استشراق Orientalism

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • استشراق Orientalism

    الاستشراق

    استشراق

    Orientalism - Orientalisme

    الاستشراق

    لم ترد كلمة «الاستشراق» orientalism، المشتقة من مادة «ش ر ق» في أي من المعاجم العربية القديمة، وربما كان المعجم العربي الحديث الوحيد الذي يشير إلى واحد من مشتقاتها هو معجم «متن اللغة» للشيخ أحمد رضا الذي يورد فعلها «استشرق» ويتبعه بشرحه له وهو «طلبَ علوم الشرق ولغاتهم» واصفاً الكلمة بأنها «مولدة عصرية» تطلق على من «يعنى بذلك من علماء الفرنجة». وفعل «استشرق» العربي مشتق من كلمة «الاستشراق» المترجمة لكلمة «orientalism» الإنكليزية و«orientalisme» الفرنسية، الحديثتي العهد، واستخدمت كلمة «مستشرق» ترجمة لكلمة «orientalist» لتصف المشتغل بهذا الحقل المعرفي.
    ومما يجدر ذكره أن أول استعمال لكلمة «مستشرق» في اللغات الأوربية يعود إلى عام 1630 عندما أطلق على أحد أعضاء الكنيسة الشرقية أو اليونانية. وقد ظهرت كلمة «مستشرق» أول ما ظهرت في اللغة الإنكليزية نحو عام 1779، في حين لم تدخل كلمة «الاستشراق» «معجم الأكاديمية الفرنسية» Dictionnaire de l’Académie Française إلا عام 1838.
    وعلى الرغم من التحفظات الكثيرة التي يواجهها هذان المصطلحان (المستشرق والاستشراق) منذ مدة، فإنهما شائعان شيوعاً كبيراً عززه ظهور طائفة من الكتب في الاستشراق والمستشرقين أبرزها كتاب إدوارد سعيد «الاستشراق» عام 1978. والحقيقة أن هذه التحفظات لا تقتصر على استخدام المصطلحين بل تشمل دلالتهما أيضاً. وعلى حين يتوسع بعضهم في هذه الدلالة يضيقها بعضهم الآخر ويقصرها على حقل صغير من حقول المعاني التي يمكن أن تشتمل عليها هذه الدلالة.
    والمتتبع لمصطلح «الاستشراق» في الثقافتين العربية والغربية يلاحظ أنه يستخدم ليشير إلى جملة أمور من أهمها ما يأتي:
    إنه يشير إلى البحوث في مختلف أنواع المعارف والعلوم التي أنتجها المتخصصون بدراسة الشرق، وكتب الرحلات وسواها التي أنتجها من اتصلوا بالشرق من دبلوماسيين ورحالة ومبعوثين وموظفين في دوائر الدول الغربية التي استعمرت مختلف أقطاره مدداً متفاوتة وبدرجات مختلفة وخاصة في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. كما يشير إلى النزعة التي غلبت على فن الرسم الأوربي التي قامت على استلهام الشرق باتخاذه موضوعاً فنياً أثيراً لديها، وهذه النزعة جزء من الثورة الإبداعية الأوربية التي ضاقت بهيمنة الاتباعية الجديدة في مختلف الفنون الجميلة ومن بينها الرسم والموسيقى.
    ثم إنه يشير إلى اتخاذ الشرق موضوعاً للمؤلفات الأدبية أو «الهجرة إلى الشرق على الورق» كما في «الديوان الشرقي» لمؤلِّفه الغربي غوته[ر] (1819)، وفي أعمال سواه مثل صموئيل تيلور كولريدج[ر] وغونر إيكيلوف[ر]. وهذه الظاهرة قديمة قدم الأدب الأوربي ومستمرة استمراره.
    ومعنى هذا كله أن الاستشراق في جوهره معرفة ينتجها، غير الشرقي، عن الشرق، وهذه المعرفة قد تتخذ صورة الإنشاء في البحوث والكتب وصورة العمل الفني (اللوحة أو القطعة الموسيقية أو ماشابههما)، وأن إنتاج هذه المعرفة تحفزه المواجهة التي تقوم بين غير المجتمع الشرقي والشرق، وأن هذا الإنتاج يستهدف خدمة مجتمعات غير المجتمع الشرقي في هذه المواجهة، إذ هي المقصودة به في نهاية المطاف.
    ومع ما للاستشراق من أهمية باستلهامه الشرق في الأدب والفن، فإن هذا البحث سينصرف إلى تفحص الاستشراق بالمعنى الأول للكلمة.
