فلسطين
فلسطين في العصر الإسلامي
تنافس الفرس والبيزنطيون على حكم فلسطين قبل ظهور الإسلام، وجرت حروب كثيرة بينهما، انتصر فيها البيزنطيون أخيراً بقيادة هرقل على الفرس، وبقيت فلسطين تحت حكم البيزنطيين حتى وَجَّهَ الخليفة أبو بكر الصديق الجيوش لفتح الشام. وكانت قيادة الجيش المتوجه إلى فلسطين لعمرو بن العاص، حيث جرى أول صدام بين المسلمين والبيزنطيين في داثن (قرية من قرى غزة) كان النصر فيه للمسلمين. ثم قام عمرو بن العاص ببعض الغارات المحدودة ضد القبائل العربية النازلة في النقب، وحقق عليها انتصاراً كبيراً في موقع العربات، الذي أصبح معسكراً للقوات الإسلامـية، وبعد أن فتـح المسلمون بصرى في ربيـع الأول 13هـ/634م، سار قادة فتوح الشام باتجاه فلسطين لمساعدة عمرو بن العاص، وكان البيزنطيون قد عسكروا في أجنادين (جنوب غربي القدس)، فجرت بين الطرفين أول معركة كبيرة في فلسطين، انتصر فيها المسلمون، وقتلوا قائد البيزنطيين، واستشهد فيها عدد من الصحابة، سنة 13هـ/634م. وفَّر البيزنطيون إلى فِحْلَ (على الضفة الشرقية للأردن قرب بيسان) من دون نظام وتابعهم المسلمون إليها ففتحوها ومنحوا أهلها الأمان مقابل الجزية والخراج.
تمركز البيزنطيون في شمالي فلسطين، فأقام المسلمون معسكرهم في الجابية بالجولان على نهر الرقّاد، وتمركزت جيوشهم على طول وادي اليرموك، وجرت بين الطرفين معركة اليرموك في رجب سنة 15هـ/آب 636م، انتصر المسلمون فيها، ثم بدأ عمرو بن العاص بفتح معظم مدن فلسطين، ففتح غزة وسبسطية ونابلس واللد ويُبنى وعمواس وبيت جبرين ويافا ورفح، وكان يُعطي السكان الأمان على أنفسهم وأموالهم ومنازلهم مقابل الجزية والخراج، وعقد معهم معاهدات نص بعضها على إخلاء بعض المواقع والمنازل ليقيم بها الفاتحون، أو لإقامة أماكن عبادة، ثم حاصر عمرو وأبو عبيدة بيت المقدس التي رفض أهلها الاستسلام إلا للخليفة، فتوجه عمر بن الخطاب إليها، وعقد صلحاً مع أهلها اشترطوا فيه على الخليفة ألاَّ يُسْكِن مدينتهم أحداً من اليهود. ثم عمل عمرو بن العاص على فتح بقية مدن فلسطين، التي لم تكن قد فتحت بعد، ومن أهمها قيسارية التي حاصرها عمرو مرات عدة، وكان ينسحب منها حين يجد أن لا جدوى من ذلك، حتى تم فتحها على يد معاوية بن أبي سفيان الذي ظل مقيماً عليها حتى فتحها سنة 19هـ/640م، ثم فتح عسقلان صلحاً سنة 23هـ/644م، فتم بذلك فتح فلسطين بكاملها.
لقيت فلسطين رعاية كل من الراشدين والأمويين لم يلقها سواها من البلاد المفتوحة، فكان ذلك خيراً وازدهاراً على أوضاعها الداخلية، ولم تعكرها إلا الصراعات الداخلية على السلطة. فحين قامت الفتنة الكبرى، وقُتل الخليفة الراشدي عثمان بن عفَّان كان لها أصداؤها في فلسطين فقد أيَّدت بعض القبائل القاطنة في فلسطين معاوية بن أبي سفيان ضد علي بن أبي طالب وانتهى الأمر بين الطرفين بمعركة صفين، ثم تلاها مقتل علي بن أبي طالب، وتولي معاوية ابن أبي سفيان الخلافة فدخلت فلسطين عهداً جديداً.
أعلن معاوية خلافته في بيت المقدس، وأصبحت فلسطين في عهد الأمويين أحد أجناد بلاد الشام الخمسة، فكانت الرملة قصبة جند فلسطين، ومن كورة بيت المقدس وعُمواس ونابلس وسبسطية وبيت جبرين وقيسارية ويافا وعسقلان وغزة. وكان قسم من فلسطين يتبع لجند الأردن الذي كانت قصبته طبريا، ومن مدنه الفلسطينية قَدَس وبيسان وفِحْل.
لم تكن فلسطين بعيدة عن الصراع الذي جرى بعد وفاة يزيد بن معاوية، فعلى الرغم من مبايعة العديد من بلاد المسلمين لعبد الله بن الزبير، بقي جند فلسطين وعليه حسان بن مالك بن بحدل الكلبي على موالاته للأمويين، باستثناء ناتل بن قيس الجذامي الذي أعلن البيعة لابن الزبير. لكن بعد مؤتمر الجابية ومرج راهط ضعف ناتل وقُتِلَ، وولّى الأمويون روح بن زنباع على فلسطين.
استغل البيزنطيون انشغال عبد الملك بن مروان بقتال ابن الزبير، فهاجموا عسقلان وقيسارية وعكا، وعاثوا فساداً فيها، وأجلوا أهلها عنها، فأعاد عبد الملك بن مروان إعمارها، وأنزل المرابطة بها، وأقطعهم القطائع.
