من الأسفل ، وإلى بعضها الآخر من الأعلى . عبثاً يقال أن اللوحة تختلف كثيراً عما تسجله آلة التصوير . اذ يبدو البرج متفكك المفاصل ، متقطع الأوصال . فنشعر تارة أن البرج يرتفع إلى السماء بجدة ، وطوراً يبدو بأنه سيهوي بصخب . وفي أي حال ، يظهر كشيء ديناميكي ، كمجموعة من القوى تتأرجح دفعاتها ، وتنتقل ديناميكيتها إلى اللوحة بكاملها . ويبدو النور فيها متفجراً. وحتى الفراغ نفسه هو فضاء مملوء بالقدرة . وموجز القول ، لقد تحول البرج إلى رمز أكثر مما هو حقيقة . هو رمز للمدينة الواسعة الحديثة ، رمز لصروحها التي تقتحم لتهاجم الغيوم ، كما أنه رمز للحياة الراعدة التي تختلج في شوارعها . ها نحن بعيدون عن الطبيعة الصامتة الصماء التي ينعزل فيها براك وبيكاسو .
وإن لم يكن دولوني يغادر بيته ، فإنه لم يقتصر بصورة عامة على العيش في عالم الأشياء الجامدة . ومنذ عام ۱۹۱۰ حتى عام ۱۹۱۲ ، كانت النافذة أحد مواضيعه المفضلة ، النافذة التي تطل على المدينة ويجتاحها النور . أما النور الذي يصوره فهو ذلك الذي يتخيله أكثر مما يراه : يخلقه هو ويجعله يتدفق من نفس الألوان التي توصل اليها الانطباعيون بتحليلهم للنور . فهو يضع الألوان : البرتقالي والأزرق والأحمر والأخضر والأصفر والبنفسجي ، أي كافة ألوان الموشور ، يضعها على لوحته فيجعلها تتضاد وتتآلف وتضمحل وتعود فتتفجر ، بحيث أنها تشكل ماسمي بعد «شو فروي Chevreul » وبعد « الانطباعيين الجدد» بـ «التضادات المتناوبة : وهي نوع من بريق جوي ليس فيه شيء من التلاشي ، مهما بلغت لا مادته أما الخطوط المستقيمة والمنحنية ، الشبيهة بالأشعة وبالموجات الأثيرية هذه الخطوط تمفصل التأليف وتمنحه بنية خفيفة وصلبة بآن واحد، وهي لا تسطر عادة ، بل تولد بخفية من تضاد الألوان . يشكل اللون فعلاً الوسيلة الأساسية بالنسبة ل «دولوني» ، فيستخدمه للإيحاء بالشكل ، وأيضاً بالفراغ ، فراغ لا حد له حيث المسافة فيما بين السطوح غير قابلة للتقدير ، بيد أننا ننزلق من سطح لآخر بحركة مستمرة. والخلاصة ، إننا نقترن بحركة النور ونساهم في انتشاره ، نتبعه في تحولاته اللاملموسة والفاتنة . والشاعر غيوم آبوللينير Guillaume Apollinaire - من أوائل المدافعين عن التكعيبيين - إذ أراد الإشارة إلى ما لتصوير « دولوني » من خصائص ، تكلم عن « التعبير بشكل جيد ما يقدم هذا الفن من شاعرية وموسيقية وفتنة .
وإذا ما تمكنا في لوحة ( النوافذ ) من ملاحظة ظلال خفيفة لـ « برج إيفل » ولبعض المنازل ، ففي العديد من أعمال الفنان المنفذة بين عامي ۱۹۱۲ و ۱۹۱۳ يقدم لنا أشكالاً دائرية من بنات أفكاره وينفذ ، حوالي نفس الفترة ، لوحات مثل ( تكريم بليريو ) ( ١٩١٤ ) حيث أشياء ذات هوية واضحة تجاور أشكالاً مبتكرة ، وهذه الأشياء إذ يمكنها أن تكون غير منسجمة ، ليس فيها ما يجعلها متضادة . ذلك أنه في سائر أنحاء اللوحة اختير اللون ووضع بنفس الحرية ، وأن كافة العناصر تصويرية أو تجريدية ، تخضع لنفس الإيقاعات .