    نشأة الاستشراق وتطوره
    الاستشراق معرفة ينتجها غير الشرقي عن الشرق، تحفزه على ذلك المواجهة بين مجتمعه أو قومه أو دولته أو امبراطوريته أو جماعته الدينية من جهة والشرق من جهة أخرى. ومعنى هذا أن تاريخ هذه المعرفة مرتبط على نحو عضوي بتلك المواجهة. ولعل السبب في إرجاع بعض الباحثين نشأة الاستشراق إلى مرحلة مبكرة من التاريخ الإنساني توغُّلُه في القدم إلى زمن الاسكندر المقدوني. وعلى الرغم من أهمية المواجهات التي شهدتها البشرية بين الشرق والغرب منذ ذلك العصر، فمما لاشك فيه أن المعرفة الاستشراقية المحفوزة بالمواجهة المذكورة لم تتبوأ مكانة بارزة إلا بدءاً من القرن الحادي عشر الميلادي الذي عرف بداية حركة استعادة كل من شبه الجزيرة الأيبرية وصقلية من يد العرب المسلمين، هذه الحركة التي حفزت على الاهتمام بالعرب والمسلمين وعقائدهم وتاريخهم وثقافتهم لأسباب سياسية ودينية وأيديولوجية وعلمية كذلك. وقد تعزز هذا الاهتمام بقيام الحروب الصليبية إذ كان من الضروري في نظر من كان وراءها فهم معتقدات المسلمين وممارساتهم الدينية وسواها ومواجهتها بوصفها بدعاً تجب مناهضتها، وربما السعي إلى تحويل معتنقيها إلى المسيحية. والحقيقة أن سقوط طليطلة عام 1085م، وما تلاه من الجهود التي نسقها ورعاها بطرس المبجّل (أو المكرَّم) (1092-1157) Petrus Venerabilis بهدف الوصول إلى إدراك لحقيقة الإسلام ومواجهته والتي كان من أبرزها وأهمها ترجمة القرآن الكريم إلى اللاتينية ترجمة مشوهة على يد فريق كان من بين أعضائه القس الإنكليزي روبرت من كيتون Robert of Ketton عام 1143م [ويسمى أيضاً: روبرت مِنْ تشيستر، وروبرت من ريدنغ (كان حياً 1141-1150م)]، وترجم مايكل سكوت، في إسبانية، القرآن الكريم إلى اللاتينية بطلب من بطرس المكرَّم نحو عام 1142م ضمن مجموعة من الكتب الإسلامية بهدف عرض الإسلام وتفنيد أفكاره من وجهة النظر المسيحية في أوربة. هذه كلها تمثل البداية الحقيقية للإنتاج الجدي للمعرفة الاستشراقية وبحجم لم تعرفه القرون الماضية. وسرعان ما تنبه منتجو هذه المعرفة إلى ما تنطوي عليه المؤلفات العربية والإسلامية من ثروة معرفية كانوا في أمس الحاجة إليها. فعمدوا إلى ترجمة الكثير من هذه المؤلفات ولاسيما المتصلة منها بالفلسفة والعلوم والطب، ورأوا فيها الطريق الأمثل لمعاودة صلتهم بالآثار اليونانية التي كان قد فقد أكثرها. وهكذا ظهر الكثير من هذه الترجمات وعلى رأسها ترجمة كتاب «الشفاء» لابن سينا في نهاية القرن الثاني عشر، وكتاب الجبر للخوارزمي في عام 1145م.
    ويذكر أن هذا الموقف المتكافئ الضدين تجاه العرب والمسلمين ظل سائداً على نحو ما في الأوساط الاستشراقية حتى هذا اليوم، وظل يعبر عن نفسه بازدواجية في الأغراض والوسائل والممارسات. فحيث وجد الإسلام عقيدةً ومبادئ وقيماً ومثلاً كان الموقف السلبي المشحون بالتعصب والخرافات والأساطير الشعبية والرواسم الجاهزة، وحيث وجد الإسلام مهداً للعلم والطب والفلسفة كان الموقف الإيجابي، والنظر العلمي الموضوعي، والسعي للإفادة والتعلم. وكانت فصول المواجهة المتتالية تعزز باستمرار الموقف الأول الذي كاد يطبع كل معرفة بطابعه حتى نهاية القرن السابع عشر. وكان الاستثناء الوحيد فريدريك الثاني الصقلي الذي حالت روحه المتنورة بينه وبين الموقف المزدوج تجاه الإسلام والعرب والمسلمين في ذلك الزمن المبكر.
    وكان مما دعّم الدراسات الاستشراقية في القرنين الثالث عشر والرابع عشر تَبَيُّنُ أن التعامل مع المسلمين لأي غرض من الأغراض يقتضي تعلم اللغات الشرقية، ويتضح هذا بوجه خاص في موقف كل من روجر بيكون Roger Bacon وريموند لَل Raymond Lull، وفي موافقة مجلس كنائس فيينة عام 1312 على إنشاء سلسلة من الكراسي للغات العربية واليونانية والعبرية والسريانية في جامعات باريس، وبولونية، وأفينيون، وسلمنقة، وغيرها للمساعدة على القيام بهذه المهمة.
    والواقع أن ثمة عوامل مختلفة عززت السعي نحو فهم أفضل للإسلام والمسلمين في عصر النهضة ربما كان من أهمها «النزعة الإنسانية» Humanism، والروح العالمية لهذا العصر، فضلاً عن البحث المتطلع إلى آفاق جديدة في المعرفة الإنسانية، وتَبَيُّنُ أن النظرة المركزية الأوربية إلى العالم والكون لم تعد ممكنة بعد الاكتشافات العظيمة للعالم الجديد، وانطفاء جذوة الحروب الدينية التي استعرت لقرون عدة بلا جدوى. وهكذا شهد القرن السادس عشر تشجيعاً ملحوظاً من البابوية الرومانية على تعلم اللغات الشرقية لأسباب تبشيرية، فضلاً عن أهمية ذلك في مسألة إعادة التوحد مع الكنائس المسيحية الشرقية التي كانت تستخدم العربية أو السريانية أو القبطية لغة للشعائر الدينية. كما شهد إنشاء أول كرسي للغة العربية في «الكوليج دوفرانس» Collège de France عام 1539 تولاه أول ماتولاه غيوم بوستل Guillaume Postel (ت1581م) ثم تلميذه جوزيف سكاليجيه Joseph Scaliger (ت 1609م) وعدد آخر من كبار المستشرقين، وإقامة أول مطبعة عربية عام 1586 في رومة على يد فرديناند دومديتشي كبير دوقات توسكانية يسرت طباعة الكثير من المؤلفات العربية المهمة التي ربما كان من أبرزها آثار ابن سينا في الطب والفلسفة والقواعد العربية.
