فرانكو (فرنسيسكو -)
(1892-1975)
فرنسيسكو فرانكو بهاموندِه Francisco Franco Bahamonde المعروف باسم «القائد» Caudillo، جنرال وقائد عسكري إسباني استولى على السلطة في الحرب الأهلية الإسبانية (1936-1939)، وحكم إسبانيا حكماً مطلقاً حتى وفاته. اختلفت الآراء في تقدير دوره التاريخي بين من يرى أنه أفضل رجل دولة حكم إسبانيا في العصر الحديث وأنقذها من حرب أهلية طاحنة وقادها نحو الازدهار، ومن يصوره حاكماً مستبداً، عدواً للديمقراطية ونصيراً للفاشية الممثلة بهتلر وموسوليني.
ولد الجنرال فرانكو في مدينة إلفيرول El Feroll الساحلية، من مقاطعة غاليسيا (شمال غربي إسبانيا). وهو الابن الثاني لأب غريب الأطوار ومتلاف ـ كان ضابطاً في الإدارة البحرية ـ وأم تقية تنتمي إلى أسرة كاثوليكية محافظة متوسطة الحال. رغب فرانكو، الذي نشأ مجداً ومنضبطاً بتأثير من والدته، في أن يكون بحاراً كآبائه وأخيه الأكبر، غير أن تقليص أعداد المنتسبين إلى الكلية البحرية اضطره عام 1907 إلى الالتحاق بالجيش والانتساب إلى كلية المشاة في طليطلة (توليدو)، وتخرج فيها عام 1910 برتبة ملازم، ثم تطوع عام 1912 بالخدمة الفعلية في الحملات الاستعمارية الإسبانية في مراكش - والتي بدأت عام 1909 - فالتحق بفوج الخيَّالة الوطنية المراكشية ورُقِّي في عام 1913 إلى رتبة ملازم أول.
برهن فرانكو على مقدرة في القيادة لفتت إليه الأنظار، وعرف بنزاهته المفرطة وانطوائه وقلة أصدقائه، وبعده عن كل أنواع اللهو العابث. وفي عام 1915 أصبح فرانكو أصغر ضابط في الجيش الإسباني برتبة نقيب، وأصيب في السنة التالية بجرح خطير في بطنه تسبَّب في إعادته إلى إسبانيا للاستشفاء. وعين في عام 1920 القائد الثاني للفرقة الأجنبية الإسبانية Tercio de Extranjeros التي أعيد تنظيمها [ر: الفرقة الأجنبية]، ثم تولى قيادتها عام 1923. وتزوج كارمن بولو Carmen Polo التي أنجبت له بنتاً.
كان للفرقة الأجنبية بقيادة فرانكو دور حاسم في إخماد ثورة المغاربة [ر. ثورة الريف] بلا هوادة، جعلت من فرانكو بطلاً قومياً، فرقِّي في عام 1926 إلى رتبة عميد، وعين في عام 1928 مديراً للأكاديمية الحربية العامة في سرقوسة Zaragoza.
بعد سقوط الملكيّة في إسبانيا سنة 1931 قرر قادة الجمهورية الإسبانية إصلاح القوات المسلحة، فوُضع فرانكو بتصرف الحكومة مؤقتاً بعد حل الأكاديمية الحربية. ومع أنه كان ملكيّاً مخلصاً فقد تقبل النظام الجديد ومقرراته بكل انضباط. ولما سيطر المحافظون على الحكومة سنة 1933 أُعيد فرانكو إلى القيادة الفعلية ورقِّي عام 1934 إلى رتبة لواء واستدعي في ذلك العام لإخماد ثورة عمال المناجم في أستوريا، ونال لنجاحه في هذه المهمة مكانة أهّلته لتسنّم منصب رئيس الأركان العامة للجيش الإسباني (1935)، فشرع في إدخال إصلاحات في القوات المسلحة وتعزيز مكانة المعاهد العسكرية مع الإبقاء على كثير من الإجراءات التي تمت في المدة السابقة.
