الفيزيولوجية البشرية
يُعَدُّ علم الفيزيولوجية physiology أحد العلوم الأساسية الذي يبحث في الآليات الوظيفية للخلايا والأعضاء المختلفة ضمن إطار وحدة العضوية. ويتركَّب جسم الإنسان من نحو 100 تريليون خلية، تُعَدُّ كل منها الوحدة الوظيفية الأساسية في البدن، إذ تقوم بوظائفها بالتآزر مع بقية الخلايا الأخرى، وتشكِّل كلُّ مجموعة من الخلايا المتمايزة نسيجاً خاصاً يكوِّن الأعضاء المختلفة التي تعمل على نحو يؤازر بعضها بعضاً بصورة تحافظ فيه على استمرارية بقاء الإنسان بصحة جيدة، فمثلاً تقوم خلايا الدم الحمراء التي يبلغ عددها نحو 25 تريليون خلية بنقل الأكسجين من الرئتين إلى جميع خلايا البدن، وعلى الرغم من اختلاف تخصص خلايا البدن إلا أنها تقوم بوظيفة مشتركة هي توفير الطاقة energy، فهي توفرها من أكسدة عناصر الراتب الغذائي اليومي لتستعمل في بناء الخلايا وتجددها واستمرار وظائفها، ويقوم جهاز الدوران والدم بتوزيع الغذيّات والأكسجين اللازم إلى جميع خلايا البدن، وينقل الفضلات الناتجة من استقلاباتها metabolism مثل البولة urea وحمض اللبن lactic acid وغيرهما إلى جهاز الكليتين لطرحها، وتتخلص الخلايا من ثاني أكسيد الكربون بوساطة الرئتين، وتبقى ثوابت البيئة الداخلية internal environment ضمن الحدود السوية. وفيما يأتي بعض الآليات المسؤولة عن ثبات البيئة الداخلية:
- آليات الاستتباب homeostasis: يستعمل الفيزيولوجيون اصطلاح الاستتباب الذي يعني المحافظة على ثبات البيئة الداخلية في البدن، إذ تقوم جميع خلايا البدن وأعضائه بالمحافظة على ثبات تلك البيئة، فالرئتان مثلاً تعملان على نحو مستمر لتوفير الأكسجين اللازم للسائل خارج الخلايا ليعوِّض حاجة الخلايا منه، وتقوم الكليتان بالمحافظة على تركيز الشوارد بالمصورة (البلازما) ضمن الحدود السوية، ويوفر جهاز الهضم الغذيّات الضرورية لجميع الخلايا.
يُستنتج ممَّا تقدَّم أنَّ كل عضو في البدن يشارك في عملية الاستتباب بدءاً من الخلايا والأعضاء، وانتهاءً بالجهاز العصبي الذي يقوم بالوظائف العليا في البدن، مثل التفكير والتصرف بسلوكية مناسبة لكلِّ موقف.
- آليات التلقيم الراجع السلبي negative feedback: وهي إحدى الآليات التي تحافظ على الاستتباب في البيئة الداخلية للجسم، فمثلاً تسبب زيادة تركيز ثاني أكسيد الكربون في السائل خارج الخلوي زيادة التهوية الرئوية التي تؤدي إلى خفض تركيزه، وهذه هي آلية التلقيم الراجع السلبي فهو تلقيم سلبي نسبة للمنبه الأول، وبالمقابل يؤدي انخفاضه إلى حدوث تلقيم راجع يزيد في تركيزه، وهي استجابة مغايرة نسبة إلى المنبه الأول، ويؤدي ارتفاع ضغط الـدم الشرياني أيضاً إلى تحـريض مستقبلات الضغط التي تحفز خفضه، ويسبب هبوطه تحريضَ سلسلة من الاستجابات تؤدي إلى ارتفاعه عن طريق زيادة نتاج القلب وزيادة المقاومة الوعائية المحيطية وتحريض مركـز العطش وإفـراز الهرمون المضاد للإبالة (للإدرار) (ADH) antidiuretic hormone.
يُستنتج ممَّا سبق أن آليات التلقيم الراجع تُصَحِّح أي تغيير يطرأ على الاستتباب الداخلي في البدن.