    وكان للصلات السياسية والدبلوماسية والتجارية بالامبراطورية العثمانية، والصلات التجارية المتنامية بشرق المتوسط، فضل كبير في النهوض بالدراسات العربية التي شهدت ازدياداً ملحوظاً في القرن السابع عشر ربما كان من أهم أدلته القيام بجمع المخطوطات العربية والإسلامية في مختلف حواضر القارة الأوربية على يد الأمراء والحكام ومشجعي العلم والثقافة والفن، وكانت حصيلتها العملية أن سُلبت من المسلمين جملة كبيرة من أهم مصادر دراسة ماضيهم وتراثهم الحضاري. وكان من حصيلتها كذلك إنشاء الكثير من الكراسي الجامعية لدراسة العربية وسواها من اللغات في الجامعات الأوربية المهمة. ففي عام 1632 أنشىء أول كرسي لدراسة العربية في كمبردج على يد توماس آدمز Thomas Adams، وأنشئ نظيره في أكسفورد على يد لود Laud عام 1634 وأخذت تظهر بالتدريج أعمال مهمة عن الإسلام بوصفه مؤسسة دينية مهمة، وعن الثقافة الإسلامية، وعن الآداب واللغات الإسلامية وكان بين هذه الأعمال ما غلبت عليه الروح الموضوعية، ولاسيما في فرنسة وإنكلترة وبعض أجزاء القارة الأوربية. ومع ذلك فقد ظل الاستشراق في كل من هولندة وألمانية مرتبطاً بالدراسات اللاهوتية المسيحية لما يقدمه من عون على دراسة نصوص العهد القديم، ولاسيما تفهم الناحيتين الدلالية والصرفية في اللغة العبرية.
    ومع حلول القرن الثامن عشر تحول الاستشراق إلى مؤسسة ضخمة سعت أوربة عن طريقها إلى السيطرة على الشرق سياسياً واجتماعياً وعسكرياً وأيديولوجياً وعلمياً في مرحلة ما بعد عصر التنوير، على حد تعبير إدوارد سعيد هذه المرحلة التي شهدت تنامي التوسع الاستعماري في الوطن العربي بوجه خاص، حتى كاد يشمله تماماً مع نهاية الحرب العالمية الثانية، وكان الاستشراق فيها، أراد ذلك أم لم يرد، «المؤسسة المشتركة للتعامل مع الشرق: التعامل معه بإصدار تقريرات عنه، وإجازة الآراء فيه، وإقرارها، وبوصفه، وتدريسه، والإقامة فيه، وحكمه. وباختصار: الاستشراق بوصفه أسلوباً غربياً للسيطرة على الشرق، وإعادة بنائه وامتلاك السلطة عليه».
    مؤسسات الاستشراق وأهم إنتاجاتها
    لعل من أهم التطورات التي لحقت مؤسسة الاستشراق هذه في أواخر القرن الثامن عشر، أي منذ بداية عملية توظيفه توظيفاً منظماً واعياً لتسهيل السيطرة على الشرق ومقدراته، تأليف الجمعيات والروابط والتجمعات التي عززت أهميته في المجتمعات الأوربية المنتجة له. وكان إنشاء «مدرسة اللغات الشرقية الحية» Ecole des langues Orientales عام 1795م في فرنسة (إذ لم يعد الإلحاح على دراسة هذه اللغات الشرقية لأغراض علمية وتاريخية وحسب، بل تعداه ليشمل إتقان استعمالها كتابة وقراءة وحديثاً) بداية ظهور مؤسسات لا تكاد تحصى في المجتمعات الغربية لتدبّر الشرق من جميع نواحيه، وإقامة حقل معرفي خاص به هو الاستشراق الذي ظهر مصطلحاً في معجم الأكاديمية الفرنسية عام 1838م.
    ويبدو أن عدد الباحثين المعنيين بدراسة الشرق بمدلوله العام كان كافياً في تلك المرحلة للتفكير في إنشاء التجمعات المهنية. وهكذا شهدت هولندة في عام 1778، ولادة أول جمعية علمية لدراسة الشرق هي «الجمعية البتافية للفنون والعلوم»، لتتلوها «جمعية البنغال الآسيوية الملكية» التي أسست في كلكتة عام 1784م. وبعدها تعاقبت الجمعيات والروابط في مختلف أنحاء العالم ولاسيما أوربة وأمريكة، فتكونت في باريس عام 1822م «الجمعية الآسيوية» التي أصدرت مجلتها الخاصة بها وهي «المجلة الآسيوية» في العام نفسه، وكراساتها الموسومة بـ«كراسات الجمعية الآسيوية» بدءاً من عام 1833م. وفي عام 1823م ظهرت إلى النور «الجمعية الملكية الآسيوية لبريطانية العظمى وإيرلندة» التي أصدرت مجلتها الموسومة بـ«مجلة الجمعية الملكية الآسيوية لبريطانية العظمى وإيرلندة» عام 1834م، وتلتها بعد ذلك «الجمعية الشرقية الأمريكية» التي تأسست عام 1842م، وأصدرت مجلتها المسماة «مجلة الجمعية الشرقية الأمريكية» في العام التالي. أما في ألمانية فقد تألفت «الجمعية الشرقية الألمانية» في عام 1845م، وأصدرت مجلتها المشهورة بمختصراتها «ZDMG» في عام 1847م. وقد شهدت الهند (وكانت جوهرة التاج البريطاني) في المدة نفسها تقريباً تأسيس جمعيتين آسيويتين على غرار «الجمعية الملكية الآسيوية» هما «جمعية البنغال الآسيوية» و«جمعية بومبي الآسيوية» اللتان أصدرتا مجلتين خاصتين بهما في عام 1832م و1841م على التوالي، لتحلا محل مجلة «أبحاث آسيوية» التي كانت تصدرها جماعة المستشرق الإنكليزي المشهور ويليام جونز William Jones في «كلكتة» منذ عام 1788م.