أما « ليجه Leger كغيره من التكعيبيين فإنه يهتدي بهدي معجب بـ « روسو » الجمركي . بيد أنه أكثر من أقرانه ، يقدر لدى هذا الأخير الرسم الواضح والأشكال المليئة والضخمة . وعلى كل حال ، حين صور في ۱۹۰۹ - ۱۹۱۰ لوحته : ( العراة في
الغابة ) ( وكان العراة من الحطابين) فقد اهتم بصورة رئيسية بالحجم. وإذا ما عمد إلى تصوير الأجسام الإنسانية أو جذوع الشجر ، إنما يعالجها بالأسلوب نفسه : فهو يعيدها إلى كتل مخروطية أو اسطوانية أو مقرنة تبدو جميعها وكأنها نحتت بفأس ومن نفس المادة المقاومة . وقد كتب بولینیر Apollinaire ) قائلاً : " يحمل الحطابون على أجسامهم أثر الضربات التي تركها فأسهم على الأشجار »
وبعد هذا العمل المتراص الكثيف الوازن ، تأتي تكاوين أقل كثافة وذات شكل أكثر طلاقة فاللون فيها أكثر تحرراً وأكثر تمييزاً ، وبعض الأشكال تتميز ، وفي عام ۱۹۱۲ شرعت الطلاءات المشرقة تغطي سطوحاً عريضة . شيء هام ألا وهو أن « ليجه » لا يلجأ إلى حركة المتممات ، هذه الحركة العزيزة جداً على دولوني » إذ لا يريد هذا التوافق الرخيم في الألوان الذي ينتج عن المتممات . فهو يوزع سطوحه بشكل يجعل فروقاتها تظهر ، وتولد فيها بينها توترات . وهو يبحث دائماً التضاد . يقابل المنحني بالمستقيم ، والقطع الدائري بالمثلث أو بالمستطيل والمساحات الواسعة المسطحة بالحجوم الصغيرة البارزة قليلاً ، والألوان الزرقاء والزهرية القوية إلى الألوان الرمادية الصافية ، والعاجية الهادئة والسوداوية الحازمة ، ومن البديهي أن المعنى التشبيهي للأعمال التي يخلقها بهذه الطريقة هي أقل وضوحاً من معناها التصويري البحت . وفي لوحته المرأة ذات الرداء الأزرق التي أنتجها في عام ١٩١٢ فان بقعها اللونية الصريحة وخطوطها الهندسية لها وجود واضح أكثر من الكائن البشري .
ولذا لا يستغرب أن يعمد ( ليجيه ) في عام ١٩١٣ إلى إحداث تضاد في الأشكال غير مستوحى من شيء إلا ربما من أشكال هندسية . وحين أطلق على اللوحة ( السلم ) أو ( الأشجار داخل البيوت ، فإنه قد أخضع بقوة العالم الخارجي لبحوثه التشكيلية . وما لم ينجح به قبلا الا وهو إعطاء شعور الحجم مع المحافظة على نقاء اللون ، قد توصل إليه الآن : ففي داخل شكل أعطي مظهراً هندسياً ، يضع على امتداد الأطراف شريطين من الألوان منفصلين بمنطقة بيضاء نشاهد « مقولباً » لا يمت بصلة ما مع مقولب عصر النهضة . وهكذا فالحجوم التي يوحي بها حازمة ، دون أن تكون غليظة وتبدو كأنها نحتت داخل معدن تحتفظ بهذه المظاهر أيضاً في لوحات كتلك التي تمثل مدخناً » أو « امرأة على مقعد » ، فيتألف الشكل البشري بدوره من اسطوانات ومن مخاريط ناقصة ، وهذه تتداخل لتتخذ شكل إنسان آلي .
في أن يكون هذا الشكل البشري مجرداً عما هو إنساني ، ليس من شك في ذلك . بقي أن نعلم بماذا تفسر هذه المعالجة ، وبماذا تبرر ؟ دليل على ازدراء قد يكنه ( ليجيه ) للإنسانية في عصره ؟ كلا ، ليس الأمر كذلك بل أن هذه المعالجة تنبثق ببساطة عن الاهتمام بالتعبير عن حقيقة لاظهار واقع ، إن في حضارتنا الصناعية تحول الإنسان بفعل الآلة التي يقودها والتي لا تطيعه الا حين يتآلف معها .