- آليات التلاؤم الوظيفي adaptation: وهي تلاؤم وظائف البدن مع البيئة الخارجية، ويذكر منها التلاؤم الجسدي والفيزيولوجي والاجتماعي.
أ - التلاؤم الجسدي: وهو التغيُّرات التي تحدث في البيئة الداخلية بما يتناسب وتغيُّرات البيئة الخارجية. وتظهر تلك التغيرات على البدن، مثل اختلاف لون الجلد في البيئة الباردة وفي البيئة الحارة، وكذلك تغيُّرات طول الإنسان.
ب - التلاؤم الفيزيولوجي: وهو التلاؤم الذي يحافظ على وظائف البدن بما يتناسب وتغيرات البيئة الخارجية، مثل زيادة تصنيع خلايا الدم الحمراء وخضاب الدم haemoglobin عند سكان الجبال بهدف العيش في شروط انخفاض الضغط الجزئي للأكسجين في الأماكن كثيرة الارتفاع. ويؤدي العيش في بيئة باردة إلى فرط نشاط غدة الدرق بهدف زيادة معدل الاستقلاب rate of metabolism وزيادة توليد الحرارة لتدفئة البدن.
أجهزة التحكم في البدن
يحتوي جسم الإنسان على الآلاف من أجهزة التحكم يُذكر منها:
- جهاز التحكم الجيني genetic: يتحكم الجهاز الجيني بالوراثة من الوالدين للأبناء، ويتحكم أيضاً بتركيب البروتينات والإنظيمات في الخلايا، وكذلك بوظائف الخلايا ونموها وتكاثرها. ويشرف الجين gene وهو حمض ريبي منقوص الأكسجين deoxyribonucleic acid (الدناDNA ) على تكوين الحمض الريبي النووي ribonucleic acid (الرناRNA )، ويشرف على تكوين البروتينات النوعية والإنظيمات في الخلايا. وبما أنه يوجد 140000 جين فهذا يعني تكوين عدد كبير من البروتينات والإنظيمات الخلوية المختلفة التي تشرف على جميع التفاعلات الكيميائية الخلوية وتحفز استقلاب السكريات والدهون والبروتينات. وفي كل خلية آلية تلقيم راجع feedback mechanism تنظِّم العمليات الوظيفيـة للخلايا، وتسمى بالتنظيم المورّثي genetic regulation، وهناك أيضاً آلية تلقيم راجع أخرى تنظِّم عمل الإنظيمات وتسمى بالتنظيم الإنظيمي enzymatic regulation.
يُستنتج ممَّا تقدَّم أنَّ هناك طريقتين تتحكمان في وظائف الخلايا هما آلية التنظيم الجيني وآلية التنظيم الإنظيمي، وبهما يمكن تنشيط الجينات والإنظيمات أو تثبيطها، وتعمل هذه الآليات كأنظمة تحكم بآلية التلقيم الراجع.
- جهاز التحكم الهرموني: في البدن ثماني غدد صم تفرز مواد كيميائية هي الهرمونات hormones التي تنتشر في السائل خارج الخلوي لتقوم بوظيفة تنظيم الوظائف الخلوية المختلفة، فهرمون الثيروكسين ـ مثلاً ـ يزيد في سرعة التفاعلات الاستقلابية في الخلايا، ويزيد هرمون الأنسولين في توفير الطاقة اللازمة للخلايا، فيسهِّل دخول الغلوكوز واستقلابه في الخلايا، ويُعَدّ هرمون الكورتيزول ذا نظم متغيّر فيزداد إفرازه صباحاً بين الساعة 6-8 وينخفض مساءً، ولذا يتغير ضغط الدم الشرياني ومستويات سكر الدم طوال الـ 24 ساعة بحسب تغيّرات إفرازه، وهكذا تمارس الهرمونات التحكم بأجهزة البدن بوساطة المستقبلات receptors التي تتوزع في خلايا البدن، وتُعَدّ أعضاء مراقبة حسَّاسة لكلِّ نمط من أنماط الحس الفيزيائي (مستقبلات الضغط baroreceptors) والحسّ الكيميائي (تبدلات تركيز الشوارد والغلوكوز والبولة ودرجة باهاء pH الدم) وحس الحرور وحس الألم وغيرها من مستقبلات الحواس المختلفة التي تُدعى بأجهزة التماس contact systems التي تحافظ على استتباب البيئة الداخلية.