    وفضلاً عن المجلات والدوريات المختلفة التي كانت تصدرها هذه التجمعات الاستشراقية، فقد ظهرت في أوربة وأمريكة الشمالية دوريات كثيرة تعنى بالشرق وشؤونه، أقدمها مجلة «صندوق الكنوز الشرقية» التي أصدرها في فيينة بين عامي 1809 و1818 المستشرق جوزيف فون هامر ـ بورغشتال (Joseph von Hammer- Purgstall (1865-1774، والتي «كان يكتب فيها معظم المستشرقين الأوربيين، إضافة إلى بعض العلماء الشرقيين» عن أمور تشمل الماضي والحاضر. أما أبرز الدوريات الأحدث فهي «مجلة الإسلام» (1895)، و«مجلة العالم الإسلامي» (1906) التي كانت تصدرها «البعثة العلمية المغربية» وتحولت فيما بعد إلى «مجلة الدراسات الإسلامية» المعروفة. وهناك من المجلات الأخرى المجلة المرموقة «الإسلام» التي تصدر في ستراسبورغ منذ عام 1910، و«مجلة العالم الإسلامي» القصيرة العمر والتي صدرت في سانت بطرسبورغ في عام 1912، ومجلة «العالم الإسلامي» التي تصدر في لندن منذ عام 1911.
    وقد استمرت هذه التجمعات والدوريات في أداء مهمتها في إنتاج المعرفة المتصلة بالشرق، ونشرها في المجتمعات الأوربية والأمريكية وغيرها حتى نهاية الحرب العالمية الثانية، لتشهد المرحلة التي تلتها قيام تجمعات جديدة، وتطورات نوعية مهمة في طبيعة الدوريات المرتبطة بها، أو تلك التي ظهرت بعيداً عن أي تجمع مهني. ففي عام 1946 ولدت «رابطة المستشرقين البريطانيين» مع نشرتها السنوية، ولكن يبدو أن ازدياد التخصص المعرفي سرعان ما امتدّ إلى الاستشراق وروابطه مما أفسح في المجال لظهور تجمعات أقل شمولاً ودوريات أكثر تخصصاً. وهكذا ظهرت في الولايات المتحدة الأمريكية «رابطة شمالي أمريكة لدراسات الشرق الأوسط» عام 1966، منافساً قوياً للجمعية القديمة، ليس على صعيد استقطاب الأجيال الجديدة من العاملين في حقل دراسات الشرق الأوسط فحسب، بل على صعيد النشر أيضاً وذلك عندما أصدرت مجلتها الواسعة الانتشار «المجلة الدولية لدراسات الشرق الأوسط» عام 1970، التي تتولى طباعتها وتوزيعها مطبعة جامعة كمبردج المشهورة، ولها نشرتها نصف السنوية أيضاً. وفي عام 1973 ظهر النظير البريطاني لها عندما تأسست «الجمعية البريطانية لدراسات الشرق الأوسط» التي بدأت بإصدار نشرتها نصف السنوية منذ عام 1974، وقد طوَّرتها في عام 1991 إلى مجلة مرموقة تضارع نظيرتها الأمريكية.
    أما النظير الفرنسي للتجمعين السابقين فهو «الرابطة الفرنسية لدراسة العالم العربي والإسلامي» التي ألفت حديثاً في إكس آن بروفانس. وربما كانت «جمعية الدراسات المغربية» التي عقدت مؤتمرها التأسيسي في 9 تشرين الأول من عام 1990 و«الرابطة الأوربية لدراسات الشرق الأوسط» التي ظهرت إلى الوجود في العام نفسه من أواخر هذه التجمعات المهنية الحديثة.
    وفضلاً عن الدوريات المرتبطة بهذه التجمعات الإقليمية فقد شهد النصف الثاني من القرن العشرين ظهور عدد من المجلات المتخصصة التي ربما كان من أبرزها «مجلة التاريخ الاقتصادي والاجتماعي للشرق» التي صدرت عام 1958، و«مجلة الأدب العربي» (بملحقيها) التي ظهرت عام 1970، و«مجلة المغرب»، ومجلة «أدبيات»، وأخيراً «مجلة الدراسات الإسلامية» التي يصدرها مركز أكسفورد للدراسات الإسلامية منذ عام 1990، ويقوم على تحريرها محرر مسلم وهيئة تحرير تجمع بين الدارسين العرب والمسلمين والمستشرقين.
    وقد يسر المستشرق البريطاني والبيبلوغرافي المشهور ج.د. بيرسون J.D.Pearson أمر العودة إلى الدوريات المعنية بدراسة الشرق والإسلام بإصداره «الفهرست الإسلامي» الذي يضم فهرسة لمقالات ماينوف على خمسمئة دورية تعنى بالدراسات الإسلامية في مختلف اللغات غير الشرقية.
    ولعل من المناسب الإشارة هنا إلى أن معظم الروابط والتجمعات الآنفة الذكر تعقد مؤتمرات دورية لها في أماكن مختلفة من العالم تمليها الظروف، وكثيراً ما تنشر وقائع هذه المؤتمرات ـ التي ربما كانت من أهم الوسائل في حفز المعرفة الاستشراقية إنتاجاً ونشراً ـ في المجتمعات الغربية خاصة.
    وكذلك فإن من الملاحظ التزايد المستمر في إسهام الشرقيين في فعاليات هذه الروابط. وحسب المرء أن ينظر في سجلات هذه الروابط ووقائع فعالياتها المختلفة حتى يتبين حجم هذا الإسهام الذي بات كافياً لخلق مستويات جديدة من المعرفة الاستشراقية مع أنها تكاد تكون محددة في بعض الحقول المعرفية النوعية ولاسيما الأدب والتاريخ.
