النحت
استمر النحت الحي في مطلع عصرنا هذا تحت سيطرة و رودان وحين ظهرت اتجاهات جديدة شرعت تقاومه . ولا تخرج أول الأمر عن اطار الجمالية الواقعية. ومع ذلك نجد بين من نادى بهذا الاتجاه نحاتين عملا في مشغل رودان نفسه هما : بورديل Bourdelle و دسیو Despiau .
شارك بورديل استاذه تذوق الأعمال المثيرة . بيد أنه يهتم أكثر منه بالبنية وبالتوترات المعمارية المتوازنة. فإذا ما نحت تمثال كاهنة الاله باخوس ( ١٩٠٣ ) أو تمثال هيراكليس رامي السهام ( ۱۹۰۹ ) ، فإنه يعطي لأشخاصه مايجعلها تبدو وكأنها تعود إلى بلاد اليونان حين قليلة التمدن ، فترفض الحسي وتجابه المأساوي باستمرار . ومعنى ذلك أنها لا تملك قسوة الأقدمين فحسب، بل تملك أيضاً تعبيراً متوتراً تقوده رغبة الظهور بالبطولة إلى درجة المسرحية .
أما ديسبيو فينحرف عن رودان ، أكثر من بورديل : لا شيء غريب عنه أكثر من المفجع أو البحث عن التصادم العنيف بين النور والظلام . إنه نحات أشخاص بصورة رئيسية لا ينظر إلى روح جليسه بقدر نظرته إلى شكل وجهه . وإذا ما ظهرت شخصيته حين حقق تمثالاً نصفياً لـ «فتاة صغيرة في اللاند » ( ١٩٠٤ ) ، فإنه لم يتقدم إلا ببطء ، وأكثر أعماله تعبيراً لم تنفذ إلا بعد عام ١٩٢٠ .
و ممن عارضوا رودان دون أن ينكروا التقليد الواقعي يعتبر « مايول Maillol ، أثقلهم وزناً . فقد بدأ مصوراً ورأينا أنه كان على صلة بالأنبياء ، ولم يجذبه النحت إلا حوالي عام ۱۹۰۰ وكان على عتبة الأربعين من عمره ، ولكنه سريعاً ما وجد مواضيعه وأسلوبه وسيطرته . وما هي مواضيعه الفنية ؟ الحق يقال أنها ليست متنوعة ( البحر الأبيض المتوسط ) ، وه الليل الفعالية المكبلة ، فهي جلوساً وتارة وقوفاً . ولا يهتم مايول بالأفكار ولا بعلم النفس ، وفنه ليس فيه أقل شبهة من الأدب : ومن هذه الزاوية ، يقع على طرفي نقيض مع رودان . ويناقضه أيضاً في الأسلوب . ليس في أعماله شيء من الاضطراب ، ولا من شغف محموم ، ولا من مبالغة في الحركات وأحجامه ليست محفورة بل مدوّرة ، مملوءة وساكنة ، تنبثق عنها طاقة هادئة يعززها النموذج نفسه للجليس المفضل ، جسم قوي أكثر مما هو كيس ، يجهل الأناقة وأيضاً الاستهتار والضنى والمرض وكل فكرة تذكر بالخطيئة . إن شهوانية مايتول وثنية ، دون تبجح وبطبيعة كاملة .
وإذا أردنا إرجاع هذا النحت إلى تقليد ما ، فعلينا أن نعود إلى اليونان ما قبل الكلاسيكية ، هذه التي أعجب بها الفنان والتي وجد فيها من جديد القوة والكمال دون تكلف ودون الاستسلام إلى أساليب الأقدمين . ولهذا يبتعد أيضاً فنه عن فن النحاتين الأكاديميين الذين يتصورون أن بإمكانهم التقرب من العصر القديم بالتقليد . إن جمالية مايول - بالنسبة للمستقبل - ليس لها إلا مدى قليل ، على الرغم مما تتحلى به أعماله من فتوة ، ومهما تحلى به سلوكه من المثالية باكتفائه بالاعتماد في التعبير على الفضائل النحتية وحدها . يستطيع فنان عبقري وساذج في القرن العشرين أن يعيد مؤقتاً القوى للتقليد الواقعي بيد أنه لا يمكنه أن يحول دون كونها محتضرة ، ولا أن يعيد لها خصباً دائماً .
