الم (ف)
Pain - Douleur
الألم
الألم douleur شعور شخصي بعدم الارتياح أو بوجود أذى من شدة ما، لا يعرفه إلا من يجربه ولا يحسن وصفه إلا من يعانيه. والألم أول دلائل المرض، وهو شعور واقٍ ومحذر غايته حفظ الذات، إذ من دونه يمكن أن يطعن الإنسان أو يصاب بحرق أو بمرض خطير أو جهد قاتل من غير أن ينتبه للخطر الذي يهدده.
وقد يكون الألم تعبيراً عن أذية نفسية سببها عمل لا يرضى عنه صاحبه، أو أوضاع عائلية أو اجتماعية صعبة، أو قلق أو خوف من مرض خطير، أو تهديد لتقدير الذات، كما قد يكون العرض الأول لكآبة خفيفة أو عصاب مستتر.
وللألم مظهران، الأول إدراك محايد لمنبه قوي أحدث أذية في النسج، والثاني استجابة وجدانية وانفعالية لهذا الإدراك.
سبل الألم
تبدأ سبل الألم من مستقبلاته في الجلد والبنى العميقة والأحشاء. وهي النهايات العصبية الرقيقة المتشعبة لعصبون neuron الحس الأول الذي تقع خليته في عقدة الجذر الخلفي. وتزود ألياف هذا العصبون باحات متداخلة من الجلد مساحتها عدة مليمترات مربعة. تتجمع هذه الألياف مع الألياف الصادرة عن مستقبلات الحس الأخرى وتكوّن العصب المحيطي، وتدخل النخاع الشوكي عبر القرن الخلفي حيث تتشابك مع العصبون الحسي الثاني الذي يصعد إلى المهاد thalamus بعد اشتباكات كثيرة مع تشكلات المضيق الشبكية. وينشأ من المهاد العصبون الحسي الثالث الذي ينتهي في مقدم الفص الجداري من قشر المخ.
فيزيولوجية الألم
تثير المنبهات المختلفة في أخفض درجاتها إحساساً باللمس أو الضغط أو الدفء أو الدغدغة، ولكنها إذا اشتدت وقاربت إيذاء النسج أحدثت ألماً. فالفرق بين عتبة حس الدفء وعتبة ألم الحرق أكثر من ألفي ضعف. وتختلف منبهات الألم بحسب النسج، فهي في الجلد: الوخز والقطع والهرس والحرق، وفي الأحشاء: التخريش والالتهاب والاحتقان والتشنج، وفي المفاصل: الالتهاب، وفي الشرايين: التوسع وشدة النبضان، أما في عضلة القلب: فالإقفار ischemia وحده المسؤول عن ألم الذبحة والاحتشاء.
يثار حس الألم بأذية النسج، التي تحرر مواد كيمياوية موجودة فيها أصلاً هي الهستامين والبراديكينين والبرستغلاندينات وأيونات البوتاسيوم، فتخرش مستقبلات الألم في منطقة الأذية وتزيل استقطاب الألياف العصبية المرتبطة بها وتحول الإحساس إلى نبضات وإشارات عصبية تنتقل إلى مراكز الألم في الجملة العصبية المركزية بوساطة النواقل العصبية عبر المشابك synapses العصبية.
كما يمكن أن يثار الألم أيضاً بتخريش الألياف العصبية أو ضغطها أو إقفارها حين مرورها في الأعصاب أو الجذور أو حين مرورها في الجميعات pools العصبية المركزية.