    أعلام الاستشراق وأهم إسهاماتهم ومؤلفاتهم
    حسب المرء أن يتذكر أن الطبعة الرابعة من كتاب «المستشرقون» لنجيب العقيقي قد تجاوزت صفحاتها السبعمئة وألف؛ وأن «موسوعة المستشرقين» للدكتور عبد الرحمن بدوي قد بلغت في طبعتها الثانية ستاً وأربعين وأربعمئة صفحة من القطع الكبير؛ وأن مجموع ما ألفه المستشرقون بين عامي 1800و 1950، مما يتعلق بالشرق الأدنى، فيما يذكره إدوارد سعيد، يتجاوز ستين ألفاً من المجلدات ـ حتى يتبين استحالة الحديث عن أعلام الاستشراق وأهم مؤلفاتهم وإسهاماتهم في حيز ضيق كهذا. ومع ذلك فربما كانت إشارة مختزلة جداً إلى بعض هؤلاء الأعلام ممّن يتردد ذكرهم كثيراً في المؤلفات العربية الحديثة كافية للدلالة على نوع المهمة التي نهضوا بها في مجتمعهم، والإسهام الذي قدموه وكان من لوازم هذه المهمة. ومن هؤلاء المستشرقين:
    آرثر جون آربري [ر] (1905-1968) A.J.Arberry:
    وهو مستشرق إنكليزي معروف في الأوساط العربية بتدريسه في الجامعة المصرية، وتسنمه كرسي العربية في جامعتي لندن وكمبردج وترجماته للنِّفَّري والقرآن ودراساته عن الاستشراق الإنكليزي التي تؤلف مراجع لاغنى عنها لأي باحث في تاريخ الاستشراق.
    كارل بروكلمان[ر] (Carl Brockelmann (1956-1868
    وهو ألماني صاحب «تاريخ الأدب العربي» الذي يكاد لا يستغني عنه أي باحث في الأدب العربي، و«تاريخ الشعوب والدول الإسلامية»، و«موجز النحو المقارن للغات السامية»، و«المعجم السرياني». وكان يتقن إحدى عشرة لغة شرقية فضلاً عن اللاتينية واليونانية واللغات الأوربية الحديثة.

    ميغويل آسين بلاثيوس[ر] (1871-1944) M.A.Palacios
    وهو مستشرق إسباني معروف ببحوثه عن «الغزالي؛ العقائد والأخلاق والزهد»، و«ابن مسرة ومدرسته»، و«الأخرويات الإسلامية في الكوميديا الإلهية»، الذي كان قنبلة هزت أوساط دارسي دانتي والمعجبين به، ودراساته عن الأسماء العربية للبلاد الإسبانية. تسلم في أخريات حياته رئاسة «الأكاديمية الإسبانية».
    أغنتسيو غويدي[ر] (Ignazio Guidi (1935-1844
    وهو مستشرق إيطالي معروف بتدريسه في الجامعة المصرية للأدب العربي وفقه اللغات العربية الجنوبية، وفهرسته للمخطوطات العربية ونشرها محققة تحقيقاً علمياً رفيعاً (تاريخ الطبري)، ودراساته عن الآداب المسيحية في الشرق، واللغة الحبشية وآدابها، ولغات جنوب الجزيرة العربية. وكان طه حسين من أبرز تلامذته.
    رينهارت دوزي[ر] (Reinhart Dozy (1883-1820
    وهو مستشرق هولندي معروف على نحو خاص بأبحاثه حول تاريخ العرب في إسبانية، ولاسيما كتابه «أخبار بني عباد عند الكتاب العرب» بأجزائه الثلاثة، و«تاريخ المسلمين في إسبانية»، و«ملحق المعاجم العربية» الذي لا يستغنى عنه في فهم النصوص التاريخية والجغرافية الأندلسية والمغربية.
    أغناتي يوليانوفتش كراتشكوفسكي[ر] (1883-1951) I.J.Krackovskij
    مستشرق روسي وهو معروف بصلاته الوثيقة بعدد من الكتاب العرب من أمثال أمين الريحاني، ولويس شيخو، ومحمد كرد علي، وأحمد تيمور باشا، الذين التقاهم في أثناء رحلته التي قام بها إلى المنطقة بين عامي 1907 و .1908 من أهم آثاره ترجمته للقرآن الكريم إلى الروسية، وترجمته لكتاب «الاعتبار» لابن منقذ التي نشرت في مجموعة الأدب العالمي التي كان يشرف عليها مكسيم غوركي، وكتاباه اللذان حققا له شهرة واسعة داخل الوطن العربي وخارجه وهما «بين المخطوطات العربية» و«تاريخ التأليف في الجغرافية عند العرب».
    بول كرواس (1904-1944) Paul E.Kraus
    مستشرق تشيكي عرف باهتمامه برسائل جابر بن حيان ومؤلفات محمد بن زكريا الرازي، فضلاً عن تدريسه للغات السامية في الجامعة المصرية بين عامي 1936 و1944 عندما انتحر لأسباب غامضة. من أهم أعماله كتابه «جابر بن حيان إسهام في تاريخ الأفكار العلمية في الإسلام» المنشور بالفرنسية في مجلدين.
    إدوارد ويليم لين (1801-1876) E.W.Lane
    إنكليزي معروف بمعجمه العربي الإنكليزي «مدّ القاموس» An Arabic- English Lexicon، وعنايته بترجمة ألف ليلة وليلة، وحياته في مصر التي امتدت أكثر من عشر سنوات وكان حصيلتها كتابه المشهور الذي مازال يقرأ على نحو واسع حتى هذا اليوم «طباع المصريين المحدثين وعاداتهم».
