الفصل الأول
الابداع : أمس واليوم وغداً
من غولتون حتى عام ١٩٥٠
بالرغم من ان العباقرة في مختلف ميادين الأعمال الانسانية كانوا دوماً موضع التمييز والتقدير فإن دراسات (غولتون Galton ) الانكليزي عن العباقرة عام ١٨٦٩ هي التي لفتت أنظار العلماء الى العباقرة . والواقع ان غولتون لم يحاول جدياً أن يفهم العمليات العقلية التي ينتج بواسطتها العباقرة أفكارهم الجديدة، ولكنه اتجه بدراسته نحو المحددات الوراثية للانجاز الإبداعي ولقد أصبحت دراسة غولتون من كلاسيكيات علم الوراثة، ولكنه ولأسباب عديدة أخفق في الوصول الى نتائج قاطعة .
إن الوصول الى فهم صحيح للأشخاص المبدعين والى العمليات التي يشتمل عليها الإبداع مسؤولية خاصة بعلماء النفس. ولكن علماء النفس الأولين كانوا يلاقون صعوبات كبيرة في فهم العمليات النفسية البسيطة من مثل الإحساس والإدراك والتذكر مما جعلهم لا يملكون لا الوقت ولا الشجاعة اللازمين لبحث مشكلة كمشكلة الإبداع. ومعلوم ان كتب علم النفس القديمة كانت تعالج موضوع الإبداع ، إذا عالجته، تحت عنوان (التخيل) أو ( التخيل المبدع ) ولم تكن تقف عنده طويلاً .
وحين سيطرت السلوكية على علم النفس - في اميركا على الأقل - استبعدت موضوع الإبداع في جملة ما استبعدته من مواضيع نفسية . وفي هذه الأثناء كان الروز النفسي - وبخاصة روز الذكاء قد در قرنه وأوجد بينه» (Binet ) الافرنسي روائز الذكاء التي أخذتها بلاد العالم وفي مقدمتها أميركا. وكانت روائز الذكاء الأولى روائز «بينه» وروائز تيرمان» تستهدف - أول ما تستهدف التنبؤ عن الانجاز المدرسي ولا سيما في المستوى الابتدائي حيث لا يعار كبير انتباه إلى الإبداع .
لكن فقدان الترابط بين نتائج روائز الذكاء وبين نتائج الاختبارات التي اعتبرت دالة على الإبداع لوحظ منذ البداية وحتى قبل أن تصبح روائز الذكاء حقيقة واقعة . لقد لاحظ هذا الأمر ( ديربورن Dearborn ) عام ۱۸۹۸ كما لاحظه ( تشاسيل Chassell ) عام ١٩١٦ و ( اندروز Andrews ) عام ۱۹۳۰ و ( وياش Welsh ) عام ١٩٤٦ . ولقد توصل ( تيرمان ) الى نتيجة تقول ان الصفات والمواهب الإبداعية تقع خارج نطاق الذكاء والذي يتصل أكثر ما يتصل بالمواهب التعليمية . ولقد تجاوز علماء اليوم ( تيرمان ) حتى توصلوا الى القول بأن الذكاء يشتمل نظرنا اليه نظرة واسعة على مكونات عدة لا يترابط بعضها على الأقل - ترابطاً كبيراً مع البعض الآخر .
اذا وفي كل الأحوال فإن النظرة التي سادت النصف الأول من قرننــا العشرين كانت تعتبر الذكاء قابلية موحدة غير قابلة للتحليل ، وقد جاء التحليل العاملي لينقض ذلك .
وأياً ما كان فقد جرت محاولات عدة لدراسة الإبداع واستعملت وسائل كثيرة للتعرف عليه وعلى العمليات التي يتكون منها، وجرى ذلك كله في النصف الأول من هذا القرن ؛ وتم الوصول الى نتائج مفيدة وان كان من غير الممكن الاعتماد عليها . ولعل أحسن ما عادت به هذه الدراسات هو قائمة من المراحل التفكيرية تتبدى لدى المبدع بصورة نموذجية وفي كل عملياته الإبداعية بدءاً من الشعور بالحاجة الى الجهد الإبداعي وانتهاء بتحقيق الفكرة المبدعة وتطبيقها . وقد اقترح كل من ( والاس Wallas ) و ( روسمان Rossman ) خطوات تجرى في أثناء الحدث الإبداعي الكلي. وقد كانت خطوات روسمان متصلة بالمخترعين بخاصة وكانت خطوات (والاس) عن الانتاج الإبداعي عامة .
