً أكثر من فينينجر كما لا نجد أكثر منه تبوءاً للمكان المناسب له ، اللائق به في معهد يلقن فيه الفكر البناء الى هذا الحد . ومنذ ما قبل الحرب نجده يظهر حبه لأسلوب يعتمد على انتظام الأشكال ، وعلى توازن خطوط القوى . وبذلك لم يكن عليه أن يغير سيره ، بل كان يكفيه التقدم في الاتجاه نفسه. وهذا بالواقع مافعله في فايمار . فمن جهة أولى ، زاد من دقة رسمه ومن حدته . ومن جهة ثانية ، زاد من شاعرية النور ومن صفائه البلوري بحيث أصبح دور الضوء حاسماً أكثر فأكثر وفي مقابل الظلال ، ومافيها من أسرار وخفايا ، يضع الفنان ضروباً من الضوء الخفاق النابض الذي يخلع على اللوحات مافيها من حياة ومن تنسيق . وقد ينسكب الضوء متدفقاً على الأشياء . فكأنما تسلط عليها الانوار الكاشفة . وحتى عندما ينتشر الضوء برقة نراه يشكل حزماً ضوئية أو مناطق نيرة محددة بخطوط واضحة وضوح الخطوط الهندسية . وهذا الوضوح نجده حتى في الانعكاسات على الماء ، وحتى في الغيوم التي تنبسط فوق البحر وبالاختصار ، حتى في ماهو مائع ، ما هو شفاف ، ماهو غير ملموس . ومع ذلك فان حقيقة كل لم يفرط بها فنحن نشعر برطوبة هواء البحر ، وبالريح الخافقة في أشرعة السفن وبجنو نهار باهت على سطوح الكنائس والبيوت القديمة في ( تورنج Thuringe ). وجماع القول أنه في ألمانيا القرن العشرين ، لم يبدع الفنانون الا القليل من الاعمال التي على مستوى صور فينينجر من حيث قوة بنيان الصورة وشاعريتها وروما نطقيتها . وبعد أربع سنوات من استيلاء هتلر على زمام الحكم عاد هذا الفنان الى الولايات المتحدة ليعيش فيها . وظل هنالك فنانا بناء مولعاً بالنور ، هذا النور الذي يغير ملامح الأشياء أحياناً الى درجة أنها تبدو خيالية .
أما Schlimmer شليمر فان الموضوع الذي يستهويه هو الكائن البشري وهو يرسم شبانا وصبايا ، فيجعل أجسادهم مجرد رسم أولي قليل التمفصل . وهو في ذلك متأثر بذكرياته عن سورات وعن التماثيل الاغريقية القديمة . . وهو يضع شبانه وصباياه داخل مساكن عصرية ، أو في قاعات الدرس ، أو في سلم معهد « باو هاوز » . ولكن هؤلاء الشبان والشابات باشاراتهم البطيئة والموزونة وبحركاتهم الواسعة ، وبوضعياتهم الثابتة المرنة والمتكلفة ، وبما لهم من ألوان قائمة ... هؤلاء الشبان والشابات يبدون وكأنهم راقصون أو ممثلون ايمائيون في حفلة رقص خيالية .
أما يافلنسكي Jawlensky ، فقد أخذ يرسم اعتبارا من ١٩١٨ ، صور رؤوساً بشرية شبيهة بالأقنعة . فأشكالها في منتهى البساطة ورسمها في منتهى الانتظام . ومع صور رؤوسا كثيرة ، فهو لم ينوع كثيراً . والذي يميز بعضها عن بعض انما هو اللون الذي يكون تارة حلوا وطورا شديد الالحاح. وتنوع الألوان هو الذي أتاح له أن يعطي هذه الصور أسماء مختلفة ، مثل بارتنون Parthenon » والربيع ، والسر الكبير ، وغير ذلك . . . ومهما يكن من أمر ، ورغم أنه لم يدرس في الباو هاوز ، فقد كان على اتصال بكل من كلي وكندينسكي . ، و فينينجر، وظل يجود بفن ينم عن الارادة والدقة حتى جاءه المرض حوالي ١٩٣٤ . فاصابه نوع من التهاب المفاصل المشوه فسلب بده قدرتها على هذه الخطوط الدقيقة التي ظل يؤثرها مدة طويلة لرغبته في اعطاء الأشكال شيئاً من الروح .
