ابن الفرج الجياني (أحمد بن محمد -)
(… -360هـ/… -970م)
عمر أحمد بن محمد بن فرج الجيانيّ الأندلسيّ، وينسب أحياناً إلى جدّه فيقال: أحمد بن فرج، وهو وافر الأدب كثير الشعر معدود في العلماء والـشعراء، وله كتاب «الحدائق» ألّفه للحكم المستنصر (الحكم بن عبد الرحمن) عارض فيه كتاب «الزهرة» لابن داود الأصبهاني، وزاد عليه حيث إن ابن داود ذكر مئة باب في كل باب مئة بيت، وذكر أبو عمر مئتي باب في كل باب مئتا بيت ليس منها باب أتى ذكر اسمه عند أبي داود، ولم يورد فيه لغير الأندلسيين شيئاً، وقد أحسن الاختيار، وله كتاب «المنتزهين والقائمين بالأندلس وأخبارهم»، ووردت له ترجمة مستفيضة في كتاب «المطمح».
وكان لأبي عمر الجياني باع في كل علم وفن شاع في عصره ولم يفته حتى التغزل بالغلمان، فيروي المقرّي في «نفح الطيب» أن ابن فرج مرّ ومعه صاحب له بغلام وسيم في قرطبة، فقال صاحبه: إنه لصبيح لولا صفرة فيه. فارتجل ابن الفرج:
قالوا: به صفرة عابت محاسنه
فقلت: ما ذاك من عيب به نزلا
عيناه تطلب في أوتار من قتلت
فلست تلقاه إلاّ خائفاً وجلا
ومن شعره في الغزل العفيف:
وطائعة الوصال غدوت عنها
وما الشيطان فيها بالمطاعِ
بدت في الليل سافرة فباتت
دياجي الليل سافرة القناعِ
وما من لحظة إلا وفيها
إلى فتن القلوب لها دواعي
فملّكت النهى جمحات قلبي
لأجري في العفاف على طباعي
كان ابن فرج الجيانيّ رجلاً فاضلاً بليغاً محسناً، اشتهر بالضبط وقوة الحافظة، كما اتّسم بالذكاء وشدة الذاكرة، وكان ذا هيبة ووقار، ومجادلاً عنيداً، لا يخشى في قول الحق لومة لائم، يروى أنه حضر مجلس قضاء، فخاطب خصمه بلسان طليق وكلام بليغ وحجة مفحمة، ولم يتقيد بآداب هذه المجالس القضائية، بل أخذ على غير العادة في رفع صوته، مع الإشارة بذراعه الحاسرة إلى وجه خصمه، فهابه الحضور، ولم يجرؤ أحد على الطلب منه مراعاة الحشمة والتزام الهدوء أمام القاضي، حتّى انبرى له القاضي بنفسه، قائلاً: «مهلاً عافاك الله اخفض صوتك، واقبض يدك، ولا تفارق مركزك، ولا تعدُ حقّك، واقصر عن إدلالك. فقال له: مهلاً يا قاضي، أمن المخدرات أنا فأخفض من صوتي وأستر يدي، وأعطي معاصمي لديك؟ أم من الأنبياء أنت فلا يجهر بالقول عندك؟ وذلك لم يجعله الله تعالى إلاّ لرسوله عليه الصلاة والسلام، لقول الله تعالى: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لا تَشْعُرُون( (الحجرات2)، ولست به ولا كرامة، وقد ذكر الله تعالى أنّ النفوس تجادل في القيامة في موقف الهول الذي لا يعدله مقام، ولا يشبه انتقامه انتقام، فقال تعالى: )يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُون( (النـحل111)، ولقد تعدّيت طورك، وعلوت في منزلك، وإنما البيان، بعبارة اللسان، وبالنطق يستبين الحق من الباطل، ولابد في الخصام من إفصاح الكلام». ثم قام وانصرف، فبهت القاضي ولم يردّ جواباً، وكان ابن الفرج من أعيان الدولة وممن يخطّون أنظمتها ودساتيرها، واشتهرت مصنّفاته بين الأنام، ولم يلبث الجيانيّ أن أدركه ما يدرك نابغي الذكر المعرّضين للحسد، فسعى بعضهم بالنميمة، فاغتاظ عليه الخليفة، وأمر بسجنه، وله في السجن أشعار كثيرة، أورد منها ابن حزم أبياتاً يصف بها الجيانيّ خيالاً طرقه، بعد ما أسهره الوجد وأرّقه:
بأيهما أنا في الشكر بادي
بشكر الطيف أم شكر الرُّقادِ
سر وازداد في أملي ولكن
عففت فلم أنل منه مرادي
وما في النوم من حرج ولكن
جريت من العفاف على اعتيادي
ويرجح أنه مات في سجنه في الستين والثلاثمئة تقريباً.