وهذا ما فهمه هؤلاء الذين حرصوا حوالي عام ۱۹۱۰ على إيجاد لغة للنحت ليست أقل جدة من لغه التصوير فمثلاً الألماني « ليهمبروك Lehmbruck » الذي استوطن في باريس عام ۱۹۱۰ ، شرع بعد عام بالاتجاه إلى التعبيرية . فراح يشوه بشكل الجسم الإنساني ، يطيله ، ويجعله نحيفاً ، ويعطيه نسباً لا تعرفها الطبيعة ولا تلبي مثالية الجمال الطبيعي . إنما تكمن في هذه النسب آراء النحات ومشاعره : فعمله المرأة الراكعة » ليست سوى طهارة روح وإيمان ملتهب ، أما عمله شاب واقف ليس سوى صورة المثالية قلقة ومهددة .
أما التجديدات التي حققها دوشان فيللون Duchamp - Villon و «برانکوزی Brancusi » و « بوتشيوني Boccioni و «آرشیبنکو Archipenko » و «ماتیس Matisse » و «موديغلياني Modigliani و ( بيكاسو ) فهي جذرية أكثر. كان باستطاعة كل هؤلاء أن يرددوا مع غوغان » : أكبر خطأ هو الفن اليوناني » . وكان باستطاعة أغلبهم أن يصادق على هذه الجملة التي كتبها مايول : " يجب أن نكون تركيبيين ، يجب أن نعمل على غرار النحاتين العبيد الذين حولوا عشرين شكلا إلى واحد » . وبالفعل ، بينما يعطي مايول هذه النصيحة دون أن يعمل بها ، فإن لنحت العبيد بالنسبة لهؤلاء قيمة نموذجية ، وليس فقط نحت العبيد بل كل نحت بدائي وقديم . وعلى كل حال إذا ما تقربوا من النحت المذكور ليس دائماً بسبب تلقيهم تأثيره ، بل أيضاً لأنه الطبيعي أن يتقربوا منه طالما أنهم قطعوا الصلة . التقليد الواقعي . وهكذا فقد نحت ( ماتيس ) في عام ۱۹۰۹ ( ولم تكن أولى قطعه المنحوتة ) امرأة عارية واقفة ( لاسربانتين ) ( صلات قربي مع ) فينوس صغيرة من الفن العالي الروماني» يحتفظ بها متحف أورليان . ولم يحتفظ الفنان من الحقيقة سوى إيحاءات حجوم ، وإيقاعات وظرف ، وهذه الإيحاءات يترجمها بشكل يجعل السدف يتداخل بلين ويعطينا تأرجح خطوط أكثر ملتوية . وإذا كانت القولبة في هذا العمل بسيطة ، فهي مختلف ( رؤوس جانيت ) ۱۹۱۰ - ۱۹۱۳ التي نحتها : فالتحري عن تضادات أساسية يعطي للوجه شكل صنم قليل الملاحة - وليست هذه الناحية الأقل مغزى في هذه الأعمال التي تثبت أن « ماتيس » يجدد في هذا المجال بقدر تجديده في التصوير .
هذا ينطبق أيضاً على " بيكاسو . إذا كان تمثاله المنحوت الأول صنع عام ۱۸۹۹ ، وبدأ فيه بالابتعاد عن الأسلوب الواقعي منذ عام ١٩٠٦ ، وفي عام ۱۹۱۰ ، عمد إلى قولبة رأس امرأة » عالجه حتماً التكعيبية . فكتلة الرأس تتجزأ لتصبح تجمع سطوح وتجويفات ونتوءات هندسية تحدها حواف قاسية .
أما ( بوكشيوني ) فقد عمد إلى تجزئة مماثلة حين حقق صورة أمه في عام ١٩١١ . وبما أنه مخلص لشغفه بالديناميكية ، فقد ضاعف الحجوم المدببة والمنحنيات العنيفة ، وهذا بالذات ما يميزه عن ( بيكاسو ) . وفي عام ١٩١٣ ، نفذ أعمالاً نحتية عضلات في حالة حركة ، شكلاً فريداً لديمومة في الفضاء ، وفي سدفها نميز ما يشبه جسم إنسان ، بيد أ أن طبيعة السدف الحادة وانحناءاته السريعة المدببة ، والاندفاعات التزقة التي نحس فيها داخل الحجوم ، ووضع الاجمالي المفخم إلى حد ما ، كل هذا يوحي ، بواسطة أشكال مخترعة كلياً، بفعالية قوى تغلي تتخطى السبل الإنسانية .
