فلوبير (غوستاف -)
(1821-1880)
غوستاف فلوبير Gustave Flaubert أحد أهم الروائيين الفرنسيين في القرن التاسع عشر، ولد في مدينة روان Rouen وفي مشفى هذه المدينة الذي كان يعمل فيه والده جرّاحاً رئيسياً. ومن المناخ الطبّي الذي ترعرع فيه اكتسب فلوبير نظرته التشريحيّة للحياة وحسّ المراقبة الدقيقة للأشياء، كما غلبت في مؤلفاته مسحة الحزن والتشاؤم التي ميّزت طبيعته.
التحق فلوبير في عام 1841 بكلية الحقوق في باريس لمتابعة دراسته الجامعيّة، ثمّ أصيب بمرض عصبي عام 1844، فقطع دراسته واستقرّ في بلدة كرواسيه Croisset بالقرب من مدينة روان مع أسرته. وتفاقمت حالته النفسيّة وازداد تشاؤمه بعد وفاة والده وشقيقه عام 1846، وسخّر نفسه لرعاية والدته وابنة شقيقه اليتيمة ولأدبه وأسفاره. سافر عام 1850 إلى مصر ولبنان وفلسطين وتركيّا، ثم انتقل بعدها عام 1851 إلى اليونان وإيطاليا، وقفل بعد ذلك عائداً إلى فرنسا، وتوفي بعد أن واجه أزمات ماليّة عدة وبعد تدهور حالته الصحية في كرواسيه.
تُعدّ رواية «السيدة بوڤاري»Madame Bovary عام (1857) أشهر مؤلفاته، وقد استوحى موضوعها من قصة أحد تلاميذ والده أوجين دولامار Eugène Delamare، الطبيب الذي خانته زوجته ثم تناولت السم واضعة نهاية لحياتها وحياة زوجها الذي توفي إثر صدمته. وقد بدأ فلوبير كتابة هذه الرواية بعد عودته من مصر، وبعد أربع سنوات من العمل الدؤوب صدرت الرواية في مجلّة باريس Revue de Paris، ومن ثمّ في كتاب عام 1857. وبما أنّ القصة واقعية، فقد سرد فلوبير الأحداث بدقة علمية، واصفاً القرية حيث عاشت السيدة بوڤاري، وحياتها الرتيبة الممّلة. كذلك برع فلوبير في وصف العامل النفسي لدى شخصيّاته وعرف كيف يصف أهواءهم وأفكارهم ولغتهم. فالبيئة التي عاشتها بطلته في طفولتها وشبابها، والأحداث التي تأثّرت بها، وتداخل الظروف الاجتماعية ومزاجها المتقلب، كل ذلك قادها إلى الملل والكذب والخيانة ومن ثمّ الانتحار. وقد كان فلوبير يرى في مدام بوڤاري الشخصية الرومنسية التي تدخل معترك الحياة حالمة بما قرأته من روايات وردية، وتتعلق بأوهام بعيدة عن الوضع الاجتماعي فتقع ضحيتها.
أما رواية فلوبير الثانية «سالامبو»Salammbô عام (1862)، فقد حلم بأن تكون ملحمة تاريخيّة بعيدة عن الاهتمامات المعاصرة، ووصف فيها النزاع بين روما وقرطاجة بعد أن قام بزيارة إلى تونس لتعرّف المسرح الذي شهد أحداث القرن الثالث قبل الميلاد من كثب. وتعدُّ هذه الرواية من حيث الشكل تحفة فنية، إلا أنها لم تحقق شروط الرواية التاريخية، ومن ثمَّ لم تلق النجاح الذي كان يحلم به. ويلاحظ فيها التشابه بين البطلة الإفريقية وإيما بوڤاري، في شخصيتها المسحوقة التي لم تحقق أحلامها. وقد أوضح فلوبير في إحدى رسائله موقفه واتجاهه الأدبي عندما قال: «في داخلي شخصيتان مختلفتان، الواحدة تحلق بي عالياً مع التيار الإبداعي الغنائي والأخرى تغوص نحو الأسفل في الواقع والماديات وتقف عند صغائر الأمور أو أكبرها». ومن ثم جمع في مؤلفه «التربية العاطفية» L’Education sentimentale عام (1869)، التيارين الإبداعي والواقعي، ويبدو أنه أخفق في إقناع قرائه بإمكانية الجمع بينهما. وإذا كانت «السيدة بوڤاري» تسرد أحداث مجتمع الريف في ظل الملك لويس فيليب، فإن «التربية العاطفية» تصف شباب الثورة في باريس نحو عام 1848، وتحكي قصة شاب أراد أن يتبوأ مكانة في العاصمة الفرنسية إلا أنه أخفق في حساباته. فقد أراد فلوبير في هذه الرواية المهمة في الأدب الأوربي، إظهار الرومنسيّة السياسية بعد وصفه الرومنسيّة العاطفيّة.