كان لانقسام البيت الأموي بعد مقتل يزيد بن الوليد (الثالث) أثر بالغ في عدم الاستقرار في فلسطين وقيام الثورات فيها، مما اضطر الخليفة مروان بن محمد إلى إرسال أحد قادته لتهدئة الأمور، فدانت فلسطين له في الوقت الذي كانت فيه الثورة العباسية قد نضجت، وبدأت حروب الدعوة العباسية، واضطر مروان بن محمد تحت وطأتها إلى الفرار إلى فلسطين، فتبعه إليها عبد الله بن علي عمّ الخليفة أبي العباس السفاح، فتركها فارّاً إلى مصر، وسقطت فلسطين في يد العباسيين[ر]، فظل عبد الله بن علي فيها، حيث عاقب الأمويين على موقفهم، فقتل عدداً من وجوههم، واستولى على ضياع بني أمية فيها، ثم قام بعض الخلفاء العباسيين بمحو بعض آثار الأمويين في فلسطين, مثل ما فعلوه بالمسجد الأقصى حين أصابه الخراب في عهد الخليفة المأمون، فرمّمه وأزال اسم بانيه عبد الملك بن مروان، ونسبه إلى نفسه.
نشبت ثورات عدة في فلسطين في خلافة العباسيين، إحداها في خلافة المنصور، وأخرى في خلافة هارون الرشيد سنة 190هـ/805م، قادها أبو النداء، بسبب تشدد صاحب الخراج في الجباية. ولعل أهم الثورات في فلسطين ضد العباسيين ثورة المبرقع اليماني 227هـ/841م، الذي أخذ يدعو الناس إلى نفسه، فتبعه خلق كثير بلغ تعدادهم مئة ألف، كانت غالبيتهم من الفلاحين.
كان المبرقع يظهر من مخبئه في النهار فيحرِّض الناس على العباسيين, ولما كثر أتباعه دعا أهل البيوتات، فاستجاب له منهم جماعة من رؤساء اليمانية، من بينهم ابن بيهس، وكان مُطاعاً في أهل اليمن، فأرسل الخليفة المعتصم لقتاله رجاء بن أيوب الحضاري، فقاتله وأسره, وحمله إلى سامراء. وكانت هذه الثورة بمنزلة تعبير عن النقمة على العباسيين لعدم اهتمامهم بأحوال أهالي فلسطين الاقتصادية والاجتماعية، وعملهم على إثارة العصبيات القبلية للسيطرة على الأوضاع فيها.
حين تولى عيسى بن الشيخ الشيباني الإمارة على فلسطين سنة 247هـ/861م، اضطربت الأمور ووقع صراع دموي فيها بين لخم وجذام أدى إلى سقوط ضحايا عديدة بين الطرفين، كما طمع ابن الشيخ في مدّ سلطانه على عموم الشام ومصر، وهاجم القوافل التجارية التي تمر في فلسطين، وتحمل أموال مصر إلى العراق، فاستولى على بعضها ووزعها بين أصحابه، ثم أعلن العصيان على الخلافة العباسية. فاتَّبَعَ الخليفة المعتمد على الله معه سياسة اللين في بداية الأمر، ثم حرَّض عليه أماجور الإفرنجي وأقطعه الشام، فتخلص منه. ولما توفي أماجور خضعت فلسطين لأحمد بن طولون الذي ضمها إلى مصر. ولما تولّى ابنه خمارويه الحكم سنة 270هـ/884م، هوجِمَ من قبل الخلافة العباسية، وجرت بين الطرفين معارك عدة انتهت باعتراف الخلافة العباسية بولاية خمارويه وأبنائه من بعده على مصر والشام بما فيها فلسطين.
أُسندت أعمال فلسطين إلى الإخشيديين، الذين شهد عصرهم بعض الفتن في الرملة وقيسارية وعسقلان والقدس، تمثلت في اعتداءات وقعت على بعض أماكن العبادة، وقد أسهمت بعض العناصر اليهودية في إذكاء نار الفتنة، وأدت الامبراطورية البيزنطية في فلسطين دوراً مهماً في تلك الأحداث.
ولعل أهم أحداث فلسطين في فترة حكم الإخشيديين الصِدَام الذي جرى بين محمد بن طغج الإخشيدي ومحمد بن رائق، فتمكن الأخير من الاستيلاء على فلسطين، فقاتله الإخشيد في العريش وانتصر عليه، ثم عُقِدَ بينهما صُلْح نص على اقتسام البلاد. ولما قتل ابن رائق سنة 330هـ/942م، استعاد الإخشيد فلسطين، فبقيت تحت حكم سلالته إلى أن خضعت للفاطميين.
ساءت أوضاع فلسطين في العهد الفاطمي، وتنوعت القوى التي كانت تتصارع على السلطة والنفوذ فيها، وزاد الأمر سوءاً سياسة الفاطميين في إثارة القبائل العربية بعضها ضد بعض، ودخلت القبائل مسرح الأحداث، لتصبح قوة أساسية من القوى الفاعلة، كما تعرضت فلسطين لهجمات القرامطة بقيادة الحسن الأعصم، وجرت بينهم وبين الفاطميين معارك متعددة انتهت بانتصار الفاطميين، وارتد الحسن الأعصم إلى الإحساء. كما تعرضت فلسطين لهجمات أفتكين التركي الذي تحالف مع الحسن الأعصم، فقاتلهما جوهر الصقلي قائد الفاطميين، فانهزم، واضطر إلى عقد اتفاق معهما، على أن يكون من غزة إلى مصر للفاطميين، وأن تكون فلسطين وبقية الشام لأفتكين، ولكن الخليفة العزيز بالله الفاطمي رفض هذا الاتفاق، وقاتلهما بنفسه، وتغلب عليهما.