واذا شئنا أن نبحث في ألمانيا عن فن تصويري بنائي تتجسد فيه ذهنية المهندس ، توفر لنا ذلك في العشرينات في شخصية ( بوميستر Baumeister ) هذا الفنان كائنا بشريا ، يذكرنا بفنان مثل شلمر . على نتصور أن الأجسام التي يرسمها هذا الفنان بالذات ، والتي تخالها مصنوعة من الكاوتشوك قد تحولت الى أجسام من معدن . وذلك بتأثير الفنان ليجيه Leger واذا اكتفى بوميستر بتجميع أشكال مجردة ، بدا عليها غالباً طابع ميكانيكي، مما يذكرنا أيضاً بالفنان الفرنسي المعلم ليجيه نفسه ولكن على برودة أكثر . وبعقلانية أشد . وعلى كل حال ، فبعد تخلى بوميستر عن حسابات المذهب البنائي الدقيقة ، وطفق يرسم صوراً أقل انتظاماً تقربه من ميرو Miro
وان الميول الداعية الى الصفاء نلاقيها أيضاً في فرنسا . وليس عند مندريان أو كوبكا فحسب .. ففي عام ۱۹۱۸ . نشر « أوزنفان و د جانيريه Ozenfant et Jeanneret » في باريز بحثاً بعنوان : بعد التكعيبية » . وبعد بذلك بسنتين أسسا مجلة باسم « الفكر الجديد » . لكنها احتجبت عن الظهور عام ۱۹۲٥ . فنشر الرجلان مؤلفا جديدا بعنوان ( التصوير الحديث ) وهما يهدفان من كل ذلك الى الدفاع عن الصفائية ». ومن الطريف أن نقرأ كيف عرفا هذا المذهب فبعد أن أثنيا على محاولات التكعيبيين ، قالا في عام ١٩٢٥ : «أما مذهب الصفائية المنبثق من المذهب التكعيبي فانه يقبل بالمبادىء العامة لهذا المذهب الأخير ، يرى تضييق الحقوق الممنوحة للمصور لذا ، وبغية بلوغ فن ذي شمول عالمي ، ومنقى عمدا من كل ماهو مجرد لهو ، فقد بني لا على مافي الانسان من ضروب الضعف المسماة الحساسية السخيفة ، والتصنع والمحبة، والشهوانية والاباحية وانحراف الحس بل انه يسعى ليكون فناً ، على نقيض الذوق الرائج ، ينتج أعمالا فنية متسمة بطابع الديمومة ، لا يؤثر فيها مرور الأيام ، وكان اوزنغان وجانيريه قد أعلنا منذ ١٩١٨ أن « العمل الفني لا يجوز أن يكون عملا عرضياً أو استثنائياً ، أو انطباعيا، أو غير عضوي ، أو رافضاً أو فاتنا . وانما ينبغي على الفن أن يكون على عكس ذلك ، أمراً متصفا بالشمول وبالثبات ، ومعبرا عما لا يتغير . الدلالة على ومثل هذه العبارة التي كان يمكن لمندريان أن يكتبها ، تدلنا أوضح أن هذين الفنانين يريدان أن يقفا موقفا معاكسا تماما لكل من الانطباعية والسيريالية . لكنهما لا يتخليان قط عن تصوير الأشياء ، علما بأن الأشياء التي يؤثرانها القيثارة » و « جرة الماء » و « القنينة » و « الكأس » ، قد سبق أن أحبها التكعيبيون. بيد أن أصحاب مذهب الصفائية يصورونها ضمن خطوط تامة الانتظام ، ثم يكسونها بلون باهت أي أنهم يجعلونها أكثر تجريدية . وهم يضعونها ، فوق ذلك ، في جو من الهواء الخفيف ، وفي غمرة ضوء عديم الحرارة ، بحيث أن كل ما في هذه الصور يؤكد مافي هذا الفن من طابع فكري . وهو فن لا مناص من القول عنه أنه يبالغ قليلا في تقديره للحساب . ولذلك فان تأثير الصفائيين الذي يساوي تنبيها بالعودة الى النظام ، هذا التأثير ، كان أكثر فاعلية من لوحاتهم . .. هذا ، علماً بأن لباب عمل جانيريه ، انماجاء في مجال الهندسة المعمارية تحت اسم لو كوربوزييه Le Corbusier ."