إذا كان بعض الموضوعات المنسوبة إلى الأدب الإبداعي (الرومنسي) قد ظهر في مؤلفات مرحلة الشباب عند فلوبير، فإن بعض هذه الموضوعات كان حاضراً في رواياته الأكثر واقعية، كموضوعات الموت والجنون واليأس والجثة المتفسخة والاحتضار وغيرها. وإذا كان لابد لكلِ أديب أو فنان أن يبدأ عطاءه بمحاكاة أسلوب أحد كبار معلمي عصره، فإنّ فلوبير اختار بلزاك Balzac نموذجاً يحذو حذوه في البداية، ثم يختلف عنه ليشق طريقه الخاص ويملك أسلوبه الشخصي. فقد صور فلوبير في رواياته، كما فعل بلزاك[ر]، الحياة في الريف الفرنسي وفي باريس، وعالج مشكلة العواقب الوخيمة لتسلط رأس المال، وتطرّق أيضاً إلى مسألة تعلّم الشباب لأمور الحياة من تجاربهم، بيد أن فلوبير تجاوز بعد ذلك الرواية الواقعية والنموذج البلزاكي. فبينما درج الروائيون الواقعيون على سرد أحداث قصص طويلة ومتشعبة ورسم شخصيات متميزة تتعرض لامتحانات معقدة وتخوض مغامرات صعبة، قام فلوبير بتفريغ رواياته مما يسمى القصة أو الحدث الكبير، وهو الذي كتب أنه يريد أن «يؤلف كتاباً عن لاشيء». كما عمد فلوبير إلى تضخيم الوصف على حساب السرد في رواياته. وهكذا فإن وصف الأشياء والطبيعة والثياب والبيوت ومستلزمات الحياة اليومية حل مكان السرد وتتابع الأحداث.
ومن مؤلفات فلوبير الأخرى «إغواء القديس أنطوان»La Tentation de Saint -Antoine عام (1874) وهي رؤية فلسفية وتاريخية وغنائية لناسك يعيش في عزلة، و«بوڤار وبيكوشيه» Bouvard et Pécuchet عام (1880).
يُعدُّ غوستاف فلوبير من أهم الروائيين الفرنسيين في القرنين الماضيين، حيث عَدّه أحد النقاد الأب الحقيقي للرواية الحديثة لأصالة أسلوبه وإسهاماته في تجديد تقانة الرواية الفرنسية. وليس غريباً على جيل روائيي ما بعد الحرب العالمية الثانية الذين ابتكروا ما سمي آنذاك بالرواية الجديدة Le nouveau roman مثل ميشيل بُتور وآلان روب غرييه وناتالي ساروت أن يعدّونه أباً روحياً لهم.
نواف مخلوف
(1821-1880)
التحق فلوبير في عام 1841 بكلية الحقوق في باريس لمتابعة دراسته الجامعيّة، ثمّ أصيب بمرض عصبي عام 1844، فقطع دراسته واستقرّ في بلدة كرواسيه Croisset بالقرب من مدينة روان مع أسرته. وتفاقمت حالته النفسيّة وازداد تشاؤمه بعد وفاة والده وشقيقه عام 1846، وسخّر نفسه لرعاية والدته وابنة شقيقه اليتيمة ولأدبه وأسفاره. سافر عام 1850 إلى مصر ولبنان وفلسطين وتركيّا، ثم انتقل بعدها عام 1851 إلى اليونان وإيطاليا، وقفل بعد ذلك عائداً إلى فرنسا، وتوفي بعد أن واجه أزمات ماليّة عدة وبعد تدهور حالته الصحية في كرواسيه.
تُعدّ رواية «السيدة بوڤاري»Madame Bovary عام (1857) أشهر مؤلفاته، وقد استوحى موضوعها من قصة أحد تلاميذ والده أوجين دولامار Eugène Delamare، الطبيب الذي خانته زوجته ثم تناولت السم واضعة نهاية لحياتها وحياة زوجها الذي توفي إثر صدمته. وقد بدأ فلوبير كتابة هذه الرواية بعد عودته من مصر، وبعد أربع سنوات من العمل الدؤوب صدرت الرواية في مجلّة باريس Revue de Paris، ومن ثمّ في كتاب عام 1857. وبما أنّ القصة واقعية، فقد سرد فلوبير الأحداث بدقة علمية، واصفاً القرية حيث عاشت السيدة بوڤاري، وحياتها الرتيبة الممّلة. كذلك برع فلوبير في وصف العامل النفسي لدى شخصيّاته وعرف كيف يصف أهواءهم وأفكارهم ولغتهم. فالبيئة التي عاشتها بطلته في طفولتها وشبابها، والأحداث التي تأثّرت بها، وتداخل الظروف الاجتماعية ومزاجها المتقلب، كل ذلك قادها إلى الملل والكذب والخيانة ومن ثمّ الانتحار. وقد كان فلوبير يرى في مدام بوڤاري الشخصية الرومنسية التي تدخل معترك الحياة حالمة بما قرأته من روايات وردية، وتتعلق بأوهام بعيدة عن الوضع الاجتماعي فتقع ضحيتها.
