الفرزدق
(20-114هـ/640-732م)
همام بن غالب بن صعصعة بن ناجية بن عقال بن محمّد بن سفيان ابن مجاشع بن دارم بن مالك بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم ابن مرّ بن أد بن طابخة، ويكنى أبا فراس، ولُقب بالفرزدق لغلظٍ وتجهّمٍ واستدارةٍ بوجهه، فهو يشبه الرغيف.
افتدى صعصعة جدّ الفرزدق الموءودات من قومه في الجاهليّة، وأدرك الإسلام وكان كريماً جواداً، أمّا أبوه غالب فقد وفد على عليّ بن أبي طالب كرّم الله وجهه، فسأله: «ما فعلت إبلك الكثيرة؟ فأجاب: ذعذعتها الحقوق وأذهبتها الحمالات والنوائب يا أمير المؤمنين. قال: ذاك أحمد سبيلها». وكان لذلك أثر عميق في نفسيّة الفرزدق؛ فاعتدّ بآبائه وبعشيرته وقبيلته، وظلّ متمسّكاً بمآثرهم وكرمهم المسرف، فحين باع إبلاً له في المربد نثر أموالها على الناس، وأجار على قبر أبيه كشأن أجداده الجاهليين، كما نحر ناقته على قبر صديقه بشر بن مروان، ونشأ الفرزدق ذرب اللسان لا يوفّر في الهجاء قريباً أو غريباً، وأسرف في هجاء بني فُقيم لأنّهم قبلوا الدية، فقال:
لقد آبت وفود بني فقيم
بآلمِ ما تؤوب به الوفودُ
فاشتكوا منه إلى زياد بن أبيه، فطلبه، وخافه الفرزدق، فهرب من العراق قاطعاً البادية، واستجار بسعيد ابن العاص والي المدينة، فأجاره وأمّنه، ومدحه بقصائد بديعة منها:
ترى الغرّ الجحاجح من قريش
إذا ما الأمر في الحدثان غالا
قياماً ينظرون إلى سعيدٍ
كأنّهمُ يرون به هلالا
وسمعه الحطيئة وهو ينشد هذه القصيدة فقال: «هذا والله الشعر لا ما نُعلَّل به منذ اليوم!» وهان عليه تعرّضه لليث ضارٍ مقارنة بخوفه من زياد حيث يقول:
فلأنتَ أهون من زيادٍ جانباً
اذهبْ إليك مُخرِّم الأسفارِ
ولمّا بلغ زياداً قوله هذا رقّ له وقال: لو أتاني لآمنته وأعطيته. فقال الفرزدق:
دعاني زيادٌ للعطاء ولم أكن
لآتِيَهُ ما ساق ذو حَسَبٍ وَفْرا
وانغمس في اللهو والاختلاف إلى دور القيان، وحينما ولي مروان بن الحكم المدينة، وكانت فيه شدّة على أصحاب اللهو ترك الفرزدق المدينة إلى مكّة، وبلغه نعي زياد فمضى إلى البصرة، ومدح عبيد الله بن زياد فأوسع له في مجالسه، ثمّ أتت فترة عبد الله ابن الزبير.