جهاز التحكم العصبي: يشتمل على ثلاثة أقسام رئيسة:
- الجهاز العصبي المركزي: وهو مركز التكامل العصبي، ويتكوّن من الدماغ brain والنخاع الشوكي spinal cord، إذ يخزن الدماغ المعلومات ويكوِّن الأفكار ويصدر الأوامر الحركية إلى الأعضاء المنفذة. وفي الدماغ جهاز عصبي مستقل autonomic system يتحكم بوظائف الأعضاء الداخلية على نحو لا إرادي مثل عمل القلب والرئتين وجهاز الهضم والغدد الصم وغيرها.
- الجهاز الحسي: ويرتبط مع المستقبلات التي تتحسس من جميع تغيرات البيئة الداخلية والخارجية.
- الجهاز الحركي: ويرتبط مع العضلات والمفاصل ويقوم بوظيفة تنفيذ الأوامر.
يشرف الجهاز العصبي مع الجهاز الهرموني على ضبط آليات الاستتباب بوساطة إشارات عصبية واردة من المستقبلات، ويقوم بتحليلها ومقارنتها مع القيم المعيارية، ويصدر إشارات عصبية إلى الأجهزة التي تقوم بالتنفيذ كالغدد الصم والكليتين والرئتين والعضلات وغيرها.
- جهاز الدوران والدم: ينقل جهاز الدوران والدم عوامل تنظيم التحكم إلى جميع أجهزة البدن ويجعلها تلبي جميع حاجاته، كما يضبط أي اضطراب طارئ يمكن أن يتعرض له البدن كتغيرات ضغط الدم الشرياني ونظم القلب والتنفس وغيره، فحينما ينخفض ضغط الدم الشرياني يزداد نتاج القلب output وتزداد المقاومة الوعائية.
- جهاز التنفس: يشترك جهاز التنفس مع الجهاز العصبي بالتحكم في تنظيم تركيز ثاني أكسيد الكربون في المصوّرة.
- الجهاز المناعي: يؤدي دخول الجراثيم أو ذيفاناتها للجسم إلى حدوث قصور في الآليات الوظيفية للخلايا تحول دون استقرار الاستتباب، فيستجيب الجهاز المناعي بإفراز السيتوكينات والانترلوكينات والانترفيرونات ضد العوامل المرضية الغريبة عن البدن، ويُتَحَكَّمُ بعمل الجهاز المناعي بوساطة هرمونات الغدد الصم مثل الهرمونات القشرية السكرية وغيرها. ولهذا يلاحظ أن تكامل عمل الأجهزة يؤدي إلى حالة صحية جسمية وفكرية واجتماعية جيدة.
المنهاج التجريبي في البحث العلمي
أمكن كشف بعض الحقائق الوظيفية وآلية عملها بوساطة التجارب، ويهدف المنهاج التجريبي لتحويل التصور القَبْلِي a priori المرتكز على البديهيات أو على إحساس غامض بالأشياء إلى تأويل بعدي a posteriori، فهو يعتمد على مجموعة من القواعد المستقاة من البحث اليومي في ميدان علم الفيزيولوجية، الذي بوساطته أمكن كشف كثير من الحقائق العلمية الغامضة، وهذه القواعد هي الملاحظة والفكرة والتجربة.
- الملاحظة: وتعتمد على الحواس ولاسيما حاسة البصر التي تراقب الأشياء التي في البيئة الخارجية، وتسمى بالملاحظة الساكنة، ويمكن من خلالها ملاحظة الظواهر المحيطة في حدود ضيقة، وأمكن التوصل إلى ملاحظات أعمق باستعمال الأجهزة المتطورة.
- الفكرة: وتعتمد على العقل. وإن نقطة الانطلاق في كل استدلال علمي هو خضوع الأفكار للتجربة، إذ تبدأ المعرفة من الفكرة القَبْلية (التصور القَبْلي).
