ڤِرهيرن (إيميل -)
(1855-1916)
إيميل ڤِرهيرن Émile Verhaeren شاعر بلجيكي، ولد في سان - أمان Saint-Amand لأب متقاعـد كان يعمل في الأجـواخ في بروكسل وأم مرهفة متفانية، وعاش هناك حتى الثانية عشرة من عمره في كنف الطبيعة. أمضى عامين في معـهد سان لويس في بروكسل، ثم دخـل وهو في الـرابعة عشرة من عمره ثانويـة سانت - بارب دي غان Sainte-Barbe de Gand، وعاصر تفتح براعم إبداع الشعراء الفلمنكيين الذين كتبوا بالفرنسية، وبعد حصوله على الشهادة الثانوية انتسب إلى جامعة لوڤان Louvain. قصد بروكسل عام 1881 ليعمل محامياً متمرناً، وتزوج مارت ماسّان Marthe Massin عام 1891. اكتشف الشاعر إدمون بيكار Edmond Picardموهبته الشعرية وكان له الفضل في توجيهه، فانصرف ڤِرهيرن إلى كتابة الشعر كلياً، وكان غزير الإنتاج متدفق العبارة. فمنذ عام 1883، تاريخ صدور ديوانه الشعري الأول «الفلمنكيات» Les Flamandes حتى وفاته نشر ثلاثين ديواناً. ولقي شعره حظوة كبيرة في وطنه وانتخب عضواً في المجمع اللغوي، وألقى العديد من المحاضرات في ألمانيا وسويسرا وروسيا. وقد لقي حتفه في حادث مأساوي في مدينة روان Rouen الفرنسية.
أنبأ ديوان ڤِرهيرن «الفلمنكيات» بولادة تابع جديد للمذهب الطبيعي naturalisme، لكنه وقَع وقْع الصاعقة في الأوساط الأدبية وكان صدمة لها. ولم يجد الشاعر الشاب من يرد عنه أذى العاصفة الهوجاء التي أثارها شعره سوى ثلاثة هم إدمون بيكار وألبير جيرو Albert Giraud وكاميل لومونييه Camille Lemonnier الذي انبرى للدفاع عنه في كتاب نشره خصيصاً لهذا الغرض بعنوان « ذَكَر» Un mâle. ثم ما لبث أن ظهر ديوان جديد بعنوان «الرهبان»Les Moines عام (1886)، شكَّل انتقالاً من الإدراك القوي للأشياء إلى الصوفية التامة. ولعل هذا الانتقال ناجم عن العلاقة العميقة بين مزاجيات الشاعر الأكثر خصوصية والخصائص الطبيعية لمنطقة الفلاندر في بلجيكا. وتنجلي أسباب هذه التحولات الجذرية في أجواء قصائد ڤِرهيرن إذا ما عُلم أنه غالباً ما كان يتردد في طفولته إلى دير للرهبان، وأنه عندما عزم على كتابة «الرهبان» عاش مدة ثلاثة أسابيع في أحد الأديرة. وبعد ذلك اعتزل الشاعر العالم من حوله ونشر «الثلاثية السوداء» La Trilogie noire، وهي كناية عن ثلاثة كتب هي الأكثر قتامة وسوداوية من بين كل مؤلفاته، وهي على التوالي «المساءات» Les Soirs عـام (1887) و«التحولات» Les Débâcles عـام (1888) و«المشاعل السوداء» Les Flambeaux noirs عام (1890). يهيمن شبح الموت على دواوينه، ويبدو أن معاناته النفسية نبعت من شعور حقيقي وعميق باليأس وخلقت منه شاعراً واضح الرؤية.
تأثر الشاعر بالظروف التاريخية التي عاصرها. وعلى الرغم من أنه عاش في فترة ضعفت فيها جذوة الثورة عما كانت عليه في نهاية القرن الثامن عشر، إلاّ أنها كانت فترة اتسمت بقدر كبير من الأهمية من الناحية التاريخية. فقد حلت فكرة الجماهير آنذاك محل فكرة الفرد، ورأى بأم عينيه موت الريف وحلول المدن محله، فتقبل التبدلات الحاصلة، بل أحب العالم بصورته الجديدة إلى حد أنه اكتشف فيه مواطن جمال حقيقي لم يتمالك من الشعور بالرهبة والريبة حيالها، بل تغنى بهذا الجمال في سلسلة أعمال كبيرة: «الظاهرون على طرقاتي» Les Apparus dans mes chemins عام (1891)، و«الحقول الهاذية» Les Campagnes hallucinées عام (1893)، و«القرى الوهمية»Les Villages illusoires عام (1894)، و«المدن المجسيّة»Les Villes tentaculaires عام (1895). وسرعان ما وجد ڤرهيرن السكينة في هذا العالم الغريب الذي أخافه في البداية، فتجلى ذلك في عدد من دواوينه الشعرية: «أوجه الحياة»Les Visages de la vie عام (1899)، و«القوى الصاخبة» Les Forces tumultueuses عام (1902)، و«الفلاندر كلها» Toute la Flandre عام (1904)، و«البهاء المضاعف» La Multiple splendeur عام (1906).