وكانت النوّار بنت أعين بن صعصعة عمّ الفرزدق قد ولّته أمرها كي يزوّجها من رجل، فلمّا توثّق من توليتها وأشهد عليها الشهود تزوّجها خدعة، فرحلت إلى الحجاز، واستجارت بخولة بنت منظور الفزاريّة زوج عبد الله بن الزبير، فنزل الفرزدق على بني عبد الله بن الزبير، فاستنشدوه واستحدثوه، ثمّ شفعوا له عند أبيهم، فجعل يشفعهم في الظاهر حتّى إذا صار إلى خولة قلبته عن رأيه، فمال إلى نوار، فقال الفرزدق:
أمّا بنـوه فلم تُقبلْ شـفاعتُـهم
وشُفّعتْ بنتُ منظورِ بنِ زبّانا
ليس الشفيعُ الذي يأتيكَ مؤتزراً
مثلَ الشفيعِ الذي يأتيكَ عُريانا
وقد طلّق الفرزدق نوار بعد مشاحنات بينهما، وكان مزواجاً، ولكنّه ندم على تطليقه لها ندماً شديداً فقال:
ندمتُ ندامـةَ الكُسعيِّ لمّا
غدتْ منّي مطلّقةً نوارُ
ولو أنّي ملكتُ يدي وقلبي
لكانَ عليّ للقدرِ الخيارُ
وكانت جنّتي وخرجت منها
كآدم حينَ أخرجه الضرارُ
وكنتُ كفاقئٍ عينيهِ عمداً
فأصبحَ ما يضيءُ له النهارُ
وحينما ولي الحجّاج العراق وكانت فيه قسوة خافه الفرزدق ومدحه بمدائح رائعة مثل:
إنَ ابن يوسف محمودُ خلائقه
سيّان معروفُه في الناس والمطرُ
هو الشهاب الذي يُرمى العدوّ به
والمشرفيُّ الذي تَعْصى به مُضرٌ
ونوّه كثيراً بسيرته وقضائه على الرشوة والمتمرّدين، وإقامته لموازين العدل، حتّى إذا توفّي رثاه رثاء حارّاً، فقال:
ومات الذي يرعى على الناس دينهم
ويضربُ بالهنديّ رأسَ المخالفِ
وبعد موت الحجّاج وتوليّ سليمان ابن عبد الملك الخلافة، أخذ يتعقّب ولاة الحجّاج وعمّاله؛ فانقلب الفرزدق فأقذع في هجاء الحجّاج، وانحاز إلى قبيلته تميم، ثمّ تولّى يزيد بن المهلّب جرجان، وحاول استقدام الفرزدق، ولكنّه أبى قائلاً:
دعاني إلى جرجان والريّ دونه
لآتيه إنّي إذن لزؤور
سآبى وتأبى لي تميمٌ وربّما
أبيتُ فلم يقدر عليّ أميرُ
حتّى إذا ولي يزيد العراق في عهد سليمان بن عبد الملك مضى يمدحه كقوله:
إنّي رأيتُ يزيد عند شبابه
لبس التُّقى ومهابةَ الجبّار
وإذا الرجال رأوا يزيد رأيتهم
خُضُعَ الرقابِ نواكسَ الأبصار
ووفد الفرزدق على سليمان بن عبد الملك، وكان أول من وفد عليه من خلفاء بني أميّة؛ فأصبح من شعراء بني أميّة، يمدح سليمان ويزيد بن عبد الملك، أمّا ولاة العراق فكان إذا خاف بطشهم مدحهم، أمّا إذا أّمِن شرّهم هجاهم.
ويعدّ الفرزدق من طبقة الشعراء الإسلاميين الأولى، وأَكْثَر الفخر والمدح والهجاء، وله مناقضات شهيرة مع جرير، واختلف الناس في أيّهما أشعر، وقال بعض النقّاد الفرزدق ينحت من صخر وجرير يغرف من بحر، ورجّح الراعي كفّة الفرزدق فقال:
يا صاحبيّ دنا الرواحُ فسيرا
غلبَ الفرزدقُ في الهجاءِ جريرا
وقال اللغويّون: لو ضاع شعر الفرزدق لضاع ثلث اللّغة. وكانت للفرزدق مساجلات مع اللّغويين والنحاة، فحينما سمع عبد الله بن إسحاق النحويُّ قول الفرزدق:
مستقبلين شمال الشّام تضربنا
بحاصبٍ كنديفِ القطنِ منثورِ
على عمائمنا يُلـقى وأرحلنا
على زواحفَ تُزجى مخُّها ريرِ
قال: موضع «رير» الرفع وإن رفعتَ أقويتَ! فهجاه الفرزدق ببيت غدا شاهداً للنحاة:
فلو كان عبد الله مولى هجوتُه
ولكنّ عبدَ اللهِ مولى مواليا
فهو يعرف أنّه ينبغي أن يقول آخر البيت مولى موالٍ، ولكنّه أرادها شاهداً على إمكانيّة أن تأتي مولى مواليا، تبرّماً من قيود النحاة.