نتيجة الفضائح التي أضعفت مكانة الحزب الراديكالي في الائتلاف الحاكم حُلَّ البرلمان، وأُجريت انتخابات جديدة في شباط/فبراير 1936. ونجم عن ذلك انقسام الأحزاب السياسية إلى فئتين: الكتلة القومية اليمينية، والجبهة الشعبية اليسارية. وفاز اليساريون في الانتخابات بأقلية ضئيلة، لكن الحكومة الجديدة عجزت عن كبح التدهور الاجتماعي والاقتصادي الذي بدأ يعصف بإسبانيا. ومع أن فرانكو لم يكن عضواً في أي حزب سياسي فقد حفزته الفوضى التي عمَّت البلاد إلى التقدم بطلب لإعلان حالة الطوارئ، لكن طلبه رُفض، ونُحي عن رئاسة الأركان، وعُين في قيادة نائية في جزر الكناري، حيث بقي مدة متمنّعاً عن الإسهام في أي عمل سياسي كي لا يوسم بالتآمر على الحكومة. غير أن انفراط عقد النظام السياسي دفعه إلى الانضمام إلى المتمردين عليها.
تمرد فرانكو عسكرياً
في فجر 18 تموز/يوليو 1936 أعلن فرانكو تمرده عسكرياً في جزر الكناري، وفي الوقت نفسه بدأت الثورة في البر الرئيسي، وطار فرانكو إلى تطوان في المغرب حيث سيطر على الجيش الإسباني هناك، ولما رفضت البحرية الإسبانية، التي بقيت على ولائها للحكومة، نقل قواته إلى البر الرئيسي عبر مضيق جبل طارق، سعى فرانكو إلى الحصول على معونة ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية، وزوَّده كل من هتلر وموسوليني بجسر جوي لإنزال قواته على البر الرئيسي، وتقدم باتجاه مدريد التي كانت ما تزال بيد الحكومة، وقرر زعماء الثوار، بعد مقتل قائد الثورة الجنرال خوسيه سان هورهو José Sanjurjo في حادث تحطم طائرته، انتخاب فرانكو قائداً عاماًgeneralissimo ورئيساً للحكومة القومية في مواجهة الجمهوريين لمؤهلاته العسكرية وسمعته وبعده عن النزاعات الحزبية والمؤامرات، إضافة إلى كونه مؤهلاً للحصول على مساعدات من ألمانيا الهتلرية وإيطاليا الفاشية بزعامة موسوليني. غير أن الحكومة الثورية لم تستطع السيطرة على البلاد سيطرة تامة إلا بعد مضي سنوات ثلاث من الحرب الأهلية الدامية، وتمكَّن فرانكو من فرض حكم دكتاتوري عسكري بمساندة الطبقات المتوسطة المناهضة للقوى اليسارية.
برهن فرانكو في أثناء الحرب الأهلية على مقدرته القيادية وبعده عن التسرع والعشوائية، ولم يخفق إلا في حالات قليلة، ومع أن تقدم قواته كان وئيداً فقد كان مطّرداً، إلا أن استراتيجيته خلت من البراعة، ولاشك أن التفوق العسكري الكبير الذي كان لجيشه، والدعم الألماني والإيطالي من دون انقطاع، مكَّن فرانكو من تحقيق نصره المؤزّر في نيسان/إبريل 1939. لقد كانت الحرب الأهلية دموية بلا جدال، مارس فيها الطرفان وحشية متناهية، ونفذ إبانها وبعدها النظام القومي الجديد إعدامات جماعية طالت عشرات الآلاف حتى صارت وصمة في نظام فرانكو.