وتجدر الإشارة إلى أن « ليجيه » هو أول من تحسس من جميع المصورين المعاصرين بما أعطته المكننة من جديد ليس فقط في إطار حياتنا ، بل في الحياة نفسها ، في عاداتنا وفي سلوكنا وحتى في عقليتنا . يجب ألا يستنتج من ذلك أن ليجيه يواجهنا بعالم متجهم من الحديد والاسمنت .
فالأعمال التي حققها بين عام ۱۹۱۲ و عام ١٩١٤ لها طابع باش إلى حد ما . فالأبيض الموضوع بين ألوان الأحمر والأخضر والأزرق يشيع النسيم في التكوين ويلطفه ، والرسم وإن يكن دقيقاً يتحاشى أن يكون بارداً وصلباً .
والتكعيبية التي يمثلها غليز Gleizes » و « متزنغر Metzinger و « لا فریسنیه La frssnaye » و ( آندره لوت Andre Lhote ) تختلف بآن واحد عن تكعيبية ( ليجيه ) وعن تلك التي تبناها « بيكاسو . فهو يحرف المظاهر أقل منهم وينحرف بدرجة أقل عن التقليد الواقعي . وهدفه الرئيسي هو أن يعارض الانطباعية ، وكل هؤلاء الذين يسيرون على خطاها ويهملون الشكل والبنية . وهكذا يبرز الشكل الهندسي ويعطي للوحة بنية واضحة جلية . ولا شك أن « غليز » الذي وقع مع ( ميتز نغر ) في عام ۱۹۱۲ أول مؤلف مكرّس للبحث عن التكعيبية قد نفذ حوالي ۱۹۱۲ - ۱۹۱۳ لوحات إذا لم تكن فيها الحجوم مقطعة ، الأقل مقسمة بشكل يذكر معه بلوحات « بيكاسو » و « براك » في عام ۱۹۰۹ . ولكن الشكل عادة مبني مع ذلك على أساس واقعي .
بيد أنه من الظلم أن لا نعترف بأن لوحات هؤلاء الفنانين قد تثير الإعجاب خاصة ( لا فرينيه ) فهو مصور أصيل . ويتمتع فنه بأجمل الصفات . ولو أنه لا يعيد اختراع الأشياء على غرار « ليجيه » أو بيكاسو بيد أنه يحولها . ويبدأ في عام ۱۹۱۰ يحولها أكثر فأكثر إلى أشكال هندسية واضحة بقدر ما هي بدائية ، ولا يترك لها في النهاية سوى صفات تصويرية فحسب. حين يصور زاوية مثلثة ، أو صفحة من الورق ، نشعر أن الأولى أشبه ما يمكن بمثلث أحمر – بني ، والثانية كمستطيل قريب من البياض. وحين استلهم من لوحة « غزو الجو » أو من لوحة ( الحياة الزوجية ) عام ۱۹۱۳ ، لم يرد حتماً تجاهل ما يشغل المرء ولا المشاعر الإنسانية ومع ذلك يجعل من الإنسان علامة تشكيلية في تكوين فيه اكتفاء ذاتي ، وتصوير » لافرينيه » يدين إلى الذكاء بقدر ما يدين إلى الحساسية . وتتجاوب الألوان ببراعة بقدر تجاوب الأشكال أن هذه الألوان ليست مشرقة ، بل جدية ودافئة ، فإنها تتآلف وتنسجم لتشكل أكثر الأغاني إيقاعاً وأشدها توافقاً .
