حوار نقدي
مع أ د جليلة الطريطري/ تونس
قالت الباحثة الأكاديمية التونسية جليلة الطريطر، الفائزة بجائزة الشيخ زايد للكتاب 2023 فئة الفنون والدراسات النقدية عن كتابها «مرائي النساء.. دراسات في كتابات الذات النسائية العربية»، إن شرف الفوز بهذه الجائزة المرموقة إنجاز علمي مشرف وتكريم لجهود باحثة عربية تونسية في مجال اختصاص جديد كل الجدة في النقد العالمي، كانت دشنت دخوله إلى حقل البحث باللغة العربية منذ التسعينيات؛ ولذلك فإن جائزة الشيخ زايد للكتاب رائدة في تزكية هذا الاختصاص من خلال تثمينها لهذا الكتاب. وأكدت أن الجائزة مفخرة للثقافة العربية والعالمية على حد سواء، كما أنها اعتراف بجهود المرأة العربية باحثة وعالمة، مثلها مثل أخيها الرجل العربي كباحث وعالم، فهذا الفوز هو دليل على أن جائزة الشيخ زايد للكتاب منصفة للمرأة في جميع فروعها.
شغف بالمعرفة
* بدايةً ضمن هذا الحوار مع «الاتحاد»، سألنا الدكتورة جليلة الطريطر عن الخط العام لكتابها الفائز، وما تعتقد أنه كان سبباً في فوزه؟
- أريد أن أؤكد هنا فكرتين مترابطتين، الأولى أن الباحث الشغوف بالمعرفة يفكر بداية، وفي كل ما يكتبه، في الجودة العلمية والإضافة وتطوير المعرفة والصبر على مشاقها لسنوات طويلة قد تبلغ عقوداً من الزمن. وهنا يكمن مربط الفرس أي الالتزام بقيم البحث الأصيلة بشغف! وهذه هي الجائزة الأولى التي ستكون الأصل الذي ستنشأ عنه كل الجوائز التي تتوج الباحث من الخارج أي من القراء والمؤسسات العلمية خاصة. أنا من الباحثين المتمسكين بصراحة كبيرة بهذه الفكرة التي هي مبدأ أو أخلاق البحث éthique فكل بحوثي خاضعة لهذا التوجه، حتى معاناة البحث كانت تؤول عندي إلى جوائز معنوية عندما أصل إلى نتائج أرضى عنها وأقدر على تثمين إضافتها إلى حقل اختصاصي.
وهذا طبعاً يستدعي وحدة المشروع وتطويره وليس الإتيان بطرف من كل شيء! ولذا فالفكرة الثانية هي أن تتويجي بجائزة الشيخ زايد لم يكن مفاجأة بالنسبة لي لأني أعي جيداً إضافاتي المعرفية بشكل عميق وواضح. وأكثر ما سرني وقت الإعلان عن تتويجي نص اللجنة العلمية الذي دل عندي على أنها لجنة مختصة قرأت بعمق واهتدت إلى مواطن الطرافة والإضافة الحقيقية. لا أومن بالمصادفات في العلم والمكافآت التي هي ضربة حظ، إذ في هذه الحالة سنكون أمام لجان تزكية أو محاباة! واللجنة التي قيّمت كتابي تحملت مسؤوليتها التاريخية بكل أمانة. وأحيي بكل صدق روح المسؤولية لهذه الجائزة المفخرة.
مطلب عزيز
* ما أسباب تضاؤل حضور الدراسات النقدية الجادة في المشهد العربي اليوم؟
- الدراسات النقدية الرائدة الأصيلة هي التي تضاءلت، أما الدراسات النقدية السطحية التي لا تضيف جديداً إن لم أقل إنها قد تشوه المعارف الموثقة فكثيرة بل أكثر مما تتصور. ومن السهل اليوم أن يمسك شبه باحث أو باحث متمرّن بالقلم ويحبّر مئات الصفحات المستقاة من هنا وهناك. والإنترنت فتحت مجالاً كبيراً لتسهيل النقل وفي أحيان أخرى سرقة الأفكار وحتى النصوص. ولكني أؤمن بأن مثل هذه الدراسات تكتشف ولا تثمّن. والقارئ، متخصصاً كان أم لا، يفهم ويعي جيداً الأصالة البحثية. ومن جهة أخرى، فالنقد نسق له ضوابطه والمسؤولون عن سلامته المعرفية هم أعلامه، وتقع على هؤلاء مسؤولية المتابعة العلمية للإصدارات ونقدها بموضوعية وتطهير نسق المعرفة من أعلامها المزيفين ونصوصها المغشوشة. وهكذا يكون الأمر في البلدان المتقدمة التي أهم ما تخشاه هو تزييف أنساقها المعرفية وممثليها الرسميين.
والحديث عن الكم النقدي لا معنى له أصلاً، فالجودة والإبداع مرتبطان في كل المجالات بالندرة؛ لأنهما يتطلبان معايير كتابة صعبة تتحقق على مدى عقود، ويتطلبان شخصيات بحثية غير متواترة واستثنائية على كل المستويات. وهذا مطلب عزيز ولا يتحقق إلا بمقدار ولكن العبرة في ما يحققه فيما بعد من طفرات وإضافات تغير وجه المعرفة وتحفر فيها مسالك جديدة تبدل الأفكار والتاريخ.