ديكتاتورية فرانكو
كان فرانكو يحلم بإعادة أمجاد إسبانيا وعظمتها، غير أنه كان في حقيقة الأمر رئيس بلد أنهكته الحرب واستنزفت قواه وثرواته. وزاد في الصعوبات التي واجهها نظامه الجديد اندلاع نيران الحرب العالمية الثانية بعد خمسة أشهر فقط. ومع أنه كان متعاطفاً مع دول المحور (النظام الجديد) فقد أعلن حياد إسبانيا، لكنه ما لبث أن بدَّل سياسته بعد سقوط فرنسا (حزيران/يونيو 1940) فازداد تقرباً من هتلر، وعزم على دخول الحرب إلى جانب ألمانيا طمعاً في الحصول على مساعدات عسكرية واقتصادية كبيرة، ومنح إسبانيا معظم الممتلكات الفرنسية في شمال غربي إفريقيا، لكن هتلر لم يكن يرغب في دفع ذلك الثمن، ولمَّح إلى أنه لن يخوض في صفقة من هذا القبيل حين التقى فرانكو في تشرين الأول/أكتوبر 1940. وظلت حكومة فرانكو منذ ذلك الوقت حتى النهاية متعاطفة مع دول المحور من دون أن تتورط في أي ارتباط دبلوماسي أو عسكري مباشر معها، ثم عادت متأخرة في عام 1943 إلى ممارسة الحياد التام، ووصفت دبلوماسية فرانكو في أثناء الحرب بالواقعية والتوقيت السليم، فقد حالت دون سقوط النظام على يد دول المحور.
بدأت أصعب فترات حكم فرانكو بعيد انتهاء الحرب العالمية الثانية، حين نُبذت حكومته من هيئة الأمم المتحدة، ووُسم من قبل الرأي العام العالمي بأنه آخر دكتاتور فاشي، غير أن أيام العزلة انتهت حين تأزَّمت الأمور بين الغرب والشرق في ذروة الحرب الباردة، وصار في وسع فرانكو أن يبرهن على أنه أشد قادة العالم مناوأة للشيوعية، فتحسنت علاقاته مع الدول الغربية بدءاً من عام 1948. وزاد انغماسه في الشؤون الدولية في عام 1953 حين وقَّعت إسبانيا معاهدة مدريد للحصول على المساعدات العسكرية من الولايات المتحدة الأمريكية، ثم أصبحت عضواً في منظمة الأمم المتحدة عام 1955.
صارت سياسة حكومة فرانكو الداخلية أكثر تحرراً في العقدين السادس والسابع من القرن العشرين، وتحسنت أمورها الاقتصادية، مما أكسبه قدراً من الاحترام، وخفَّف كثيراً من أعباء حكومته. وكان حكمه مطلقاً، مع القدرة على سبر أغوار الخصوم وامتصاص نقمتهم، والـمراوحة بين الاعتدال والرجعية المطلقة التي كانت السند الأساسي لنظامه، وقد حافظ ببراعة على التوازن الدقيق بينهما، تاركاً تنفيذ سياسته لمن يختارهم ويُعيِّنهم، جاعلاً نفسه حكماً فوق أي نزاع سياسي. وكان وزر الإخفاق ينصب دائماً على رؤوس الوزراء المسؤولين دونه، وكان حزب الكتائب Falange Espanola Tradicionalista de las JONS، وهو حزب الدولة، قد تضاءل دوره منذ الأربعينات حتى صار يعرف باسم «الحركة».
فكر فرانكو في طريقة يحافظ بها على حكومته بعد وفاته عن طريق استفتاء رسمي أجراه عام 1947، جعل إسبانيا دولة ملكية، ومنح فرانكو سلطة الوصاية مدى الحياة. وفي عام 1967 أجرى انتخابات مباشرة للبرلمان، وفي عام 1969 عَيّن الأمير خوان كارلوس Joan Carlos de Borbón ت (32 سنة)، حفيد الملك السابق ألفونسو الثامن، خليفة له بعد وفاته. وفي عام 1973 استقال من رئاسة الحكومة واكتفى بمنصبه رئيساً للدولة وقائداً أعلى للقوات المسلحة ورئيساً للحركة.
لم يكن فرانكو قط زعيماً محبوباً، ونادراً ما كان يحاول الحصول على تأييد الجماهير، بيد أنه سمح بعد عام 1947 بوجود معارضة صغيرة منظمة، ومنح بعض الحرية لحكومته وعمل على تراخي قبضة بعض أجهزة الأمن والشرطة، إلى جانب النمو الاقتصادي في الستينات فتبدلت صورة فرانكو قليلاً، وتحول من قائد عسكري متزمت صارم إلى زعيم مدني ورجل دولة.