وقد أكثر الفرزدق من شعر الفخر كقوله:
ترى الناس ما سرنا يسيرون خلفنا
وإن نحن أومأنا إلى الناس وقّفوا
ومن أجود شعره في الوصف والفخر:
وركبٍ كأنّ الريحَ تطلبُ عندهم
لها تِـرَةً من جذبها بالعصائبِ
يعضّون أطرافَ العِصيِّ كأنّها
تُخَزِّمُ بالأطرافِ شوكَ العقاربِ
سروا يخبطونَ اللّيلَ وهي تلفّهم
على شُعبِ الأكوارِ من كلّ جانبِ
إذا ما رأوا ناراً يقولون: لـيتها
وقد خَصِرَت أيديـهم، نارُ غالبِ
ويروى أنّ الفرزدق في آخر أيّامه تعلّق بأستار الكعبة وعاهد الله على ترك الهجاء والقذف، وقيّد نفسه بقيد وآلى ألاّ يفكّه حتّى يحفظ القرآن، فما فكّه حتّى حفظه.
وتوفي الفرزدق عن عمر ناهز التسعين عاماً، وعلى الرغم مما كان بينه وبين جرير من مهاترات وهجاء مقذع إلاّ أنّ جريراً حزن حزناً شديداً لموت الفرزدق وأبّنه قائلاً:
فلا حملتْ بعـد الفرزدق حرّةٌ
ولا ذاتُ حملٍ من نفاسٍ تعلّتِ
هو الوافدُ الميمونُ والراتقُ الثّأى
إذا النعلُ يوماً بالعشيرةِ زلّتِ
وقال: «أما واللهِ إنّي لأعلمُ أنّي قليل البقاءِ بعده، ولقد كان نجمنا واحداً، وكلّ واحدٍ منّا مشغول بصاحبه»، وبقي حزيناً وقال: «أطفأ موتُ الفرزدق جمرتي، وأسال عبرتي، وقرّب منيّتي». فعاش بعده أربعين يوماً.
عبد الكريم عيد الحشاش
(20-114هـ/640-732م)
همام بن غالب بن صعصعة بن ناجية بن عقال بن محمّد بن سفيان ابن مجاشع بن دارم بن مالك بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم ابن مرّ بن أد بن طابخة، ويكنى أبا فراس، ولُقب بالفرزدق لغلظٍ وتجهّمٍ واستدارةٍ بوجهه، فهو يشبه الرغيف.
افتدى صعصعة جدّ الفرزدق الموءودات من قومه في الجاهليّة، وأدرك الإسلام وكان كريماً جواداً، أمّا أبوه غالب فقد وفد على عليّ بن أبي طالب كرّم الله وجهه، فسأله: «ما فعلت إبلك الكثيرة؟ فأجاب: ذعذعتها الحقوق وأذهبتها الحمالات والنوائب يا أمير المؤمنين. قال: ذاك أحمد سبيلها». وكان لذلك أثر عميق في نفسيّة الفرزدق؛ فاعتدّ بآبائه وبعشيرته وقبيلته، وظلّ متمسّكاً بمآثرهم وكرمهم المسرف، فحين باع إبلاً له في المربد نثر أموالها على الناس، وأجار على قبر أبيه كشأن أجداده الجاهليين، كما نحر ناقته على قبر صديقه بشر بن مروان، ونشأ الفرزدق ذرب اللسان لا يوفّر في الهجاء قريباً أو غريباً، وأسرف في هجاء بني فُقيم لأنّهم قبلوا الدية، فقال:
لقد آبت وفود بني فقيم
بآلمِ ما تؤوب به الوفودُ
فاشتكوا منه إلى زياد بن أبيه، فطلبه، وخافه الفرزدق، فهرب من العراق قاطعاً البادية، واستجار بسعيد ابن العاص والي المدينة، فأجاره وأمّنه، ومدحه بقصائد بديعة منها:
ترى الغرّ الجحاجح من قريش
إذا ما الأمر في الحدثان غالا
قياماً ينظرون إلى سعيدٍ
كأنّهمُ يرون به هلالا
وسمعه الحطيئة وهو ينشد هذه القصيدة فقال: «هذا والله الشعر لا ما نُعلَّل به منذ اليوم!» وهان عليه تعرّضه لليث ضارٍ مقارنة بخوفه من زياد حيث يقول:
فلأنتَ أهون من زيادٍ جانباً
اذهبْ إليك مُخرِّم الأسفارِ
ولمّا بلغ زياداً قوله هذا رقّ له وقال: لو أتاني لآمنته وأعطيته. فقال الفرزدق:
دعاني زيادٌ للعطاء ولم أكن
لآتِيَهُ ما ساق ذو حَسَبٍ وَفْرا
وانغمس في اللهو والاختلاف إلى دور القيان، وحينما ولي مروان بن الحكم المدينة، وكانت فيه شدّة على أصحاب اللهو ترك الفرزدق المدينة إلى مكّة، وبلغه نعي زياد فمضى إلى البصرة، ومدح عبيد الله بن زياد فأوسع له في مجالسه، ثمّ أتت فترة عبد الله ابن الزبير.