    لوي ماسينيون (Louis Massignon (1962-1883
    مستشرق فرنسي معروف بخبرته المباشرة بالوطن العربي (زار الجزائر والمغرب والعراق ومصر أكثر من مرة) ومن أهم مكتشفاته في العراق «قصر الأخيضر». دَرَس في الأزهر، ودرّس في الجامعة المصرية حول تاريخ المذاهب الفلسفية في الإسلام. تعد رسالته عن الحلاّج وبحوثه عنه وعنايته بنصوصه) مجهوداً متميزاً جداً لا نظير له، وقد ناقشها في 22 أيار من عام 1922 بمناسبة مرور ألف عام على صلب الحلاّج. حاضر مايقرب من خمسة وثلاثين عاماً عن الفكر الإسلامي وتاريخ العلوم عند العرب والأنظمة والأحوال الاجتماعية في العالم الإسلامي في «الكوليج دوفرانس».
    كارلو ألفونسو نَلّينو (1872-1938) C.A.Nallino
    إيطالي معروف باهتمامه بعلم الفلك عند العرب الذي يعد بحق حجة فيه، حاضر في الجامعة المصرية لسنوات عن تاريخ هذا العلم قبل أن يخرج كتابه «علم الفلك: تاريخه عند العرب في القرون الوسطى» عام 1911 في رومة. كما حاضر في تاريخ الأدب العربي وأخرج كتاباً فيه، وتاريخ اليمن. عيّن عضواً في المجمع اللغوي عام 1933 وكان آخر نتاجه كتابه عن المملكة العربية السعودية الذي ظهر في أقسام ثلاثة كتب أولها، وكتبت ابنته ماريا الثاني والثالث منها ونشرت جميعها بعد وفاته... وكان طه حسين ممن تتلمذ له.
    أثر الاستشراق في الدراسات العربية والإسلامية
    لعل من المفارقة حقاً أن تترك هذه المعرفة آثاراً إيجابية واضحة في موضوعها وهو العرب والمسلمون والشرقيون عامة.
    ولكن هذا الأمر سيبدو طبيعياً إذا ما تذكر المرء أن المواجهة التي عرفها القرنان الثامن عشر والتاسع عشر كانت مواجهة شاملة تبوأت فيها هذه المعرفة مكاناً مرموقاً، وأن بعض هذه المعرفة كان نصوصاً عربية محققة وفق الطرائق الغربية المعهودة في تحقيق النصوص القديمة، ومطبوعة على نحو لم يتيسر لأصحابها من العرب والشرقيين معرفته من قبل إلا في عهد متأخر، ومتاحة لهم بيسر ما كان ممكناً لولا هذه الطباعة. يضاف إلى ذلك أن أوربة وأمريكة وسواهما من بيئات احتضنت عدداً لا بأس به من المثقفين والدارسين العرب الذين وفدوا عليها لأسباب مختلفة، لا تعني المرء بمقدار ما تعنيه نتيجتها وهي اطلاع هؤلاء على هذه المعرفة بلغاتها الأصلية، بل إن بعضهم قد أسهم فيها في مختلف المراكز الثقافية الغربية (بدءاً بالعلماء الموارنة خريجي الكلية المارونية في رومة التي أسست عام 1584 مروراً بآل السمعاني في القرن الثامن عشر وانتهاء بالدارسين العرب المعاصرين الموزعين على مختلف الجامعات ومؤسسات البحث والنشر الغربية) إسهاماً يؤذن بتحولات إيجابية في طبيعة هذه المعرفة ووظيفتها. ولا يُنسى أنه بدءاً من نهاية القرن الثامن عشر غدت أوربة الغربية وأمريكة الشمالية فيما بعد محجة للبعثات العلمية المختلفة، ترسلها الدول والمؤسسات حتى اليوم، بعد أن صار الأنموذجُ الغربي أنموذجَ الحضارة العالمي الذي يطمح إليه الشرق والجنوب معاً. والدارسون العرب الذين توافرت لهم فرصة الدراسة في الغرب والاحتكاك بهذا الأنموذج ولاسيما أولئك الذين درسوا الثقافة والتاريخ والأدب واللغة وسوى ذلك من المعارف المتصلة بالعرب والإسلام، عادوا لينشروا كل ذلك بسبل مختلفة في المجتمع العربي ومؤسساته المختلفة. وواقع الحال أن طريق الاحتكاك الأخير كان باتجاهين أحياناً وخاصة عندما كانت بعض الجامعات العربية (كالجامعة المصرية في بداية عهدها، والجامعات العربية اليوم في أقسام الدراسات العليا أحياناً) تستقدم المستشرقين للتدريس والإشراف على البحوث والرسائل أو مناقشتها. بل إن ثمة الكثير من المراكز العلمية الاستشراقية في معظم العواصم العربية مثل دمشق وبيروت وعمان والقاهرة والجزائر وسواها تيسر فرص احتكاك للعرب بالمستشرقين من جهة، وسبل انتشار المعرفة الاستشراقية الحقَّة بين صفوف العرب من جهة ثانية. ولو أضاف المرء إلى هذا كله المؤتمرات والزيارات الخاصة والروابط والتجمعات المشتركة وطرق الاتصال الحديثة، الميسرة للعرب بالمعرفة التي ينتجها المستشرقون، والتي تشمل الكتاب (بلغته الأصلية أو مترجماً) والدورية، والصحيفة، وسبل الاتصال الجماهيري وغير ذلك، لخرج مما تقدم بمؤشر واضح على ضرورة وجود تأثير ما للمعرفة الاستشراقية بين صفوف الدارسين العرب المحدثين الذين تطلعوا باستمرار إلى الأنموذج الاستشراقي ليحاكوه إن كانوا من المعجبين به، وليتجاوزوا أسْواءه إن كانوا من الناقدين له، وليخلقوا البديل الصالح عنه إن كانوا من الذين لايؤمنون بجدواه.
    والناظر في هذا التأثير يمكن أن يقع على الوجوه التالية التي تبرزه.
