التاريخ
التاريخ القديم
أظهرت الدراسات، التي تعود بواكيرها الأولى إلى مطلع القرن التاسع عشر، أن الاستيطان البشري الأول في فرنسا الحالية يعود إلى نحو مليون سنة خلت، دلت عليه الأدوات الحجرية البدائية (القواطع) التي وجدت في جنوبي فرنسا (في مغارة فالونيه Vallonet)، ومنذ نحو نصف مليون سنة أصبح هذا الاستيطان أكثر انتشاراً وكثافة كما دلت مغارة كون دو لارغـو Caune de l’Argo في منطقة البيرينيه الشرقية الفرنسية، التي كُشف فيها عن طبقات أثرية عدة تعود إلى العصر الحجري القديم الأدنى (الباليوليت)، وتُنسب إلى الحضارة التياسية Tayacien المعروفة بتصنيع الأدوات المسننة والمفرَّضة. كما كُشف في الموقع عن عظام وجمجمة إنسان الهومو إركتوس Homo-erectus، وهي أقدم ما عُثر عليه حتى اليوم في أوربا. هذا الإنسان هو صانع الحضارة الآشولية، التي تميزت باستخدام الفؤوس الحجرية والتي وُجدت أدواتها أول مرة في موقع سانت آشول Saint-Acheul في فرنسا، الذي أعطى اسمه لهذه الحضارة ذات الانتشار العالمي الواسع. ويُنسب إلى هذا العصر العديد من المواقع الأخرى بينها تيرا أماتاTerra Amata قرب نيس، الذي كُشف فيه عن أقدم دلائل استخدام النار (المواقد) وأول الأكواخ المبنية في العراء.
في العصر الحجري القديم الأوسط (بين نحو 200 -40 ألف سنة خلت)، انتهت الحضارة الآشولية واختفى معها إنسان الهومو إركتوس، الذي حلَّ مكانه إنسان النياندرتال Neanderthal، صانع الحضارة الموستيرية التي كشفت أول مرة في موقع موستير Le Moustier في منطقة الدردون Dordogne، وخاصة في منطقة ليزيزي Les Eyzies، التي جرت فيها أول دراسات ما قبل التاريخ وأهمها، وأخذ عدد من حضارات هذه العصور اسمه من مواقع فيها. كانت إقامة النياندرتاليون في مختلف مناطق فرنسا، ولاسيما في المغاور والملاجئ، حيث عُثر على كثير من هياكلهم العظمية؛ إذ كانوا أول من مارس دفن الموتى، في العديد من المواقع مثل لافيراسي La Ferrassie في منطقة الدردون. كما وُجدت في المواقع النياندرتالية، أول مرة، الأدوات العظمية والفنون البسيطة ودلائل استخدام الألوان. وهناك ما يشير إلى أن هؤلاء قد مارسوا عقيدة عبادة الدب، وكانوا مهرة في تصنيع الأدوات كالمقاحف وحراب الصيد وفق الطريقة اللوڤالوازيه، نسبة إلى موقع لوڤالواز Levallois قرب باريس.
في العصر الحجري القديم الأعلى، بين 40-10 آلاف سنة ق.م، اختفى إنسان النياندرتال وحل مكانه الإنسان العاقل Homo-sapiens المسمى أيضاً إنسان كرومانيون، نسبة إلى موقع كرومانيون Cro-Magnon في جنوبي فرنسا، حيث وُجدت الهياكل العظمية العائدة لهذا الإنسان أول مرة. لقد شهدت فرنسا في هذا العصر ازدهاراً وتنوعاً حضارياً لا مثيل له، دل عليه ليس فقط تطور تقانات تصنيع الأدوات الحجرية والعظمية والبناء في العراء وغير ذلك، وإنما الفنون بكل أنواعها، منقولة وثابتة، رسماً وحفراً ونحتاً. لقد تتابعت على فرنسا، وأوربا، حضارات عدة جسدت غنى هذه المرحلة وتقدمها، أولها كانت الحضارتان الشاتلبيرونيه Châtelperronien والبيريـغـوردية Périgordien، تلتهما الحضارة الأورينياسية Aurignacien التي وصلت تأثيراتها حتى الشرق الأوسط، وعرفت بفنونها المبهرة، كما ظهر في مغارة شوفـيه Chauvet في منطقة الأرديش Ardèche في جنوبي فرنسا، حيث كُشف في التسعينيات من القرن العشرين عن مئات الأشكال الفنية، المرسومة والمنحوتة بعناية فائقة، على جدران المغارة التي تجسد أنواعاً عديدة من الحيوانات، أهمها الفهد والضبع والحصان ووحيد القرن والماموت وغيرها. وقد أُرخت إلى أكثر من ثلاثين ألف سنة خلت لتكون أقدم الفنون، بمعناها الحقيقي، معروفة في العالم حتى اليوم. بعد ذلك أتت الحضارة الغرافيتية Gravettien، التي انتشرت على مساحات واسعة في شرقي وغربي أوربا منذ نحو 25 ألف سنة ق.م، وعُرفت بمواقعها الكبيرة التي تدل على تجمعات سكانية مهمة (قرى).