وكانت النوّار بنت أعين بن صعصعة عمّ الفرزدق قد ولّته أمرها كي يزوّجها من رجل، فلمّا توثّق من توليتها وأشهد عليها الشهود تزوّجها خدعة، فرحلت إلى الحجاز، واستجارت بخولة بنت منظور الفزاريّة زوج عبد الله بن الزبير، فنزل الفرزدق على بني عبد الله بن الزبير، فاستنشدوه واستحدثوه، ثمّ شفعوا له عند أبيهم، فجعل يشفعهم في الظاهر حتّى إذا صار إلى خولة قلبته عن رأيه، فمال إلى نوار، فقال الفرزدق:
أمّا بنـوه فلم تُقبلْ شـفاعتُـهم
وشُفّعتْ بنتُ منظورِ بنِ زبّانا
ليس الشفيعُ الذي يأتيكَ مؤتزراً
مثلَ الشفيعِ الذي يأتيكَ عُريانا
وقد طلّق الفرزدق نوار بعد مشاحنات بينهما، وكان مزواجاً، ولكنّه ندم على تطليقه لها ندماً شديداً فقال:
ندمتُ ندامـةَ الكُسعيِّ لمّا
غدتْ منّي مطلّقةً نوارُ
ولو أنّي ملكتُ يدي وقلبي
لكانَ عليّ للقدرِ الخيارُ
وكانت جنّتي وخرجت منها
كآدم حينَ أخرجه الضرارُ
وكنتُ كفاقئٍ عينيهِ عمداً
فأصبحَ ما يضيءُ له النهارُ
وحينما ولي الحجّاج العراق وكانت فيه قسوة خافه الفرزدق ومدحه بمدائح رائعة مثل:
إنَ ابن يوسف محمودُ خلائقه
سيّان معروفُه في الناس والمطرُ
هو الشهاب الذي يُرمى العدوّ به
والمشرفيُّ الذي تَعْصى به مُضرٌ
ونوّه كثيراً بسيرته وقضائه على الرشوة والمتمرّدين، وإقامته لموازين العدل، حتّى إذا توفّي رثاه رثاء حارّاً، فقال:
ومات الذي يرعى على الناس دينهم
ويضربُ بالهنديّ رأسَ المخالفِ
وبعد موت الحجّاج وتوليّ سليمان ابن عبد الملك الخلافة، أخذ يتعقّب ولاة الحجّاج وعمّاله؛ فانقلب الفرزدق فأقذع في هجاء الحجّاج، وانحاز إلى قبيلته تميم، ثمّ تولّى يزيد بن المهلّب جرجان، وحاول استقدام الفرزدق، ولكنّه أبى قائلاً:
دعاني إلى جرجان والريّ دونه
لآتيه إنّي إذن لزؤور
سآبى وتأبى لي تميمٌ وربّما
أبيتُ فلم يقدر عليّ أميرُ
حتّى إذا ولي يزيد العراق في عهد سليمان بن عبد الملك مضى يمدحه كقوله:
إنّي رأيتُ يزيد عند شبابه
لبس التُّقى ومهابةَ الجبّار
وإذا الرجال رأوا يزيد رأيتهم
خُضُعَ الرقابِ نواكسَ الأبصار
ووفد الفرزدق على سليمان بن عبد الملك، وكان أول من وفد عليه من خلفاء بني أميّة؛ فأصبح من شعراء بني أميّة، يمدح سليمان ويزيد بن عبد الملك، أمّا ولاة العراق فكان إذا خاف بطشهم مدحهم، أمّا إذا أّمِن شرّهم هجاهم.