والتعبير عن الديناميكية يشغل أيضاً نحاتين آخرين خاصة ، دوشان - فيللون وأحياناً آرشيبنكو . وهذا الأخير من أصل روسي ، استقر في باريس عام ۱۹۰۸ . بعد ثلاث سنوات اتصل بالتكعيبيين ، مما حمله في البدء على تنميط جسم الإنسان وعلى إعطائه انحناءات رقوش عربية أنيقة . ثم ما أن أدرك بشكل أفضل تعاليم ( براك » و « بيكاسو ) حتى ابتعد عن شكل الجسم الحقيقي واخترع أشكالاً جديدة له . فمثلاً في منحوتته امرأة تسير » ( ۱۹۱۲ ) عبر عن شكل مدور بحجم مبسط ومقرن وهنا عبر عن نتوءات بحفرة أو بفراغ . وبروح . راح ينجز في عام ١٩١٤ ( منحوتات تصويرية ) بعضها مدرانو » ومؤلفة من مواد متنوعة : « خشب مدهون ، زجاج و معدن » . وقبل عام ، صنع نحتاً تجريدياً » مباراة ملاكمة حيث لا نرى سوى أشكال هندسية نتجابه بید أنه الجهات الجانبية ، وفي التضادات فيما بين الكتل ، وفيما بين الممتلىء والفارغ ، لا يصعب على المرء تمييز القوى التي تهاجم وتدافع . وإذا ما أعطت كافة هذه الأعمال مكانة للفنان ه آرشیبنکو بين مجددي العصر علينا أن نقر بأن الكثير من هذه الأعمال لم تتعد قط الصفة التزيينية وأن البحث كان أهم من التحقيق .
وأمتن النحوت التي حققها التكعيبيون قبل عام ١٩١٤ التي جاءنا بها ( دوشان - فيللون ) ، وهو فنان كانت فترة إنتاجه قصيرة ولكنها خصبة للغاية. وفي عام ۱۹۱۰ تخطى تأثير رودان . وبعد أربعة أعوام اندلعت الحرب التي استنفرته فأصيب خلالها بمرض أودى بحياته في عام ۱۹۱۸ . وقد صنع خلال الفترة المذكورة بعض قطع البرونز وهي من أكثر نحوت القرن العشرين تعبيراً .
وأول أعماله ذات الطابع الشخصي الكامل هو لشاب » ( ۱۹۱۰ ) . وبدون الاهتمام بمجموع العضلات وأيضاً بالاستغناء عن تجزئة الأحجام ، وبدون إظهار هذا النوع من الأجنحة المتخبطة التي نراها لدى « بوكشيوني » ، فإنه يطبع هذا التمثال النصفي بحركة قوية كي لا نقول عنيفة. أما في تمثاله « بودلير » ( ۱۹۱۱ ) فقد زاد تجمع الأشكال وامتلاؤها . ويصور هيئة الرجل ووجه الشاعر . ويعبر هذا التمثال الذي تتآلف فيه الحساسية بشكل جميل مع القسوة ويتآلف طابع الشخصية المميز مع الفخم الدماغ الحزين » وعن « القلب القاتم المستاء ، والفم الرقيق العريض المتعب من جراء تذوقه اللذة والمرارة مرات عديدة ، وبكلمة واحدة كل ما يميز مؤلف « زهور ا الخطيئة » و « نجمة باريس » .
وفي منحوتته ( رأس امرأة ) التي صنعها بعد تمثال « بودلير تراجع الطابع الفردي الشخصي ونفكر حين ننظر إليها بقطعة صنم تمثال «جانيت » لـ « ماتيس » ، بيد أن تمثال « دوشان فيللون ، يبدو أكثر غموضاً وتزيد فيه روح السيطرة الشيطانية وفي عام ۱۹۱۳ ، نفل نقوشاً بارزة ، وجدد فيها بقدر ما جدد في المنحوتات. وأجسام منحوتته ( الحبيبان ) مجزأة إلى بعض الحجوم المسطحة أو المدينة التي مهما تكن مبسطة ، تبقى معبرة إلى أقصى الحدود فهي توحي بحرارة الشغف الغالب وبحلاوات الاستسلام .
