مقطع من رواية منزل عائم فوق النهر
زينب مرعي / لبنان
كان عدنان يعرف أنّ والده هو سبب إدمانه، إذ يذكر جيدًا أوّل مرّة أجلسه فيها إلى جانبه، على أحد الكراسي الفارغة حول الطاولة المستديرة التي كان يتحلّق حولها هو وأصدقاؤه ليلعبوا الورق. سلّمه حينذاك كأسه الأولى متذرّعًا أنه أصبح كبيرًا كفاية ليشاركهم الشرب واللعب. وقتذاك، كان عدنان يظنّ أن والده رجل سعيد، لأنه كان يكثر من الشرب مع أصدقائه ، وتصدح بعد ذلك ضحكاتهم العالية لتملأ البيت. كان يظن أنّ والده سعيد بسبب تلك الضحكة، وهو لم يكن يعرفه أو يراه كثيرًا، إذ إنه قليلًا ما كان يُرى في المنزل، وإذا ما قرر الحضور، غالبًا ما كان يأتي مع فريق أصدقائه كاملًا. الصخب والضجيج اللّذان كانا دائمًا يصاحبان والده، جعلا عدنان يخشى الإقتراب منه. فكان يجلس دومًا في الصالون، بعيدًا أمتارًا قليلة عنه وعن أصدقائه المتحلّقين حول الطاولة المستديرة. يراقبهم من بعيد، لا يقترب سوى عندما يناديه والده بأن ”تعال!“، وكان ذلك غالبًا ليدسّ ليرات قليلة في جيبه ويرسله إلى الدكّان القريب ليجدّد ذخيرتهم من السجائر. ثم ينظر الوالد في عيني ولده ويمسك بكتفيه ويطلب منه أن يشتري بالباقي شيئًا لنفسه، كما لو أنه تبرّع توًا بمليون دولار لمؤسّسة خيرية، أو كأنّ ولده سيعيش عمره ويتذكّر هذه اللحظة الحميمة بينهما. كان عدنان يشتري بالمبلغ المتبقّي بعد شراء السجائر، كيس تشيبس وعبوة عصير صغيرة. تلك العلبة البلاستيكيّة التي عليه أن ينقر سطحها بالقشّة الصغيرة ليشرب العصير، أمّا العبوة الزجاجية، فما كان بإمكانه أن يشتريها، وإلّا توجّب عليه أن يضحّي بكيس التشيبس.
في إحدى المرّات، وكان عدنان قد بلغ التاسعة من عمره، ناداه والده ليقترب منه، وعوضًا من أن يدسّ المال في جيبه كعادته، عرض عليه الجلوس على الكرسي الفارغ إلى جانبه. نظر إليه والده بعينيه المطفأتين، واستعدّ ليفتح فاهه ويقول شيئًا ما، لكنّه نسيه قبل أن يتلفّظ بأي حرف. فشرع الأب لحظتذاك في تأليف سيناريو جديد كي لا يبدو أنه أضاع لحظة مهمة كهذه، لحظة إجلاس ولده إلى ”طاولة الكبار“. فالتفت إلى الكأس المملوءة إلى جانبه، ثمّ تناولها وأعطاها بحركة مسرحية إلى عدنان، كأنّه سلّمه توًا كأسًا رياضية، ثم قال: ”اشرب! لقد أصبحت رجلًا الآن. تجلس معنا إلى الطاولة وتشرب!“. فتصرّف عدنان كما يفعل دائمًا مع والده. ينفّذ فقط، من دون أن يعرف شيئًا عن هذا الرجل سوى قهقهاته. ثمّ قهقه الجميع، ورحّبوا بعدنان إلى الطاولة، فاستجمع والده ثقته، وربّت كتف ولده وسأل: “كيف تشعر يا بطل؟“.
عندما يتذكّر عدنان تلك اللحظة، يعرف أنّ والده لم يكن لديه أدنى فكرة عن سنّه في ذلك اليوم. ثمانية، تسعة، عشرة، اثنا عشر عامًا… لم يكن للرجل أدنى فكرة عن الموضوع. لكن أغلب الظنّ، أنّ أحد أصدقائه تخلّف عن موعده ذلك النهار، ما يفسّر وجود الكرسي الخالي
إلى جانبه، فشعر والده باختلال في توازنه والمقعد فارغ، فملأه به، وحكم عليه بسنوات من الإدمان، ظنّ أنه وصل إلى خاتمتها عندما أرسلته والدته إلى ضيعتها، داخل حدود الأراضي السورية، ليبدأ رحلة علاجه من الإدمان. فعل ذلك من أجل أمّه، التي وعدها بأنّه سيتحسّن ويستعيد السيطرة على حياته وليلغي من حياتهما ذكر والده، الذي توفيّ بعد أشهر قليلة من تلك الليلة.