- التجربة: وتعتمد على اليدين، فهي الملاحظة التي تشارك فيها حركة اليدين. وتهدف التجربة إلى بناء النظرية اعتماداً على الفرضية (الفكرة) التي تخضع لنقد التجربة، وهذا هو منهاج العمل البحثي، فالوصول إلى النظرية يعتمد على نتائج التجارب، ويتم التعلم والتطور من نتائج التجارب التي تُعَدُّ المصدر الرئيس للمعارف البشرية، ويعد البحث العلمي أساس التطور في العلوم الطبية، ويُقاس تطور البحث التجريبي بتطور الأجهزة والأدوات التي تُستعمل في مخابر البحث العلمي، ويعتمد الطب التجريبي على ثلاثة أقسام رئيسة هي:
أ - علم الفيزيولوجية: وهو العلم الذي يتعرَّف أسباب ظواهر الحياة والمحافظة على استمرار الوظائف الحياتية بحالة سوية.
ب - علم الفيزيولوجية المرضية: وهو العلم الذي يتعرَّف الحالات المرضية الناتجة من الخلل في عمل أجهزة البدن وعلى الآليات المرضية الناتجة من المرض.
ج - علم المداواة: وهو العلم الذي يكافح الخلل الناتج من الأمراض بوساطة الأدوية والوسائط العلاجية المختلفة.
الاستقصاءات الوظيفية في البحث العلمي
يمكن الكشف عن الحقائق الوظيفية وآلية عملها بوساطة الاستقصاءات الوظيفية عند الإنسان، بطرق علمية مختلفة مثل تخطيط كهربائية القلب والدماغ والعضلات والأعصاب، وقياس ضغط الدم الشرياني، والسَّعة التنفسية والصدى echo الذي يستقصي جميع أعضاء البدن وكذلك التصوير الطبقي المحوري والرنين المغناطيسي وغيرها، وذلك لتحديد الآليات الوظيفية المسؤولة عن استمرار حالة الاستتباب الوظيفي وتكامل الوظائف الإيقاعية لمختلف أجهزة البدن.
وهكذا تستمر حياة الإنسان طالما بقي عمل وظائف الأعضاء في حالة طبيعية، وحينما تميل الوظائف نحو التقهقر نتيجة تقدُّم العمر أو المرض فإنها تؤدي إلى الشيخوخة ثم الموت.
هشام الطيان
يُعَدُّ علم الفيزيولوجية physiology أحد العلوم الأساسية الذي يبحث في الآليات الوظيفية للخلايا والأعضاء المختلفة ضمن إطار وحدة العضوية. ويتركَّب جسم الإنسان من نحو 100 تريليون خلية، تُعَدُّ كل منها الوحدة الوظيفية الأساسية في البدن، إذ تقوم بوظائفها بالتآزر مع بقية الخلايا الأخرى، وتشكِّل كلُّ مجموعة من الخلايا المتمايزة نسيجاً خاصاً يكوِّن الأعضاء المختلفة التي تعمل على نحو يؤازر بعضها بعضاً بصورة تحافظ فيه على استمرارية بقاء الإنسان بصحة جيدة، فمثلاً تقوم خلايا الدم الحمراء التي يبلغ عددها نحو 25 تريليون خلية بنقل الأكسجين من الرئتين إلى جميع خلايا البدن، وعلى الرغم من اختلاف تخصص خلايا البدن إلا أنها تقوم بوظيفة مشتركة هي توفير الطاقة energy، فهي توفرها من أكسدة عناصر الراتب الغذائي اليومي لتستعمل في بناء الخلايا وتجددها واستمرار وظائفها، ويقوم جهاز الدوران والدم بتوزيع الغذيّات والأكسجين اللازم إلى جميع خلايا البدن، وينقل الفضلات الناتجة من استقلاباتها metabolism مثل البولة urea وحمض اللبن lactic acid وغيرهما إلى جهاز الكليتين لطرحها، وتتخلص الخلايا من ثاني أكسيد الكربون بوساطة الرئتين، وتبقى ثوابت البيئة الداخلية internal environment ضمن الحدود السوية. وفيما يأتي بعض الآليات المسؤولة عن ثبات البيئة الداخلية:
- آليات الاستتباب homeostasis: يستعمل الفيزيولوجيون اصطلاح الاستتباب الذي يعني المحافظة على ثبات البيئة الداخلية في البدن، إذ تقوم جميع خلايا البدن وأعضائه بالمحافظة على ثبات تلك البيئة، فالرئتان مثلاً تعملان على نحو مستمر لتوفير الأكسجين اللازم للسائل خارج الخلايا ليعوِّض حاجة الخلايا منه، وتقوم الكليتان بالمحافظة على تركيز الشوارد بالمصورة (البلازما) ضمن الحدود السوية، ويوفر جهاز الهضم الغذيّات الضرورية لجميع الخلايا.
