دماغنا الذي يطرح علينا بإلحاح سؤال الخير والشر

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • دماغنا الذي يطرح علينا بإلحاح سؤال الخير والشر

    اضغط على الصورة لعرض أكبر. 

الإسم:	IMG_٢٠٢٣٠٨٠٥_١٣٤٣٠٠.jpg 
مشاهدات:	6 
الحجم:	144.8 كيلوبايت 
الهوية:	141787 مشير باسيل عون
    الأحكام الأخلاقية تستند إلى خلفية بيولوجية اصطفت في النوع الإنساني أفضل مراتب الوعي
    يعلن الباحث الفرنسي ستفان دبوڤ، في كتابه "لماذا اخترع دماغنا الخير والشر؟" (Pourquoi notre cerveau a inventé le bien et le mal ?)، أن الحس الأخلاقي ثمرة نضج إنساني تراكم في الوعي الفردي والجماعي منذ أقدم الأزمنة. فالأخلاق تقترن بالتربية والثقافة والدين، وتترسخ بواسطة عقد اجتماعي يرتضيه الناس حتى يحيوا في معية إنسانية سليمة سلمية نافعة، فضلاً عن ذلك، يبين هذا الباحث أن الأحكام الأخلاقية تستند إلى خلفية بيولوجية اصطفت في النوع الإنساني أفضل مراتب الوعي، إذ إن جميع الناس يتمتعون بحس أخلاقي يوازي، في وجه من الوجوه، حس الذوق أو حس الشم. ومن ثم، تختبر جميع الحضارات الإنسانية ثمار النضج الأخلاقي هذا، لا سيما في صورة القيم المشتركة التي يجمع عليها الناس. فالأطفال، منذ نعومة أظفارهم، يربطون معنى العدالة بمسألة التعاون العملي والمؤازرة التضامنية في أبسط المهام اليومية والألعاب الترفيهية.
    وعليه، ينبغي النظر في القيم التي تنهض عليها الأخلاق في المجتمعات الإنسانية، وفي طليعتها قيمة الخير. يستجلي فلاسفة الأخلاق ثلاث أنظومات أخلاقية: الأولى أفلاطونية تستند إلى قيمة الخير، الثانية كانطية ترتكز على قيمة الواجب، والثالثة تعاقدية تعتصم بقيمة الحق العادل أو الإنصاف. لا شك في أن أقدم المفاهيم مفهوم الخير الذي نشأ في الفلسفة الإغريقية، واستمر فاعلاً ومؤثراً حتى القرن الثامن عشر. ومن ثم، نشأ في موازاته مفهوم الواجب الذي صاغه كانط (1724-1804) في أخلاقياته، ومفهوم الحق العادل الذي اعتمدته نظريات العقد الاجتماعي وآليات المواضعة الائتلافية بين أعضاء المجتمع.
    تعريف الخير في الفلسفة الأفلاطونية
    لذلك لا بد من النظر في النظريات الأخلاقية التي تستند إلى مفهوم الخير والتي تضع أيضاً الكمال مثالاً أعلى في حياة الإنسان. قد يختلف الناس في تعيين مضمون هذا الخير، فيضعون من المثل العليا ما يعتقدون أنه يناسب طبيعة الخير المنشود: السعادة، الحرية، المعرفة، الصداقة، الاحترامية المتبادلة، النشاط العقلي، الإبداع الأصيل، إلخ. غير أن الفلسفة، منذ أفلاطون (428 ق م-348 ق م)، سعت إلى تعريف الخير: فإذا به تارة حقيقة عليا متسامية، وتارة نظام شامل في الحياة، وطوراً مجموع المنافع الموضوعية الصالحة كتلك التي ذكرتها، وأطواراً عنوان الكمال الإنساني.
    يعرف أفلاطون الخير إما بوصفه نظاماً شاملاً يضبط حياة الإنسان، وإما بوصفه حقيقة عقلانية متسامية، فيبين أن الخير الموضوعي قائم ناشط فاعل، سواء في هيئة النظام الشامل الضابط حياة الإنسان أو في صورة الحقيقة العقلانية المتسامية. يعني هذا الأمر أن الإنسان، في صميم كيانه، يتوق إلى القيم العقلانية والموضوعية. الحقيقة أن الإنسان، في التصور الأفلاطوني المثالي، يمكنه أن يحكم على الأمور الصالحة وفقاً لمعايير موضوعية ثابتة وبالاستناد إلى مرجعية غير ذاتية. يجب على الإنسان أن يحدد ضرورات الانتظام والانسجام والتماسك التي تخضع لها حياة الكائن الإنساني الساعي إلى الخير في جميع أبعاده. ومن ثم، يمكننا أن نستدل على الخيور أو الخيرات التي يجب أن نسعى إليها في أثناء حياتنا. استناداً إلى هذا التصور، يجوز لنا أن نربط أخلاق الخير بأخلاق الكمال، إذ إن الخير ينطوي حتماً على مفهوم الكمال الذي يصبو إليه كل إنسان، ولو تنوعت مفاهيم الكمال بتنوع الانتسابات الثقافية.