تراجعت صحة فرانكو كثيراً في أواخر الستينات، وبعد وفاته عام 1975 تسلم خوان كارلوس عرش إسبانيا، فبادر إلى حل المؤسسات الدكتاتورية لنظام فرانكو وشجع إحياء الأحزاب السياسية، وحظيت إسبانيا برخاء اقتصادي فتحولت إلى بلد ديمقراطي ملكي دستوري.
محمد وليد الجلاد
(1892-1975)
ولد الجنرال فرانكو في مدينة إلفيرول El Feroll الساحلية، من مقاطعة غاليسيا (شمال غربي إسبانيا). وهو الابن الثاني لأب غريب الأطوار ومتلاف ـ كان ضابطاً في الإدارة البحرية ـ وأم تقية تنتمي إلى أسرة كاثوليكية محافظة متوسطة الحال. رغب فرانكو، الذي نشأ مجداً ومنضبطاً بتأثير من والدته، في أن يكون بحاراً كآبائه وأخيه الأكبر، غير أن تقليص أعداد المنتسبين إلى الكلية البحرية اضطره عام 1907 إلى الالتحاق بالجيش والانتساب إلى كلية المشاة في طليطلة (توليدو)، وتخرج فيها عام 1910 برتبة ملازم، ثم تطوع عام 1912 بالخدمة الفعلية في الحملات الاستعمارية الإسبانية في مراكش - والتي بدأت عام 1909 - فالتحق بفوج الخيَّالة الوطنية المراكشية ورُقِّي في عام 1913 إلى رتبة ملازم أول.
برهن فرانكو على مقدرة في القيادة لفتت إليه الأنظار، وعرف بنزاهته المفرطة وانطوائه وقلة أصدقائه، وبعده عن كل أنواع اللهو العابث. وفي عام 1915 أصبح فرانكو أصغر ضابط في الجيش الإسباني برتبة نقيب، وأصيب في السنة التالية بجرح خطير في بطنه تسبَّب في إعادته إلى إسبانيا للاستشفاء. وعين في عام 1920 القائد الثاني للفرقة الأجنبية الإسبانية Tercio de Extranjeros التي أعيد تنظيمها [ر: الفرقة الأجنبية]، ثم تولى قيادتها عام 1923. وتزوج كارمن بولو Carmen Polo التي أنجبت له بنتاً.
كان للفرقة الأجنبية بقيادة فرانكو دور حاسم في إخماد ثورة المغاربة [ر. ثورة الريف] بلا هوادة، جعلت من فرانكو بطلاً قومياً، فرقِّي في عام 1926 إلى رتبة عميد، وعين في عام 1928 مديراً للأكاديمية الحربية العامة في سرقوسة Zaragoza.
بعد سقوط الملكيّة في إسبانيا سنة 1931 قرر قادة الجمهورية الإسبانية إصلاح القوات المسلحة، فوُضع فرانكو بتصرف الحكومة مؤقتاً بعد حل الأكاديمية الحربية. ومع أنه كان ملكيّاً مخلصاً فقد تقبل النظام الجديد ومقرراته بكل انضباط. ولما سيطر المحافظون على الحكومة سنة 1933 أُعيد فرانكو إلى القيادة الفعلية ورقِّي عام 1934 إلى رتبة لواء واستدعي في ذلك العام لإخماد ثورة عمال المناجم في أستوريا، ونال لنجاحه في هذه المهمة مكانة أهّلته لتسنّم منصب رئيس الأركان العامة للجيش الإسباني (1935)، فشرع في إدخال إصلاحات في القوات المسلحة وتعزيز مكانة المعاهد العسكرية مع الإبقاء على كثير من الإجراءات التي تمت في المدة السابقة.