وبعد عام إذ استهوى موضوع الحصان دوشان - فيللون راح يقدم لنا تكويناً تجريدياً تتوازن فيه الأشكال الفعالة : فيتحلى بعضها برسم جانبي لين راسخ يحتوي وثبات الحصان وبعضها الآخر يوحي بتصلب ذراع آلية القدرة العمياء الباردة الكامنة في آلة من الفولاذ : بيد أن التركيب كامل وللمجموع قيمة رمزية أخاذة . وبين المنحوتات المستوحاة من الحضارة الصناعية في عصرنا ، فإن القليل منها يعبر بهذه القوة ، وبدون أدنى مبالغة عما لهذه الحضارة من إبداع وقسوة ومن جاذبية وجور . والخلاصة فموقف دوشان - فيللون قريب من موقف ليجيه » : فهما متفائلان بالمكننة ، يؤخذ الإثنان بالقدرة المنتشرة في العالم بفضل تلك المكننة .
أكثر فن يتعارض هذه الديناميكية هو فن « برانكوزي » مع الهادىء النقي. ولد هذا الفنان في رومانيا ، ووصل باريس في عام ١٩٠٤ وراح يتأثر بـ « رودان » ، ا قبل كثيرين غيره من الفنانين . ولم تمض ثلاثة أعوام حتى أخذ طريقاً مختلفة . وإذ توقف عن إحياء النور على سطح الحجوم فإنه استبعد تفاصيل الأجسام والوجوه قاصداً الشكل المغلق ، والكتلة البدائية. بيد أن ( البدائية ) لا تعني العنف بالنسبة له . فتمثاله « رأس امرأة الذي نحته من الحجر عام ۱۹۰۸ لا يخلو من الحلاوة ، وكافة نحوت هذه الفترة مطبوعة بالنعومة . وفي ۱۹۰۹ - ۱۹۱۰ صنع أول تحفة له ( الحورية النائمة ) وهي رأس بسيط مستلقي يكاد يكون بنقاوة البيضة ، أشير فيه إلى العيون وإلى الفم بنعومة كبيرة ، أما الأنف فقد ظهر على شكل زاوية ناتئة دقيقة قليلة الانحناء . والقولبة دقيقة جداً حتى أن الشكل لا يبدو سوى تجسيم سلسلة الحالمة . ويبالغ « برانكوزي » في الزهد بيد أن المرء يستطيع أن يتساءل هذا الفنان أن يتخطى قوة التأثر الذي يثيره تمثاله « الحورية النائمة المتردد بشكل لذيذ بين الصورة البعيدة للحقيقة الخارجية إذا كان بوسع والهندسة القاسية .
وفي منحوتته ( الآنسة بوغاني ) ( ۱۹۱۳ ) ، تقسو المنحنيات وتصبح حادة . أما الشكل فبتطهره أكثر يفقد من خفقانه ، ويقرب من التزيين . بيد أن الفنان يعرف كيف يتفادى الخطر ، وبعد عام ١٩١٤ ، تصبح أعماله من أنقى النحوت وأكثرها رقة بآن واحد .
وحوالي عام ۱۹۰۹ أسدى « برانكوزي » النصائح للمصور الإيطالي موديغلياني الذي يقيم في باريس منذ عام ١٩٠٦ والذي انصرف خلال فترة من الزمن إلى النحت أكثر من انصرافه إلى التصوير . وهذا الأخير إذ مارس النحت المباشر الذي وصفه » برانكوزي » قائلاً : « انه الطريق الحقيقية نحو النحت بيد أنها أسوأ طريق للذين لا يعرفون السير فقد نفذ ( رؤوساً وتماثيل نسائية ) من الحجر . ويهتم بدقة الجوانب وبانتظام الحجوم أكثر من اهتمامه بحساسية السطح. وبالإضافة ، يعمل على إخراج قساوة المادة ، وتماسك الكتلة إلى حد أن الملامح المميزة للوجه لا تبدو إلا في مجال تلاؤمها مع شدة نقاوة الشكل . وهذه الرؤوس المتطاولة توحي بشيء من الكبرياء والتباعد ، وإذا كانت لا تتصف بالغموض الذي يحيط بتمثال ( الحورية النائمة ) فإنها تلفت النظر برقتها الباردة قليلاً وبأناقتها المتكلفة وكذلك بما فيها من مظهر قاطع وكهنوتي .