    تحقيق المخطوطات: فمع أن المحققين العرب المحدثين قد بلغوا شأواً بعيداً في ميدان تحقيق المخطوطات، فإن المرء لا يستطيع أن ينكر فضل المستشرقين في التمهيد لهذا الإنجاز. فقد كانت تحقيقاتهم المبكرة للمخطوطات العربية ـ بما انطوت عليه من جمع لنسخ المخطوطة المحققة ودراسة لكل منها، ومقارناتهم النصية لها، وإحالتها على مصادرها المخطوطة والمطبوعة، والتعليق عليها، والشرح لغوامضها، وإلحاق النص المحقق بالكثير من الفهارس والمؤشرات المساعدة على الإفادة منها، وغير ذلك ـ كانت هذه كلها النماذج الأولى التي حاكاها المحققون العرب الأوائل، وتتلمذوا لها وربما لا يزالون. وإذا ما تذكر المرء ما تيسر اليوم للمستشرقين المحققين من تسهيلات للعمل أقلها الحاسوب، فإنه ربما مال إلى الاعتقاد بأن باب الإفادة من جهودهم مازال مفتوحاً على مصراعيه. وحسب العربي أن يتذكر أن عشرات الآلاف، بل المئات من الآلاف، من المخطوطات العربية موجودة في المكتبات الأجنبية العامة والخاصة، وأن ما يقوم به المعنيون بالدراسات الشرقية من غير الشرقيين من فهرسة وحفظ وترميم وعناية وتحقيق لهذه المخطوطات يدخل في باب ما يتمناه العربي لها في وطنه، لأنها لا تظفر عادة بما تستحقه من عناية واهتمام، والعرب في نهاية المطاف أولى بها من غيرهم.
    التأريخ للأدب العربي: إن للعرب باعاً طويلاً في علم التاريخ عامة، والتاريخ الأدبي خاصة. ومع ذلك فقد أفادوا من جهود المستشرقين المنهجية، وتأثروا بطرائقهم في البحث لتأريخ الأدب العربي اعتماداً على الجهود الجماعية والتعاون العلمي بين الشرقيين والمستشرقين. والحقيقة أن هؤلاء المستشرقين قد خطوا بعملية التأريخ للأدب العربي في السنوات الأخيرة خطوات مهمة عندما عمدوا إلى تأليف تاريخ للأدب العربي يقوم على جهد جماعي ينهض به الشرقيون والمستشرقون فكان بين ما أخرجوه «تاريخ كمبردج للأدب العربي» The Cambridge History of Arabic Literature، الذي صدر منه أربعة مجلدات حتى اليوم، وقد تعاون على الكتابة فيه باحثون أجانب وعرب من أهل الاختصاص في مختلف الجامعات والمؤسسات العلمية في أربع قارات هي أمريكة وأوربة وآسيا وأفريقية.
    مناهج الدراسة الأدبية: كان المستشرقون سبيلاً مهماً من سبل نقل مناهج الدراسة الأدبية السائدة في مجتمعاتهم إلى الباحثين العرب، عندما طبقوا هذه المناهج في دراستهم للأدب العربي قديمه وحديثه.
    ويذكر هنا أن مناهج المستشرقين في دراستهم للأدب العربي قد نالها اليوم حظ كبير من التطور، بالقياس إلى ماكانت عليه، نتيجة انفتاحها على التطورات الهائلة التي حققتها مختلف العلوم الإنسانية في مجتمعاتها من جهة وبسبب استجابتها لطبيعة الأدب العربي المميزة له من جهة أخرى. فالأدب العربي اليوم بات ينظر إليه على أنه أدب حي له مكانته المرموقة بين آداب العالم مثلما هو أدب عريق ينهض للمقارنة مع أي من الآداب العريقة الأخرى.
    الفهرسة والأعمال البيبليوغرافية: إن البحث في أي حقل معرفي إنما يقوم على الانطلاق من النقطة التي انتهى إليها الآخرون ممن سبقوا إلى دراسة جوانبه المختلفة. وما قام به الآخرون لا يشمل الكتاب والمؤلفات الشبيهة فحسب، بل يتعداه إلى البحوث الراهنة والحديثة التي تنشرها الدوريات المختلفة، والتي هي في حقيقة الأمر أحدث ما وصل إليه العلماء والباحثون في أي حقل معرفي. وقد تنبه المستشرقون إلى هذا الحقل وأولوه عناية خاصة في دراساتهم ولا سيما الحديثة منها، وأفاد الباحثون العرب المعاصرون الكثير من هذه العناية.
    القراءات المثيرة الحافزة: تقدم كتب المستشرقين رؤية باحث «خارجي» للموضوع المدروس، وتكون، من هذه الزاوية حافزاً يحث الباحثين العرب على تناول بعض الموضوعات التي كانت مهملة، أو على مناقشة بعض المسائل والقضايا الشائكة، أو على التفكير في دراسة وجوه وجوانب من الثقافة العربية والإسلامية ذات صلة بغيرها من الثقافات الأخرى، سواء أجاء ذلك من باب المحاكاة، أم من باب الاستلهام، أم من باب الرد، أم من باب الشعور بالحاجة إلى سد الثغرات والنواقص، أم غير ذلك. وقد تعددت الدوافع لدى الباحثين العرب وكانت النتيجة واحدة وهي دراسات للأدب العربي، أو الثقافة العربية أو وجوه منهما، محفوزة بقراءات للمعرفة التي ينتجها المستشرقون عنها.