ومن الأحداث التي تعرضت لها فلسطين في العهد الفاطمي أيضاً قيام الخليفة الحاكم بأمر الله بهدم الكنائس والأديرة الملكانية التابعة «لمذهب بيزنطة» لسوء العلاقات بين الطرفين. فهدم البيزنطيون جامع القسطنطينية رداً على تلك السياسة وقطعوا التجارة مع الفاطميين. ولما انتهت الأزمة بينهما، أمر الحاكم بإعادة بناء الكنائس.
غير أن بيزنطة استمرت في دعمها بعض القبائل العربية المقيمة في فلسطين وإثارتها على الفاطميين إلى أن انتهى الأمر باستيلاء بني الجراح الطائيين على فلسطين، ولم يتمكن الخليفة الظاهر لإعزاز دين الله من استعادتها إلا سنة 420هـ/1029م، بعد معركة الأقحوانة، فلحق ابن الجراح بالبيزنطيين. وفي عهد الخليفة الفاطمي المستنصر بالله، تحسنت العلاقات مع البيزنطيين، وعادت التجارة بين الطرفين، ونشطت موانئ صور وعكا، واستقرت أوضاع فلسطين نسبياً، وتقلد بعض أبنائها مناصب عالية، فقد تسلم الحسن بن عبد الرحمن اليازوري (يازور قرب يافا) الوزارة الفاطمية، وكان له دور فاعل ومؤثر في السياسة الداخلية والخارجية.
لكن فلسطين خرجت عن نطاق السيطرة الفاطمية، حينما تعرضت لهجمات الخوارزمية، ففي سنة 463هـ/1070م، هاجم اتسز بن أوق مدينة طبريا واستولى عليها، كما حاصر القدس سنة 465هـ/1072م، فاستسلمت له وشدد الحصار على عكا فسقطت بيده فترة، وخطب أتسز في فلسطين للخليفة العباسي، وقطع الخطبة للخليفة الفاطمي، إلا أنه لم يحسن معاملة سكان فلسطين مما أدى إلى انتفاضهم عليه، ثم ما لبث أن قُتل على يد تتش بن ألب أرسلان السلجوقي الذي استولى على ما كان بيده، فأعطى حكم بيت المقدس 475هـ/1082م، إلى أرتق بك بن أكسب التركماني.
عادت القدس إلى طاعة الفاطميين أثناء حصار صليبيي الحملة الأولى، لمدينة أنطاكية سنة 492هـ/1099م، ولكنهم لم يهنؤوا بحكمها، إذ تمكن الصليبيون من دخولها بعد حصار دام أربعين يوماً، وارتكبوا فيها مذبحة صارت حديث التاريخ، بلغ عدد ضحاياها سبعين ألفاً، أكثرهم من المدنيين والمجاورين، وسالت دماء المسلمين حتى الركب. وتابع الصليبيون احتلال مدن فلسطين الواحدة بعد الأخرى، حيث أسسوا فيها مملكة بيت المقدس الإقطاعية، التي أصبح لها اليد العليا على الإمارات الصليبية في الشام. وكان اعتماد الصليبيين فيها على مساندة ومساعدة الحجاج المسيحيين الوافدين إليها، وعلى أساطيل التجارة التابعة للمدن الإيطالية التجارية.
اضطلع الفاطميون والسكان المحليون في فلسطين بمقاومة الصليبيين منذ احتلالهم فلسطين، إلا أنهم لم يتمكنوا من تحريرها، ثم انتقل أمر تحريرها إلى الدولة البورية والزنكية، فتراوح موقف البورية بين العداء والمهادنة لصليبيي بيت المقدس، ثم حمل لواء التحرير عماد الدين زنكي وابنه نور الدين محمود ثم من بعدهما صلاح الدين الأيوبي، وأشهر ما جرى بين الأخير والصليبيين معركة حطين التي انهزم الصليبيون فيها، في ربيع الثاني 583هـ/ حزيران 1187م. وترتب على نصر حطين انهيار مملكة بيت المقدس، التي لم يبقَ منها إلا ظل باهت، إذ استسلمت مدن فلسطين الواحدة تلو الأخرى، بما فيها بيت المقدس وعكا، وسجل المؤرخون لصلاح الدين في هذا الفتح الرحمة والتسامح وروح الفروسية العالية.
سمح صلاح الدين للصليبيين الخارجين من بيت المقدس بالتجمع في صور، فازدادت قوتهم بها، وأرسلت أوربا حملة صليبية، عرفت بالحملة الثالثة، لإنقاذ من تبقى من الصليبيين في مملكة بيت المقدس، فحاصرت عكا، ووقف صلاح الدين في وجهها، ولكن كثرة الإمدادات الصليبية البحرية أدت إلى طول الحصار، وجرت مفاوضات بين الطرفين تسلم الصليبيون نتيجتها عكا، فغدروا بسكانها وحاميتها، وانتهى أمر هذه الحملة بصلح الرملة.
ساد الهدوء في فلسطين بعد صلح الرملة؛ فأدى ذلك إلى نشاط التجارة والزراعة وإعمار فلسطين.