والتوافق هو أيضاً هدف ( جاك فيللون J.Villon ، فبعد أن انصرف طويلاً إلى الرسم الفكاهي ( على غرار « غرى » و « مارکوسي ) ، انضم إلى التكعيبية في عام ۱۹۱۱ . وقد أظهر ميله نحو الاعتدال ونحو التناسب عندما اقترح تسمية ( صالة الشعبة الذهبية ) للمعرض الذي جمع في عام ۱۹۱۲ كافة التكعيبيين ما خلا « براك » و « بيكاسو فيللون » يتمتع أيضاً بحساسية ناعمة للغاية . عندما صور أ أخاه في لوحة تحمل اسم : صورة ريمون دوشان (فيللون» في عام ١٩١١ يبدو وكأنه يرسم السطوح التي يحولها إلى أشكال هندسية حسب مبادىء علم الجمال الجديد . وإذا ما لبث الحجم ظاهراً في العمل المذكور فان لوحته ( المرأة الجالسة ) ( ١٩١٤ ) لا تحمل سوى سطوح هندسية تتجاوز وتنضد كصفائح دقيقة من الورق المقوى. وبفضل دقة تمازج الألوان فان اللوحة لا تخلو من الإيحاء بمشاعر بحنان حسي الكثافة والفراغ .
وبينما يحب « فيللون » الطلاءات النقية وإن يكن يظلل إشراقها ، فإن أخاه ه مارسيل دوشان يشغف بالتلوين المائل نحو البني الذي رأيناه عند براك ، وبيكاسو » . وهو ينحرف عن هذين الأخيرين بالاهتمام الذي يوليه للحركة. ومنذ عام ۱۹۱۱ حقق أول صيغة لموضوع أعاد معالجته في السنة التالية ومكنه من خلق إحدى أشهر لوحاته : « شخص يظهر في هذه اللوحة جسد امرأة مجزأ ومتمفصل ومركب من جديد في خمسة أوضاع مختلفة ، ونشعر بالمرور من واحد من هذه الأوضاع إلى الآخر أكثر من شعورنا بالجسد نفسه . وهكذا يعبر عن الحركة بوسائل تجريدية ، بحركة خطوط مائلة ومنحنيات بسطوح مضيئة ، وغيرها معتمة ، بيد أن الإحساس واضح : إننا نرى انحداراً سريعاً ، شيقاً .
نجد الحرص على تمثيل الحركة لدى فنانين آخرين من ذلك العصر مثلاً عند ( فيللون ) في لوحته جنود يسيرون » ( ۱۹۱۳ ) ، وعند لافرينيه في لوحته ( مدفعية ) ( ۱۹۱۲ ) وعند ليجيه في لوحته حفلة زواج ( ۱۹۱۱ ) وعند « دولونيه » في لوحته ( فريق من کاردیف ) ( ۱۹۱۲ - ۱۹۱۳ ) أو في لوحته و تكريم بليريو» ( ١٩١٤ ). كما أن الاهتمام بتمثيل الحركة يوجد أيضاً في إيطاليا وهو فيها أحد الاهتمامات الرئيسية للمصورين المستقبليين .
وإن لم يكن دولوني يغادر بيته ، فإنه لم يقتصر بصورة عامة على العيش في عالم الأشياء الجامدة . ومنذ عام ۱۹۱۰ حتى عام ۱۹۱۲ ، كانت النافذة أحد مواضيعه المفضلة ، النافذة التي تطل على المدينة ويجتاحها النور . أما النور الذي يصوره فهو ذلك الذي يتخيله أكثر مما يراه : يخلقه هو ويجعله يتدفق من نفس الألوان التي توصل اليها الانطباعيون بتحليلهم للنور . فهو يضع الألوان : البرتقالي والأزرق والأحمر والأخضر والأصفر والبنفسجي ، أي كافة ألوان الموشور ، يضعها على لوحته فيجعلها تتضاد وتتآلف وتضمحل وتعود فتتفجر ، بحيث أنها تشكل ماسمي بعد «شو فروي Chevreul » وبعد « الانطباعيين الجدد» بـ «التضادات المتناوبة : وهي نوع من بريق جوي ليس فيه شيء من التلاشي ، مهما بلغت لا مادته أما الخطوط المستقيمة والمنحنية ، الشبيهة بالأشعة وبالموجات الأثيرية هذه الخطوط تمفصل التأليف وتمنحه بنية خفيفة وصلبة بآن واحد، وهي لا تسطر عادة ، بل تولد بخفية من تضاد الألوان . يشكل اللون فعلاً الوسيلة الأساسية بالنسبة ل «دولوني» ، فيستخدمه للإيحاء بالشكل ، وأيضاً بالفراغ ، فراغ لا حد له حيث المسافة فيما بين السطوح غير قابلة للتقدير ، بيد أننا ننزلق من سطح لآخر بحركة مستمرة. والخلاصة ، إننا نقترن بحركة النور ونساهم في انتشاره ، نتبعه في تحولاته اللاملموسة والفاتنة . والشاعر غيوم آبوللينير Guillaume Apollinaire - من أوائل المدافعين عن التكعيبيين - إذ أراد الإشارة إلى ما لتصوير « دولوني » من خصائص ، تكلم عن « التعبير بشكل جيد ما يقدم هذا الفن من شاعرية وموسيقية وفتنة .