نتيجة الفضائح التي أضعفت مكانة الحزب الراديكالي في الائتلاف الحاكم حُلَّ البرلمان، وأُجريت انتخابات جديدة في شباط/فبراير 1936. ونجم عن ذلك انقسام الأحزاب السياسية إلى فئتين: الكتلة القومية اليمينية، والجبهة الشعبية اليسارية. وفاز اليساريون في الانتخابات بأقلية ضئيلة، لكن الحكومة الجديدة عجزت عن كبح التدهور الاجتماعي والاقتصادي الذي بدأ يعصف بإسبانيا. ومع أن فرانكو لم يكن عضواً في أي حزب سياسي فقد حفزته الفوضى التي عمَّت البلاد إلى التقدم بطلب لإعلان حالة الطوارئ، لكن طلبه رُفض، ونُحي عن رئاسة الأركان، وعُين في قيادة نائية في جزر الكناري، حيث بقي مدة متمنّعاً عن الإسهام في أي عمل سياسي كي لا يوسم بالتآمر على الحكومة. غير أن انفراط عقد النظام السياسي دفعه إلى الانضمام إلى المتمردين عليها.
تمرد فرانكو عسكرياً
في فجر 18 تموز/يوليو 1936 أعلن فرانكو تمرده عسكرياً في جزر الكناري، وفي الوقت نفسه بدأت الثورة في البر الرئيسي، وطار فرانكو إلى تطوان في المغرب حيث سيطر على الجيش الإسباني هناك، ولما رفضت البحرية الإسبانية، التي بقيت على ولائها للحكومة، نقل قواته إلى البر الرئيسي عبر مضيق جبل طارق، سعى فرانكو إلى الحصول على معونة ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية، وزوَّده كل من هتلر وموسوليني بجسر جوي لإنزال قواته على البر الرئيسي، وتقدم باتجاه مدريد التي كانت ما تزال بيد الحكومة، وقرر زعماء الثوار، بعد مقتل قائد الثورة الجنرال خوسيه سان هورهو José Sanjurjo في حادث تحطم طائرته، انتخاب فرانكو قائداً عاماًgeneralissimo ورئيساً للحكومة القومية في مواجهة الجمهوريين لمؤهلاته العسكرية وسمعته وبعده عن النزاعات الحزبية والمؤامرات، إضافة إلى كونه مؤهلاً للحصول على مساعدات من ألمانيا الهتلرية وإيطاليا الفاشية بزعامة موسوليني. غير أن الحكومة الثورية لم تستطع السيطرة على البلاد سيطرة تامة إلا بعد مضي سنوات ثلاث من الحرب الأهلية الدامية، وتمكَّن فرانكو من فرض حكم دكتاتوري عسكري بمساندة الطبقات المتوسطة المناهضة للقوى اليسارية.
برهن فرانكو في أثناء الحرب الأهلية على مقدرته القيادية وبعده عن التسرع والعشوائية، ولم يخفق إلا في حالات قليلة، ومع أن تقدم قواته كان وئيداً فقد كان مطّرداً، إلا أن استراتيجيته خلت من البراعة، ولاشك أن التفوق العسكري الكبير الذي كان لجيشه، والدعم الألماني والإيطالي من دون انقطاع، مكَّن فرانكو من تحقيق نصره المؤزّر في نيسان/إبريل 1939. لقد كانت الحرب الأهلية دموية بلا جدال، مارس فيها الطرفان وحشية متناهية، ونفذ إبانها وبعدها النظام القومي الجديد إعدامات جماعية طالت عشرات الآلاف حتى صارت وصمة في نظام فرانكو.
ديكتاتورية فرانكو
كان فرانكو يحلم بإعادة أمجاد إسبانيا وعظمتها، غير أنه كان في حقيقة الأمر رئيس بلد أنهكته الحرب واستنزفت قواه وثرواته. وزاد في الصعوبات التي واجهها نظامه الجديد اندلاع نيران الحرب العالمية الثانية بعد خمسة أشهر فقط. ومع أنه كان متعاطفاً مع دول المحور (النظام الجديد) فقد أعلن حياد إسبانيا، لكنه ما لبث أن بدَّل سياسته بعد سقوط فرنسا (حزيران/يونيو 1940) فازداد تقرباً من هتلر، وعزم على دخول الحرب إلى جانب ألمانيا طمعاً في الحصول على مساعدات عسكرية واقتصادية كبيرة، ومنح إسبانيا معظم الممتلكات الفرنسية في شمال غربي إفريقيا، لكن هتلر لم يكن يرغب في دفع ذلك الثمن، ولمَّح إلى أنه لن يخوض في صفقة من هذا القبيل حين التقى فرانكو في تشرين الأول/أكتوبر 1940. وظلت حكومة فرانكو منذ ذلك الوقت حتى النهاية متعاطفة مع دول المحور من دون أن تتورط في أي ارتباط دبلوماسي أو عسكري مباشر معها، ثم عادت متأخرة في عام 1943 إلى ممارسة الحياد التام، ووصفت دبلوماسية فرانكو في أثناء الحرب بالواقعية والتوقيت السليم، فقد حالت دون سقوط النظام على يد دول المحور.