توفي صلاح الدين في 26 صفر 589هـ/3 آذار 1193م؛ فانقسمت الدولة الأيوبية على نفسها، وانقسمت فلسطين تبعاً لذلك إلى أربعة أقاليم، إقليم ساحلي يحكمه الصليبيون ما بين صور ويافا، وثلاثة أيوبية مقسمة بين ممالكهم في كل من مصر ودمشق والكرك، وأحياناً إلى قسمين إذا جُمع حكم دمشق ومصر لأحد الأيوبيين. وخفَّت وطأة الحملات الصليبية إلى فلسطين بعد أن انصرف بعضها إلى مصر وشمالي أفريقيا، ولم يصل إليها إلا ما سمي بالحملة السادسة التي قادها فريدريك الثاني Frederic II امبراطور ألمانيا وصقلية في قلة من الرجال سنة 625هـ/1228م، فتمكن من عقد اتفاقية يافا مع السلطان الكامل الأيوبي من دون قتال في ربيع الثاني 627هـ/شباط فبراير 1229م، مدة عشر سنوات حصل بموجبها فردريك على القدس وبيت لحم والناصرة على أن تكون سائر قرى القدس والحرم للمسلمين لا يدخلها صليبي.
امتعض المسلمون من هذه الاتفاقية، وبدؤوا العمل على استعادة القدس، التي أصبحت بين أخذ ورد بين المسلمين والصليبيين، إلى أن تمكن الناصر داود الأيوبي سنة 636هـ/1239م من فتحها وطرد الصليبيين منها. ثم مالبث الصالح إسماعيل أن سلّمها لهم ثانية، ثم استعادها الصالح أيوب بالاستعانة بالخوارزمية، الذين سُمِحَ لهم بالاستقرار في فلسطين، فقاموا بقتال الصليبيين واستولوا على العديد من الضياع، وأصبحت مدن فلسطين تُحتل مرة وتستعاد مرة ثانية، حتى قدم المغول إليها وأخذوا بالانسياح فيها, فاحتلوا نابلس ووصلت طلائعهم إلى غزة فخربوا ونهبوا.
في هذه الأثناء توفي آخر سلاطين الدولة الأيوبية (الملك الصالح أيوب) وتولى المماليك مقاليد الحكم في مصر.
خرج المظفَّر قطز المملوكي منها ومعه الظاهر بيبرس لقتال المغول في رمضان 657هـ/آب/أغسطس 1259م، وساعده أهل القرى من فلاحي فلسطين، فطاردهم حتى عين جالوت، حيث وقعت المعركة المشهورة في رمضان سنة 658هـ/آب/أغسطس 1260م، انتصر المماليك فيها، وقُتل كتبغانوين قائد المغول. كانت معركة عين جالوت من المعارك الحاسمة في التاريخ؛ لأنها أنقذت المشرق العربي الإسلامي كله من أخطر تهديد تعرض له، وكانت نهاية المد المغولي، وأدت إلى تبعية فلسطين للمماليك.
وقع على المماليك عبء إتمام تحرير فلسطين من الصليبيين بقيادة الظاهر بيبرس ومن أتى بعده من المماليك، فقاد بيبرس معارك عدة ضدهم في عكا وقيسارية وأرسوف وصفد ويافا، وانتصر على الصليبيين بأكثر من موقعة، واستسلمت له الحاميات الصليبية جميعها عدا قاعدتهم الكبيرة في عكا. وخافه الصليبيون في مناطق متعددة فأعلنوا خضوعهم له، وسقطت بيده قلاع عدة مثل هونين، وتبنين والشقيف.
أخذ الصليبيون بتحصين عكا وتموينها؛ لأن سقوطها يعني نهاية وجود الصليبيين، ووصلت إليها نجدات أوربية أشعرت الصليبيين في عكا بقوتهم، وعلى الرغم من ذلك فإنهم استعانوا بالمغول حين قدم بيبرس لحصارها؛ مما أدى إلى عدم تمكنه من فتحها، لكنه تمكن من فتح حصون عدة حولها، وطلب صليبيو عكا الصلح، فعقد بيبرس معهم صلحاً عشر سنوات بدءاً من 670هـ/1272م، وكانت موافقته على الصلح بسبب الظروف العامة التي واجهها المسلمون، وتوفي بيبرس سنة 676هـ/1277م، وانتقلت مهمة تحرير مدن فلسطين من الصليبيين إلى قـلاوون الألفي الذي عقد مع الداويـة والاسبتاريـة هـدنة مـدة عشر سنوات من 680هـ/1281م.
تمتعت عكا برخاء مادي كبير وأرباح تجارية خيالية، لكنها أصبحت بؤرة فساد وانحطاط وشرور، وانفجرت أعمال العنف فيها ضد المسلمين، فحشد قلاوون الجيوش وزحف للاستيلاء عليها، ولكنه توفي قبل تحقيق ذلك، فتابع ابنه الأشرف خليل عمله، وتحركت قواته نحو عكا سنة 690هـ/1291م، وأعد الصليبيون العدة للدفاع عنها وحاصرها المسلمون قرابة الشهر والنصف فتمكنوا من خرق الأسوار ودكّها، ودخلوا المدينة فخرج الصليبيون منها. وأدى سقوط عكا إلى سقوط كل الحصون التي كانت قد بقيت في يد الصليبيين في فلسطين، وبذلك تحررت فلسطين من الصليبيين نهائياً على يد المماليك.
جعل المماليك فلسطين ثلاث نيابات، نيابة غزة، ونيابة صفد، ونيابة القدس. وكان يحكم كل نيابة نائب عن السلطان المملوكي، يساعده عدد من الموظفين، وقد وزع المماليك الإقطاعات على الجنود والأمراء من العرب البدو والمماليك، واستمرت فلسطين تُحكم بهذه الطريقة حتى دخول العثمانيين إليها.