غادر عدنان بيروت إلى قرية والدته، بناء على طلبها، وهو في الرابعة والعشرين من عمره، ليحاول مرّة جديدة تخطّي إدمانه الكحول. راهنت والدته علىأنّ هواء الضيعة العليل وسكنه مع جدّته في القرية، حيث إنّ أقرب متجر للكحول يبعد أربعين دقيقة بالسيّارة سيساعدان ابنها. وكان رهانها صائبًا.
في القرية كانت جدّته ذات الخمسة والسبعين عامًا ما زالت رشيقة، طويلة، مزارعة، تعمل في أرضها من الصباح الباكر وحتى المغرب، ثم تعود بعد ذلك إلى منزلهالتهتمّ بحيواناتها من أبقار وماعز تربّيها وتستفيد من ريع إنتاجها. عاش عدنان بداية سنوات الثمانينيات حياة القرية هذه أشهرًا قصيرة لم تتعدّ الستّة، اهتمّ خلالها بمزرعة جدّته الصغيرة، وعاونها في أعمالها اليومية. لكنّ هذه الفترة، على قصرها، كانت كفيلة بتغيير حياته، إذ اكتشف في ذلك المكان الصغير ما لم يكن في الحسبان. اكتشف ما يجعل منه مميّزًا!
في المساء، عندما تنتهي جدّته من أعمالها المضنية، كانت تجلس في الباحة الصغيرة خارج منزلها، تلتهم الفاكهة وتستمع إلى القارئ عبد الباسط عبد الصمد يرتّل آيات القرآن في الراديو، حتى يغلبها النعاس فتستسلم للنوم. حتى كان أن انزلق الراديو من يدها في إحدى الليالي المقمرات، فتحطّم. فما كان من السيّدة الأمّية، إلّا أن استعاضت عن الراديو بحفيدها، وطلبت منه أن يقرأ على مسامعها القرآن قبل خلودها إلى النوم. لم يستسغ عدنان طلبها، لكنّه كان يدين لها بالكثير حتى يرفض لها طلبًا بسيطًا كهذا، فقبل الدعوة. لم يكن عدنان يعرف أيّ شيء عن ترتيل القرآن وتجويده، لكنه بدأ قراءته، على أيّ حال كما يقرأ أيّ كتاب. ثمّ مع الأيام، وتمرار مهمّته الليلية تلك، وبعد بدئه قراءة سور قليلة، كان يشعر بصوته ينبت فجأة في حلقه، فينطلق ليرتّل على طريقته. كان يجمع بين الأصوات والطرائق التي تسلّلت إلى رأسه رغمًا عنه، في سيّارات التاكسي التي يستمع سائقوها في بعض الأحيان إلى أشرطة القرآن، أو تلك التي كانت تصل إلى مسامعه في مبناهم إذا ما كان أحد الجيران المسنّين يستمع إلى الآيات القرآنية. فيحاول ويجرّب أمام جدّته، إذ في النهاية لم يكن هناك أحد يحاسبه على طريقة قراءته القرآن الكريم غيرها، وفي الصباح، كان يقرأ لها الجريدة التي تصل إلى دكّان القرية حتى تعرف آخر المستجدّات. ثمّ عندما كانت تجده يقرأ الروايات وهو جالس في سريره، كانت تقول له: ”تعا هات لنشوف شو عم تقرا!“. فيقرأ لها، وسرعان ما كان يتلوّن صوته بألوان الشخصيات،فيعرض مع الراوي، يجلجل أو ينعّم في أماكن أخرى بحسب الحاجة، حتى قالت له جدّته أخيرًا: ”صوتك شو حلو يا ستّي! كإنّي عم بسمع الإذاعة!“.
حمل عدنان صوته، وتوجّه به إلى دكّان الضيعة، حيث صار يتجمّع المسنّون وبعض النساء الأمّيات ليستمعوا إليه يقرأ لهم آخر أخبار الحرب والإقتتال الدائر في لبنان صباحًا، بينما يقرأ على مسامعهم القصص والروايات ليلًا. عندذاك، صار يرى بنفسه، الافتتان الذي يخلّفه صوته على وجوه مستمعيه من الأصدقاء والغرباء على حدّ سواء. فكّر حينذاك عدنان أن ”لم لا؟ لم لا يكون عدنان المذيع في الإذاعة؟“. فجأة، شكّل هذا الهدف حافزًا جديدًا له ليحارب إدمانه بقوّة أكبر هو الذي لم يمتلك يومًا شيئًا في حياته، أصبح الآن لديه صوت! صوت يطلب الآخرون أن يستمعوا إليه! وإن كان إدمانه الكحول أخّره قليلًا عن دخول الجامعة، لكن لا بأس! ما زال في الخامسة والعشرين من عمره. عليه الآن أن يعود فورًا إلى بيروت ويحصل على شهادة في ”الإذاعة والتلفزيون“ من كلّية الإعلام.