قبل نحو 20 ألف سنة ق.م، ظهرت الحضارة السولوترية Solutréen التي اشتهرت بفنونها الرائعة، بينها التماثيل الإنسانية المعروفة «بـڤـينوس العصر الحجري»، وإبداعات أخرى بلغت القمة في عصر الحضارة المجدلانية Magdalenien التي بدأت منذ نحو 15 ألف سنة ق.م، واستمرت حتى نهاية العصر الحجري القديم. يُنسب إلى هذه الحضارة العديد من المواقع الفرنسية، التي كُشف فيها عن فنون مهمة، على رأسها مغارة لاسكو Lascaux في جنوبي فرنسا، التي غطت جدرانها مئات الأشكال الفنية الرائعة لحيوانات مختلفة، كالثور والفرس والغزال، وآلاف الإشارات والأشكال الغريبة والغامضة، والتي لازالت تثير نقاشاً حاداً حول حقيقة دور هذه الفنون ووظيفتها.
منذ نحو 10 آلاف سنة ق.م، انتهى العصر الجليدي في أوربا واختفت الحضارة المجدلانية وغابت الفنون والإبداعات المرافقة الأخرى، ودخلت فرنسا في مرحلة العصر الحجري الوسيط الميزوليت Mésolithique، وتعاقبت على فرنسا في هذا العصر حضارات بسيطة وفقيرة اشتهرت خاصة بتصنيع الأدوات المركبة، الدقيقة والهندسية الأشكال Microlithique- géométrique، وهي على التوالي: الحضارة السوفـترية Sauveterrien والتاردنوازية Tardenoisien والكاستيلنوفـية Castelnovien وأخيراً الأزيلية Azilien، التي شكلت المرحلة الانتقالية بين مجتمعات الاستقرار والزراعة اللاحقة.
في مطلع الألف السادس ق.م تقريباً (العصر الحجري الحديث النيوليت Néolithique)، دخلت فرنسا في مرحلة الزراعة وتدجين الحيوان، وتدل الأبحاث على أن ابتكارات هذا العصر التي عُرفت «بالثورة الزراعية» قد وصلت إلى أوربا وفرنسا عبر نهر الدانوب، من منطقة المشرق العربي القديم، حيث حصلت هذه الثورة منذ الألف الثامن ق.م. وكُشف عن أقدم المجتمعات الزراعية لهذا العصر في جنوبي فرنسا وتُعرف باسم «حضارة كارديال» نسبة إلى الأواني الفخارية المزخرفة بخطوط تشبه صوف الكارديوم Cardium، تبعها في منتصف الألف السادس حضارة الكارديال الأخيرة épi-cardial.
في الألف الخامس ق.م، ظهرت حضارة جديدة عُرفت بتصنيع الأواني الفخارية المزخرفة بخطوط متتالية Céramique linéaire اشتهرت بتشييد البيوت والمدافن الكبيرة ووصلت تأثيراتها حتى الحوض الباريسي. في الألف الرابع ق.م، انتشرت المجتمعات النيوليتية على كامل الأراضي الفرنسية، مثلتها المجموعات التابعة للحضارة الشاسية Chasséen التي صنّعت الأواني الفخارية عالية الجودة وأوصلت مختلف الإنجازات السابقة إلى قمتها. وهكذا استمرت المجتمعات النيوليتية عبر جماعات، تميزت من بعضها، حسب مناطق تواجدها، بوساطة أدواتها وفخارها وبنائها وقبورها الضخمة Mégalithes.