ولم يحمل إلا القلائل من العلماء والباحثين الخطوات التي اقترحها (والاس) على محمل الجد وهي الخطوات المعروفة عن : التهيؤ والتفريخ والإلهام والتحقق . وكان أحد هؤلاء العلماء القلائل عالمة النفس (باتريك Patrick) التي حاولت فيما بين عامي ۱۹۳۵ و ١٩٤١ أن تحدد – بواسطة التجريب المخبري ما اذا كانت خطوات ( والاس ) صحيحة وما اذا كانت تتم بنفس الترتيب الذي ذكره وما هو الدور الذي تلعبه كل خطوة في مجرى الحادث الإبداعي الكامل. ولقد وجدت ان هذه المراحل أساسية ولكن ترتيبها بالشكل الذي حدده ( والاس ) ليس دائم الحدوث . وقد أيدتها في ذلك بحوث متأخرة أجراها علماء آخرون .
ومن الأمور الهامة التي عني بها الباحثون فيما يخص الإبداع مسألة العمر الذي يحتمل أن يحدث فيه الإبداع أكثر من سواه، ثم مسألة كمية الإبداع وكيفيته وعلاقة ذلك بالعمر .
دراسة الإبداع منذ عام ١٩٥٠
الواقع ان الثلاثينات والأربعينات شهدت تزايداً في الاهتمام بدراسة الإبداع ، لكن عام ١٩٥٠ يعتبر نقطة تحول في هذه الدراسة. ولهذا أسباب سنحاول الاشارة الى بعضها مسرعين .
لقد كان لهذا الاهتمام أسباب كثيرة ، ذلك بأن الحرب العالمية الثانية في جملة ما استدعته - بذل جهود عظيمة للاختراع والتجديد والتحسين في ميادين الحياة المختلفة - ولا سيما ما اتصل منها بالحرب وكانت ذروة المخترعات القنبلة الذرية وما تلاها من أسلحة للدمار والتدمير هائلة . ثم ان حلول السلام الذي لم يكن سلاماً بالمعنى الصحيح للكلمة زج بالعالم في حمأة الحرب الباردة التي تطلبت جهوداً كبيرة في مجال الاختراع والإبداع، ومن هنا كان الطلب المتزايد على الأدمغة المخترعة التي لم يتوفر منها قط ما تحتاجه الأمم المشتركة في هذه الحرب الباردة .
ثم بدأ عصر الفضاء وتصاعد السباق بين العملاقين الكبيرين أميركا والاتحاد السوفييتي وكانت الصواريخ وكانت الأدمغة الالكترونية وسواها . وكان من جراء ذلك الطلب المتزايد على الأدمغة المبدعة، وبالتالي الإلحاح على علماء النفس في الكشف عن هذه الأدمغة وتحديد معنى الإبداع ومكوناته وطرائق تكوينه، ومن ثم كانت مطالبة الأم لمربيها ومدارسها بتهيئة أكبر عدد ممكن من المبدعين والمخترعين .
وللتدليل على صحة ما أشرنا اليه من تزايد الاهتمام بالإبداع والمبدعين نضرب مثلاً بكتاب ( الكس ف اوزبورن Osborn ) الذي كتب عام ١٩٥٣ كتابه المشهور عن التخيل المطبق Applied Imagination والذي ما كاد يظهر حتى تلقفه علماء النفس والمربون والمعنيون بأمور الإبداع والاختراع حتى لقد طبع طبعات عديدة في وقت قصير وترجم الى لغات عديدة ، مما دل على اهتمام عالمي بالموضوع . ثم أنشأ ( اوزبورن ) المذكور مؤسسة التربية المبدعة Creative Education Foundation و مؤسسة حل المشكلات الإبداعي Institute for Creative Problem Solving) التي عملت مدة اثنتي عشرة سنة في جامعة نيويورك الحكومية في بوفالو وتكونت ( مؤسسة التربية المبدعة ) التي تصدر مجلة بهذا الاسم حتى يومنا هذا .
إن البحوث التي بدأت منذ منتصف هذا القرن وللأسباب التي ذكرنا وسواها تشعبت و تمايزت واتبعت مسالك عدة وطرحت الأسئلة الأساسية : ماذا ؟ وكيف ؟ ولماذا ؟ ولقد بذلت جهود وما تزال - لحل بعض - المشكلات العملية بالاستناد الى هذه البحوث .
