تويت
Sharif Shahin
دعوة
_____
نحن بناة العالم الجميل
أقمنا مايكفي من الزمن في أرحام أمهاتنا. وهناك، حيث الظلمة أولاً ، تلقينا دروسنا الأولى في فهم الظلال، والضوء، وموسيقى الحنان، والنمو المضطرد، وفعل الحواس، وتشكل العوالم الجديدة فينا وحولنا ، واجتراح قوانين الحياة .
مع كل خلية جديدة نبتت فينا، كنا نتعلم
.
في سجون أرحام أمهاتنا ، لم يكن الفضاء حولنا كامل السواد والثبات والعدم . رأينا دماً أحمراً يهرول في عروقنا الناميات، سمعنا خبب قلوبنا يموسق نمونا، لمعت حولنا نجوم تسبح في سماء السوائل المحيطة بنا، أحسسنا بلغط تمدد جدران بيتنا حولنا . لمسنا مخاطاً شفافاً يفرش الطرقات فينا وأمامنا. طالعتنا فقاعات ماء تتشكل فينا وفي دروبنا . وراقبنا، عن كثب ، جزيئات عظامنا وعضلاتنا تراكم كتلتنا المتمادية هوناً في المحيط المتاح لها . وفرحنا ببوابات أجسامنا ونوافذها ، تمكننا من التواصل مع محيطنا.
نعم هناك تلقفنا أدواتنا الأولى للرسم والتشكيل والنحت وابتداع الكلمات واندلاع الموسيقى، و الركض وراء المعرفة وتجميل وجه الكون الغامض
.
عندما خرجنا من مدرستنا الأولى ، صرخنا ، وكأننا نحاول تحفيز ذواتنا لصقل أدواتنا كي نفهم هذا العالم الجديد ، وكي نجمل ما تشعث من ذؤاباته القبيحة. فدرجنا نتعلم من جديد. أمهاتنا وآباؤنا أناروا لنا دروب معارفهم المتاحة، فرأينا وسمعنا ولمسنا وشممنا وتذوقنا عالمهم الجميل والذي أصبح ضيقاً على خيالاتنا بعد حين
.
أجدادنا، قاطنو المغارات الرطبة والمظلمة، تركوا لنا على جدرانها توهماتهم؛ رسوماً بسيطة، أشكالاً تحاكي معارفهم، فقاعات شعر، أحافير، بروتوكولات لإشعال النار، و تدوير الزوايا ، ومعلومات عن أسرار الدائرة، واجتراح أدوات للعيش ، وذكريات أخر تؤجل موتهم.
خاضوا حروبهم الصغيرة تلك لإفناء فناءهم.
سلمونا، إذن، عصا سباق التتابع ورحلوا. فأمسكنا بها ومضينا
.
وأرَّقَهم الموت، كما يفعل بنا الآن. فواجهوه بما امتلكت ظنونهم ، إذ أنهم قرب الموت، أو في أتونه كانوا يتركون لموتاهم ما يؤنس وحشتهم؛ حاجات " يستخدمها الموتى " ، ورسوماً تنبض فيها حياة أو وهم حياة عاشوها. أ لم يعش جلجامش جل حياته بحثاً عن عشبة الخلود ، ولكنه اكتفى أخيراً برسم أسطورة لها؟! .... وأما حنط الفراعنة موتاهم متعشمين أنهم سينهضون من موتهم ذات زمكان؟!
.
والآن، ولذات الأسباب والدوافع، نحاول صياغة خلودنا الواهم من جديد ؛ لا نفعل شيئاً ، إذن، سوى زرع أجنحة للتحليق بين أكتاف ذرارينا القادمين
.
ها نحن، ندني بعيداً ، أو نقصي دانياً ، ونخلط محسوساً بمتخيل، أو نغيب حضوراً ، أو نستدرج غياباً للحضور، لنصوغ عوالماً طازجة المعنى تأخذك من حواسك كلها إلى الدهشة المستفزة
.
بعضنا يخرج التمثال من حجره الأشعث ، فتحسبه على وشك الإمساك بك.
بعضنا يلقي بوروده ونسائه ومخلوقاته الأخر في قماش لوحة ، تفتح لنا نوافذ على كون طازج القسمات و محموم بالأسئلة الحارقة .
بعضنا يجرح عود القصب اليابس لينفخ فيه لواعجه المرديات له ولنا، ويوقظ فينا ذلك الحزن الذي سيرافقنا طويلاً .
بعضنا يقتتل مع الصمت، ليخرج منه مقامات موسيقية تحرك الخواصر اللدنة للرقص والثمل العلوي.
بعضنا يخرج حروف الأبجدية من صمتها ووحدتها، ليرصفها حياة مرئية أو مصورة ، أو شبه حياة متلعثمة ومرتبكة ، أو ليصوغها أحلاماً وأمنيات شعرية تقض مضاجع الحالمين بغد أجمل.
بعضنا تشغله الإنسانية كلها، فيجترح لها قوانين و مخترعات ومعارف شتى تموسق الحياة، وتسهل مواجهة وعثائها.
وبعضنا من حملة نون النسوة، يكتفين بالرفرفة البارعة حولنا ليأخذن بألبابنا نحو معارج الوجد والوله
.
نحن، إذن، بناة العالم الجميل
نلهو بالحواس البشرية، ونوحي لها أن تتبادل وظائفها فينا؛
فالعين " تتقرى الأشياء بلمس" ، وترى الأصابع ما تعجز عن رؤيته العين ، وقد تسمع نحيب الجسد المحموم شوقاً . وقد تسِّفُ الأذن تراب أساطير الموتى، أو تعاين قتلى الحروب، وقد... وقد...
لا " فوضى حواس في الأمر " .
فالأمر محض حفلة رقص، تتبادل فيها أذرع الراقصين خواصر الراقصات دون سوء ، وكذا القصائد والحياة تترى
.
التحقوا بجنتنا يا جنرالات الحروب .التحقوا
. _____________________________
د . شريف شاهين