يعد الألف الثالث ق.م، عصراً انتقالياً بين العصر الحجري والعصر البرونزي، وهي مرحلة العصر الحجري - المعدني، الكالكوليتي Chalcolithique، التي استخدم فيها معدن النحاس أول مرة، وعاشت فيها مجتمعات، بعضها متنقل، كانت لها علاقات تجارية بعيدة، وتبادلت خامات الصوان والأوبسيديان والنحاس والعنبر، وقامت فيها هجرات واسعة دلَّ عليها الانتشار الواسع للأواني الفخارية، ذات الشكل الجرسي Campaniforme التي تعود أصولها إلى مناطق القوقاز. أتت أيضاً من هذا العصر قبور مغاليتية جماعية، مثل موقع آلّيه كوفـيرت Allée couverte في الحوض الباريسي.
يُؤرخ عصر البرونز بين 2000-800 سنة ق.م، حصلت فيه تطورات اجتماعية واقتصادية جديدة،؛ فانتشرت القرى الزراعية الكبيرة التي يديرها قادة، أمراء دلت عليهم قبورهم التي كانت على شكل أكوام حجرية Tumulus وغنية بمختلف أنواع الأسلحة المعدنية والأدوات النفيسة، بينها العديد من قبور النساء الغنية بالمجوهرات، كما مُورست لأول مرة عادة حرق الجثث ودفنها في جرار فخارية Champ d Urnes، وتطورت صناعات التوتياء والرصاص على حساب البرونز، ومُورست فنون ومعتقدات جديدة دلت على مجتمعات قطعت شوطاً حضارياً طويلاً.
في الألف الأول ق.م، بدأ عصر الحديد (800-50ق.م)، وسادت في النصف الأول منه حضارة هالشتات Hallstatt، التي كانت مزيجاً من تأثيرات من مختلف أرجاء أوربا، بما فيها منطقة اليونان والأتروسكيين، الذين أقاموا أول مستوطناتهم في مناطق مثل سانت بليز Saint Blaise، ثم مرسيليا. وشهدت هذه المرحلة تطور الإمارات الهالشتاتية التي وقف على رأسها أمراء الخيالة، الفرسان. في النصف الثاني من عصر الحديد سادت حضارة لاتين La Tène التي صنعتها الشعوب الكلتية Celtes وبينهم الغاليون Gaulois، وحصلت إنجازات كبيرة في مجال تصنيع المعادن والفنون والتجارة، كما ظهرت المدن المسوَّرة الأولى Oppidum، ذات المنشآت الدفاعية والاقتصادية والإدارية المتكاملة، التي أشادها الكلتيون لمقاومة الامبراطورية الرومانية، التي خاضوا ضدها حروباً طاحنة، إلى أن استطاع يوليوس قيصر إخضاعهم وضمَّ فرنسا إلى سلطته الامبراطورية في منتصف القرن الأول ق.م. لكن بلاد الغاليين غدت إحدى أهم مناطق الامبراطورية الرومانية ازدهاراً. وفي العهد الغالي ـ الروماني Gallo-Romaine سادت حضارة متطورة في عمارتها وفنونـها وتجارتها ولغتها اللاتينية دلت عليها مـدن تاريخية مثل الآرل Arles ونيم Nîmes. ومنذ القرن الثالث الميلادي بدأت غزوات الشعوب الجرمانية ضد بلاد الغال. وما إن حل القرن الخامس حتى قضت هذه الشعوب على الامبراطورية الرومانية، ثم تمكن الفرانك Les Francs في عهد ملكهم كلوفـيس الأول Clovis، في نهاية القرن الخامس وبداية القرن السادس، من تأسيس الأسرة الميروفـينجية Mérovingiens، وحولت المدن والمعابد الرومانية إلى كنائس مسيحية، وظهر تحالف قوى بين الدولة والكنيسة عندما عيَّن شارلمان الكبير Charlemagne امبراطوراً على فرنسا وألمانيا وشمالي إيطاليا في القرن الثامن الميلادي، ثم ما لبثت هذه الامبراطورية أن قُسمِّت بين خلفائه لتظهر في القرن التاسع الميلادي مملكة فرنسا في العصور الوسطى.
