بدء أعمال التصوير التجريدي
لقد تسنى لنا أن نشير في مناسبات عديدة الى أن التصوير التجريدي كان بين سنتي ۱۹۱٠ و ۱۹۱۴ جذاباً لعدد لا يستهان به من الفنانين ، واذا ماسيق اليه البعض عن طريق التكعيبية أو بواسطة الجو الذي خلقته هذه الأخيرة في باريس ، فقد سار فيه غيرهم من خلال المستقبلية بينما وجده البعض الآخر نتيجة لدراسات تمت بصلة الى دراسات الوحشيين وا و التكعيبيين .. ومع . ، فالأسماء الآنفة الذكر والتي سنذكرها فيما بعد ليست الأسماء الوحيدة التي يجب أن تحفظها دراسة شاملة بيد أن علينا أن نعترف أن التصوير التجريدي لم يكن بالنسبة لأكثر من واحد من أوائل المنتسبين الى هذه المدرسة سوى مغامرة عابرة ، ذلك وقلة جدا هؤلاء الذين لم يفكروا مطلقاً بالتراجع .
أما بالنسبة للتواريخ التي سار فيها البعض أو البعض الآخر في الاتجاه الجديد فاننا نجد بعض الصعوبة في تحديدها . فمثلا بالنسبة للروسي مالیفتشو حسب روايته بالذات، فانه تحول نحو التجريدية في عام ١٩١٣، بيد أن تحريات جديدة أجراها السيد ( جي ها باسك ) Guy Habasqe تحملنا على الاعتقاد أن الفنان المذكور لم ينضم الى التجريدية إلا في عام ١٩١٥ . ومن جهة ثانية ، هل « كاندينسكي » هو الذي نفذ بالفعل أول عمل تجريدي كما يقال عادة أم نعتبر بالأحرى أن العمل التجريدي الأول صوره ( بيكابيا ) » أو فنان آخر ( قبل عام ١٩١٠ ) ؟ والحق يقال ليس لهذا السؤال سوى أهمية ثانوية . والأهم هو مدى الدراسات المختلفة واستمرارها ، وهو أخيراً نوعية الأعمال التي نتجت عنها . لا ينكر على ( كاندينسكي ) أنه أحد أولئك الذين كان لما قدموه من انتاج وزن حاسم . ونستطيع أن نقول أيضاً أنه منذ البدء ، قد جسد أحد الاتجاهات الرئيسية التي يمكن أن يعرفها الفن التجريدي ، هذا الاتجاه الذي سمي فيما بعد و التجريد الغنائي » . ولوحة كاندينسكي» التجريدية الأولى رسم مائي ، تبدو وكأنها حصيلة انفجار ثمة بقع مبهمة أو مقطعة إرباً إرباً ، وخطوط مخربشة بشكل عصبي تحيطها أو تواكبها : تارة تمتد الخطوط ، وطوراً تشكل اعوجاجات حادة ، وتارة أخرى تتكسر وتتداخل كخيوط حديدية رفيعة . كل ذلك يتحرك ويخفق ، ويبدو في فضاء غير متناه . لاشك أنه من الخطأ الادعاء أننا نرى فيها ترتيباً ما ، اننا نرى بالفعل توترات و نشعر بتوازن .
اذا ما كانت هذه اللوحة من الرسم المائي تشكل بالنسبة لـ«كاندينسكي » وثبة حقيقية الى الامام ، انما ليست حصيلة نزوة ، بل هي نضج في داخله منذ سنوات. ومنذ عام ١٨٩٥ ، ( وكان الفنان لم يزل آنئذ في موسكو ) . فان لوحة ( موني ) المسماة « رحى الشعير » جعلت كاندينسكي » يشك في أن الاشياء هي عناصر لازمة لازبة في اللوحة بيد أنه في ذلك العصر كان بعيداً عن الرغبة في ازالة هذه الأشياء وخلال فترة طويلة فيما بعد ، استمر يسأل نفسه بقلق : « بماذا يمكننا أن نستعيض عنها ؟ ( وان يكن يعرف في أن « الدائرة والمربع والمثلث هي وسائل تمتلك بتلقاء ذاتها تعبيراً تشكيلياً كافيا ه ، فانه يعرف أيضاً الطابع غير التعبيري للأشكال المحوّرة ) ويخشى الضياع في التصوير الزخرفي، وحتى عندما تجرأ على تصوير لوحته المائية المشهورة فانه لم يفكر في استبعاد كل استلهام من العالم الخارجي عن فنه . .