أمينة بيطار
فلسطين في العصر الإسلامي
تنافس الفرس والبيزنطيون على حكم فلسطين قبل ظهور الإسلام، وجرت حروب كثيرة بينهما، انتصر فيها البيزنطيون أخيراً بقيادة هرقل على الفرس، وبقيت فلسطين تحت حكم البيزنطيين حتى وَجَّهَ الخليفة أبو بكر الصديق الجيوش لفتح الشام. وكانت قيادة الجيش المتوجه إلى فلسطين لعمرو بن العاص، حيث جرى أول صدام بين المسلمين والبيزنطيين في داثن (قرية من قرى غزة) كان النصر فيه للمسلمين. ثم قام عمرو بن العاص ببعض الغارات المحدودة ضد القبائل العربية النازلة في النقب، وحقق عليها انتصاراً كبيراً في موقع العربات، الذي أصبح معسكراً للقوات الإسلامـية، وبعد أن فتـح المسلمون بصرى في ربيـع الأول 13هـ/634م، سار قادة فتوح الشام باتجاه فلسطين لمساعدة عمرو بن العاص، وكان البيزنطيون قد عسكروا في أجنادين (جنوب غربي القدس)، فجرت بين الطرفين أول معركة كبيرة في فلسطين، انتصر فيها المسلمون، وقتلوا قائد البيزنطيين، واستشهد فيها عدد من الصحابة، سنة 13هـ/634م. وفَّر البيزنطيون إلى فِحْلَ (على الضفة الشرقية للأردن قرب بيسان) من دون نظام وتابعهم المسلمون إليها ففتحوها ومنحوا أهلها الأمان مقابل الجزية والخراج.
تمركز البيزنطيون في شمالي فلسطين، فأقام المسلمون معسكرهم في الجابية بالجولان على نهر الرقّاد، وتمركزت جيوشهم على طول وادي اليرموك، وجرت بين الطرفين معركة اليرموك في رجب سنة 15هـ/آب 636م، انتصر المسلمون فيها، ثم بدأ عمرو بن العاص بفتح معظم مدن فلسطين، ففتح غزة وسبسطية ونابلس واللد ويُبنى وعمواس وبيت جبرين ويافا ورفح، وكان يُعطي السكان الأمان على أنفسهم وأموالهم ومنازلهم مقابل الجزية والخراج، وعقد معهم معاهدات نص بعضها على إخلاء بعض المواقع والمنازل ليقيم بها الفاتحون، أو لإقامة أماكن عبادة، ثم حاصر عمرو وأبو عبيدة بيت المقدس التي رفض أهلها الاستسلام إلا للخليفة، فتوجه عمر بن الخطاب إليها، وعقد صلحاً مع أهلها اشترطوا فيه على الخليفة ألاَّ يُسْكِن مدينتهم أحداً من اليهود. ثم عمل عمرو بن العاص على فتح بقية مدن فلسطين، التي لم تكن قد فتحت بعد، ومن أهمها قيسارية التي حاصرها عمرو مرات عدة، وكان ينسحب منها حين يجد أن لا جدوى من ذلك، حتى تم فتحها على يد معاوية بن أبي سفيان الذي ظل مقيماً عليها حتى فتحها سنة 19هـ/640م، ثم فتح عسقلان صلحاً سنة 23هـ/644م، فتم بذلك فتح فلسطين بكاملها.
لقيت فلسطين رعاية كل من الراشدين والأمويين لم يلقها سواها من البلاد المفتوحة، فكان ذلك خيراً وازدهاراً على أوضاعها الداخلية، ولم تعكرها إلا الصراعات الداخلية على السلطة. فحين قامت الفتنة الكبرى، وقُتل الخليفة الراشدي عثمان بن عفَّان كان لها أصداؤها في فلسطين فقد أيَّدت بعض القبائل القاطنة في فلسطين معاوية بن أبي سفيان ضد علي بن أبي طالب وانتهى الأمر بين الطرفين بمعركة صفين، ثم تلاها مقتل علي بن أبي طالب، وتولي معاوية ابن أبي سفيان الخلافة فدخلت فلسطين عهداً جديداً.
أعلن معاوية خلافته في بيت المقدس، وأصبحت فلسطين في عهد الأمويين أحد أجناد بلاد الشام الخمسة، فكانت الرملة قصبة جند فلسطين، ومن كورة بيت المقدس وعُمواس ونابلس وسبسطية وبيت جبرين وقيسارية ويافا وعسقلان وغزة. وكان قسم من فلسطين يتبع لجند الأردن الذي كانت قصبته طبريا، ومن مدنه الفلسطينية قَدَس وبيسان وفِحْل.
لم تكن فلسطين بعيدة عن الصراع الذي جرى بعد وفاة يزيد بن معاوية، فعلى الرغم من مبايعة العديد من بلاد المسلمين لعبد الله بن الزبير، بقي جند فلسطين وعليه حسان بن مالك بن بحدل الكلبي على موالاته للأمويين، باستثناء ناتل بن قيس الجذامي الذي أعلن البيعة لابن الزبير. لكن بعد مؤتمر الجابية ومرج راهط ضعف ناتل وقُتِلَ، وولّى الأمويون روح بن زنباع على فلسطين.
استغل البيزنطيون انشغال عبد الملك بن مروان بقتال ابن الزبير، فهاجموا عسقلان وقيسارية وعكا، وعاثوا فساداً فيها، وأجلوا أهلها عنها، فأعاد عبد الملك بن مروان إعمارها، وأنزل المرابطة بها، وأقطعهم القطائع.