ولم تجر العادة على اعتبار المصور الألماني فروندلیش Freundlich » من جماعة « الصفائيين » ، وكان قد عاد في عام ١٩٢٤ للاقامة في باريز التي كان قد قضى فيها خمسة أعوام قبل الحرب . وليس هناك شيء مشترك بين فنه وفن جانيريه و أوزنغان وغيرهما - . .. ومع ذلك ، يمكن القول إن لوحاته هي ، من بعض النواحي ، أكثر نقاء من لوحاتهم . لأنها لا تحوي الا أشكالا هندسية بسيطة. فهل يعني ذلك أنه أقرب الى مندريان ؟ أنه يذكر ، بالاحرى ، بتلك اللوحات ذات المستطيلات والمربعات التي حبانا بها كلي . اللهم الا أنه أقل نزوات من كلي وأنه يستهدف أكثر منه ماهو جليل . وتنقسم سطوح لوحاته إلى مناطق لونية مختلفة . وتتكون الألوان المسيطرة لديه من تدرجات متتابعة من لون واحد . لكن هذه الدرجات ليست على مستوى واحد . فبعضها أقرب إلى أمامية الصورة . وبعضها ينسحب إلى خلفيتها . وتبدو للناظر رؤى شفافة ، وظلال مخملية من طلاءات حالمة إلى جانب أضواء واضحة مشعة .
وبالاجمال ، فان كلي لا يعرف المأساة ولا يعرف العنف ولا القنوط الممزق واذا ما شاهدنا شياطين في لوحاته ، شياطين خبيثة أو شريرة ، ولكنها ليست مريعة. لأن كلي لا يستهدف أن يبعث في نفوسنا الاضطراب . على أنه يجعلنا نحس بشيء من الغربة والمتعة . اذ يخرجنا مما في أوضاعنا من ضيق ، ومما فيها من أحوال مأساوية . وهو يعتبر الكائن البشري ، في الغالب ، مجرد رجل بسيط ( درویش ) ، مجرد مخلوق صغير . قامته قصيرة ، ووجهه وجه دمية ، وحركاته حركات شاخص ، وهذا الدرويش البسيط يمر بمغامرات طبعاً ولكنها مغامرات لا تختلف في شيء عن مغامرات نبتة في الأرض ، أو غيمة في السماء . ولذلك ينظر الفنان الى تلك المغامرات تارة نظرة اللامبالي. وطورا نظرة اللاهي الساخرة وعندما جاءه المرض ، وعندما دنا الأجل ، نراه متداعياً ، ولكننا لانراه أبداً ثائراً .
ومن المصورين الآخرين الذين ألقوا الدروس في معهد باو هاوز ، لسنا نجد فناناً جذاباً أكثر من فينينجر كما لا نجد أكثر منه تبوءاً للمكان المناسب له ، اللائق به في معهد يلقن فيه الفكر البناء الى هذا الحد . ومنذ ما قبل الحرب نجده يظهر حبه لأسلوب يعتمد على انتظام الأشكال ، وعلى توازن خطوط القوى . وبذلك لم يكن عليه أن يغير سيره ، بل كان يكفيه التقدم في الاتجاه نفسه. وهذا بالواقع مافعله في فايمار . فمن جهة أولى ، زاد من دقة رسمه ومن حدته . ومن جهة ثانية ، زاد من شاعرية النور ومن صفائه البلوري بحيث أصبح دور الضوء حاسماً أكثر فأكثر وفي مقابل الظلال ، ومافيها من أسرار وخفايا ، يضع الفنان ضروباً من الضوء الخفاق النابض الذي يخلع على اللوحات مافيها من حياة ومن تنسيق . وقد ينسكب الضوء متدفقاً على الأشياء . فكأنما تسلط عليها الانوار الكاشفة . وحتى عندما ينتشر الضوء برقة نراه يشكل حزماً ضوئية أو مناطق نيرة محددة بخطوط واضحة وضوح الخطوط الهندسية . وهذا الوضوح نجده حتى في الانعكاسات على الماء ، وحتى في الغيوم التي تنبسط فوق البحر وبالاختصار ، حتى في ماهو مائع ، ما هو شفاف ، ماهو غير ملموس . ومع ذلك فان حقيقة كل لم يفرط بها فنحن نشعر برطوبة هواء البحر ، وبالريح الخافقة في أشرعة السفن وبجنو نهار باهت على سطوح الكنائس والبيوت القديمة في ( تورنج Thuringe ). وجماع القول أنه في ألمانيا القرن العشرين ، لم يبدع الفنانون الا القليل من الاعمال التي على مستوى صور فينينجر من حيث قوة بنيان الصورة وشاعريتها وروما نطقيتها . وبعد أربع سنوات من استيلاء هتلر على زمام الحكم عاد هذا الفنان الى الولايات المتحدة ليعيش فيها . وظل هنالك فنانا بناء مولعاً بالنور ، هذا النور الذي يغير ملامح الأشياء أحياناً الى درجة أنها تبدو خيالية .