أما رواية فلوبير الثانية «سالامبو»Salammbô عام (1862)، فقد حلم بأن تكون ملحمة تاريخيّة بعيدة عن الاهتمامات المعاصرة، ووصف فيها النزاع بين روما وقرطاجة بعد أن قام بزيارة إلى تونس لتعرّف المسرح الذي شهد أحداث القرن الثالث قبل الميلاد من كثب. وتعدُّ هذه الرواية من حيث الشكل تحفة فنية، إلا أنها لم تحقق شروط الرواية التاريخية، ومن ثمَّ لم تلق النجاح الذي كان يحلم به. ويلاحظ فيها التشابه بين البطلة الإفريقية وإيما بوڤاري، في شخصيتها المسحوقة التي لم تحقق أحلامها. وقد أوضح فلوبير في إحدى رسائله موقفه واتجاهه الأدبي عندما قال: «في داخلي شخصيتان مختلفتان، الواحدة تحلق بي عالياً مع التيار الإبداعي الغنائي والأخرى تغوص نحو الأسفل في الواقع والماديات وتقف عند صغائر الأمور أو أكبرها». ومن ثم جمع في مؤلفه «التربية العاطفية» L’Education sentimentale عام (1869)، التيارين الإبداعي والواقعي، ويبدو أنه أخفق في إقناع قرائه بإمكانية الجمع بينهما. وإذا كانت «السيدة بوڤاري» تسرد أحداث مجتمع الريف في ظل الملك لويس فيليب، فإن «التربية العاطفية» تصف شباب الثورة في باريس نحو عام 1848، وتحكي قصة شاب أراد أن يتبوأ مكانة في العاصمة الفرنسية إلا أنه أخفق في حساباته. فقد أراد فلوبير في هذه الرواية المهمة في الأدب الأوربي، إظهار الرومنسيّة السياسية بعد وصفه الرومنسيّة العاطفيّة.
إذا كان بعض الموضوعات المنسوبة إلى الأدب الإبداعي (الرومنسي) قد ظهر في مؤلفات مرحلة الشباب عند فلوبير، فإن بعض هذه الموضوعات كان حاضراً في رواياته الأكثر واقعية، كموضوعات الموت والجنون واليأس والجثة المتفسخة والاحتضار وغيرها. وإذا كان لابد لكلِ أديب أو فنان أن يبدأ عطاءه بمحاكاة أسلوب أحد كبار معلمي عصره، فإنّ فلوبير اختار بلزاك Balzac نموذجاً يحذو حذوه في البداية، ثم يختلف عنه ليشق طريقه الخاص ويملك أسلوبه الشخصي. فقد صور فلوبير في رواياته، كما فعل بلزاك[ر]، الحياة في الريف الفرنسي وفي باريس، وعالج مشكلة العواقب الوخيمة لتسلط رأس المال، وتطرّق أيضاً إلى مسألة تعلّم الشباب لأمور الحياة من تجاربهم، بيد أن فلوبير تجاوز بعد ذلك الرواية الواقعية والنموذج البلزاكي. فبينما درج الروائيون الواقعيون على سرد أحداث قصص طويلة ومتشعبة ورسم شخصيات متميزة تتعرض لامتحانات معقدة وتخوض مغامرات صعبة، قام فلوبير بتفريغ رواياته مما يسمى القصة أو الحدث الكبير، وهو الذي كتب أنه يريد أن «يؤلف كتاباً عن لاشيء». كما عمد فلوبير إلى تضخيم الوصف على حساب السرد في رواياته. وهكذا فإن وصف الأشياء والطبيعة والثياب والبيوت ومستلزمات الحياة اليومية حل مكان السرد وتتابع الأحداث.
ومن مؤلفات فلوبير الأخرى «إغواء القديس أنطوان»La Tentation de Saint -Antoine عام (1874) وهي رؤية فلسفية وتاريخية وغنائية لناسك يعيش في عزلة، و«بوڤار وبيكوشيه» Bouvard et Pécuchet عام (1880).
يُعدُّ غوستاف فلوبير من أهم الروائيين الفرنسيين في القرنين الماضيين، حيث عَدّه أحد النقاد الأب الحقيقي للرواية الحديثة لأصالة أسلوبه وإسهاماته في تجديد تقانة الرواية الفرنسية. وليس غريباً على جيل روائيي ما بعد الحرب العالمية الثانية الذين ابتكروا ما سمي آنذاك بالرواية الجديدة Le nouveau roman مثل ميشيل بُتور وآلان روب غرييه وناتالي ساروت أن يعدّونه أباً روحياً لهم.
نواف مخلوف