تخلل هذه الأعمال الكبيرة المجهدة دواوين بثها ڤِرهيرن همسات قلبه العاشق، وكأنه أراد بها التقاط أنفاسه بعد عناء إنجاز الأعمال الضخمة، فكان أن كتب أجمل أناشيد الحب في «الساعات المضيئة» Les Heures claires عام (1896)، و«ساعات بعد الظهر» Les Heures d après-midi عام (1905). ومضى على هذا المنوال فنشر «الإيقاعات السائدة» Les Rythmes souverains عام (1910) و«السنابل المتحركة» Les Blés mouvants عام (1912)، تخللتها همسات وجدانية غاية في الرقة ضمنها ديوانه «ساعات المساء»Les Heures du soir عام (1911) الذي هو أشبه بموسيقى الحجرة.
كتب ڤِرهيرن أيضاً مسرحيات شعرية تلفّها أجواء الخوف، وتبدو كأنها صدى للهواجس التي تملكته فيما مضى، مثل «الدير»Le Cloître عام (1900)، و«فيليب الثاني» Philippe II عام (1904)، و«هيلين اسبرطة» Hélène de Sparte عام (1908).
يُعدُّ ڤِرهيرن من أعظم شعراء بلجيكا الوجدانيين، بل إن بعض النقاد توَّجه كأحد أكبر الشعراء الوجدانيين في أوربا. وهو صدى متميز لعصره بكل ما فيه من تبدلات كان لها انعكاسات متناقضة على المبدعين الذين تأرجحوا بين الخوف والأمل، العزلة والانفتاح.
لبانـة مشـوّح
(1855-1916)
إيميل ڤِرهيرن Émile Verhaeren شاعر بلجيكي، ولد في سان - أمان Saint-Amand لأب متقاعـد كان يعمل في الأجـواخ في بروكسل وأم مرهفة متفانية، وعاش هناك حتى الثانية عشرة من عمره في كنف الطبيعة. أمضى عامين في معـهد سان لويس في بروكسل، ثم دخـل وهو في الـرابعة عشرة من عمره ثانويـة سانت - بارب دي غان Sainte-Barbe de Gand، وعاصر تفتح براعم إبداع الشعراء الفلمنكيين الذين كتبوا بالفرنسية، وبعد حصوله على الشهادة الثانوية انتسب إلى جامعة لوڤان Louvain. قصد بروكسل عام 1881 ليعمل محامياً متمرناً، وتزوج مارت ماسّان Marthe Massin عام 1891. اكتشف الشاعر إدمون بيكار Edmond Picardموهبته الشعرية وكان له الفضل في توجيهه، فانصرف ڤِرهيرن إلى كتابة الشعر كلياً، وكان غزير الإنتاج متدفق العبارة. فمنذ عام 1883، تاريخ صدور ديوانه الشعري الأول «الفلمنكيات» Les Flamandes حتى وفاته نشر ثلاثين ديواناً. ولقي شعره حظوة كبيرة في وطنه وانتخب عضواً في المجمع اللغوي، وألقى العديد من المحاضرات في ألمانيا وسويسرا وروسيا. وقد لقي حتفه في حادث مأساوي في مدينة روان Rouen الفرنسية.