سلطان محيسن
التاريخ القديم
أظهرت الدراسات، التي تعود بواكيرها الأولى إلى مطلع القرن التاسع عشر، أن الاستيطان البشري الأول في فرنسا الحالية يعود إلى نحو مليون سنة خلت، دلت عليه الأدوات الحجرية البدائية (القواطع) التي وجدت في جنوبي فرنسا (في مغارة فالونيه Vallonet)، ومنذ نحو نصف مليون سنة أصبح هذا الاستيطان أكثر انتشاراً وكثافة كما دلت مغارة كون دو لارغـو Caune de l’Argo في منطقة البيرينيه الشرقية الفرنسية، التي كُشف فيها عن طبقات أثرية عدة تعود إلى العصر الحجري القديم الأدنى (الباليوليت)، وتُنسب إلى الحضارة التياسية Tayacien المعروفة بتصنيع الأدوات المسننة والمفرَّضة. كما كُشف في الموقع عن عظام وجمجمة إنسان الهومو إركتوس Homo-erectus، وهي أقدم ما عُثر عليه حتى اليوم في أوربا. هذا الإنسان هو صانع الحضارة الآشولية، التي تميزت باستخدام الفؤوس الحجرية والتي وُجدت أدواتها أول مرة في موقع سانت آشول Saint-Acheul في فرنسا، الذي أعطى اسمه لهذه الحضارة ذات الانتشار العالمي الواسع. ويُنسب إلى هذا العصر العديد من المواقع الأخرى بينها تيرا أماتاTerra Amata قرب نيس، الذي كُشف فيه عن أقدم دلائل استخدام النار (المواقد) وأول الأكواخ المبنية في العراء.
في العصر الحجري القديم الأوسط (بين نحو 200 -40 ألف سنة خلت)، انتهت الحضارة الآشولية واختفى معها إنسان الهومو إركتوس، الذي حلَّ مكانه إنسان النياندرتال Neanderthal، صانع الحضارة الموستيرية التي كشفت أول مرة في موقع موستير Le Moustier في منطقة الدردون Dordogne، وخاصة في منطقة ليزيزي Les Eyzies، التي جرت فيها أول دراسات ما قبل التاريخ وأهمها، وأخذ عدد من حضارات هذه العصور اسمه من مواقع فيها. كانت إقامة النياندرتاليون في مختلف مناطق فرنسا، ولاسيما في المغاور والملاجئ، حيث عُثر على كثير من هياكلهم العظمية؛ إذ كانوا أول من مارس دفن الموتى، في العديد من المواقع مثل لافيراسي La Ferrassie في منطقة الدردون. كما وُجدت في المواقع النياندرتالية، أول مرة، الأدوات العظمية والفنون البسيطة ودلائل استخدام الألوان. وهناك ما يشير إلى أن هؤلاء قد مارسوا عقيدة عبادة الدب، وكانوا مهرة في تصنيع الأدوات كالمقاحف وحراب الصيد وفق الطريقة اللوڤالوازيه، نسبة إلى موقع لوڤالواز Levallois قرب باريس.
في العصر الحجري القديم الأعلى، بين 40-10 آلاف سنة ق.م، اختفى إنسان النياندرتال وحل مكانه الإنسان العاقل Homo-sapiens المسمى أيضاً إنسان كرومانيون، نسبة إلى موقع كرومانيون Cro-Magnon في جنوبي فرنسا، حيث وُجدت الهياكل العظمية العائدة لهذا الإنسان أول مرة. لقد شهدت فرنسا في هذا العصر ازدهاراً وتنوعاً حضارياً لا مثيل له، دل عليه ليس فقط تطور تقانات تصنيع الأدوات الحجرية والعظمية والبناء في العراء وغير ذلك، وإنما الفنون بكل أنواعها، منقولة وثابتة، رسماً وحفراً ونحتاً. لقد تتابعت على فرنسا، وأوربا، حضارات عدة جسدت غنى هذه المرحلة وتقدمها، أولها كانت الحضارتان الشاتلبيرونيه Châtelperronien والبيريـغـوردية Périgordien، تلتهما الحضارة الأورينياسية Aurignacien التي وصلت تأثيراتها حتى الشرق الأوسط، وعرفت بفنونها المبهرة، كما ظهر في مغارة شوفـيه Chauvet في منطقة الأرديش Ardèche في جنوبي فرنسا، حيث كُشف في التسعينيات من القرن العشرين عن مئات الأشكال الفنية، المرسومة والمنحوتة بعناية فائقة، على جدران المغارة التي تجسد أنواعاً عديدة من الحيوانات، أهمها الفهد والضبع والحصان ووحيد القرن والماموت وغيرها. وقد أُرخت إلى أكثر من ثلاثين ألف سنة خلت لتكون أقدم الفنون، بمعناها الحقيقي، معروفة في العالم حتى اليوم. بعد ذلك أتت الحضارة الغرافيتية Gravettien، التي انتشرت على مساحات واسعة في شرقي وغربي أوربا منذ نحو 25 ألف سنة ق.م، وعُرفت بمواقعها الكبيرة التي تدل على تجمعات سكانية مهمة (قرى).
