الإسماعيلية
اسماعيليه
Ismailism - Ismaélisme
الإسماعيلية
الإسماعيلية فرقة من الشيعة تفرعت عن حركة التشيع منذ سنة 148هـ/ 765م، وظلت تنمو في اتجاهات متعددة عقائدية وسياسية واجتماعية متباينة. وقد تميز كل اتجاه منها باستقلال ذاتي مع ارتباطه بجذوره التاريخية.
ظهرت هذه الفرقة بعد وفاة الإمام جعفر الصادق (80-148هـ/ 699-765م) بسبب خلاف حول شرعية من يخلفه في الإمامة. وكان جعفر قد نص على إمامة ولده إسماعيل من بعده، بيد أن إسماعيل توفي في المدينة المنورة في حياة أبيه ـ في أكثر الروايات ـ سنة 143هـ/ 760م ودفن في البقيع ونظم بوفاته محضر شهده أمير المدينة، وقد اختار الإمام جعفر أن يحل محله في الإمامة ابنه الثاني موسى الكاظم (127-183هـ/ 745- 799م) وقبل جمهور الشيعة بهذا الترتيب وسار عليه، وامتنعت فئة منهم لم تسلّم بصحة نزع الإمامة من إسماعيل أو انتقالها إلى موسى لأنه لا يجوز انتقال الإمامة من أخ إلى أخيه بعد الحسن والحسين ابني علي بن أبي طالب (رضي الله عنه)، ويكون انتقالها ـ أي الإمامة ـ إلى الأبكار من الذكور، وبذلك يكون الإمام بعد وفاة إسماعيل ابنه محمداً وورثته من بعده وهؤلاء هم الإسماعيلية. وتعد الإسماعيلية من الفرق الباطنية لاستنادها إلى التأويل والفلسفة، فهي فرقة شيعية إمامية علوية فاطمية باطنية.
وقد شهدت الإسماعيلية منذ نشأتها انشقاقات متتابعة ولدت طوائف وجماعات عدة انفصل بعضها عن جسم الفرقة انفصالاً تاماً، ونهج بعضها الآخر نهج الإسماعيلية مع إدخال بعض التعديل والتغيير في النظم والمذهب. ولتعدد أسماء الإسماعيلية وتباين نعوتها وكثرة شعبها وفروعها أسباب كثيرة فرضتها المعطيات التاريخية التي ربطت بينها أواصر الدعوة، وفرقت شملها ملابسات الوقائع وإرادات الأشخاص وتأويلاتهم، وكانت طوائفهم في البدء على مذهب أئمتهم في الأصول، ثم لما اختلفت الروايات عن الأئمة وتمادى الزمان اختارت كل طائفة منهم طريقها. وقد يكون من الصعب، لأسباب كثيرة، تتبع الصيغ المتباينة التي اضطلع بها النشاط الإسماعيلي الرامي إلى تحقيق نجاح سياسي مواكب للعقيدة المذهبية، بيد أنه من الجائز لمُّ شعث هذا المسعى الوسيع في وقائع سبقت قيام الدولة الفاطمية الإسماعيلية ثم واكبتها وتلتها وما زالت إلى اليوم.
الدعوة الإسماعيلية وتفرعاتها
انطلقت حركة التشيع من أن الخلافة والإمامة حق لعلي بن أبي طالب ولذريته من أولاد فاطمة بنت محمد r. ويستند أنصار هذه الحركة ومنظروها إلى نص صريح يقولون إنه أعلن جهاراً في غدير خم. وقد ناضل أبناء علي وأحفاده من أجل هذا الحق ودفعوا في ذلك ثمناً باهظاً، واتفقوا على تتابع الإمامة بعد علي في ابنيه من فاطمة الزهراء الحسن ثم الحسين، ثم في زين العابدين علي بن الحسين ثم في محمد الباقر بن علي ثم في جعفر الصادق بن محمد وهو الإمام السادس. واتفقوا كذلك على أن تنتقل الإمامة بالنص الصريح من الإمام إلى أحد أبنائه. وقد سمى جعفر ابنه إسماعيل إماماً من بعده، ولكنه رأى بعد وفاة إسماعيل المبكرة أن يسوق الإمامة إلى موسى الكاظم ولم تقبل فئة من أنصار إسماعيل بهذا الحل. فأنكرت جماعة من تلك الفئة وفاة إسماعيل في حياة أبيه وقالت «إن أباه خاف عليه فغيبه» كي لا يقع في أيدي العباسيين، وإن إسماعيل هو الإمام السابع وقد توقفت الإمامة عنده وهؤلاء هم الواقفية. وقال آخرون إن محمد بن إسماعيل هو الإمام السابع وقد انتقلت الإمامة إليه بالإرث لأن إسماعيل مات في حياة أبيه وإنما فائدة النص على إسماعيل انتقال الإمامة منه إلى ولده لأنه لا يجوز الرجوع عن النص وهؤلاء هم المباركية نسبة إلى المبارك مولى إسماعيل. وأنكرت طائفة ثالثة موت محمد بن إسماعيل في دور الستر الذي بدأ به فسمي «مكتوماً»، وقالت إنه سابع الأئمة وآخرهم وقد تم دور السبعة به فسمي «تاماً» وإنه سوف يعود يوم الحساب ليملأ الأرض عدلاً، وهؤلاء هم السبعية. وشذت جماعة أخرى عرفت باسم القرامطة [ر] وكانت على مذهب المباركية ثم خالفتهم وقالت لا يكون بعد محمد النبي r إلا سبعة أئمة. وإن محمد بن إسماعيل هو الإمام القائم المهدي وآخر أولي العزم، ومعنى القائم عندهم أنه يبعث بالرسالة وبشريعة جديدة. أما أولو العزم فسبعة وهم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد وعلي ومحمد بن إسماعيل، وذلك يضاهي أن السماوات سبع والأرضين سبع. أما جمهور الإسماعيلية فقال باستمرار الإمامة وانتقالها في ذرية إسماعيل إلى يوم الدين. ولأن العباسيين كانوا جادين في الإيقاع بورثة علي من آل البيت وبأتباعهم فقد أخذت الإسماعيلية «بالتقية» وأمرت أتباعها بالتخفي والاستتار إلى أن يحين الوقت المناسب.