ويعدّ الفرزدق من طبقة الشعراء الإسلاميين الأولى، وأَكْثَر الفخر والمدح والهجاء، وله مناقضات شهيرة مع جرير، واختلف الناس في أيّهما أشعر، وقال بعض النقّاد الفرزدق ينحت من صخر وجرير يغرف من بحر، ورجّح الراعي كفّة الفرزدق فقال:
يا صاحبيّ دنا الرواحُ فسيرا
غلبَ الفرزدقُ في الهجاءِ جريرا
وقال اللغويّون: لو ضاع شعر الفرزدق لضاع ثلث اللّغة. وكانت للفرزدق مساجلات مع اللّغويين والنحاة، فحينما سمع عبد الله بن إسحاق النحويُّ قول الفرزدق:
مستقبلين شمال الشّام تضربنا
بحاصبٍ كنديفِ القطنِ منثورِ
على عمائمنا يُلـقى وأرحلنا
على زواحفَ تُزجى مخُّها ريرِ
قال: موضع «رير» الرفع وإن رفعتَ أقويتَ! فهجاه الفرزدق ببيت غدا شاهداً للنحاة:
فلو كان عبد الله مولى هجوتُه
ولكنّ عبدَ اللهِ مولى مواليا
فهو يعرف أنّه ينبغي أن يقول آخر البيت مولى موالٍ، ولكنّه أرادها شاهداً على إمكانيّة أن تأتي مولى مواليا، تبرّماً من قيود النحاة.
وقد أكثر الفرزدق من شعر الفخر كقوله:
ترى الناس ما سرنا يسيرون خلفنا
وإن نحن أومأنا إلى الناس وقّفوا
ومن أجود شعره في الوصف والفخر:
وركبٍ كأنّ الريحَ تطلبُ عندهم
لها تِـرَةً من جذبها بالعصائبِ
يعضّون أطرافَ العِصيِّ كأنّها
تُخَزِّمُ بالأطرافِ شوكَ العقاربِ
سروا يخبطونَ اللّيلَ وهي تلفّهم
على شُعبِ الأكوارِ من كلّ جانبِ
إذا ما رأوا ناراً يقولون: لـيتها
وقد خَصِرَت أيديـهم، نارُ غالبِ
ويروى أنّ الفرزدق في آخر أيّامه تعلّق بأستار الكعبة وعاهد الله على ترك الهجاء والقذف، وقيّد نفسه بقيد وآلى ألاّ يفكّه حتّى يحفظ القرآن، فما فكّه حتّى حفظه.
وتوفي الفرزدق عن عمر ناهز التسعين عاماً، وعلى الرغم مما كان بينه وبين جرير من مهاترات وهجاء مقذع إلاّ أنّ جريراً حزن حزناً شديداً لموت الفرزدق وأبّنه قائلاً:
فلا حملتْ بعـد الفرزدق حرّةٌ
ولا ذاتُ حملٍ من نفاسٍ تعلّتِ
هو الوافدُ الميمونُ والراتقُ الثّأى
إذا النعلُ يوماً بالعشيرةِ زلّتِ
وقال: «أما واللهِ إنّي لأعلمُ أنّي قليل البقاءِ بعده، ولقد كان نجمنا واحداً، وكلّ واحدٍ منّا مشغول بصاحبه»، وبقي حزيناً وقال: «أطفأ موتُ الفرزدق جمرتي، وأسال عبرتي، وقرّب منيّتي». فعاش بعده أربعين يوماً.
عبد الكريم عيد الحشاش