    مآخذ على الاستشراق والمستشرقين
    الاستشراق معرفة ينتجها «الآخرون» عن الشرق الذي هو موضوعها، وينضر إلى تراث الشرق كله عن طريق افتراضات خارجية عنه، هي افتراضات أنتجتها وتنتجها ثقافات «الآخرين». وهذه المعرفة توظف في نهاية المطاف لمصلحة هؤلاء في مواجهتهم للشرق، وكثيراً ما تستخدم لإخضاعه والسيطرة على مقدراته. وفضلاً عن كل ما تقدم فإن الشرقي يجد نفسه في موضع «تغريب» مستمر أمام هذه المعرفة لأنها لا تحاول أن تقيم أي جسور معه: فهي منتجة بلغة غير لغته، وتقوم على أسس ومعايير وقيم وأعراف جلّها غريب عنه، وتتخذ لنفسها أنماطاً من الإنشاءات غير مألوفة في ثقافته، وكثيراً ما تنتهي عملية التواصل معها إلى الإحباط بدل نشوة الكشف التي تنتهي بها عادة عملية الاحتكاك بأية معرفة.
    من هنا كانت علاقة الشرقي بالاستشراق «إشكالية» في جوهرها، الأمر الذي ولّد مظاهر من النقد «الداخلي» الذي مارسه المستشرقون ضمن تقليدهم المعرفي الخاص بهم، مثلما ولّد الكثير من النقد «الخارجي» الذي حاول به الشرقيون تقويم الاستشراق. وبدل استعراض تفاصيل من هذا النقد الذي وجهه العرب والمسلمون إلى الاستشراق، فإنه يمكن الإشارة إلى أهم جوانبه. كما تبدو في الأمور التالية:
    ـ تطبيق معايير وقيم ومبادئ ونظم وأسس ونظريات مستمدة من تقاليد الثقافة الغربية التي لا تتفق وتقاليد ثقافة الشرق وتطورها على مدى العصور.
    ـ الاعتماد في الكثير من الدراسات الاستشراقية على مواد ومعطيات محدودة وهامشية ثم الانطلاق منها إلى تعميمات شاملة لا تملك مصداقية بحثية كافية.
    ـ تقصير مناهج الدراسات الاستشراقية، ولاسيما القديمة منها عن بلوغ مرتبة الإجادة والإتقان بالقياس إلى ما تحققه الحقول المعرفية الأخرى في الثقافات المختلفة. فجل الدراسات الاستشراقية حتى عهد قريب ظل متأثراً بنظرة فقه اللغة (الفيلولوجية) في تناوله للكثير من الظواهر الشرقية وهو أمر أحس به المستشرقون أنفسهم وحاولوا تجاوزه في العقود الأخيرة.
    ـ ضعف الأخذ بالاختصاص لدى المستشرق التقليدي الذي يكاد يقحم نفسه ومعرفته، القائمة على اللغة والدين أساساً، في كل شأن من شؤون الشرق. وهذا التوسع في مجال عمل المستشرق بات ينظر إليه اليوم على أنه عائق كبير وخطير ينبغي تجاوزه، وهو ما حاولت، وتحاول، الأجيال الجديدة من المستشرقين فعله منذ عقود، ويبدو أنها نجحت في ذلك نجاحاً ملموساً.
    ـ عدم النظر بعين التقدير الملائم إلى معتقدات الشرق ومقدساته، وتناولها أحياناً بشيء من الاستخفاف المقنّع بادعاء الموضوعية، والحيادية، وغير ذلك من المزاعم التي لا تقنع الشرقيين الذين يغلب على تعاملهم مع مقدسات غيرهم ومعتقداتهم الاحترام والتبجيل، مع عدم إيمانهم بها أحياناً.
    ـ عدم التمكن الكافي من اللغات الشرقية ولاسيما في مجال تحقيق النصوص والدراسات الأدبية والنقدية للآداب الشرقية والوقوع نتيجة ذلك في أخطاء فاحشة تكاد لا تغتفر. والواقع أن هذه الظاهرة تكاد تختفي لدى الأجيال الجديدة من المستشرقين المعاصرين الذين لا يعرفون اللغة العربية أو غيرها من اللغات الشرقية معرفة جيدة وحسب، بل غالباً ما يحسنون كتابتها والتأليف فيها والتحدث بها على نحو لافت للنظر.
    ـ فقدان النزاهة العلمية في حالات غير قليلة تجاه المادة المدروسة والانطلاق من مسلمات مسبقة تمليها غالباً أهواء سياسية أو دينية متطرفة، وتحفزها أغراض يتصل أغلبها بمصالح دنيوية لا تليق بالعلماء والباحثين.
    ـ عدم التعامل المباشر مع الواقع الشرقي، في الكثير من الحالات، والاكتفاء بمراقبته من بعد عن طريق الكتب والرسائل العلمية والتقارير والبحوث وما شابهها، والصدور عنها في معرفة الشرق ثم الاكتفاء بذلك ولو كان مخالفاً للواقع.
    ـ الانغلاق الغالب على الذات والإيمان بعصمتها وقدرتها على تدبر إنتاج المعرفة الاستشراقية من دون الاستعانة بالشرقيين وما ينتجونه من معرفة ينظر إليها على أنها بوجه عام معرفة لا تتسم بقدر كاف من المنهجية والموضوعية، أو أنها متخلفة ومن الأفضل تجاهلها.
    ـ توظيف المعرفة الاستشراقية في حالات كثيرة لأغراض غير إنسانية، ووضعها بتصرف الدوائر السياسية والاقتصادية والعسكرية، وربما العمل أساساً لديها لتعزيز هدف السيطرة على الشرق والتحكم به وبثرواته الطبيعية والبشرية.
    والحقيقة أن أكثر ما تقدم ذكره من مآخذ على الاستشراق والمستشرقين آخذ بالانحسار، نتيجة جملة من التحولات الإيجابية التي يخضع لها هذا التقليد، ولا شك في أن هذه التحولات تملي بدورها تغيراً في المواقف تجاه الاستشراق ورجاله، وهو ما يشهده الباحث بوضوح في العقود الأخيرة.

    عبد النبي اصطيف

يعمل...
X