يُستنتج ممَّا تقدَّم أنَّ كل عضو في البدن يشارك في عملية الاستتباب بدءاً من الخلايا والأعضاء، وانتهاءً بالجهاز العصبي الذي يقوم بالوظائف العليا في البدن، مثل التفكير والتصرف بسلوكية مناسبة لكلِّ موقف.
- آليات التلقيم الراجع السلبي negative feedback: وهي إحدى الآليات التي تحافظ على الاستتباب في البيئة الداخلية للجسم، فمثلاً تسبب زيادة تركيز ثاني أكسيد الكربون في السائل خارج الخلوي زيادة التهوية الرئوية التي تؤدي إلى خفض تركيزه، وهذه هي آلية التلقيم الراجع السلبي فهو تلقيم سلبي نسبة للمنبه الأول، وبالمقابل يؤدي انخفاضه إلى حدوث تلقيم راجع يزيد في تركيزه، وهي استجابة مغايرة نسبة إلى المنبه الأول، ويؤدي ارتفاع ضغط الـدم الشرياني أيضاً إلى تحـريض مستقبلات الضغط التي تحفز خفضه، ويسبب هبوطه تحريضَ سلسلة من الاستجابات تؤدي إلى ارتفاعه عن طريق زيادة نتاج القلب وزيادة المقاومة الوعائية المحيطية وتحريض مركـز العطش وإفـراز الهرمون المضاد للإبالة (للإدرار) (ADH) antidiuretic hormone.
يُستنتج ممَّا سبق أن آليات التلقيم الراجع تُصَحِّح أي تغيير يطرأ على الاستتباب الداخلي في البدن.
- آليات التلاؤم الوظيفي adaptation: وهي تلاؤم وظائف البدن مع البيئة الخارجية، ويذكر منها التلاؤم الجسدي والفيزيولوجي والاجتماعي.
أ - التلاؤم الجسدي: وهو التغيُّرات التي تحدث في البيئة الداخلية بما يتناسب وتغيُّرات البيئة الخارجية. وتظهر تلك التغيرات على البدن، مثل اختلاف لون الجلد في البيئة الباردة وفي البيئة الحارة، وكذلك تغيُّرات طول الإنسان.
ب - التلاؤم الفيزيولوجي: وهو التلاؤم الذي يحافظ على وظائف البدن بما يتناسب وتغيرات البيئة الخارجية، مثل زيادة تصنيع خلايا الدم الحمراء وخضاب الدم haemoglobin عند سكان الجبال بهدف العيش في شروط انخفاض الضغط الجزئي للأكسجين في الأماكن كثيرة الارتفاع. ويؤدي العيش في بيئة باردة إلى فرط نشاط غدة الدرق بهدف زيادة معدل الاستقلاب rate of metabolism وزيادة توليد الحرارة لتدفئة البدن.
أجهزة التحكم في البدن
يحتوي جسم الإنسان على الآلاف من أجهزة التحكم يُذكر منها:
- جهاز التحكم الجيني genetic: يتحكم الجهاز الجيني بالوراثة من الوالدين للأبناء، ويتحكم أيضاً بتركيب البروتينات والإنظيمات في الخلايا، وكذلك بوظائف الخلايا ونموها وتكاثرها. ويشرف الجين gene وهو حمض ريبي منقوص الأكسجين deoxyribonucleic acid (الدناDNA ) على تكوين الحمض الريبي النووي ribonucleic acid (الرناRNA )، ويشرف على تكوين البروتينات النوعية والإنظيمات في الخلايا. وبما أنه يوجد 140000 جين فهذا يعني تكوين عدد كبير من البروتينات والإنظيمات الخلوية المختلفة التي تشرف على جميع التفاعلات الكيميائية الخلوية وتحفز استقلاب السكريات والدهون والبروتينات. وفي كل خلية آلية تلقيم راجع feedback mechanism تنظِّم العمليات الوظيفيـة للخلايا، وتسمى بالتنظيم المورّثي genetic regulation، وهناك أيضاً آلية تلقيم راجع أخرى تنظِّم عمل الإنظيمات وتسمى بالتنظيم الإنظيمي enzymatic regulation.