وإذا ما تمكنا في لوحة ( النوافذ ) من ملاحظة ظلال خفيفة لـ « برج إيفل » ولبعض المنازل ، ففي العديد من أعمال الفنان المنفذة بين عامي ۱۹۱۲ و ۱۹۱۳ يقدم لنا أشكالاً دائرية من بنات أفكاره وينفذ ، حوالي نفس الفترة ، لوحات مثل ( تكريم بليريو ) ( ١٩١٤ ) حيث أشياء ذات هوية واضحة تجاور أشكالاً مبتكرة ، وهذه الأشياء إذ يمكنها أن تكون غير منسجمة ، ليس فيها ما يجعلها متضادة . ذلك أنه في سائر أنحاء اللوحة اختير اللون ووضع بنفس الحرية ، وأن كافة العناصر تصويرية أو تجريدية ، تخضع لنفس الإيقاعات .
أما « ليجه Leger كغيره من التكعيبيين فإنه يهتدي بهدي معجب بـ « روسو » الجمركي . بيد أنه أكثر من أقرانه ، يقدر لدى هذا الأخير الرسم الواضح والأشكال المليئة والضخمة . وعلى كل حال ، حين صور في ۱۹۰۹ - ۱۹۱۰ لوحته : ( العراة في
الغابة ) ( وكان العراة من الحطابين) فقد اهتم بصورة رئيسية بالحجم. وإذا ما عمد إلى تصوير الأجسام الإنسانية أو جذوع الشجر ، إنما يعالجها بالأسلوب نفسه : فهو يعيدها إلى كتل مخروطية أو اسطوانية أو مقرنة تبدو جميعها وكأنها نحتت بفأس ومن نفس المادة المقاومة . وقد كتب بولینیر Apollinaire ) قائلاً : " يحمل الحطابون على أجسامهم أثر الضربات التي تركها فأسهم على الأشجار »
وبعد هذا العمل المتراص الكثيف الوازن ، تأتي تكاوين أقل كثافة وذات شكل أكثر طلاقة فاللون فيها أكثر تحرراً وأكثر تمييزاً ، وبعض الأشكال تتميز ، وفي عام ۱۹۱۲ شرعت الطلاءات المشرقة تغطي سطوحاً عريضة . شيء هام ألا وهو أن « ليجه » لا يلجأ إلى حركة المتممات ، هذه الحركة العزيزة جداً على دولوني » إذ لا يريد هذا التوافق الرخيم في الألوان الذي ينتج عن المتممات . فهو يوزع سطوحه بشكل يجعل فروقاتها تظهر ، وتولد فيها بينها توترات . وهو يبحث دائماً التضاد . يقابل المنحني بالمستقيم ، والقطع الدائري بالمثلث أو بالمستطيل والمساحات الواسعة المسطحة بالحجوم الصغيرة البارزة قليلاً ، والألوان الزرقاء والزهرية القوية إلى الألوان الرمادية الصافية ، والعاجية الهادئة والسوداوية الحازمة ، ومن البديهي أن المعنى التشبيهي للأعمال التي يخلقها بهذه الطريقة هي أقل وضوحاً من معناها التصويري البحت . وفي لوحته المرأة ذات الرداء الأزرق التي أنتجها في عام ١٩١٢ فان بقعها اللونية الصريحة وخطوطها الهندسية لها وجود واضح أكثر من الكائن البشري .