عادت الأشياء الى الظهور في أعماله حتى عام ١٩١٣ . بيد أنها ليست بارزة ولا تفرض نفسها على النظر ، وأحياناً يجب أن نعرف جيدا لغة الفنان لتمييز مجاديف وأمواج هنا ، وجبال تعلوها كنائس متوجة القباب هناك . فلا يكتفي بتشويه الأشياء وبتكبيرها أو بتصغيرها خلافاً لكل تناسب ، بل يحط من قيمتها أيضاً . وكان المرء يشعر أنها تدخل في اللوحة دون تصميم من الفنان ، وكأن ذاكرة بصرية متأججة أخرجتهافي اللحظة الأخيرة من خطوط ومن أشكال دون أن تكون في البدء نية ما لتصويرها . ومن البين بكل حال ، أن معنى العمل يكمن بصورة خاصة في حيوية الخط ، وفي تدفقه الصاروخي وفي انحناءاته المتموجة، وانكساراته المفاجئة . ويكمن أيضاً في اثارة اللون ، من أحمر وبرتقالي وأصفر ، ومن أخضر وبنفسجي شديدين غالباً الى حد يخيل الى المرء معه سماع أبواق ونواقير أوركسترا فاغنيرية. وفي الواقع كأن كاندينسكي يفكر في تكاوين موسيقية ويقول أنه منذ البدء تقريباً لدى سماعه موسيقى اوبرا ( لو هنجرين ) راح يشعر أن التصوير يملك قدرة على التعبير ووسائل تعادل بالقوة قدرات الموسيقى ووسائلها .
وشاعرية كاندينسكي الثائرة لا توجد لدى غيره من المبشرين بالتجريدية . وبصورة خاصة في فرنسا كبح جماح هذه الفورة .
اذا كان في اشكال ( دولوني ) الدائرية ما يجعلنا نشعر بنشاط حركات دورانية أو في بعض من اسطواناته ما يجعلنا نتصور غليان كواكب سيارة تنتزع الفضاء والقوى التي يحركها هي دوماً منظمة .
و ان فنه خال من العصبية ومن المآسي ، وهو لا يقدم لنا التضادات العنيفة والتمزقات التي نراها لدى كاندينسكي وكما في أعمال دولوني» التصويرية لاتتصادم الالوان حتى حين يكون بينهما تضاد . فهي تتلاحق بعضها تلو البعض في دورة تظهر فيها وهي تنسجم بمرح ثمة ديناميكية كبيرة أيضاً لدى بيكابيا فلوحاته الكبيرة انتاج عام ۱۹۱۳ ، وبصورة خاصة لوحتاه أودني ادتاو ونيسل Edtaonisl تظهر منحنيات تقفز كنوابض شدت بقوة . بيد أن شدتها لاتجزي التكوين ، فكل وثبة مضبوطة وكل شكل مرسوم بدقة هندسية وخاضع لايقاعات عريضة تم جميعها عن تحكم أما اللون فهو لدى بيكابيا أكثر برودة مما هو عليه لدى دولونه وأقل غنى مما هو لدى كاندينسكي وله طابع فعال". وبالنتيجة اذا كانت نقطة انطلاق اللوحتين المذكورتين آتية من الحقيقة الخارجية ، اذا ما استوحيت ( من نجمة من نجوم الرقص ) من راهب دومينيكي التقى بهما بيكابيا على ظهر الباخرة في طريقه الى نيويورك، فكل ما في اللوحتين متخيل بدءاً من الألوان وانتهاء بالأشكال، وعنوان اللوحة لاينم عن محتواها وهو يساعد فقط على تمييز اللوحات وعلى التعرف عليها بذاتها لا بموضوعها . ومهما يكن من أمر فبفضل أعمال كهذه ، قوية بقدر ماهي جريئة ظهر بيكابيا كواحد من أهم التجريدية على الرغم من أن هذه المدرسة لم تستأثر به الا خلال فترة قصيرة .