استمر النحت الحي في مطلع عصرنا هذا تحت سيطرة و رودان وحين ظهرت اتجاهات جديدة شرعت تقاومه . ولا تخرج أول الأمر عن اطار الجمالية الواقعية. ومع ذلك نجد بين من نادى بهذا الاتجاه نحاتين عملا في مشغل رودان نفسه هما : بورديل Bourdelle و دسیو Despiau .
شارك بورديل استاذه تذوق الأعمال المثيرة . بيد أنه يهتم أكثر منه بالبنية وبالتوترات المعمارية المتوازنة. فإذا ما نحت تمثال كاهنة الاله باخوس ( ١٩٠٣ ) أو تمثال هيراكليس رامي السهام ( ۱۹۰۹ ) ، فإنه يعطي لأشخاصه مايجعلها تبدو وكأنها تعود إلى بلاد اليونان حين قليلة التمدن ، فترفض الحسي وتجابه المأساوي باستمرار . ومعنى ذلك أنها لا تملك قسوة الأقدمين فحسب، بل تملك أيضاً تعبيراً متوتراً تقوده رغبة الظهور بالبطولة إلى درجة المسرحية .
أما ديسبيو فينحرف عن رودان ، أكثر من بورديل : لا شيء غريب عنه أكثر من المفجع أو البحث عن التصادم العنيف بين النور والظلام . إنه نحات أشخاص بصورة رئيسية لا ينظر إلى روح جليسه بقدر نظرته إلى شكل وجهه . وإذا ما ظهرت شخصيته حين حقق تمثالاً نصفياً لـ «فتاة صغيرة في اللاند » ( ١٩٠٤ ) ، فإنه لم يتقدم إلا ببطء ، وأكثر أعماله تعبيراً لم تنفذ إلا بعد عام ١٩٢٠ .
و ممن عارضوا رودان دون أن ينكروا التقليد الواقعي يعتبر « مايول Maillol ، أثقلهم وزناً . فقد بدأ مصوراً ورأينا أنه كان على صلة بالأنبياء ، ولم يجذبه النحت إلا حوالي عام ۱۹۰۰ وكان على عتبة الأربعين من عمره ، ولكنه سريعاً ما وجد مواضيعه وأسلوبه وسيطرته . وما هي مواضيعه الفنية ؟ الحق يقال أنها ليست متنوعة ( البحر الأبيض المتوسط ) ، وه الليل الفعالية المكبلة ، فهي جلوساً وتارة وقوفاً . ولا يهتم مايول بالأفكار ولا بعلم النفس ، وفنه ليس فيه أقل شبهة من الأدب : ومن هذه الزاوية ، يقع على طرفي نقيض مع رودان . ويناقضه أيضاً في الأسلوب . ليس في أعماله شيء من الاضطراب ، ولا من شغف محموم ، ولا من مبالغة في الحركات وأحجامه ليست محفورة بل مدوّرة ، مملوءة وساكنة ، تنبثق عنها طاقة هادئة يعززها النموذج نفسه للجليس المفضل ، جسم قوي أكثر مما هو كيس ، يجهل الأناقة وأيضاً الاستهتار والضنى والمرض وكل فكرة تذكر بالخطيئة . إن شهوانية مايتول وثنية ، دون تبجح وبطبيعة كاملة .
وإذا أردنا إرجاع هذا النحت إلى تقليد ما ، فعلينا أن نعود إلى اليونان ما قبل الكلاسيكية ، هذه التي أعجب بها الفنان والتي وجد فيها من جديد القوة والكمال دون تكلف ودون الاستسلام إلى أساليب الأقدمين . ولهذا يبتعد أيضاً فنه عن فن النحاتين الأكاديميين الذين يتصورون أن بإمكانهم التقرب من العصر القديم بالتقليد . إن جمالية مايول - بالنسبة للمستقبل - ليس لها إلا مدى قليل ، على الرغم مما تتحلى به أعماله من فتوة ، ومهما تحلى به سلوكه من المثالية باكتفائه بالاعتماد في التعبير على الفضائل النحتية وحدها . يستطيع فنان عبقري وساذج في القرن العشرين أن يعيد مؤقتاً القوى للتقليد الواقعي بيد أنه لا يمكنه أن يحول دون كونها محتضرة ، ولا أن يعيد لها خصباً دائماً .