ولذا لا يستغرب أن يعمد ( ليجيه ) في عام ١٩١٣ إلى إحداث تضاد في الأشكال غير مستوحى من شيء إلا ربما من أشكال هندسية . وحين أطلق على اللوحة ( السلم ) أو ( الأشجار داخل البيوت ، فإنه قد أخضع بقوة العالم الخارجي لبحوثه التشكيلية . وما لم ينجح به قبلا الا وهو إعطاء شعور الحجم مع المحافظة على نقاء اللون ، قد توصل إليه الآن : ففي داخل شكل أعطي مظهراً هندسياً ، يضع على امتداد الأطراف شريطين من الألوان منفصلين بمنطقة بيضاء نشاهد « مقولباً » لا يمت بصلة ما مع مقولب عصر النهضة . وهكذا فالحجوم التي يوحي بها حازمة ، دون أن تكون غليظة وتبدو كأنها نحتت داخل معدن تحتفظ بهذه المظاهر أيضاً في لوحات كتلك التي تمثل مدخناً » أو « امرأة على مقعد » ، فيتألف الشكل البشري بدوره من اسطوانات ومن مخاريط ناقصة ، وهذه تتداخل لتتخذ شكل إنسان آلي .
في أن يكون هذا الشكل البشري مجرداً عما هو إنساني ، ليس من شك في ذلك . بقي أن نعلم بماذا تفسر هذه المعالجة ، وبماذا تبرر ؟ دليل على ازدراء قد يكنه ( ليجيه ) للإنسانية في عصره ؟ كلا ، ليس الأمر كذلك بل أن هذه المعالجة تنبثق ببساطة عن الاهتمام بالتعبير عن حقيقة لاظهار واقع ، إن في حضارتنا الصناعية تحول الإنسان بفعل الآلة التي يقودها والتي لا تطيعه الا حين يتآلف معها .
وتجدر الإشارة إلى أن « ليجيه » هو أول من تحسس من جميع المصورين المعاصرين بما أعطته المكننة من جديد ليس فقط في إطار حياتنا ، بل في الحياة نفسها ، في عاداتنا وفي سلوكنا وحتى في عقليتنا . يجب ألا يستنتج من ذلك أن ليجيه يواجهنا بعالم متجهم من الحديد والاسمنت .
فالأعمال التي حققها بين عام ۱۹۱۲ و عام ١٩١٤ لها طابع باش إلى حد ما . فالأبيض الموضوع بين ألوان الأحمر والأخضر والأزرق يشيع النسيم في التكوين ويلطفه ، والرسم وإن يكن دقيقاً يتحاشى أن يكون بارداً وصلباً .
والتكعيبية التي يمثلها غليز Gleizes » و « متزنغر Metzinger و « لا فریسنیه La frssnaye » و ( آندره لوت Andre Lhote ) تختلف بآن واحد عن تكعيبية ( ليجيه ) وعن تلك التي تبناها « بيكاسو . فهو يحرف المظاهر أقل منهم وينحرف بدرجة أقل عن التقليد الواقعي . وهدفه الرئيسي هو أن يعارض الانطباعية ، وكل هؤلاء الذين يسيرون على خطاها ويهملون الشكل والبنية . وهكذا يبرز الشكل الهندسي ويعطي للوحة بنية واضحة جلية . ولا شك أن « غليز » الذي وقع مع ( ميتز نغر ) في عام ۱۹۱۲ أول مؤلف مكرّس للبحث عن التكعيبية قد نفذ حوالي ۱۹۱۲ - ۱۹۱۳ لوحات إذا لم تكن فيها الحجوم مقطعة ، الأقل مقسمة بشكل يذكر معه بلوحات « بيكاسو » و « براك » في عام ۱۹۰۹ . ولكن الشكل عادة مبني مع ذلك على أساس واقعي .