النواقل العصبية وتعديل الألم
يعتقد أن نقل الألم في القرن الخلفي يتم بتحرير المادة «ب» p (وهي ببتيد يحوي 11 حمضاً أمينياً) التي تفرزها خلايا عقد الجذر الخلفي في مواقع الاشتباكات الأولية للقرن الخلفي مع العصبون الحسي الثاني الواصل بين القرن الخلفي والمهاد (السبيل النخاعي المهادي). وتعمل الأنكفالينات enkephalins (وهي أشباه أفيونات داخلية المنشأ) مركزياً نواقلَ عصبية أيضاً في نقل الألم وتعديله، فهي موجودة في عصبونات القرن الخلفي ومضيق الدماغ حيث تنتهي عصبونات المادة «ب» في خلايا تحوي الأنكفالين. وقد تبين أن الأنكفالين (وربما الأندورفين endorphin بيتا أيضاً) يثبط تحرر المادة «ب» ويعمل في مستوى الحبل الشوكي ومضيق الدماغ على حصر نقل الألم.
كما تعدل العصبونات الكبيرة النازلة من الدماغ ومن التشكلات الشبكية إلى القرن الخلفي نقل الألم في مستوى القرن الخلفي. وتحوي هذه العصبونات إلى جانب الأنكفالين السيروتونين والدوبامين ونواقل عصبية مثبطة أخرى كالغاما أمينوبوتريك أسيد GABA والغليسين.
يحمل كل ليف من ألياف الحس رسالة شخصية من باحة معينة من الجسم، ويبدأ إدراك الألم عندما تصل هذه الرسالة إلى التشكلات الشبكية في مضيق الدماغ، ويتم الشعور بالألم بوصول الرسالة إلى منطقة استقبال الحس الرئيسية في المهاد حيث يتم تعرف مصدر الألم، ثم تحول الرسالة إلى الجزء المناسب من قشر المخ حيث تعالج وتقارن تلقائياً مع مخزون ذكريات الإحساسات السابقة، وترسم لها الاستجابات الحركية والوجدانية والانفعالية المكتسبة المناسبة لها. وبذا تكون رسالة الألم قد حققت غايتها.
التفاعلات التي يحدثها الألم
يحدد الألم الجلدي السطحي مكان الأذية. أما الآلام العميقة والحشوية فقد تكون «آلاماً رجعية» لمناطق أخرى. فقد يشعر المرء بألم التهاب الزائدة الدودية في منطقة السرة، وبألم التهاب المرارة في الظهر، وبألم الذبحة في أعلى القص أو العضد. ويشعر غالباً بألم التهابات الأعصاب وانضغاطات الجذور والآلام المحرقة في نهايات الأطراف.
يحدث الألم ردود فعل حركية ونفسية انعكاسية، موضعية وعامة. أولها الإجفال والصراخ وحركات التفادي الدفاعية التي تقصد إبعاد العامل المؤلم أو الابتعاد عن الأذية أو منع لمس الناحية المؤلمة. ويترافق الألم المستمر عادة بتقلص عضلي انعكاسي موضعي، كتقفع contracture جدار البطن في ألم الأحشاء وتخرش الصفاق، وتصلب النقرة في التهاب السحايا. وغاية هذه المنعكسات القطعية تثبيت الجزء المريض وتخفيف الألم وتسهيل الالتئام.
الاستجابات الوجدانية والانفعالية والسلوكية للألم
تكاد تكون عتبة إدراك الألم واحدة في جميع الناس، ولكن ردود فعلهم على منبه معين تختلف باختلاف تكوينهم الخلقي والنفسي والديني والثقافي، كما تختلف أيضاً باختلاف شروط حدوث هذا التنبيه. فالرواقي الرزين يستخف بالألم بتأثير القلق والانشغال. والجنود إبان المعركة والرياضيون في أثناء المباراة قد لا يحسون بالرضوض والأذيات الخطرة إلا بعد انتهاء مهماتهم. كما أن تغير وجهة انتباه الشخص بإلهائه ببعض المنبهات السمعية أو البصرية، أو بالإيحاء والتنويم، يخفف الألم أو يزيله، فيمكن إجراء بعض الجراحات من دون تخدير وجعل المخاض من دون ألم. ويكون الشعور بالألم أكثر حدة عندما يكون الشخص قلقاً أو مكتئباً أو دائم الانشغال بحالته الصحية.