هذا ومن الطبيعي أن تكون البحوث في ميدان جديد لا تاريخ له ذات طبيعة تلمسية لا تستند الى فرضيات اختبارية. وبالفعل فإن بحوث الكثيرين من العلماء فيما بعد عام ١٩٥٢ كانت من هذا النوع وقد انطلقت من منطلقات مختلفة وتناولت ميادين وجماعات مختلفة. وكان مما توصلت اليه هذه البحوث ان الأشخاص المبدعين بصورة عالية وعلى الأقل في الجماعات التي درست - يميلون الى الاهتمام الشديد بالأمور الجمالية والنظرية كما يميلون الى أن يكونوا حدسيين وانطوائيين أما فيما يخص حالهم
الابداع : أمس واليوم وغداً
من غولتون حتى عام ١٩٥٠
بالرغم من ان العباقرة في مختلف ميادين الأعمال الانسانية كانوا دوماً موضع التمييز والتقدير فإن دراسات (غولتون Galton ) الانكليزي عن العباقرة عام ١٨٦٩ هي التي لفتت أنظار العلماء الى العباقرة . والواقع ان غولتون لم يحاول جدياً أن يفهم العمليات العقلية التي ينتج بواسطتها العباقرة أفكارهم الجديدة، ولكنه اتجه بدراسته نحو المحددات الوراثية للانجاز الإبداعي ولقد أصبحت دراسة غولتون من كلاسيكيات علم الوراثة، ولكنه ولأسباب عديدة أخفق في الوصول الى نتائج قاطعة .
إن الوصول الى فهم صحيح للأشخاص المبدعين والى العمليات التي يشتمل عليها الإبداع مسؤولية خاصة بعلماء النفس. ولكن علماء النفس الأولين كانوا يلاقون صعوبات كبيرة في فهم العمليات النفسية البسيطة من مثل الإحساس والإدراك والتذكر مما جعلهم لا يملكون لا الوقت ولا الشجاعة اللازمين لبحث مشكلة كمشكلة الإبداع. ومعلوم ان كتب علم النفس القديمة كانت تعالج موضوع الإبداع ، إذا عالجته، تحت عنوان (التخيل) أو ( التخيل المبدع ) ولم تكن تقف عنده طويلاً .
وحين سيطرت السلوكية على علم النفس - في اميركا على الأقل - استبعدت موضوع الإبداع في جملة ما استبعدته من مواضيع نفسية . وفي هذه الأثناء كان الروز النفسي - وبخاصة روز الذكاء قد در قرنه وأوجد بينه» (Binet ) الافرنسي روائز الذكاء التي أخذتها بلاد العالم وفي مقدمتها أميركا. وكانت روائز الذكاء الأولى روائز «بينه» وروائز تيرمان» تستهدف - أول ما تستهدف التنبؤ عن الانجاز المدرسي ولا سيما في المستوى الابتدائي حيث لا يعار كبير انتباه إلى الإبداع .
لكن فقدان الترابط بين نتائج روائز الذكاء وبين نتائج الاختبارات التي اعتبرت دالة على الإبداع لوحظ منذ البداية وحتى قبل أن تصبح روائز الذكاء حقيقة واقعة . لقد لاحظ هذا الأمر ( ديربورن Dearborn ) عام ۱۸۹۸ كما لاحظه ( تشاسيل Chassell ) عام ١٩١٦ و ( اندروز Andrews ) عام ۱۹۳۰ و ( وياش Welsh ) عام ١٩٤٦ . ولقد توصل ( تيرمان ) الى نتيجة تقول ان الصفات والمواهب الإبداعية تقع خارج نطاق الذكاء والذي يتصل أكثر ما يتصل بالمواهب التعليمية . ولقد تجاوز علماء اليوم ( تيرمان ) حتى توصلوا الى القول بأن الذكاء يشتمل نظرنا اليه نظرة واسعة على مكونات عدة لا يترابط بعضها على الأقل - ترابطاً كبيراً مع البعض الآخر .
اذا وفي كل الأحوال فإن النظرة التي سادت النصف الأول من قرننــا العشرين كانت تعتبر الذكاء قابلية موحدة غير قابلة للتحليل ، وقد جاء التحليل العاملي لينقض ذلك .
وأياً ما كان فقد جرت محاولات عدة لدراسة الإبداع واستعملت وسائل كثيرة للتعرف عليه وعلى العمليات التي يتكون منها، وجرى ذلك كله في النصف الأول من هذا القرن ؛ وتم الوصول الى نتائج مفيدة وان كان من غير الممكن الاعتماد عليها . ولعل أحسن ما عادت به هذه الدراسات هو قائمة من المراحل التفكيرية تتبدى لدى المبدع بصورة نموذجية وفي كل عملياته الإبداعية بدءاً من الشعور بالحاجة الى الجهد الإبداعي وانتهاء بتحقيق الفكرة المبدعة وتطبيقها . وقد اقترح كل من ( والاس Wallas ) و ( روسمان Rossman ) خطوات تجرى في أثناء الحدث الإبداعي الكلي. وقد كانت خطوات روسمان متصلة بالمخترعين بخاصة وكانت خطوات (والاس) عن الانتاج الإبداعي عامة .