بيد أنه من الظلم أن لا نعترف بأن لوحات هؤلاء الفنانين قد تثير الإعجاب خاصة ( لا فرينيه ) فهو مصور أصيل . ويتمتع فنه بأجمل الصفات . ولو أنه لا يعيد اختراع الأشياء على غرار « ليجيه » أو بيكاسو بيد أنه يحولها . ويبدأ في عام ۱۹۱۰ يحولها أكثر فأكثر إلى أشكال هندسية واضحة بقدر ما هي بدائية ، ولا يترك لها في النهاية سوى صفات تصويرية فحسب. حين يصور زاوية مثلثة ، أو صفحة من الورق ، نشعر أن الأولى أشبه ما يمكن بمثلث أحمر – بني ، والثانية كمستطيل قريب من البياض. وحين استلهم من لوحة « غزو الجو » أو من لوحة ( الحياة الزوجية ) عام ۱۹۱۳ ، لم يرد حتماً تجاهل ما يشغل المرء ولا المشاعر الإنسانية ومع ذلك يجعل من الإنسان علامة تشكيلية في تكوين فيه اكتفاء ذاتي ، وتصوير » لافرينيه » يدين إلى الذكاء بقدر ما يدين إلى الحساسية . وتتجاوب الألوان ببراعة بقدر تجاوب الأشكال أن هذه الألوان ليست مشرقة ، بل جدية ودافئة ، فإنها تتآلف وتنسجم لتشكل أكثر الأغاني إيقاعاً وأشدها توافقاً .
والتوافق هو أيضاً هدف ( جاك فيللون J.Villon ، فبعد أن انصرف طويلاً إلى الرسم الفكاهي ( على غرار « غرى » و « مارکوسي ) ، انضم إلى التكعيبية في عام ۱۹۱۱ . وقد أظهر ميله نحو الاعتدال ونحو التناسب عندما اقترح تسمية ( صالة الشعبة الذهبية ) للمعرض الذي جمع في عام ۱۹۱۲ كافة التكعيبيين ما خلا « براك » و « بيكاسو فيللون » يتمتع أيضاً بحساسية ناعمة للغاية . عندما صور أ أخاه في لوحة تحمل اسم : صورة ريمون دوشان (فيللون» في عام ١٩١١ يبدو وكأنه يرسم السطوح التي يحولها إلى أشكال هندسية حسب مبادىء علم الجمال الجديد . وإذا ما لبث الحجم ظاهراً في العمل المذكور فان لوحته ( المرأة الجالسة ) ( ١٩١٤ ) لا تحمل سوى سطوح هندسية تتجاوز وتنضد كصفائح دقيقة من الورق المقوى. وبفضل دقة تمازج الألوان فان اللوحة لا تخلو من الإيحاء بمشاعر بحنان حسي الكثافة والفراغ .
وبينما يحب « فيللون » الطلاءات النقية وإن يكن يظلل إشراقها ، فإن أخاه ه مارسيل دوشان يشغف بالتلوين المائل نحو البني الذي رأيناه عند براك ، وبيكاسو » . وهو ينحرف عن هذين الأخيرين بالاهتمام الذي يوليه للحركة. ومنذ عام ۱۹۱۱ حقق أول صيغة لموضوع أعاد معالجته في السنة التالية ومكنه من خلق إحدى أشهر لوحاته : « شخص يظهر في هذه اللوحة جسد امرأة مجزأ ومتمفصل ومركب من جديد في خمسة أوضاع مختلفة ، ونشعر بالمرور من واحد من هذه الأوضاع إلى الآخر أكثر من شعورنا بالجسد نفسه . وهكذا يعبر عن الحركة بوسائل تجريدية ، بحركة خطوط مائلة ومنحنيات بسطوح مضيئة ، وغيرها معتمة ، بيد أن الإحساس واضح : إننا نرى انحداراً سريعاً ، شيقاً .
نجد الحرص على تمثيل الحركة لدى فنانين آخرين من ذلك العصر مثلاً عند ( فيللون ) في لوحته جنود يسيرون » ( ۱۹۱۳ ) ، وعند لافرينيه في لوحته ( مدفعية ) ( ۱۹۱۲ ) وعند ليجيه في لوحته حفلة زواج ( ۱۹۱۱ ) وعند « دولونيه » في لوحته ( فريق من کاردیف ) ( ۱۹۱۲ - ۱۹۱۳ ) أو في لوحته و تكريم بليريو» ( ١٩١٤ ). كما أن الاهتمام بتمثيل الحركة يوجد أيضاً في إيطاليا وهو فيها أحد الاهتمامات الرئيسية للمصورين المستقبليين .
تعليق