وقد أصبح تفسير اختلاف التفاعلات الوجدانية والانفعالية والسلوكية حيال الألم معقولاً بعد أن اكتشف حديثاً المورفينات الداخلية المنشأ (الأندورفينات والأنكفالينات) ومستقبلاتها وأثرها في لجم الألم.
الأندورفينات ببتيدات يشبه تركيبها المورفين، لها مستقبلات في الجملة العصبية المركزية وفي نواح أخرى مختلفة من البدن. وتكثر هذه المستقبلات خاصة في المادة السنجابية حول القناة وفي المهاد وفي الفصين الجبهي والصدغي وفي النواة اللوزانية والمذنبة، وهي الأماكن التي تتدخل في مظاهر الألم الوجدانية والانفعالية.
تفرز النخامى الغدية، مع الحاثة المنشطة للكظر الأندورفين بيتا وبالنسبة نفسها تقريباً، في كل الأحوال الحادة والمزمنة للكروب والشدائد. فالحاثة المنشطة للكظر توفر الاستجابة الاستقلابية البدنية التي يحدثها الكرب مهيئة الشخص لمواجهة الشدة وتهيئ الأندورفينات استجابة الجملة العصبية للمنبهات المؤلمة وتحدد الانفعال حيالها. وهذا يفسر قلة الاستجابة للمنبه الألمي في أوقات الشدة الحادة كالخوف والغضب والانفعال الشديد.
تدبير الألم
يمكن التحكم في الألم في مختلف مستويات السبل الناقلة له:
ففي مستوى مستقبلات الألم يكون تأثير الساليسيلات وغيرها من مضادات الالتهاب المسكنة، كالأندمثاسين والفنيل بوتازون والكرتزون وغيرها، بتثبيطها تحرر البرستغلاندينات من النسج المتأذية. كما تزيل المبنجات الموضعية كالليدوكائين والسكروكائين الألم بحصرها النهايات العصبية الناقلة مؤقتاً في هذا المستوى.
ويمكن إيقاف الألم في جذع عصبي بتشريبه مبنجاً موضعياً، أو بحقن البنج الموضعي داخل القراب intrathecal أو في المسافة تحت العنكبوتية كما في التخدير القطني. كما يمكن حصر الألم في مستوى القرن الخلفي بتنبيه الألياف النخاعينية الغليظة فتثبط النقل في الألياف الرقيقة الناقلة للألم. ويتم ذلك بالوخز بالإبر أو بالاهتزاز (على الطريقة الصينية) أو بالتنبيه الكهربائي عبر الجلد. وتحقق هذه الطريقة نظرية «التحكم في بوابة الألم» التي تتدخل فيها أيضاً الأنكفالينات على مستوى القرن الخلفي.
يمكن رفع عتبة الألم بإعطاء الأدوية المسكنة والمهدِّئة التي تعمل مركزياً كالمركبات الأفيونية وأمثالها. ويدخل في آلية هذه الاستجابة المركزية فعل الأدوية الغفل (البلاسيبو placebo). فقد تبين أن زهاء 35% من المرضى الذين يعانون مشكلات أليمة مختلفة تخف آلامهم بإعطائهم أدوية غفلاً لا تأثير لها، وذلك عن طريق تحريرها المورفينات الداخلية بالإيحاء والإقناع.
وفي حالات الآلام المبرحة يمكن التأثير مباشرة في مراكز الألم في المهاد عن طريق جراحة التصويب المجسم، أو بقطع الألياف البيض الواصلة بين المهاد والقشر الحسي. فبعد هذه العملية يبقى الإحساس بالألم ولكنه يصبح غير مزعج للمريض، لأن قطع هذه الألياف يزيل طريق التداعي فلا يبقى للخبرات الألمية المخزونة المتعلّمة أثر في تفسير الألم أو في التفاعل حياله.
فيصل صباغ