ولم يحمل إلا القلائل من العلماء والباحثين الخطوات التي اقترحها (والاس) على محمل الجد وهي الخطوات المعروفة عن : التهيؤ والتفريخ والإلهام والتحقق . وكان أحد هؤلاء العلماء القلائل عالمة النفس (باتريك Patrick) التي حاولت فيما بين عامي ۱۹۳۵ و ١٩٤١ أن تحدد – بواسطة التجريب المخبري ما اذا كانت خطوات ( والاس ) صحيحة وما اذا كانت تتم بنفس الترتيب الذي ذكره وما هو الدور الذي تلعبه كل خطوة في مجرى الحادث الإبداعي الكامل. ولقد وجدت ان هذه المراحل أساسية ولكن ترتيبها بالشكل الذي حدده ( والاس ) ليس دائم الحدوث . وقد أيدتها في ذلك بحوث متأخرة أجراها علماء آخرون .
ومن الأمور الهامة التي عني بها الباحثون فيما يخص الإبداع مسألة العمر الذي يحتمل أن يحدث فيه الإبداع أكثر من سواه، ثم مسألة كمية الإبداع وكيفيته وعلاقة ذلك بالعمر .
دراسة الإبداع منذ عام ١٩٥٠
الواقع ان الثلاثينات والأربعينات شهدت تزايداً في الاهتمام بدراسة الإبداع ، لكن عام ١٩٥٠ يعتبر نقطة تحول في هذه الدراسة. ولهذا أسباب سنحاول الاشارة الى بعضها مسرعين .
لقد كان لهذا الاهتمام أسباب كثيرة ، ذلك بأن الحرب العالمية الثانية في جملة ما استدعته - بذل جهود عظيمة للاختراع والتجديد والتحسين في ميادين الحياة المختلفة - ولا سيما ما اتصل منها بالحرب وكانت ذروة المخترعات القنبلة الذرية وما تلاها من أسلحة للدمار والتدمير هائلة . ثم ان حلول السلام الذي لم يكن سلاماً بالمعنى الصحيح للكلمة زج بالعالم في حمأة الحرب الباردة التي تطلبت جهوداً كبيرة في مجال الاختراع والإبداع، ومن هنا كان الطلب المتزايد على الأدمغة المخترعة التي لم يتوفر منها قط ما تحتاجه الأمم المشتركة في هذه الحرب الباردة .
ثم بدأ عصر الفضاء وتصاعد السباق بين العملاقين الكبيرين أميركا والاتحاد السوفييتي وكانت الصواريخ وكانت الأدمغة الالكترونية وسواها . وكان من جراء ذلك الطلب المتزايد على الأدمغة المبدعة، وبالتالي الإلحاح على علماء النفس في الكشف عن هذه الأدمغة وتحديد معنى الإبداع ومكوناته وطرائق تكوينه، ومن ثم كانت مطالبة الأم لمربيها ومدارسها بتهيئة أكبر عدد ممكن من المبدعين والمخترعين .
وللتدليل على صحة ما أشرنا اليه من تزايد الاهتمام بالإبداع والمبدعين نضرب مثلاً بكتاب ( الكس ف اوزبورن Osborn ) الذي كتب عام ١٩٥٣ كتابه المشهور عن التخيل المطبق Applied Imagination والذي ما كاد يظهر حتى تلقفه علماء النفس والمربون والمعنيون بأمور الإبداع والاختراع حتى لقد طبع طبعات عديدة في وقت قصير وترجم الى لغات عديدة ، مما دل على اهتمام عالمي بالموضوع . ثم أنشأ ( اوزبورن ) المذكور مؤسسة التربية المبدعة Creative Education Foundation و مؤسسة حل المشكلات الإبداعي Institute for Creative Problem Solving) التي عملت مدة اثنتي عشرة سنة في جامعة نيويورك الحكومية في بوفالو وتكونت ( مؤسسة التربية المبدعة ) التي تصدر مجلة بهذا الاسم حتى يومنا هذا .
إن البحوث التي بدأت منذ منتصف هذا القرن وللأسباب التي ذكرنا وسواها تشعبت و تمايزت واتبعت مسالك عدة وطرحت الأسئلة الأساسية : ماذا ؟ وكيف ؟ ولماذا ؟ ولقد بذلت جهود وما تزال - لحل بعض - المشكلات العملية بالاستناد الى هذه البحوث .
هذا ومن الطبيعي أن تكون البحوث في ميدان جديد لا تاريخ له ذات طبيعة تلمسية لا تستند الى فرضيات اختبارية. وبالفعل فإن بحوث الكثيرين من العلماء فيما بعد عام ١٩٥٢ كانت من هذا النوع وقد انطلقت من منطلقات مختلفة وتناولت ميادين وجماعات مختلفة. وكان مما توصلت اليه هذه البحوث ان الأشخاص المبدعين بصورة عالية وعلى الأقل في الجماعات التي درست - يميلون الى الاهتمام الشديد بالأمور الجمالية والنظرية كما يميلون الى أن يكونوا حدسيين وانطوائيين أما فيما يخص حالهم
تعليق