عبد الكريم عيد الحشاش
(… -360هـ/… -970م)
عمر أحمد بن محمد بن فرج الجيانيّ الأندلسيّ، وينسب أحياناً إلى جدّه فيقال: أحمد بن فرج، وهو وافر الأدب كثير الشعر معدود في العلماء والـشعراء، وله كتاب «الحدائق» ألّفه للحكم المستنصر (الحكم بن عبد الرحمن) عارض فيه كتاب «الزهرة» لابن داود الأصبهاني، وزاد عليه حيث إن ابن داود ذكر مئة باب في كل باب مئة بيت، وذكر أبو عمر مئتي باب في كل باب مئتا بيت ليس منها باب أتى ذكر اسمه عند أبي داود، ولم يورد فيه لغير الأندلسيين شيئاً، وقد أحسن الاختيار، وله كتاب «المنتزهين والقائمين بالأندلس وأخبارهم»، ووردت له ترجمة مستفيضة في كتاب «المطمح».
وكان لأبي عمر الجياني باع في كل علم وفن شاع في عصره ولم يفته حتى التغزل بالغلمان، فيروي المقرّي في «نفح الطيب» أن ابن فرج مرّ ومعه صاحب له بغلام وسيم في قرطبة، فقال صاحبه: إنه لصبيح لولا صفرة فيه. فارتجل ابن الفرج:
قالوا: به صفرة عابت محاسنه
فقلت: ما ذاك من عيب به نزلا
عيناه تطلب في أوتار من قتلت
فلست تلقاه إلاّ خائفاً وجلا
ومن شعره في الغزل العفيف:
وطائعة الوصال غدوت عنها
وما الشيطان فيها بالمطاعِ
بدت في الليل سافرة فباتت
دياجي الليل سافرة القناعِ
وما من لحظة إلا وفيها
إلى فتن القلوب لها دواعي
فملّكت النهى جمحات قلبي
لأجري في العفاف على طباعي
كان ابن فرج الجيانيّ رجلاً فاضلاً بليغاً محسناً، اشتهر بالضبط وقوة الحافظة، كما اتّسم بالذكاء وشدة الذاكرة، وكان ذا هيبة ووقار، ومجادلاً عنيداً، لا يخشى في قول الحق لومة لائم، يروى أنه حضر مجلس قضاء، فخاطب خصمه بلسان طليق وكلام بليغ وحجة مفحمة، ولم يتقيد بآداب هذه المجالس القضائية، بل أخذ على غير العادة في رفع صوته، مع الإشارة بذراعه الحاسرة إلى وجه خصمه، فهابه الحضور، ولم يجرؤ أحد على الطلب منه مراعاة الحشمة والتزام الهدوء أمام القاضي، حتّى انبرى له القاضي بنفسه، قائلاً: «مهلاً عافاك الله اخفض صوتك، واقبض يدك، ولا تفارق مركزك، ولا تعدُ حقّك، واقصر عن إدلالك. فقال له: مهلاً يا قاضي، أمن المخدرات أنا فأخفض من صوتي وأستر يدي، وأعطي معاصمي لديك؟ أم من الأنبياء أنت فلا يجهر بالقول عندك؟ وذلك لم يجعله الله تعالى إلاّ لرسوله عليه الصلاة والسلام، لقول الله تعالى: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لا تَشْعُرُون( (الحجرات2)، ولست به ولا كرامة، وقد ذكر الله تعالى أنّ النفوس تجادل في القيامة في موقف الهول الذي لا يعدله مقام، ولا يشبه انتقامه انتقام، فقال تعالى: )يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُون( (النـحل111)، ولقد تعدّيت طورك، وعلوت في منزلك، وإنما البيان، بعبارة اللسان، وبالنطق يستبين الحق من الباطل، ولابد في الخصام من إفصاح الكلام». ثم قام وانصرف، فبهت القاضي ولم يردّ جواباً، وكان ابن الفرج من أعيان الدولة وممن يخطّون أنظمتها ودساتيرها، واشتهرت مصنّفاته بين الأنام، ولم يلبث الجيانيّ أن أدركه ما يدرك نابغي الذكر المعرّضين للحسد، فسعى بعضهم بالنميمة، فاغتاظ عليه الخليفة، وأمر بسجنه، وله في السجن أشعار كثيرة، أورد منها ابن حزم أبياتاً يصف بها الجيانيّ خيالاً طرقه، بعد ما أسهره الوجد وأرّقه:
بأيهما أنا في الشكر بادي
بشكر الطيف أم شكر الرُّقادِ
سر وازداد في أملي ولكن
عففت فلم أنل منه مرادي
وما في النوم من حرج ولكن
جريت من العفاف على اعتيادي
ويرجح أنه مات في سجنه في الستين والثلاثمئة تقريباً.
عبد الكريم عيد الحشاش