وبالعكس فان ( كوبكا Kupka ) الذي تطور نحو التجريدية منذ عام ۱۹۱۰ بقي مخلصاً لها طوال حياته العملية كلها . وهو من أصل تشيكو سلوفاكي درس في فيينا ( قبل أن يستقر في باريس في عام ١٨٩٤). وفي العاصمة النمساوية تأثر باسلوب يوجند ستل Jugenstil » إلى حد أنه بقي ذلك ظاهراً عنده مدة طويلة . وأكثر من مرة بدت لديه ظاهرة تزيينية . وعلى الرغم من أن الاشكال فيها كانت مخترعة بيد أنها غالباً ما بدت نتيجة لنمطية . وهي على كل حال كثيرة التنوع فهنا نری انتشار موجات متمركزة كلها حول نقطة واحدة ، والصور التي ترسمها هذه الموجات تذكر برسمات أولية ، شموس أو أزهار . وهناك نتخيل أننا أمام عالم في فجر الحياة : اذ نرى مادة تتكاثر ولم تبرد بعد بشكل كامل ، تبدو وكأنها تنتظم تحت وضع الفجر . وفي معرض آخر ، فهو لا يبعد فقط كل فكرة انبات أو ازهار ، بل كل منحن ، وكانها تنتظم تحت وضح الفجر . وفي معرض آخر ، فهو لا يبعد فقط كل فكرة إنبات أو ازهار ، بل كل منحن ، وتبنى التكاوين بقسوة بواسطة خطوط مستقيمة ومائلة وأحياناً يكون التكوين معقداً بواسطة مستويات مختلفة ، وأعماق متباينة ، وفتحات تسمح بنفوذ النور وبحواجز مظلمة ترد هذا النور وأحياناً أخرى يكون التكوين على العكس بسيطاً كي لانقول غاية في البساطة ، ولانجد نفسنا الا ازاء بعض الأشرطة الطولانية المصففة الملونة بشح على أرضية ذات لون واحد . اذا فمن جانب ثمة طفوح وأحياناً ليونة رخيمة كليونة الراقص ومن جانب آخر هناك عنف وتطرف في تحديد الوسائل ، وزهد قاس .
لا يشعر الهولاندي « موندريان Mondrian » بأنه يتعرض لاتجاهات متعاكسة الى هذا الحد فيشرع باستخدام ملونة مشرقة ، بيد حين أقام في باريس حوالي أواخر ۱۹۱۱ ، أصبحت ألوانه صماء وأظهر تذوقاً للنسك لا يتخلى عنه ابداً . فإذا ماظهر في البدء كتلميذ لـ براك وبيكاسو ، فلم يتأخر عن رغبته في الذهاب الى أبعد من المعلمين التكعيبيين . ان تحفظ هؤلاء من الغاء الأشياء نهائياً ، اعتبره الفنان موندریان » كنتيجة طبيعية لدراساتهم، ومن الضروري أن لا تستبعد، ولذا اتجه نحو التجريدية منذ عام ۱۹۱۲ . وهو يتجه نحو هذه المدرسة باسلوب يختلف عن اسلوب كاندينسكي » أو « بيكابيا . فمشيته بطيئة ومنطقية وهي سير تجريدي حقيقي أكثر من سيرهما، فهو ينطلق ويعريها أكثر فأكثر من صفاتها الخاصة ، ولا يحتفظ بالنهاية الاباشارات خطوط وألوان . وهكذا بدءاً من شجرة مصورة في ۱۹۰۹ - ۱۹۱۰ باسلوب يمكن وصفه بالوحشي ، فانه ينفذ تكاوين مختلفة تبعدنا خطوة خطوة عن اللوحة الأصلية . فمن عمل الى آخر تتخذ الأغصان شكلا هندسياً أكثر ، وفي نهاية المطاف لا يبقى على اللوحة سوى تأرجح خفيف لمنحنيات مجزأة . واللون رزين ينحصر تقريباً بالرمادي الزهري أو المائل نحو الأزرق . واذا ما أطلق على اللوحة اسم « أشجار مزهرة فبسبب هذه الألوان الخفيفة والمتبخرة ولاشك .