أنبأ ديوان ڤِرهيرن «الفلمنكيات» بولادة تابع جديد للمذهب الطبيعي naturalisme، لكنه وقَع وقْع الصاعقة في الأوساط الأدبية وكان صدمة لها. ولم يجد الشاعر الشاب من يرد عنه أذى العاصفة الهوجاء التي أثارها شعره سوى ثلاثة هم إدمون بيكار وألبير جيرو Albert Giraud وكاميل لومونييه Camille Lemonnier الذي انبرى للدفاع عنه في كتاب نشره خصيصاً لهذا الغرض بعنوان « ذَكَر» Un mâle. ثم ما لبث أن ظهر ديوان جديد بعنوان «الرهبان»Les Moines عام (1886)، شكَّل انتقالاً من الإدراك القوي للأشياء إلى الصوفية التامة. ولعل هذا الانتقال ناجم عن العلاقة العميقة بين مزاجيات الشاعر الأكثر خصوصية والخصائص الطبيعية لمنطقة الفلاندر في بلجيكا. وتنجلي أسباب هذه التحولات الجذرية في أجواء قصائد ڤِرهيرن إذا ما عُلم أنه غالباً ما كان يتردد في طفولته إلى دير للرهبان، وأنه عندما عزم على كتابة «الرهبان» عاش مدة ثلاثة أسابيع في أحد الأديرة. وبعد ذلك اعتزل الشاعر العالم من حوله ونشر «الثلاثية السوداء» La Trilogie noire، وهي كناية عن ثلاثة كتب هي الأكثر قتامة وسوداوية من بين كل مؤلفاته، وهي على التوالي «المساءات» Les Soirs عـام (1887) و«التحولات» Les Débâcles عـام (1888) و«المشاعل السوداء» Les Flambeaux noirs عام (1890). يهيمن شبح الموت على دواوينه، ويبدو أن معاناته النفسية نبعت من شعور حقيقي وعميق باليأس وخلقت منه شاعراً واضح الرؤية.
تأثر الشاعر بالظروف التاريخية التي عاصرها. وعلى الرغم من أنه عاش في فترة ضعفت فيها جذوة الثورة عما كانت عليه في نهاية القرن الثامن عشر، إلاّ أنها كانت فترة اتسمت بقدر كبير من الأهمية من الناحية التاريخية. فقد حلت فكرة الجماهير آنذاك محل فكرة الفرد، ورأى بأم عينيه موت الريف وحلول المدن محله، فتقبل التبدلات الحاصلة، بل أحب العالم بصورته الجديدة إلى حد أنه اكتشف فيه مواطن جمال حقيقي لم يتمالك من الشعور بالرهبة والريبة حيالها، بل تغنى بهذا الجمال في سلسلة أعمال كبيرة: «الظاهرون على طرقاتي» Les Apparus dans mes chemins عام (1891)، و«الحقول الهاذية» Les Campagnes hallucinées عام (1893)، و«القرى الوهمية»Les Villages illusoires عام (1894)، و«المدن المجسيّة»Les Villes tentaculaires عام (1895). وسرعان ما وجد ڤرهيرن السكينة في هذا العالم الغريب الذي أخافه في البداية، فتجلى ذلك في عدد من دواوينه الشعرية: «أوجه الحياة»Les Visages de la vie عام (1899)، و«القوى الصاخبة» Les Forces tumultueuses عام (1902)، و«الفلاندر كلها» Toute la Flandre عام (1904)، و«البهاء المضاعف» La Multiple splendeur عام (1906).
تخلل هذه الأعمال الكبيرة المجهدة دواوين بثها ڤِرهيرن همسات قلبه العاشق، وكأنه أراد بها التقاط أنفاسه بعد عناء إنجاز الأعمال الضخمة، فكان أن كتب أجمل أناشيد الحب في «الساعات المضيئة» Les Heures claires عام (1896)، و«ساعات بعد الظهر» Les Heures d après-midi عام (1905). ومضى على هذا المنوال فنشر «الإيقاعات السائدة» Les Rythmes souverains عام (1910) و«السنابل المتحركة» Les Blés mouvants عام (1912)، تخللتها همسات وجدانية غاية في الرقة ضمنها ديوانه «ساعات المساء»Les Heures du soir عام (1911) الذي هو أشبه بموسيقى الحجرة.
كتب ڤِرهيرن أيضاً مسرحيات شعرية تلفّها أجواء الخوف، وتبدو كأنها صدى للهواجس التي تملكته فيما مضى، مثل «الدير»Le Cloître عام (1900)، و«فيليب الثاني» Philippe II عام (1904)، و«هيلين اسبرطة» Hélène de Sparte عام (1908).
يُعدُّ ڤِرهيرن من أعظم شعراء بلجيكا الوجدانيين، بل إن بعض النقاد توَّجه كأحد أكبر الشعراء الوجدانيين في أوربا. وهو صدى متميز لعصره بكل ما فيه من تبدلات كان لها انعكاسات متناقضة على المبدعين الذين تأرجحوا بين الخوف والأمل، العزلة والانفتاح.
لبانـة مشـوّح