كان لانقسام البيت الأموي بعد مقتل يزيد بن الوليد (الثالث) أثر بالغ في عدم الاستقرار في فلسطين وقيام الثورات فيها، مما اضطر الخليفة مروان بن محمد إلى إرسال أحد قادته لتهدئة الأمور، فدانت فلسطين له في الوقت الذي كانت فيه الثورة العباسية قد نضجت، وبدأت حروب الدعوة العباسية، واضطر مروان بن محمد تحت وطأتها إلى الفرار إلى فلسطين، فتبعه إليها عبد الله بن علي عمّ الخليفة أبي العباس السفاح، فتركها فارّاً إلى مصر، وسقطت فلسطين في يد العباسيين[ر]، فظل عبد الله بن علي فيها، حيث عاقب الأمويين على موقفهم، فقتل عدداً من وجوههم، واستولى على ضياع بني أمية فيها، ثم قام بعض الخلفاء العباسيين بمحو بعض آثار الأمويين في فلسطين, مثل ما فعلوه بالمسجد الأقصى حين أصابه الخراب في عهد الخليفة المأمون، فرمّمه وأزال اسم بانيه عبد الملك بن مروان، ونسبه إلى نفسه.
نشبت ثورات عدة في فلسطين في خلافة العباسيين، إحداها في خلافة المنصور، وأخرى في خلافة هارون الرشيد سنة 190هـ/805م، قادها أبو النداء، بسبب تشدد صاحب الخراج في الجباية. ولعل أهم الثورات في فلسطين ضد العباسيين ثورة المبرقع اليماني 227هـ/841م، الذي أخذ يدعو الناس إلى نفسه، فتبعه خلق كثير بلغ تعدادهم مئة ألف، كانت غالبيتهم من الفلاحين.
كان المبرقع يظهر من مخبئه في النهار فيحرِّض الناس على العباسيين, ولما كثر أتباعه دعا أهل البيوتات، فاستجاب له منهم جماعة من رؤساء اليمانية، من بينهم ابن بيهس، وكان مُطاعاً في أهل اليمن، فأرسل الخليفة المعتصم لقتاله رجاء بن أيوب الحضاري، فقاتله وأسره, وحمله إلى سامراء. وكانت هذه الثورة بمنزلة تعبير عن النقمة على العباسيين لعدم اهتمامهم بأحوال أهالي فلسطين الاقتصادية والاجتماعية، وعملهم على إثارة العصبيات القبلية للسيطرة على الأوضاع فيها.
حين تولى عيسى بن الشيخ الشيباني الإمارة على فلسطين سنة 247هـ/861م، اضطربت الأمور ووقع صراع دموي فيها بين لخم وجذام أدى إلى سقوط ضحايا عديدة بين الطرفين، كما طمع ابن الشيخ في مدّ سلطانه على عموم الشام ومصر، وهاجم القوافل التجارية التي تمر في فلسطين، وتحمل أموال مصر إلى العراق، فاستولى على بعضها ووزعها بين أصحابه، ثم أعلن العصيان على الخلافة العباسية. فاتَّبَعَ الخليفة المعتمد على الله معه سياسة اللين في بداية الأمر، ثم حرَّض عليه أماجور الإفرنجي وأقطعه الشام، فتخلص منه. ولما توفي أماجور خضعت فلسطين لأحمد بن طولون الذي ضمها إلى مصر. ولما تولّى ابنه خمارويه الحكم سنة 270هـ/884م، هوجِمَ من قبل الخلافة العباسية، وجرت بين الطرفين معارك عدة انتهت باعتراف الخلافة العباسية بولاية خمارويه وأبنائه من بعده على مصر والشام بما فيها فلسطين.
أُسندت أعمال فلسطين إلى الإخشيديين، الذين شهد عصرهم بعض الفتن في الرملة وقيسارية وعسقلان والقدس، تمثلت في اعتداءات وقعت على بعض أماكن العبادة، وقد أسهمت بعض العناصر اليهودية في إذكاء نار الفتنة، وأدت الامبراطورية البيزنطية في فلسطين دوراً مهماً في تلك الأحداث.
ولعل أهم أحداث فلسطين في فترة حكم الإخشيديين الصِدَام الذي جرى بين محمد بن طغج الإخشيدي ومحمد بن رائق، فتمكن الأخير من الاستيلاء على فلسطين، فقاتله الإخشيد في العريش وانتصر عليه، ثم عُقِدَ بينهما صُلْح نص على اقتسام البلاد. ولما قتل ابن رائق سنة 330هـ/942م، استعاد الإخشيد فلسطين، فبقيت تحت حكم سلالته إلى أن خضعت للفاطميين.
ساءت أوضاع فلسطين في العهد الفاطمي، وتنوعت القوى التي كانت تتصارع على السلطة والنفوذ فيها، وزاد الأمر سوءاً سياسة الفاطميين في إثارة القبائل العربية بعضها ضد بعض، ودخلت القبائل مسرح الأحداث، لتصبح قوة أساسية من القوى الفاعلة، كما تعرضت فلسطين لهجمات القرامطة بقيادة الحسن الأعصم، وجرت بينهم وبين الفاطميين معارك متعددة انتهت بانتصار الفاطميين، وارتد الحسن الأعصم إلى الإحساء. كما تعرضت فلسطين لهجمات أفتكين التركي الذي تحالف مع الحسن الأعصم، فقاتلهما جوهر الصقلي قائد الفاطميين، فانهزم، واضطر إلى عقد اتفاق معهما، على أن يكون من غزة إلى مصر للفاطميين، وأن تكون فلسطين وبقية الشام لأفتكين، ولكن الخليفة العزيز بالله الفاطمي رفض هذا الاتفاق، وقاتلهما بنفسه، وتغلب عليهما.