أما Schlimmer شليمر فان الموضوع الذي يستهويه هو الكائن البشري وهو يرسم شبانا وصبايا ، فيجعل أجسادهم مجرد رسم أولي قليل التمفصل . وهو في ذلك متأثر بذكرياته عن سورات وعن التماثيل الاغريقية القديمة . . وهو يضع شبانه وصباياه داخل مساكن عصرية ، أو في قاعات الدرس ، أو في سلم معهد « باو هاوز » . ولكن هؤلاء الشبان والشابات باشاراتهم البطيئة والموزونة وبحركاتهم الواسعة ، وبوضعياتهم الثابتة المرنة والمتكلفة ، وبما لهم من ألوان قائمة ... هؤلاء الشبان والشابات يبدون وكأنهم راقصون أو ممثلون ايمائيون في حفلة رقص خيالية .
أما يافلنسكي Jawlensky ، فقد أخذ يرسم اعتبارا من ١٩١٨ ، صور رؤوساً بشرية شبيهة بالأقنعة . فأشكالها في منتهى البساطة ورسمها في منتهى الانتظام . ومع صور رؤوسا كثيرة ، فهو لم ينوع كثيراً . والذي يميز بعضها عن بعض انما هو اللون الذي يكون تارة حلوا وطورا شديد الالحاح. وتنوع الألوان هو الذي أتاح له أن يعطي هذه الصور أسماء مختلفة ، مثل بارتنون Parthenon » والربيع ، والسر الكبير ، وغير ذلك . . . ومهما يكن من أمر ، ورغم أنه لم يدرس في الباو هاوز ، فقد كان على اتصال بكل من كلي وكندينسكي . ، و فينينجر، وظل يجود بفن ينم عن الارادة والدقة حتى جاءه المرض حوالي ١٩٣٤ . فاصابه نوع من التهاب المفاصل المشوه فسلب بده قدرتها على هذه الخطوط الدقيقة التي ظل يؤثرها مدة طويلة لرغبته في اعطاء الأشكال شيئاً من الروح .
واذا شئنا أن نبحث في ألمانيا عن فن تصويري بنائي تتجسد فيه ذهنية المهندس ، توفر لنا ذلك في العشرينات في شخصية ( بوميستر Baumeister ) هذا الفنان كائنا بشريا ، يذكرنا بفنان مثل شلمر . على نتصور أن الأجسام التي يرسمها هذا الفنان بالذات ، والتي تخالها مصنوعة من الكاوتشوك قد تحولت الى أجسام من معدن . وذلك بتأثير الفنان ليجيه Leger واذا اكتفى بوميستر بتجميع أشكال مجردة ، بدا عليها غالباً طابع ميكانيكي، مما يذكرنا أيضاً بالفنان الفرنسي المعلم ليجيه نفسه ولكن على برودة أكثر . وبعقلانية أشد . وعلى كل حال ، فبعد تخلى بوميستر عن حسابات المذهب البنائي الدقيقة ، وطفق يرسم صوراً أقل انتظاماً تقربه من ميرو Miro
وان الميول الداعية الى الصفاء نلاقيها أيضاً في فرنسا . وليس عند مندريان أو كوبكا فحسب .. ففي عام ۱۹۱۸ . نشر « أوزنفان و د جانيريه Ozenfant et Jeanneret » في باريز بحثاً بعنوان : بعد التكعيبية » . وبعد بذلك بسنتين أسسا مجلة باسم « الفكر الجديد » . لكنها احتجبت عن الظهور عام ۱۹۲٥ . فنشر الرجلان مؤلفا جديدا بعنوان ( التصوير الحديث ) وهما يهدفان من كل ذلك الى الدفاع عن الصفائية ». ومن الطريف أن نقرأ كيف عرفا هذا المذهب فبعد أن أثنيا على محاولات التكعيبيين ، قالا في عام ١٩٢٥ : «أما مذهب الصفائية المنبثق