المرأة الناقدة
* ولكن ما تفسير قلة عدد النساء المهتمات بالدراسات النقدية في الساحة الأدبية العربية؟
- بالنسبة لي اقتحام النساء مجال النقد وقلة وجودهن العددي فيه أقول إن تفسير المسألة تاريخي أولاً وبالأساس. المرأة عموماً متأخرة زمنياً في اقتحامها لعالم المعرفة، ومتأخرة في تحولها إلى فاعلة ثقافية منتجة للمعرفة، وهذا ليس في الثقافة العربية وحدها، بل في العالم كله. فهذا عامل موضوعي جندري أي أن سلطة الذكورة الرمزية كانت منذ بدايات التاريخ تخص نفسها بسلطة المعرفة، وتمنع المرأة، عبر حرمانها من التعليم، من مشاركة الرجل بناء العالم بدعوى أن وظائفها الجندرية مثل الأمومة والزوجية أهم وأجدى. إذن فهناك سبق ذكوري آثاره واضحة في كل الأزمان كمياً ونوعياً، وهو ما درسته مطبقاً على الثقافة العربية في «مرائي النساء». وأكثر من ذلك هناك أيضاً مقاومة معنوية ورمزية ومادية ذكورية شرسة لكل الأصوات النسائية عبر التاريخ. وهذا طبعاً يعوق ظهور الصوت النسائي ويطمسه ويحوله إلى حجة على ضعف الأداء المعرفي النسائي الذي يؤكد امتياز الرجال العقلي وأهليتهم المستحقة. وطبعاً هذه العوامل نسبية في تفعيلها تاريخياً وبين المجتمعات حتى العربية منها. ورأيي هذا أؤسسه على عناصر موضوعية وليس رأياً هشاً عرَضياً. فكل الباحثات الجادات تعرضن للغبن والمقاومة حتى في الحرم الجامعي، وقد عشت وضعيات من هذا النوع، ولكن لا يصح في النهاية غير الصحيح. والمرأة مطالبة بمواجهتين: مواجهة صعوبات العلم والإقناع بشخصها المعرفي، والخروج من إهاب المرأة الأنثى التي تبقى دائماً مطاردة في إطار صورة المرأة العالمة الباحثة. وهذه موازنة صعبة ليس لها حل سحري ولكن كل باحثة مطالبة بابتكار موازنتها الشخصية.
أخيراً لا بد من التفاؤل أيضاً لأن العقليات تطورت، وهناك احترام للمرأة الباحثة التي تحترم نفسها وعلمها احتراماً تفرضه هي بوسائلها وليس هدية، ولذلك فأسماء الناقدات العربيات اللامعات غير منعدمة في تاريخ الثقافة العربية الحديثة، والعبرة كما قلت بالقيمة لا بالكثرة. لقد كشفت في «مرائي النساء» عن أبعاد شخصية ملك حفني ناصف النقدية غير المسبوقة مثلاً، وهذا وجه آخر من وجوه قيمة كتابي المتعددة.
شراكة معرفية
سألنا الدكتورة جليلة الطريطر عما ينتظر منها الآن بعد حصولها على هذه الجائزة المرموقة عالمياً؟
- بعد فوزي، سأواصل السير في الدرب نفسه، وتطوير منجزي بهمة كبيرة؛ لأن الجائزة محفزة طبعاً، ولكني من الذين يعتبرون العلم مشروع حياة ولو لم أنل أية جائزة ستجدني على القناعة نفسها وفي الخط نفسه، دؤوبة حازمة طموحة إلى أن أكون علامة مضيئة في اختصاصي وثقافتي. فأشغالي معترف بها رسمياً لدى مؤسسي الاختصاص عالمياً، وأقصد هنا فيليب لوجون المؤسس الفرنسي للاختصاص، فهو يقرأ ما أكتبه بالفرنسية ويتواصل معي، وكذلك العالمة بياتريس ديدياي التي أعتبر أول من ترجم لها إلى العربية نظريتها المرجعية في اليوميات الخاصة، ولا أنسى جان لويس جانال المختص في المذكرات وصاحب نظرية قاعدية فيها، حيث أتواصل معه ويعرف أشغالي وأفكاري. وأنا مقتنعة من خلال توجهي البحثي بأن النقد العربي لن يصبح عالمياً إلا إذا ما صاغ نقد نصوصه في لغات أجنبية، ودخل في مشاريع شراكة معرفية منفتحة على الخارج أوروبياً وعالمياً. ولعل آخر ما كتبت يثبت ما أقول فقد نشرت لي ود. محمد مشبال مؤخراً دار العين مؤلفاً مشتركاً جديداً عنوانه «تحرير المرأة في عصر النهضة من بلاغة الخطاب إلى تحليل الأنساق الثقافية». وهذا المؤلف يقدم تجربة منهجية غير مسبوقة، وقد كلل بنتائج أجزم بأنها جديدة كل الجدة وستغير الكثير من الأفكار المتوارثة عن إيديولوجيات عصر النهضة والجدل الذي واكب ذلك العصر.