ومن الأحداث التي تعرضت لها فلسطين في العهد الفاطمي أيضاً قيام الخليفة الحاكم بأمر الله بهدم الكنائس والأديرة الملكانية التابعة «لمذهب بيزنطة» لسوء العلاقات بين الطرفين. فهدم البيزنطيون جامع القسطنطينية رداً على تلك السياسة وقطعوا التجارة مع الفاطميين. ولما انتهت الأزمة بينهما، أمر الحاكم بإعادة بناء الكنائس.
غير أن بيزنطة استمرت في دعمها بعض القبائل العربية المقيمة في فلسطين وإثارتها على الفاطميين إلى أن انتهى الأمر باستيلاء بني الجراح الطائيين على فلسطين، ولم يتمكن الخليفة الظاهر لإعزاز دين الله من استعادتها إلا سنة 420هـ/1029م، بعد معركة الأقحوانة، فلحق ابن الجراح بالبيزنطيين. وفي عهد الخليفة الفاطمي المستنصر بالله، تحسنت العلاقات مع البيزنطيين، وعادت التجارة بين الطرفين، ونشطت موانئ صور وعكا، واستقرت أوضاع فلسطين نسبياً، وتقلد بعض أبنائها مناصب عالية، فقد تسلم الحسن بن عبد الرحمن اليازوري (يازور قرب يافا) الوزارة الفاطمية، وكان له دور فاعل ومؤثر في السياسة الداخلية والخارجية.
لكن فلسطين خرجت عن نطاق السيطرة الفاطمية، حينما تعرضت لهجمات الخوارزمية، ففي سنة 463هـ/1070م، هاجم اتسز بن أوق مدينة طبريا واستولى عليها، كما حاصر القدس سنة 465هـ/1072م، فاستسلمت له وشدد الحصار على عكا فسقطت بيده فترة، وخطب أتسز في فلسطين للخليفة العباسي، وقطع الخطبة للخليفة الفاطمي، إلا أنه لم يحسن معاملة سكان فلسطين مما أدى إلى انتفاضهم عليه، ثم ما لبث أن قُتل على يد تتش بن ألب أرسلان السلجوقي الذي استولى على ما كان بيده، فأعطى حكم بيت المقدس 475هـ/1082م، إلى أرتق بك بن أكسب التركماني.
عادت القدس إلى طاعة الفاطميين أثناء حصار صليبيي الحملة الأولى، لمدينة أنطاكية سنة 492هـ/1099م، ولكنهم لم يهنؤوا بحكمها، إذ تمكن الصليبيون من دخولها بعد حصار دام أربعين يوماً، وارتكبوا فيها مذبحة صارت حديث التاريخ، بلغ عدد ضحاياها سبعين ألفاً، أكثرهم من المدنيين والمجاورين، وسالت دماء المسلمين حتى الركب. وتابع الصليبيون احتلال مدن فلسطين الواحدة بعد الأخرى، حيث أسسوا فيها مملكة بيت المقدس الإقطاعية، التي أصبح لها اليد العليا على الإمارات الصليبية في الشام. وكان اعتماد الصليبيين فيها على مساندة ومساعدة الحجاج المسيحيين الوافدين إليها، وعلى أساطيل التجارة التابعة للمدن الإيطالية التجارية.
اضطلع الفاطميون والسكان المحليون في فلسطين بمقاومة الصليبيين منذ احتلالهم فلسطين، إلا أنهم لم يتمكنوا من تحريرها، ثم انتقل أمر تحريرها إلى الدولة البورية والزنكية، فتراوح موقف البورية بين العداء والمهادنة لصليبيي بيت المقدس، ثم حمل لواء التحرير عماد الدين زنكي وابنه نور الدين محمود ثم من بعدهما صلاح الدين الأيوبي، وأشهر ما جرى بين الأخير والصليبيين معركة حطين التي انهزم الصليبيون فيها، في ربيع الثاني 583هـ/ حزيران 1187م. وترتب على نصر حطين انهيار مملكة بيت المقدس، التي لم يبقَ منها إلا ظل باهت، إذ استسلمت مدن فلسطين الواحدة تلو الأخرى، بما فيها بيت المقدس وعكا، وسجل المؤرخون لصلاح الدين في هذا الفتح الرحمة والتسامح وروح الفروسية العالية.
سمح صلاح الدين للصليبيين الخارجين من بيت المقدس بالتجمع في صور، فازدادت قوتهم بها، وأرسلت أوربا حملة صليبية، عرفت بالحملة الثالثة، لإنقاذ من تبقى من الصليبيين في مملكة بيت المقدس، فحاصرت عكا، ووقف صلاح الدين في وجهها، ولكن كثرة الإمدادات الصليبية البحرية أدت إلى طول الحصار، وجرت مفاوضات بين الطرفين تسلم الصليبيون نتيجتها عكا، فغدروا بسكانها وحاميتها، وانتهى أمر هذه الحملة بصلح الرملة.
ساد الهدوء في فلسطين بعد صلح الرملة؛ فأدى ذلك إلى نشاط التجارة والزراعة وإعمار فلسطين.