بدأت أصعب فترات حكم فرانكو بعيد انتهاء الحرب العالمية الثانية، حين نُبذت حكومته من هيئة الأمم المتحدة، ووُسم من قبل الرأي العام العالمي بأنه آخر دكتاتور فاشي، غير أن أيام العزلة انتهت حين تأزَّمت الأمور بين الغرب والشرق في ذروة الحرب الباردة، وصار في وسع فرانكو أن يبرهن على أنه أشد قادة العالم مناوأة للشيوعية، فتحسنت علاقاته مع الدول الغربية بدءاً من عام 1948. وزاد انغماسه في الشؤون الدولية في عام 1953 حين وقَّعت إسبانيا معاهدة مدريد للحصول على المساعدات العسكرية من الولايات المتحدة الأمريكية، ثم أصبحت عضواً في منظمة الأمم المتحدة عام 1955.
صارت سياسة حكومة فرانكو الداخلية أكثر تحرراً في العقدين السادس والسابع من القرن العشرين، وتحسنت أمورها الاقتصادية، مما أكسبه قدراً من الاحترام، وخفَّف كثيراً من أعباء حكومته. وكان حكمه مطلقاً، مع القدرة على سبر أغوار الخصوم وامتصاص نقمتهم، والـمراوحة بين الاعتدال والرجعية المطلقة التي كانت السند الأساسي لنظامه، وقد حافظ ببراعة على التوازن الدقيق بينهما، تاركاً تنفيذ سياسته لمن يختارهم ويُعيِّنهم، جاعلاً نفسه حكماً فوق أي نزاع سياسي. وكان وزر الإخفاق ينصب دائماً على رؤوس الوزراء المسؤولين دونه، وكان حزب الكتائب Falange Espanola Tradicionalista de las JONS، وهو حزب الدولة، قد تضاءل دوره منذ الأربعينات حتى صار يعرف باسم «الحركة».
فكر فرانكو في طريقة يحافظ بها على حكومته بعد وفاته عن طريق استفتاء رسمي أجراه عام 1947، جعل إسبانيا دولة ملكية، ومنح فرانكو سلطة الوصاية مدى الحياة. وفي عام 1967 أجرى انتخابات مباشرة للبرلمان، وفي عام 1969 عَيّن الأمير خوان كارلوس Joan Carlos de Borbón ت (32 سنة)، حفيد الملك السابق ألفونسو الثامن، خليفة له بعد وفاته. وفي عام 1973 استقال من رئاسة الحكومة واكتفى بمنصبه رئيساً للدولة وقائداً أعلى للقوات المسلحة ورئيساً للحركة.
لم يكن فرانكو قط زعيماً محبوباً، ونادراً ما كان يحاول الحصول على تأييد الجماهير، بيد أنه سمح بعد عام 1947 بوجود معارضة صغيرة منظمة، ومنح بعض الحرية لحكومته وعمل على تراخي قبضة بعض أجهزة الأمن والشرطة، إلى جانب النمو الاقتصادي في الستينات فتبدلت صورة فرانكو قليلاً، وتحول من قائد عسكري متزمت صارم إلى زعيم مدني ورجل دولة.
تراجعت صحة فرانكو كثيراً في أواخر الستينات، وبعد وفاته عام 1975 تسلم خوان كارلوس عرش إسبانيا، فبادر إلى حل المؤسسات الدكتاتورية لنظام فرانكو وشجع إحياء الأحزاب السياسية، وحظيت إسبانيا برخاء اقتصادي فتحولت إلى بلد ديمقراطي ملكي دستوري.
محمد وليد الجلاد