قبل نحو 20 ألف سنة ق.م، ظهرت الحضارة السولوترية Solutréen التي اشتهرت بفنونها الرائعة، بينها التماثيل الإنسانية المعروفة «بـڤـينوس العصر الحجري»، وإبداعات أخرى بلغت القمة في عصر الحضارة المجدلانية Magdalenien التي بدأت منذ نحو 15 ألف سنة ق.م، واستمرت حتى نهاية العصر الحجري القديم. يُنسب إلى هذه الحضارة العديد من المواقع الفرنسية، التي كُشف فيها عن فنون مهمة، على رأسها مغارة لاسكو Lascaux في جنوبي فرنسا، التي غطت جدرانها مئات الأشكال الفنية الرائعة لحيوانات مختلفة، كالثور والفرس والغزال، وآلاف الإشارات والأشكال الغريبة والغامضة، والتي لازالت تثير نقاشاً حاداً حول حقيقة دور هذه الفنون ووظيفتها.
منذ نحو 10 آلاف سنة ق.م، انتهى العصر الجليدي في أوربا واختفت الحضارة المجدلانية وغابت الفنون والإبداعات المرافقة الأخرى، ودخلت فرنسا في مرحلة العصر الحجري الوسيط الميزوليت Mésolithique، وتعاقبت على فرنسا في هذا العصر حضارات بسيطة وفقيرة اشتهرت خاصة بتصنيع الأدوات المركبة، الدقيقة والهندسية الأشكال Microlithique- géométrique، وهي على التوالي: الحضارة السوفـترية Sauveterrien والتاردنوازية Tardenoisien والكاستيلنوفـية Castelnovien وأخيراً الأزيلية Azilien، التي شكلت المرحلة الانتقالية بين مجتمعات الاستقرار والزراعة اللاحقة.
في مطلع الألف السادس ق.م تقريباً (العصر الحجري الحديث النيوليت Néolithique)، دخلت فرنسا في مرحلة الزراعة وتدجين الحيوان، وتدل الأبحاث على أن ابتكارات هذا العصر التي عُرفت «بالثورة الزراعية» قد وصلت إلى أوربا وفرنسا عبر نهر الدانوب، من منطقة المشرق العربي القديم، حيث حصلت هذه الثورة منذ الألف الثامن ق.م. وكُشف عن أقدم المجتمعات الزراعية لهذا العصر في جنوبي فرنسا وتُعرف باسم «حضارة كارديال» نسبة إلى الأواني الفخارية المزخرفة بخطوط تشبه صوف الكارديوم Cardium، تبعها في منتصف الألف السادس حضارة الكارديال الأخيرة épi-cardial.
في الألف الخامس ق.م، ظهرت حضارة جديدة عُرفت بتصنيع الأواني الفخارية المزخرفة بخطوط متتالية Céramique linéaire اشتهرت بتشييد البيوت والمدافن الكبيرة ووصلت تأثيراتها حتى الحوض الباريسي. في الألف الرابع ق.م، انتشرت المجتمعات النيوليتية على كامل الأراضي الفرنسية، مثلتها المجموعات التابعة للحضارة الشاسية Chasséen التي صنّعت الأواني الفخارية عالية الجودة وأوصلت مختلف الإنجازات السابقة إلى قمتها. وهكذا استمرت المجتمعات النيوليتية عبر جماعات، تميزت من بعضها، حسب مناطق تواجدها، بوساطة أدواتها وفخارها وبنائها وقبورها الضخمة Mégalithes.