توفي صلاح الدين في 26 صفر 589هـ/3 آذار 1193م؛ فانقسمت الدولة الأيوبية على نفسها، وانقسمت فلسطين تبعاً لذلك إلى أربعة أقاليم، إقليم ساحلي يحكمه الصليبيون ما بين صور ويافا، وثلاثة أيوبية مقسمة بين ممالكهم في كل من مصر ودمشق والكرك، وأحياناً إلى قسمين إذا جُمع حكم دمشق ومصر لأحد الأيوبيين. وخفَّت وطأة الحملات الصليبية إلى فلسطين بعد أن انصرف بعضها إلى مصر وشمالي أفريقيا، ولم يصل إليها إلا ما سمي بالحملة السادسة التي قادها فريدريك الثاني Frederic II امبراطور ألمانيا وصقلية في قلة من الرجال سنة 625هـ/1228م، فتمكن من عقد اتفاقية يافا مع السلطان الكامل الأيوبي من دون قتال في ربيع الثاني 627هـ/شباط فبراير 1229م، مدة عشر سنوات حصل بموجبها فردريك على القدس وبيت لحم والناصرة على أن تكون سائر قرى القدس والحرم للمسلمين لا يدخلها صليبي.
امتعض المسلمون من هذه الاتفاقية، وبدؤوا العمل على استعادة القدس، التي أصبحت بين أخذ ورد بين المسلمين والصليبيين، إلى أن تمكن الناصر داود الأيوبي سنة 636هـ/1239م من فتحها وطرد الصليبيين منها. ثم مالبث الصالح إسماعيل أن سلّمها لهم ثانية، ثم استعادها الصالح أيوب بالاستعانة بالخوارزمية، الذين سُمِحَ لهم بالاستقرار في فلسطين، فقاموا بقتال الصليبيين واستولوا على العديد من الضياع، وأصبحت مدن فلسطين تُحتل مرة وتستعاد مرة ثانية، حتى قدم المغول إليها وأخذوا بالانسياح فيها, فاحتلوا نابلس ووصلت طلائعهم إلى غزة فخربوا ونهبوا.
في هذه الأثناء توفي آخر سلاطين الدولة الأيوبية (الملك الصالح أيوب) وتولى المماليك مقاليد الحكم في مصر.
خرج المظفَّر قطز المملوكي منها ومعه الظاهر بيبرس لقتال المغول في رمضان 657هـ/آب/أغسطس 1259م، وساعده أهل القرى من فلاحي فلسطين، فطاردهم حتى عين جالوت، حيث وقعت المعركة المشهورة في رمضان سنة 658هـ/آب/أغسطس 1260م، انتصر المماليك فيها، وقُتل كتبغانوين قائد المغول. كانت معركة عين جالوت من المعارك الحاسمة في التاريخ؛ لأنها أنقذت المشرق العربي الإسلامي كله من أخطر تهديد تعرض له، وكانت نهاية المد المغولي، وأدت إلى تبعية فلسطين للمماليك.
وقع على المماليك عبء إتمام تحرير فلسطين من الصليبيين بقيادة الظاهر بيبرس ومن أتى بعده من المماليك، فقاد بيبرس معارك عدة ضدهم في عكا وقيسارية وأرسوف وصفد ويافا، وانتصر على الصليبيين بأكثر من موقعة، واستسلمت له الحاميات الصليبية جميعها عدا قاعدتهم الكبيرة في عكا. وخافه الصليبيون في مناطق متعددة فأعلنوا خضوعهم له، وسقطت بيده قلاع عدة مثل هونين، وتبنين والشقيف.
أخذ الصليبيون بتحصين عكا وتموينها؛ لأن سقوطها يعني نهاية وجود الصليبيين، ووصلت إليها نجدات أوربية أشعرت الصليبيين في عكا بقوتهم، وعلى الرغم من ذلك فإنهم استعانوا بالمغول حين قدم بيبرس لحصارها؛ مما أدى إلى عدم تمكنه من فتحها، لكنه تمكن من فتح حصون عدة حولها، وطلب صليبيو عكا الصلح، فعقد بيبرس معهم صلحاً عشر سنوات بدءاً من 670هـ/1272م، وكانت موافقته على الصلح بسبب الظروف العامة التي واجهها المسلمون، وتوفي بيبرس سنة 676هـ/1277م، وانتقلت مهمة تحرير مدن فلسطين من الصليبيين إلى قـلاوون الألفي الذي عقد مع الداويـة والاسبتاريـة هـدنة مـدة عشر سنوات من 680هـ/1281م.
تمتعت عكا برخاء مادي كبير وأرباح تجارية خيالية، لكنها أصبحت بؤرة فساد وانحطاط وشرور، وانفجرت أعمال العنف فيها ضد المسلمين، فحشد قلاوون الجيوش وزحف للاستيلاء عليها، ولكنه توفي قبل تحقيق ذلك، فتابع ابنه الأشرف خليل عمله، وتحركت قواته نحو عكا سنة 690هـ/1291م، وأعد الصليبيون العدة للدفاع عنها وحاصرها المسلمون قرابة الشهر والنصف فتمكنوا من خرق الأسوار ودكّها، ودخلوا المدينة فخرج الصليبيون منها. وأدى سقوط عكا إلى سقوط كل الحصون التي كانت قد بقيت في يد الصليبيين في فلسطين، وبذلك تحررت فلسطين من الصليبيين نهائياً على يد المماليك.
جعل المماليك فلسطين ثلاث نيابات، نيابة غزة، ونيابة صفد، ونيابة القدس. وكان يحكم كل نيابة نائب عن السلطان المملوكي، يساعده عدد من الموظفين، وقد وزع المماليك الإقطاعات على الجنود والأمراء من العرب البدو والمماليك، واستمرت فلسطين تُحكم بهذه الطريقة حتى دخول العثمانيين إليها.
أمينة بيطار