ولم يقف موندريان عند هذا الحد، بل يذهب بعيداً وينحرف أكثر عن الأشياء المتعلقة بالحياة. فماذا بقي من الأشجار في لوحته المسماة التكوين البيضوي » التي رسمها في عام ۱۹۱۳ ؟ الألوان الرمادية والعاجية التي قد تكون مستوحاة من الجذع ومن الاغصان ، وخطوط دقيقة تفتش عن اتجاهها كمن تتلمس طريقها ونميل الى التعرف فيها عن اتجاه الفروع الكيفي ، وما للخط هنا من شذوذ ومن ارتجاج يزول بدوره بدءاً من عام ۱۹۱۳ ، حيث تحل محله خطوط عمودية وأفقية ، وزوايا قائمة لا تقابلها سوى منحنيات قليلة تظهر لماما . ومنذ ذلك الحين لا يصور لا تعبيري وخال الشخصية، وحساسيته التي كان باستطاعتها أن تكون متوترة لا يعبر عنها الا بالصلات التي يقيمها في موازنة مختلف الألوان . وهذه الأخيرة قليلة وتنحصر بدقة بالاجزاء التي تحددها خطوط قاسية ودقيقة .
وبتعبير آخر ، اذا لم يجد موندريان صيغته بعد، فانه أكد منذتلك الفترة شدة حرصه على الاقتصاد المتقشف في الوسائل ومعارضته القاسية لكل انحراف ولكل هوى ، وحبه للنظام الدقيق وللصفاء الذي يبلغ حد الزهد . وبكلمة واحدة أكد ذوقه في التجريد الهندسي الأكثر زهداً والأقل مسايرة .
لقد تسنى لنا أن نشير في مناسبات عديدة الى أن التصوير التجريدي كان بين سنتي ۱۹۱٠ و ۱۹۱۴ جذاباً لعدد لا يستهان به من الفنانين ، واذا ماسيق اليه البعض عن طريق التكعيبية أو بواسطة الجو الذي خلقته هذه الأخيرة في باريس ، فقد سار فيه غيرهم من خلال المستقبلية بينما وجده البعض الآخر نتيجة لدراسات تمت بصلة الى دراسات الوحشيين وا و التكعيبيين .. ومع . ، فالأسماء الآنفة الذكر والتي سنذكرها فيما بعد ليست الأسماء الوحيدة التي يجب أن تحفظها دراسة شاملة بيد أن علينا أن نعترف أن التصوير التجريدي لم يكن بالنسبة لأكثر من واحد من أوائل المنتسبين الى هذه المدرسة سوى مغامرة عابرة ، ذلك وقلة جدا هؤلاء الذين لم يفكروا مطلقاً بالتراجع .