يعد الألف الثالث ق.م، عصراً انتقالياً بين العصر الحجري والعصر البرونزي، وهي مرحلة العصر الحجري - المعدني، الكالكوليتي Chalcolithique، التي استخدم فيها معدن النحاس أول مرة، وعاشت فيها مجتمعات، بعضها متنقل، كانت لها علاقات تجارية بعيدة، وتبادلت خامات الصوان والأوبسيديان والنحاس والعنبر، وقامت فيها هجرات واسعة دلَّ عليها الانتشار الواسع للأواني الفخارية، ذات الشكل الجرسي Campaniforme التي تعود أصولها إلى مناطق القوقاز. أتت أيضاً من هذا العصر قبور مغاليتية جماعية، مثل موقع آلّيه كوفـيرت Allée couverte في الحوض الباريسي.
يُؤرخ عصر البرونز بين 2000-800 سنة ق.م، حصلت فيه تطورات اجتماعية واقتصادية جديدة،؛ فانتشرت القرى الزراعية الكبيرة التي يديرها قادة، أمراء دلت عليهم قبورهم التي كانت على شكل أكوام حجرية Tumulus وغنية بمختلف أنواع الأسلحة المعدنية والأدوات النفيسة، بينها العديد من قبور النساء الغنية بالمجوهرات، كما مُورست لأول مرة عادة حرق الجثث ودفنها في جرار فخارية Champ d Urnes، وتطورت صناعات التوتياء والرصاص على حساب البرونز، ومُورست فنون ومعتقدات جديدة دلت على مجتمعات قطعت شوطاً حضارياً طويلاً.
في الألف الأول ق.م، بدأ عصر الحديد (800-50ق.م)، وسادت في النصف الأول منه حضارة هالشتات Hallstatt، التي كانت مزيجاً من تأثيرات من مختلف أرجاء أوربا، بما فيها منطقة اليونان والأتروسكيين، الذين أقاموا أول مستوطناتهم في مناطق مثل سانت بليز Saint Blaise، ثم مرسيليا. وشهدت هذه المرحلة تطور الإمارات الهالشتاتية التي وقف على رأسها أمراء الخيالة، الفرسان. في النصف الثاني من عصر الحديد سادت حضارة لاتين La Tène التي صنعتها الشعوب الكلتية Celtes وبينهم الغاليون Gaulois، وحصلت إنجازات كبيرة في مجال تصنيع المعادن والفنون والتجارة، كما ظهرت المدن المسوَّرة الأولى Oppidum، ذات المنشآت الدفاعية والاقتصادية والإدارية المتكاملة، التي أشادها الكلتيون لمقاومة الامبراطورية الرومانية، التي خاضوا ضدها حروباً طاحنة، إلى أن استطاع يوليوس قيصر إخضاعهم وضمَّ فرنسا إلى سلطته الامبراطورية في منتصف القرن الأول ق.م. لكن بلاد الغاليين غدت إحدى أهم مناطق الامبراطورية الرومانية ازدهاراً. وفي العهد الغالي ـ الروماني Gallo-Romaine سادت حضارة متطورة في عمارتها وفنونـها وتجارتها ولغتها اللاتينية دلت عليها مـدن تاريخية مثل الآرل Arles ونيم Nîmes. ومنذ القرن الثالث الميلادي بدأت غزوات الشعوب الجرمانية ضد بلاد الغال. وما إن حل القرن الخامس حتى قضت هذه الشعوب على الامبراطورية الرومانية، ثم تمكن الفرانك Les Francs في عهد ملكهم كلوفـيس الأول Clovis، في نهاية القرن الخامس وبداية القرن السادس، من تأسيس الأسرة الميروفـينجية Mérovingiens، وحولت المدن والمعابد الرومانية إلى كنائس مسيحية، وظهر تحالف قوى بين الدولة والكنيسة عندما عيَّن شارلمان الكبير Charlemagne امبراطوراً على فرنسا وألمانيا وشمالي إيطاليا في القرن الثامن الميلادي، ثم ما لبثت هذه الامبراطورية أن قُسمِّت بين خلفائه لتظهر في القرن التاسع الميلادي مملكة فرنسا في العصور الوسطى.
سلطان محيسن