وهذا ما فهمه هؤلاء الذين حرصوا حوالي عام ۱۹۱۰ على إيجاد لغة للنحت ليست أقل جدة من لغه التصوير فمثلاً الألماني « ليهمبروك Lehmbruck » الذي استوطن في باريس عام ۱۹۱۰ ، شرع بعد عام بالاتجاه إلى التعبيرية . فراح يشوه بشكل الجسم الإنساني ، يطيله ، ويجعله نحيفاً ، ويعطيه نسباً لا تعرفها الطبيعة ولا تلبي مثالية الجمال الطبيعي . إنما تكمن في هذه النسب آراء النحات ومشاعره : فعمله المرأة الراكعة » ليست سوى طهارة روح وإيمان ملتهب ، أما عمله شاب واقف ليس سوى صورة المثالية قلقة ومهددة .
أما التجديدات التي حققها دوشان فيللون Duchamp - Villon و «برانکوزی Brancusi » و « بوتشيوني Boccioni و «آرشیبنکو Archipenko » و «ماتیس Matisse » و «موديغلياني Modigliani و ( بيكاسو ) فهي جذرية أكثر. كان باستطاعة كل هؤلاء أن يرددوا مع غوغان » : أكبر خطأ هو الفن اليوناني » . وكان باستطاعة أغلبهم أن يصادق على هذه الجملة التي كتبها مايول : " يجب أن نكون تركيبيين ، يجب أن نعمل على غرار النحاتين العبيد الذين حولوا عشرين شكلا إلى واحد » . وبالفعل ، بينما يعطي مايول هذه النصيحة دون أن يعمل بها ، فإن لنحت العبيد بالنسبة لهؤلاء قيمة نموذجية ، وليس فقط نحت العبيد بل كل نحت بدائي وقديم . وعلى كل حال إذا ما تقربوا من النحت المذكور ليس دائماً بسبب تلقيهم تأثيره ، بل أيضاً لأنه الطبيعي أن يتقربوا منه طالما أنهم قطعوا الصلة . التقليد الواقعي . وهكذا فقد نحت ( ماتيس ) في عام ۱۹۰۹ ( ولم تكن أولى قطعه المنحوتة ) امرأة عارية واقفة ( لاسربانتين ) ( صلات قربي مع ) فينوس صغيرة من الفن العالي الروماني» يحتفظ بها متحف أورليان . ولم يحتفظ الفنان من الحقيقة سوى إيحاءات حجوم ، وإيقاعات وظرف ، وهذه الإيحاءات يترجمها بشكل يجعل السدف يتداخل بلين ويعطينا تأرجح خطوط أكثر ملتوية . وإذا كانت القولبة في هذا العمل بسيطة ، فهي مختلف ( رؤوس جانيت ) ۱۹۱۰ - ۱۹۱۳ التي نحتها : فالتحري عن تضادات أساسية يعطي للوجه شكل صنم قليل الملاحة - وليست هذه الناحية الأقل مغزى في هذه الأعمال التي تثبت أن « ماتيس » يجدد في هذا المجال بقدر تجديده في التصوير .
هذا ينطبق أيضاً على " بيكاسو . إذا كان تمثاله المنحوت الأول صنع عام ۱۸۹۹ ، وبدأ فيه بالابتعاد عن الأسلوب الواقعي منذ عام ١٩٠٦ ، وفي عام ۱۹۱۰ ، عمد إلى قولبة رأس امرأة » عالجه حتماً التكعيبية . فكتلة الرأس تتجزأ لتصبح تجمع سطوح وتجويفات ونتوءات هندسية تحدها حواف قاسية .
أما ( بوكشيوني ) فقد عمد إلى تجزئة مماثلة حين حقق صورة أمه في عام ١٩١١ . وبما أنه مخلص لشغفه بالديناميكية ، فقد ضاعف الحجوم المدببة والمنحنيات العنيفة ، وهذا بالذات ما يميزه عن ( بيكاسو ) . وفي عام ١٩١٣ ، نفذ أعمالاً نحتية عضلات في حالة حركة ، شكلاً فريداً لديمومة في الفضاء ، وفي سدفها نميز ما يشبه جسم إنسان ، بيد أ أن طبيعة السدف الحادة وانحناءاته السريعة المدببة ، والاندفاعات التزقة التي نحس فيها داخل الحجوم ، ووضع الاجمالي المفخم إلى حد ما ، كل هذا يوحي ، بواسطة أشكال مخترعة كلياً، بفعالية قوى تغلي تتخطى السبل الإنسانية .
