انطباعيه (في موسيقي)
Impressionism - Impressionnisme
الانطباعية في الموسيقى
تدين الانطباعية في الموسيقى بنشأتها إلى موسيقيين فرنسيين بالدرجة الأولى، وقد نمت وترعرعت على أرض فرنسية. ودخل مصطلح «الانطباعية» عالم الموسيقى في تقرير وضعه أساتذة المعهد الموسيقي «الكونسرفاتوار» في باريس حول قطعة موسيقية قدمها ديبوسي Debussy وهي «المغناة» (الكانتاتا) Cantata [ر. الصيغ الموسيقية] المسماة «الفتاة المختارة». وفي جملة ما قصده التقرير الإشارة إلى الإبهام الذي يشوب الانطباعية وإلى بعدها عن الحقيقة الفنية.
هناك من يعتقد أن الانطباعية كانت ردة فعل على سيطرة الموسيقى الإيطالية ومدِّ الإبداعية (الرومنسية) الألمانية، كما كانت نتيجة الخوف من انتشار المدرسة الروسية الوطنية المعاصرة في الساحة الفرنسية. وإن كان هذا لا ينفي ظروفاً أخرى هيأت لنشوء هذه المدرسة الجديدة، بينها الاعتقاد بأن التعبير الموسيقي وفق أصول المدرستين الاتباعية (الكلاسيكية) والإبداعية قد استنفد، وأن هذه الحال دفعت بعدد من الموسيقيين الشباب إلى البحث عن وسائل تعبير موسيقية جديدة. فمن هؤلاء من اتبع أسلوب فاغنر Wagner ثم حاول أن يستقل بنفسه، ومنهم من راح يحاول التوفيق بين القديم والطموحات الشخصية، ومنهم كذلك من يرفض القديم ويحاول طرق أبواب جديدة. وكان أشد هؤلاء حماساً ديبوسي الذي فتح باب الانطباعية الموسيقية على مصراعيه. وقد تميزت شخصية ديبوسي بحب الحرية والاستقلال والابتكار، وبرفض الأساليب السابقة لعصره مثل الإبداعية والفاغنرية. وكان لما تميزت به شخصيته أثر في جعله الفارس الأول للانطباعية مع أنه رفض هذا المصطلح في البدء. ولكن من الأفضل القول إن الكتّاب الفرنسيين رواد «الرمزية» أثروا في ديبوسي وابتكاره الأسلوب الجديد، وأن المصورين الذين كان لهم الفضل في نشوء الانطباعية في التصوير أثروا فيه تأثيراً خاصاً وقوياً.
أحس الانطباعيون بأدق الفروق الصوتية، وامتزجت الأنغام عندهم تماماً كما امتزجت الألوان في لوحات المصورين حيث أهملت حدود الأشكال بتدرج لوني. ولذلك اختار المؤلفون الموسيقيون لمقطوعاتهم أسماء غامضة. والأمثلة على ذلك كثيرة بينها العنوان الذي أطلقه ديبوسسي «هذا ما رأته ريح الغرب». فالمؤلف يشير فقط إلى المغزى العام لمؤلفه مما يسمح له بالحرية في وضع موسيقى تمتلئ شاعرية، حتى إن سْكْريابين Skryabin أطلق كلمة قصيدة على بعض قطعه الموسيقية التي طبقت شهرة إحداها الأوساط الموسيقية لتعبيرها عن روحه المتصوفة، والقطعة هي «نحو اللهب».
وانطلاقاً من فكرة البحث عن وسائل جديدة للتعبير، وجد الانطباعيون بغيتهم في موسيقى غيرهم من شعوب العالم إذ راحوا يستخدمون عناصر موسيقية شرقية، من جاوية (نسبة لجزيرة جاوه)، وصينية، وعربية أو إسبانية، كما أنهم أعادوا بعض الحياة للمقامات الكنسية القديمة.