أما بالنسبة للتواريخ التي سار فيها البعض أو البعض الآخر في الاتجاه الجديد فاننا نجد بعض الصعوبة في تحديدها . فمثلا بالنسبة للروسي مالیفتشو حسب روايته بالذات، فانه تحول نحو التجريدية في عام ١٩١٣، بيد أن تحريات جديدة أجراها السيد ( جي ها باسك ) Guy Habasqe تحملنا على الاعتقاد أن الفنان المذكور لم ينضم الى التجريدية إلا في عام ١٩١٥ . ومن جهة ثانية ، هل « كاندينسكي » هو الذي نفذ بالفعل أول عمل تجريدي كما يقال عادة أم نعتبر بالأحرى أن العمل التجريدي الأول صوره ( بيكابيا ) » أو فنان آخر ( قبل عام ١٩١٠ ) ؟ والحق يقال ليس لهذا السؤال سوى أهمية ثانوية . والأهم هو مدى الدراسات المختلفة واستمرارها ، وهو أخيراً نوعية الأعمال التي نتجت عنها . لا ينكر على ( كاندينسكي ) أنه أحد أولئك الذين كان لما قدموه من انتاج وزن حاسم . ونستطيع أن نقول أيضاً أنه منذ البدء ، قد جسد أحد الاتجاهات الرئيسية التي يمكن أن يعرفها الفن التجريدي ، هذا الاتجاه الذي سمي فيما بعد و التجريد الغنائي » . ولوحة كاندينسكي» التجريدية الأولى رسم مائي ، تبدو وكأنها حصيلة انفجار ثمة بقع مبهمة أو مقطعة إرباً إرباً ، وخطوط مخربشة بشكل عصبي تحيطها أو تواكبها : تارة تمتد الخطوط ، وطوراً تشكل اعوجاجات حادة ، وتارة أخرى تتكسر وتتداخل كخيوط حديدية رفيعة . كل ذلك يتحرك ويخفق ، ويبدو في فضاء غير متناه . لاشك أنه من الخطأ الادعاء أننا نرى فيها ترتيباً ما ، اننا نرى بالفعل توترات و نشعر بتوازن .
اذا ما كانت هذه اللوحة من الرسم المائي تشكل بالنسبة لـ«كاندينسكي » وثبة حقيقية الى الامام ، انما ليست حصيلة نزوة ، بل هي نضج في داخله منذ سنوات. ومنذ عام ١٨٩٥ ، ( وكان الفنان لم يزل آنئذ في موسكو ) . فان لوحة ( موني ) المسماة « رحى الشعير » جعلت كاندينسكي » يشك في أن الاشياء هي عناصر لازمة لازبة في اللوحة بيد أنه في ذلك العصر كان بعيداً عن الرغبة في ازالة هذه الأشياء وخلال فترة طويلة فيما بعد ، استمر يسأل نفسه بقلق : « بماذا يمكننا أن نستعيض عنها ؟ ( وان يكن يعرف في أن « الدائرة والمربع والمثلث هي وسائل تمتلك بتلقاء ذاتها تعبيراً تشكيلياً كافيا ه ، فانه يعرف أيضاً الطابع غير التعبيري للأشكال المحوّرة ) ويخشى الضياع في التصوير الزخرفي، وحتى عندما تجرأ على تصوير لوحته المائية المشهورة فانه لم يفكر في استبعاد كل استلهام من العالم الخارجي عن فنه . .
عادت الأشياء الى الظهور في أعماله حتى عام ١٩١٣ . بيد أنها ليست بارزة ولا تفرض نفسها على النظر ، وأحياناً يجب أن نعرف جيدا لغة الفنان لتمييز مجاديف وأمواج هنا ، وجبال تعلوها كنائس متوجة القباب هناك . فلا يكتفي بتشويه الأشياء وبتكبيرها أو بتصغيرها خلافاً لكل تناسب ، بل يحط من قيمتها أيضاً . وكان المرء يشعر أنها تدخل في اللوحة دون تصميم من الفنان ، وكأن ذاكرة بصرية متأججة أخرجتهافي اللحظة الأخيرة من خطوط ومن أشكال دون أن تكون في البدء نية ما لتصويرها . ومن البين بكل حال ، أن معنى العمل يكمن بصورة خاصة في حيوية الخط ، وفي تدفقه الصاروخي وفي انحناءاته المتموجة، وانكساراته المفاجئة . ويكمن أيضاً في اثارة اللون ، من أحمر وبرتقالي وأصفر ، ومن أخضر وبنفسجي شديدين غالباً الى حد يخيل الى المرء معه سماع أبواق ونواقير أوركسترا فاغنيرية. وفي الواقع كأن كاندينسكي يفكر في تكاوين موسيقية ويقول أنه منذ البدء تقريباً لدى سماعه موسيقى اوبرا ( لو هنجرين ) راح يشعر أن التصوير يملك قدرة على التعبير ووسائل تعادل بالقوة قدرات الموسيقى ووسائلها .