والتعبير عن الديناميكية يشغل أيضاً نحاتين آخرين خاصة ، دوشان - فيللون وأحياناً آرشيبنكو . وهذا الأخير من أصل روسي ، استقر في باريس عام ۱۹۰۸ . بعد ثلاث سنوات اتصل بالتكعيبيين ، مما حمله في البدء على تنميط جسم الإنسان وعلى إعطائه انحناءات رقوش عربية أنيقة . ثم ما أن أدرك بشكل أفضل تعاليم ( براك » و « بيكاسو ) حتى ابتعد عن شكل الجسم الحقيقي واخترع أشكالاً جديدة له . فمثلاً في منحوتته امرأة تسير » ( ۱۹۱۲ ) عبر عن شكل مدور بحجم مبسط ومقرن وهنا عبر عن نتوءات بحفرة أو بفراغ . وبروح . راح ينجز في عام ١٩١٤ ( منحوتات تصويرية ) بعضها مدرانو » ومؤلفة من مواد متنوعة : « خشب مدهون ، زجاج و معدن » . وقبل عام ، صنع نحتاً تجريدياً » مباراة ملاكمة حيث لا نرى سوى أشكال هندسية نتجابه بید أنه الجهات الجانبية ، وفي التضادات فيما بين الكتل ، وفيما بين الممتلىء والفارغ ، لا يصعب على المرء تمييز القوى التي تهاجم وتدافع . وإذا ما أعطت كافة هذه الأعمال مكانة للفنان ه آرشیبنکو بين مجددي العصر علينا أن نقر بأن الكثير من هذه الأعمال لم تتعد قط الصفة التزيينية وأن البحث كان أهم من التحقيق .
وأمتن النحوت التي حققها التكعيبيون قبل عام ١٩١٤ التي جاءنا بها ( دوشان - فيللون ) ، وهو فنان كانت فترة إنتاجه قصيرة ولكنها خصبة للغاية. وفي عام ۱۹۱۰ تخطى تأثير رودان . وبعد أربعة أعوام اندلعت الحرب التي استنفرته فأصيب خلالها بمرض أودى بحياته في عام ۱۹۱۸ . وقد صنع خلال الفترة المذكورة بعض قطع البرونز وهي من أكثر نحوت القرن العشرين تعبيراً .
وأول أعماله ذات الطابع الشخصي الكامل هو لشاب » ( ۱۹۱۰ ) . وبدون الاهتمام بمجموع العضلات وأيضاً بالاستغناء عن تجزئة الأحجام ، وبدون إظهار هذا النوع من الأجنحة المتخبطة التي نراها لدى « بوكشيوني » ، فإنه يطبع هذا التمثال النصفي بحركة قوية كي لا نقول عنيفة. أما في تمثاله « بودلير » ( ۱۹۱۱ ) فقد زاد تجمع الأشكال وامتلاؤها . ويصور هيئة الرجل ووجه الشاعر . ويعبر هذا التمثال الذي تتآلف فيه الحساسية بشكل جميل مع القسوة ويتآلف طابع الشخصية المميز مع الفخم الدماغ الحزين » وعن « القلب القاتم المستاء ، والفم الرقيق العريض المتعب من جراء تذوقه اللذة والمرارة مرات عديدة ، وبكلمة واحدة كل ما يميز مؤلف « زهور ا الخطيئة » و « نجمة باريس » .
وفي منحوتته ( رأس امرأة ) التي صنعها بعد تمثال « بودلير تراجع الطابع الفردي الشخصي ونفكر حين ننظر إليها بقطعة صنم تمثال «جانيت » لـ « ماتيس » ، بيد أن تمثال « دوشان فيللون ، يبدو أكثر غموضاً وتزيد فيه روح السيطرة الشيطانية وفي عام ۱۹۱۳ ، نفل نقوشاً بارزة ، وجدد فيها بقدر ما جدد في المنحوتات. وأجسام منحوتته ( الحبيبان ) مجزأة إلى بعض الحجوم المسطحة أو المدينة التي مهما تكن مبسطة ، تبقى معبرة إلى أقصى الحدود فهي توحي بحرارة الشغف الغالب وبحلاوات الاستسلام .