من المذهب التكعيبي فانه يقبل بالمبادىء العامة لهذا المذهب الأخير ، يرى تضييق الحقوق الممنوحة للمصور لذا ، وبغية بلوغ فن ذي شمول عالمي ، ومنقى عمدا من كل ماهو مجرد لهو ، فقد بني لا على مافي الانسان من ضروب الضعف المسماة الحساسية السخيفة ، والتصنع والمحبة، والشهوانية والاباحية وانحراف الحس بل انه يسعى ليكون فناً ، على نقيض الذوق الرائج ، ينتج أعمالا فنية متسمة بطابع الديمومة ، لا يؤثر فيها مرور الأيام ، وكان اوزنغان وجانيريه قد أعلنا منذ ١٩١٨ أن « العمل الفني لا يجوز أن يكون عملا عرضياً أو استثنائياً ، أو انطباعيا، أو غير عضوي ، أو رافضاً أو فاتنا . وانما ينبغي على الفن أن يكون على عكس ذلك ، أمراً متصفا بالشمول وبالثبات ، ومعبرا عما لا يتغير . الدلالة على ومثل هذه العبارة التي كان يمكن لمندريان أن يكتبها ، تدلنا أوضح أن هذين الفنانين يريدان أن يقفا موقفا معاكسا تماما لكل من الانطباعية والسيريالية . لكنهما لا يتخليان قط عن تصوير الأشياء ، علما بأن الأشياء التي يؤثرانها القيثارة » و « جرة الماء » و « القنينة » و « الكأس » ، قد سبق أن أحبها التكعيبيون. بيد أن أصحاب مذهب الصفائية يصورونها ضمن خطوط تامة الانتظام ، ثم يكسونها بلون باهت أي أنهم يجعلونها أكثر تجريدية . وهم يضعونها ، فوق ذلك ، في جو من الهواء الخفيف ، وفي غمرة ضوء عديم الحرارة ، بحيث أن كل ما في هذه الصور يؤكد مافي هذا الفن من طابع فكري . وهو فن لا مناص من القول عنه أنه يبالغ قليلا في تقديره للحساب . ولذلك فان تأثير الصفائيين الذي يساوي تنبيها بالعودة الى النظام ، هذا التأثير ، كان أكثر فاعلية من لوحاتهم . .. هذا ، علماً بأن لباب عمل جانيريه ، انماجاء في مجال الهندسة المعمارية تحت اسم لو كوربوزييه Le Corbusier ."
ولم تجر العادة على اعتبار المصور الألماني فروندلیش Freundlich » من جماعة « الصفائيين » ، وكان قد عاد في عام ١٩٢٤ للاقامة في باريز التي كان قد قضى فيها خمسة أعوام قبل الحرب . وليس هناك شيء مشترك بين فنه وفن جانيريه و أوزنغان وغيرهما - . .. ومع ذلك ، يمكن القول إن لوحاته هي ، من بعض النواحي ، أكثر نقاء من لوحاتهم . لأنها لا تحوي الا أشكالا هندسية بسيطة. فهل يعني ذلك أنه أقرب الى مندريان ؟ أنه يذكر ، بالاحرى ، بتلك اللوحات ذات المستطيلات والمربعات التي حبانا بها كلي . اللهم الا أنه أقل نزوات من كلي وأنه يستهدف أكثر منه ماهو جليل . وتنقسم سطوح لوحاته إلى مناطق لونية مختلفة . وتتكون الألوان المسيطرة لديه من تدرجات متتابعة من لون واحد . لكن هذه الدرجات ليست على مستوى واحد . فبعضها أقرب إلى أمامية الصورة . وبعضها ينسحب إلى خلفيتها . وتبدو للناظر رؤى شفافة ، وظلال مخملية من طلاءات حالمة إلى جانب أضواء واضحة مشعة .
تعليق