وشاعرية كاندينسكي الثائرة لا توجد لدى غيره من المبشرين بالتجريدية . وبصورة خاصة في فرنسا كبح جماح هذه الفورة .
اذا كان في اشكال ( دولوني ) الدائرية ما يجعلنا نشعر بنشاط حركات دورانية أو في بعض من اسطواناته ما يجعلنا نتصور غليان كواكب سيارة تنتزع الفضاء والقوى التي يحركها هي دوماً منظمة .
و ان فنه خال من العصبية ومن المآسي ، وهو لا يقدم لنا التضادات العنيفة والتمزقات التي نراها لدى كاندينسكي وكما في أعمال دولوني» التصويرية لاتتصادم الالوان حتى حين يكون بينهما تضاد . فهي تتلاحق بعضها تلو البعض في دورة تظهر فيها وهي تنسجم بمرح ثمة ديناميكية كبيرة أيضاً لدى بيكابيا فلوحاته الكبيرة انتاج عام ۱۹۱۳ ، وبصورة خاصة لوحتاه أودني ادتاو ونيسل Edtaonisl تظهر منحنيات تقفز كنوابض شدت بقوة . بيد أن شدتها لاتجزي التكوين ، فكل وثبة مضبوطة وكل شكل مرسوم بدقة هندسية وخاضع لايقاعات عريضة تم جميعها عن تحكم أما اللون فهو لدى بيكابيا أكثر برودة مما هو عليه لدى دولونه وأقل غنى مما هو لدى كاندينسكي وله طابع فعال". وبالنتيجة اذا كانت نقطة انطلاق اللوحتين المذكورتين آتية من الحقيقة الخارجية ، اذا ما استوحيت ( من نجمة من نجوم الرقص ) من راهب دومينيكي التقى بهما بيكابيا على ظهر الباخرة في طريقه الى نيويورك، فكل ما في اللوحتين متخيل بدءاً من الألوان وانتهاء بالأشكال، وعنوان اللوحة لاينم عن محتواها وهو يساعد فقط على تمييز اللوحات وعلى التعرف عليها بذاتها لا بموضوعها . ومهما يكن من أمر فبفضل أعمال كهذه ، قوية بقدر ماهي جريئة ظهر بيكابيا كواحد من أهم التجريدية على الرغم من أن هذه المدرسة لم تستأثر به الا خلال فترة قصيرة .
وبالعكس فان ( كوبكا Kupka ) الذي تطور نحو التجريدية منذ عام ۱۹۱۰ بقي مخلصاً لها طوال حياته العملية كلها . وهو من أصل تشيكو سلوفاكي درس في فيينا ( قبل أن يستقر في باريس في عام ١٨٩٤). وفي العاصمة النمساوية تأثر باسلوب يوجند ستل Jugenstil » إلى حد أنه بقي ذلك ظاهراً عنده مدة طويلة . وأكثر من مرة بدت لديه ظاهرة تزيينية . وعلى الرغم من أن الاشكال فيها كانت مخترعة بيد أنها غالباً ما بدت نتيجة لنمطية . وهي على كل حال كثيرة التنوع فهنا نری انتشار موجات متمركزة كلها حول نقطة واحدة ، والصور التي ترسمها هذه الموجات تذكر برسمات أولية ، شموس أو أزهار . وهناك نتخيل أننا أمام عالم في فجر الحياة : اذ نرى مادة تتكاثر ولم تبرد بعد بشكل كامل ، تبدو وكأنها تنتظم تحت وضع الفجر . وفي معرض آخر ، فهو لا يبعد فقط كل فكرة انبات أو ازهار ، بل كل منحن ، وكانها تنتظم تحت وضح الفجر . وفي معرض آخر ، فهو لا يبعد فقط كل فكرة إنبات أو ازهار ، بل كل منحن ، وتبنى التكاوين بقسوة بواسطة خطوط مستقيمة ومائلة وأحياناً يكون التكوين معقداً بواسطة مستويات مختلفة ، وأعماق متباينة ، وفتحات تسمح بنفوذ النور وبحواجز مظلمة ترد هذا النور وأحياناً أخرى يكون التكوين على العكس بسيطاً كي لانقول غاية في البساطة ، ولانجد نفسنا الا ازاء بعض الأشرطة الطولانية المصففة الملونة بشح على أرضية ذات لون واحد . اذا فمن جانب ثمة طفوح وأحياناً ليونة رخيمة كليونة الراقص ومن جانب آخر هناك عنف وتطرف في تحديد الوسائل ، وزهد قاس .