يُستنتج ممَّا تقدَّم أنَّ هناك طريقتين تتحكمان في وظائف الخلايا هما آلية التنظيم الجيني وآلية التنظيم الإنظيمي، وبهما يمكن تنشيط الجينات والإنظيمات أو تثبيطها، وتعمل هذه الآليات كأنظمة تحكم بآلية التلقيم الراجع.
- جهاز التحكم الهرموني: في البدن ثماني غدد صم تفرز مواد كيميائية هي الهرمونات hormones التي تنتشر في السائل خارج الخلوي لتقوم بوظيفة تنظيم الوظائف الخلوية المختلفة، فهرمون الثيروكسين ـ مثلاً ـ يزيد في سرعة التفاعلات الاستقلابية في الخلايا، ويزيد هرمون الأنسولين في توفير الطاقة اللازمة للخلايا، فيسهِّل دخول الغلوكوز واستقلابه في الخلايا، ويُعَدّ هرمون الكورتيزول ذا نظم متغيّر فيزداد إفرازه صباحاً بين الساعة 6-8 وينخفض مساءً، ولذا يتغير ضغط الدم الشرياني ومستويات سكر الدم طوال الـ 24 ساعة بحسب تغيّرات إفرازه، وهكذا تمارس الهرمونات التحكم بأجهزة البدن بوساطة المستقبلات receptors التي تتوزع في خلايا البدن، وتُعَدّ أعضاء مراقبة حسَّاسة لكلِّ نمط من أنماط الحس الفيزيائي (مستقبلات الضغط baroreceptors) والحسّ الكيميائي (تبدلات تركيز الشوارد والغلوكوز والبولة ودرجة باهاء pH الدم) وحس الحرور وحس الألم وغيرها من مستقبلات الحواس المختلفة التي تُدعى بأجهزة التماس contact systems التي تحافظ على استتباب البيئة الداخلية.
جهاز التحكم العصبي: يشتمل على ثلاثة أقسام رئيسة:
- الجهاز العصبي المركزي: وهو مركز التكامل العصبي، ويتكوّن من الدماغ brain والنخاع الشوكي spinal cord، إذ يخزن الدماغ المعلومات ويكوِّن الأفكار ويصدر الأوامر الحركية إلى الأعضاء المنفذة. وفي الدماغ جهاز عصبي مستقل autonomic system يتحكم بوظائف الأعضاء الداخلية على نحو لا إرادي مثل عمل القلب والرئتين وجهاز الهضم والغدد الصم وغيرها.
- الجهاز الحسي: ويرتبط مع المستقبلات التي تتحسس من جميع تغيرات البيئة الداخلية والخارجية.
- الجهاز الحركي: ويرتبط مع العضلات والمفاصل ويقوم بوظيفة تنفيذ الأوامر.
يشرف الجهاز العصبي مع الجهاز الهرموني على ضبط آليات الاستتباب بوساطة إشارات عصبية واردة من المستقبلات، ويقوم بتحليلها ومقارنتها مع القيم المعيارية، ويصدر إشارات عصبية إلى الأجهزة التي تقوم بالتنفيذ كالغدد الصم والكليتين والرئتين والعضلات وغيرها.
- جهاز الدوران والدم: ينقل جهاز الدوران والدم عوامل تنظيم التحكم إلى جميع أجهزة البدن ويجعلها تلبي جميع حاجاته، كما يضبط أي اضطراب طارئ يمكن أن يتعرض له البدن كتغيرات ضغط الدم الشرياني ونظم القلب والتنفس وغيره، فحينما ينخفض ضغط الدم الشرياني يزداد نتاج القلب output وتزداد المقاومة الوعائية.
- جهاز التنفس: يشترك جهاز التنفس مع الجهاز العصبي بالتحكم في تنظيم تركيز ثاني أكسيد الكربون في المصوّرة.