وبعد عام إذ استهوى موضوع الحصان دوشان - فيللون راح يقدم لنا تكويناً تجريدياً تتوازن فيه الأشكال الفعالة : فيتحلى بعضها برسم جانبي لين راسخ يحتوي وثبات الحصان وبعضها الآخر يوحي بتصلب ذراع آلية القدرة العمياء الباردة الكامنة في آلة من الفولاذ : بيد أن التركيب كامل وللمجموع قيمة رمزية أخاذة . وبين المنحوتات المستوحاة من الحضارة الصناعية في عصرنا ، فإن القليل منها يعبر بهذه القوة ، وبدون أدنى مبالغة عما لهذه الحضارة من إبداع وقسوة ومن جاذبية وجور . والخلاصة فموقف دوشان - فيللون قريب من موقف ليجيه » : فهما متفائلان بالمكننة ، يؤخذ الإثنان بالقدرة المنتشرة في العالم بفضل تلك المكننة .
أكثر فن يتعارض هذه الديناميكية هو فن « برانكوزي » مع الهادىء النقي. ولد هذا الفنان في رومانيا ، ووصل باريس في عام ١٩٠٤ وراح يتأثر بـ « رودان » ، ا قبل كثيرين غيره من الفنانين . ولم تمض ثلاثة أعوام حتى أخذ طريقاً مختلفة . وإذ توقف عن إحياء النور على سطح الحجوم فإنه استبعد تفاصيل الأجسام والوجوه قاصداً الشكل المغلق ، والكتلة البدائية. بيد أن ( البدائية ) لا تعني العنف بالنسبة له . فتمثاله « رأس امرأة الذي نحته من الحجر عام ۱۹۰۸ لا يخلو من الحلاوة ، وكافة نحوت هذه الفترة مطبوعة بالنعومة . وفي ۱۹۰۹ - ۱۹۱۰ صنع أول تحفة له ( الحورية النائمة ) وهي رأس بسيط مستلقي يكاد يكون بنقاوة البيضة ، أشير فيه إلى العيون وإلى الفم بنعومة كبيرة ، أما الأنف فقد ظهر على شكل زاوية ناتئة دقيقة قليلة الانحناء . والقولبة دقيقة جداً حتى أن الشكل لا يبدو سوى تجسيم سلسلة الحالمة . ويبالغ « برانكوزي » في الزهد بيد أن المرء يستطيع أن يتساءل هذا الفنان أن يتخطى قوة التأثر الذي يثيره تمثاله « الحورية النائمة المتردد بشكل لذيذ بين الصورة البعيدة للحقيقة الخارجية إذا كان بوسع والهندسة القاسية .
وفي منحوتته ( الآنسة بوغاني ) ( ۱۹۱۳ ) ، تقسو المنحنيات وتصبح حادة . أما الشكل فبتطهره أكثر يفقد من خفقانه ، ويقرب من التزيين . بيد أن الفنان يعرف كيف يتفادى الخطر ، وبعد عام ١٩١٤ ، تصبح أعماله من أنقى النحوت وأكثرها رقة بآن واحد .
وحوالي عام ۱۹۰۹ أسدى « برانكوزي » النصائح للمصور الإيطالي موديغلياني الذي يقيم في باريس منذ عام ١٩٠٦ والذي انصرف خلال فترة من الزمن إلى النحت أكثر من انصرافه إلى التصوير . وهذا الأخير إذ مارس النحت المباشر الذي وصفه » برانكوزي » قائلاً : « انه الطريق الحقيقية نحو النحت بيد أنها أسوأ طريق للذين لا يعرفون السير فقد نفذ ( رؤوساً وتماثيل نسائية ) من الحجر . ويهتم بدقة الجوانب وبانتظام الحجوم أكثر من اهتمامه بحساسية السطح. وبالإضافة ، يعمل على إخراج قساوة المادة ، وتماسك الكتلة إلى حد أن الملامح المميزة للوجه لا تبدو إلا في مجال تلاؤمها مع شدة نقاوة الشكل . وهذه الرؤوس المتطاولة توحي بشيء من الكبرياء والتباعد ، وإذا كانت لا تتصف بالغموض الذي يحيط بتمثال ( الحورية النائمة ) فإنها تلفت النظر برقتها الباردة قليلاً وبأناقتها المتكلفة وكذلك بما فيها من مظهر قاطع وكهنوتي .
تعليق