لا يشعر الهولاندي « موندريان Mondrian » بأنه يتعرض لاتجاهات متعاكسة الى هذا الحد فيشرع باستخدام ملونة مشرقة ، بيد حين أقام في باريس حوالي أواخر ۱۹۱۱ ، أصبحت ألوانه صماء وأظهر تذوقاً للنسك لا يتخلى عنه ابداً . فإذا ماظهر في البدء كتلميذ لـ براك وبيكاسو ، فلم يتأخر عن رغبته في الذهاب الى أبعد من المعلمين التكعيبيين . ان تحفظ هؤلاء من الغاء الأشياء نهائياً ، اعتبره الفنان موندریان » كنتيجة طبيعية لدراساتهم، ومن الضروري أن لا تستبعد، ولذا اتجه نحو التجريدية منذ عام ۱۹۱۲ . وهو يتجه نحو هذه المدرسة باسلوب يختلف عن اسلوب كاندينسكي » أو « بيكابيا . فمشيته بطيئة ومنطقية وهي سير تجريدي حقيقي أكثر من سيرهما، فهو ينطلق ويعريها أكثر فأكثر من صفاتها الخاصة ، ولا يحتفظ بالنهاية الاباشارات خطوط وألوان . وهكذا بدءاً من شجرة مصورة في ۱۹۰۹ - ۱۹۱۰ باسلوب يمكن وصفه بالوحشي ، فانه ينفذ تكاوين مختلفة تبعدنا خطوة خطوة عن اللوحة الأصلية . فمن عمل الى آخر تتخذ الأغصان شكلا هندسياً أكثر ، وفي نهاية المطاف لا يبقى على اللوحة سوى تأرجح خفيف لمنحنيات مجزأة . واللون رزين ينحصر تقريباً بالرمادي الزهري أو المائل نحو الأزرق . واذا ما أطلق على اللوحة اسم « أشجار مزهرة فبسبب هذه الألوان الخفيفة والمتبخرة ولاشك .
ولم يقف موندريان عند هذا الحد، بل يذهب بعيداً وينحرف أكثر عن الأشياء المتعلقة بالحياة. فماذا بقي من الأشجار في لوحته المسماة التكوين البيضوي » التي رسمها في عام ۱۹۱۳ ؟ الألوان الرمادية والعاجية التي قد تكون مستوحاة من الجذع ومن الاغصان ، وخطوط دقيقة تفتش عن اتجاهها كمن تتلمس طريقها ونميل الى التعرف فيها عن اتجاه الفروع الكيفي ، وما للخط هنا من شذوذ ومن ارتجاج يزول بدوره بدءاً من عام ۱۹۱۳ ، حيث تحل محله خطوط عمودية وأفقية ، وزوايا قائمة لا تقابلها سوى منحنيات قليلة تظهر لماما . ومنذ ذلك الحين لا يصور لا تعبيري وخال الشخصية، وحساسيته التي كان باستطاعتها أن تكون متوترة لا يعبر عنها الا بالصلات التي يقيمها في موازنة مختلف الألوان . وهذه الأخيرة قليلة وتنحصر بدقة بالاجزاء التي تحددها خطوط قاسية ودقيقة .
وبتعبير آخر ، اذا لم يجد موندريان صيغته بعد، فانه أكد منذتلك الفترة شدة حرصه على الاقتصاد المتقشف في الوسائل ومعارضته القاسية لكل انحراف ولكل هوى ، وحبه للنظام الدقيق وللصفاء الذي يبلغ حد الزهد . وبكلمة واحدة أكد ذوقه في التجريد الهندسي الأكثر زهداً والأقل مسايرة .
تعليق