    معايير الخير الموضوعية: إسعاد الآخرين
    لا بد إذاً من الاعتراف بأن المذهب الأخلاقي الأفلاطوني المبني على طلب الخير والكمال يقر بوجود خير موضوعي أو خيور موضوعية لا تتعلق بذاتية الشخص وميوله ورغائبه، وتسوغ اختبار السعادة المرتبطة بنيل هذه الخيور. أما السعادة عينها فتصبح واقعاً موضوعياً حين ترتبط بنيل الخيور الموضوعية هذه: إذا حقق الإنسان خيراً موضوعياً يراعي معايير الخير الموضوعية، فلا بد له من أن يختبر السعادة الموضوعية المقترنة بتحقيق هذا الخير.
    ذلك بأن هذه الخيور ترتبط بأحوال الحياة التي يمكن أن يصفها الإنسان وصفاً موضوعياً. المثال على ذلك شعور الرضا الذي يصاحب الإنسان الذي يسعى إلى خير الآخرين وسعادتهم، فلا يشعر بالسعادة التي يشعر بها الآخرون الذين يحبهم لخيرهم الخاص وحسب. حين نتمنى السعادة للأشخاص الذين نحبهم، لا نتمنى لهم أن يختبروا شعور الرضا فحسب، بل أن يقترن شعور الرضا هذا بحصولهم على الخيرات الموضوعية التي نعتقد أنها صالحة لهم.
    في هذا السياق، ينبغي لنا هنا أن نعرف الخيور الموضوعية الصالحة التي تجلب لنا وللآخرين الرضا والسعادة. ليست هذه الخيور من الخيرات المادية فحسب، بل تنطوي أيضاً على المواهب الذاتية، ومكاسب العلاقات الإنسانية، ومقام العلاقة البناءة بالآخر، وفضائل احترام الذات وتقديرها وتثمينها. كذلك تنطوي أيضاً على الخيرات الخاصة المرتبطة بالشخص عينه، من مثل القدرة على التفكير السليم، والإحساس الجمالي، وغنى المشاعر المختبرة، وموارد النفس الغنية، والطيبة الذاتية المنغرسة في طباع الشخص.
    لا شك في أن مثل هذه الخيور صالحة بحد ذاتها، تستثير عند الناس الإرادة والرغبة في السعي إليها سعيهم إلى غايات وجودهم القصية. ومن ثم، فإن أسلوب الحياة أو نشاط الإنسان أو الخير المنشود لا يمكن أن يكون صالحاً صلاحاً موضوعياً إلا إذا كان خيراً نرغبه على وجه الضرورة، وخيراً لا يمكننا أن نكون سعداء إلا بالحصول عليه. ومن ثم، يمكننا القول إن هذه الخيور ترتبط بموضوعات الرغبة الإنسانية، وهي موضوعات يرغب فيها جميع الناس. الحقيقة أن شمولية رغبة الناس في هذه الموضوعات تجعلها عامة وصالحة ومطلقة.
    وعليه، فإن الخيور المرغوبة لا تعود تتعلق بالذات الإنسانية الفردية ورغائبها الخاصة. من الواضح إذاً أن الإعراض عن الحياة اللاأخلاقية ونبذ الرذيلة خير موضوعي بحد ذاته. فالإنسان الذي يسر بأذية الآخرين لا يمكنه أن يختبر الخير الموضوعي. دليلنا على هذا القول أن الإنسان الشرير الذي يتوب عن أعماله القبيحة التي جعلته يخون أصدقاءه ويعزل بالمكيدة الخبيثة منافسيه، لا يمكن أن نعده إنساناً سعيداً سعادة موضوعية أصيلة، حتى لو ابتلع حبة كيماوية تغير وعيه تغييراً استثنائياً فتجعله ينسى أفعاله القبيحة.
    الخير حقيقة عقلانية متسامية في فلسفة كانط
    بحسب التعريف الثاني هذا، يكون الخير حقيقة متسامية موضوعية يكفينا أن نرغب فيها وأن نسعى إليها وأن نحصل عليها حتى نكتسب السعادة الحق. ترتبط بهذا الخير الخيور التي ربما لا يرغب فيها جميع الناس، ولكنها في صميم جوهرها موضوع الرغبة الإنسانية الراقية، إذ إنها خيور كيانية تستحق أن يرغب فيها الإنسان. لا شك في أن هذه الخيور قيم أصلية موضوعية قائمة بحد ذاتها. أما أفضل مثال على هذه الخيور فالإرادة الصالحة التي يحددها كانط في كتابه "أساس متافيزياء الأخلاق" (Grundlegung zur Metaphysik der Sitten)

يعمل...
X