أما النواحي الفنية التقنية التي تميزت بها الانطباعية فتجمل في عناصر خمسة وهي: اللحن، والإيقاع، والاتفاقات، والشكل البنائي أو الصيغة forme، والتوزيع الآلي (القائم على الآلات الموسيقية). وقد استخدم المؤلفون الانطباعيون سلالم جديدة كالسلم ذي الأبعاد الستة الكاملة بديلاً من البدائل التي تلغي سيطرة السلم الكبير من ناحية، كما تلغي أهمية الدرجة الخامسة المسيطرة وبذلك تفقد المقامية tonality القديمة أهم أسسها التي تقتضي تركيز السلم على درجة القرار tonic وخدمة باقي الأصوات له، كما أن عدم وجود «الدرجة الحساسة» leading-note يجعل الألحان تنساب عفوياً إذ لا حاجة للعودة إلى القرار. وقد مزج الانطباعيون السلمين الكبير والصغير في لحن واحد فقلّلوا بذلك من التباين الذي اعتمدت عليه نظرية الكبير - الصغير الكلاسيكية. كما عادوا إلى السلالم الكنسية التي أكسبت موسيقاهم رونقاً متجدداً.
أما من ناحية الانسجام harmony فقد تخلوا عن المفهوم القديم للتنافر والتوافق، فلم يعد التنافر خاضعاً للحل بصفته عرضاً ينتاب التوافق ولابد من طريقة لعودته إلى الاستقرار، بل أصبح ذا قيمة ذاتية. لذلك تتوالى عند الانطباعيين سلاسل من الاتفاقات الناشزة وقد تنتهي قطعهم أيضاً بقفلة cadence ناشزة أيضاً. ويلاحظ ذلك بوضوح في قفلة «هذا ما رأته ريح الغرب» التي تنتهي بتركيب نغمي ناشز، ولكنه يوفر للمستمع إحساساً بالارتياح لأنه أقل تنافراً مما سبقه من اتفاقات. وقد استخدم سكريابين اتفاقات الرباعيات المختلفة التي أطلق عليها اسم الاتفاقات الغامضة mystic chord، كما استخدم الانطباعيون مزج الاتفاقات الثلاثية المنسجمة. وهكذا أصبح من الممكن سماع تراكيب نغمية مكونة من خمسة أصوات أو ستة. كما استخدموا الأصوات الحادة المستمرة والممتدة نقيضاً للصوت المنخفض المستمر pedal note في حين تتحرك الاتفاقات تحتها بحرية. وأهم من ذلك سماحهم باستخدام الحركة المتوازية للخماسية والرباعية والثمانية octave، حتى الثنائية والسباعية استخداماً واسعاً، بما يذكر بأسلوب «الأورغانوم» organum القديم، وبذلك أعادوا استعمال طريقة قديمة وأسلوب تعدد الأصوات. وأما الإيقاع فقد تنوع بكثرة، وظهرت تكوينات إيقاعية فريدة أدت إلى ظهور تعدد الإيقاعات Polyrhythm. ومثال ذلك قصيد سكريابين المسمى «نحو اللهب» إذ تسير فيه الأصوات العليا بميزان ثلاثي مركب 9/8 والأصوات السفلى بميزان خماسي 5/4.
مالت الانطباعية نحو صيغ التأليف القصيرة، مثل قطع المقدمة أو الاستهلال préludes، والليلية nocturne، والأرابيسك arabesque. ومع ذلك فقد ظهرت لديهم مؤلفات كبيرة كالأوبرا - كونشرتو opera-concerto وغيرها، ولكنها تحاشت عظمة الأسلوب الإبداعي والضخامة في التوزيع الآلي، واستخدمت بدل ذلك حشرجات الآلات وأصواتها المكتومة sordino، وكذلك أصوات آلات الفلوت والكلارينيت المنخفضة والأصوات العليا لآلات الكمان. وكثيراً ما علت فوق الأصوات المنخفضة للآلات، نغمات رقيقة ورائعة من آلات الهارب harp والسيليستا celesta فأعطت الأوركسترا سمات صوتية حالمة وسحرية تبدو وكأنها تنتمي إلى عوالم بعيدة مدهشة.
حظيت الانطباعية بانتشار بعيد المدى في ثلاثين سنة من الزمن. ووقع جيل كامل من المؤلفين تحت سحرها وتأثيرها، منهم: رافيل M.Ravel الذي اشتهرت قطعته «بوليرو» Boléro في المستوى الشعبي لألحانها الإسبانية - العربية ولإيقاعها المستمر، وكذلك روسّيل A.Roussel، ودوكا P.Dukas، ودي فايا de Falla وغيرهم كثير.
وبعد أن حظيت الانطباعية بالإعجاب ردحاً من الزمن، وفتحت أبواب الابتكار والإبداع لمؤلفي المستقبل، راح هؤلاء المؤلفون الموسيقيون يبحثون عن وسائل تعبيرية أخرى في مذاهب فنية جديدة.
عبد الحميد حمام