- الجهاز المناعي: يؤدي دخول الجراثيم أو ذيفاناتها للجسم إلى حدوث قصور في الآليات الوظيفية للخلايا تحول دون استقرار الاستتباب، فيستجيب الجهاز المناعي بإفراز السيتوكينات والانترلوكينات والانترفيرونات ضد العوامل المرضية الغريبة عن البدن، ويُتَحَكَّمُ بعمل الجهاز المناعي بوساطة هرمونات الغدد الصم مثل الهرمونات القشرية السكرية وغيرها. ولهذا يلاحظ أن تكامل عمل الأجهزة يؤدي إلى حالة صحية جسمية وفكرية واجتماعية جيدة.
المنهاج التجريبي في البحث العلمي
أمكن كشف بعض الحقائق الوظيفية وآلية عملها بوساطة التجارب، ويهدف المنهاج التجريبي لتحويل التصور القَبْلِي a priori المرتكز على البديهيات أو على إحساس غامض بالأشياء إلى تأويل بعدي a posteriori، فهو يعتمد على مجموعة من القواعد المستقاة من البحث اليومي في ميدان علم الفيزيولوجية، الذي بوساطته أمكن كشف كثير من الحقائق العلمية الغامضة، وهذه القواعد هي الملاحظة والفكرة والتجربة.
- الملاحظة: وتعتمد على الحواس ولاسيما حاسة البصر التي تراقب الأشياء التي في البيئة الخارجية، وتسمى بالملاحظة الساكنة، ويمكن من خلالها ملاحظة الظواهر المحيطة في حدود ضيقة، وأمكن التوصل إلى ملاحظات أعمق باستعمال الأجهزة المتطورة.
- الفكرة: وتعتمد على العقل. وإن نقطة الانطلاق في كل استدلال علمي هو خضوع الأفكار للتجربة، إذ تبدأ المعرفة من الفكرة القَبْلية (التصور القَبْلي).
- التجربة: وتعتمد على اليدين، فهي الملاحظة التي تشارك فيها حركة اليدين. وتهدف التجربة إلى بناء النظرية اعتماداً على الفرضية (الفكرة) التي تخضع لنقد التجربة، وهذا هو منهاج العمل البحثي، فالوصول إلى النظرية يعتمد على نتائج التجارب، ويتم التعلم والتطور من نتائج التجارب التي تُعَدُّ المصدر الرئيس للمعارف البشرية، ويعد البحث العلمي أساس التطور في العلوم الطبية، ويُقاس تطور البحث التجريبي بتطور الأجهزة والأدوات التي تُستعمل في مخابر البحث العلمي، ويعتمد الطب التجريبي على ثلاثة أقسام رئيسة هي:
أ - علم الفيزيولوجية: وهو العلم الذي يتعرَّف أسباب ظواهر الحياة والمحافظة على استمرار الوظائف الحياتية بحالة سوية.
ب - علم الفيزيولوجية المرضية: وهو العلم الذي يتعرَّف الحالات المرضية الناتجة من الخلل في عمل أجهزة البدن وعلى الآليات المرضية الناتجة من المرض.
ج - علم المداواة: وهو العلم الذي يكافح الخلل الناتج من الأمراض بوساطة الأدوية والوسائط العلاجية المختلفة.
الاستقصاءات الوظيفية في البحث العلمي
يمكن الكشف عن الحقائق الوظيفية وآلية عملها بوساطة الاستقصاءات الوظيفية عند الإنسان، بطرق علمية مختلفة مثل تخطيط كهربائية القلب والدماغ والعضلات والأعصاب، وقياس ضغط الدم الشرياني، والسَّعة التنفسية والصدى echo الذي يستقصي جميع أعضاء البدن وكذلك التصوير الطبقي المحوري والرنين المغناطيسي وغيرها، وذلك لتحديد الآليات الوظيفية المسؤولة عن استمرار حالة الاستتباب الوظيفي وتكامل الوظائف الإيقاعية لمختلف أجهزة البدن.
وهكذا تستمر حياة الإنسان طالما بقي عمل وظائف الأعضاء في حالة طبيعية، وحينما تميل الوظائف نحو التقهقر نتيجة تقدُّم العمر أو المرض فإنها تؤدي إلى الشيخوخة ثم الموت.
هشام الطيان