ابتدأ دور الستر بالإمام محمد بن إسماعيل الذي اختفى عن الأنظار وراح يتنقل من بلد إلى آخر خشية الملاحقة. فقصد الري وجبل دماوند (دنباوند) وأقام بعد طول تجوال في قرية هناك سميت فيما بعد «محمد آباد»، وتكاد أكثر مصادر الإسماعيلية تجمع على أن مقامه الأخير كان بالأهواز. وقد نشأت في هذا الدور كذلك نظرية الإمام المستقر والإمام المستودع التي قال بها معتدلو الإسماعيلية ممن لم يعترض على إمامة موسى بن جعفر في حياة أبيه، ووصفوه بأنه إمام مستودع شأنه شأن الحسن بن علي بن أبي طالب الذي لم يورث الإمامة أبناءه وورثها الحسين سيد الشهداء الإمام المستقر الذي أورث ابنه علي بن الحسين زين العابدين الإمامة. وكذلك حال إسماعيل بن جعفر الذي أورث الإمامة ولده محمداً.
إن الحديث عن أئمة دور الستر شاق عسير، لأن هذه المرحلة تنطوي على غموض شديد. ويندر العثور على مؤرخ من غير الإسماعيلية اهتم بأمر هؤلاء في هذه الحقبة، وأما كتّاب الإسماعيلية فكانوا يتحدثون عنهم رمزاً من غير تصريح ويسمون إمامهم إمام الزمان بسبب التكتم الشديد الذي فرضه الأئمة ونوابهم وحججهم ودعاتهم عملاً بمبدأ التقية وخوفاً من بطش أولي الأمر في السلطة. وكثيراً ما كان الأئمة يتخذون أسماء مستعارة، ويتسمى بها نوابهم ورؤساء دعاتهم ويتفرقون في البلاد إمعاناً في التغطية فلا يعرف أيهم الإمام ولا أين يقيم إلا قلة موثوقة. وكان الاتصال بالإمام لا يتم إلا عن طريق من ينوب عنه الذي سموه «الحجة» أو الحجاب، ويليه في المرتبة رؤساء الدعاة المسؤولون عن الأقطار، وكان هؤلاء يرسلون الدعاة الملحقين بهم لنشر الدعوة في أرجاء البلاد متخفين في أزياء التجار والدراويش والمتصوفة ورجال الدين، ولكل داعية منهم أتباع يتدرجون في المراتب والدرجات بتنظيم دقيق وترتيب محكم.
ظل أئمة الإسماعيلية مستترين حتى ظهور عبيد الله المهدي مؤسس الدولة العبيدية الفاطمية. وتوالى على منصب الإمامة في دور الستر، كما تتفق أكثر الروايات، أربعة أئمة.
بيد أن هذه الروايات تختلف في ترتيب هؤلاء الأئمة وفي أسمائهم وتواريخ وفياتهم، وتتفق كلها على أن أولهم محمد بن إسماعيل ووفاته بالأهواز سنة 193هـ/ 809م، وأنه أوصى بالإمامة من بعده لابنه، وهو عبد الله الرضي (في أكثر المصادر) الذي انتقل بالدعوة إلى بلدة سلمية في سورية سنة 208هـ واتخذها دار هجرته وشرع في تنظيم شؤون الدعوة بحذر شديد، وكان يدعو الأنصار والمستجيبين إلى سلمية لتدريبهم وتفقيههم في المذهب حتى غصت البلد بهم وتحولت إلى مركز إشعاع ديني إسماعيلي المذهب. ونبغ من الدعاة نفر بلغوا أعلى المراتب في سلم الرئاسة، وكان لهم شأن في نشر الدعوة، من جهة، وفي الانشقاقات الكثيرة التي حدثت بعد ذلك في جسم الحركة الإسماعيلية، من جهة أخرى.
كانت وفاة عبد الله الرضي نحو سنة 212هـ/ 827م ودفن في سلمية ونص على إمامة ابنه أحمد الوفي (أو التقي)، وكان مولعاً بالمعرفة والتأليف، وهو أحد من ينسب إليهم تصنيف «رسائل إخوان الصفا وخلان الوفا» وهي اثنتان وخمسون رسالة في مختلف العلوم وفنون الحكم وطرائف الأدب وحقائق المعاني، وربما شارك في وضعها عدد من فلاسفة الإسماعيلية وفقهائهم، ولخصها الإمام أحمد في رسالة واحدة سماها «الرسالة الجامعة». وفي عهد أحمد الوفي هذا (ت سنة 229هـ) وابنه الحسين التقي الذي ولد في سلمية وصار إماماً للإسماعيلية بعد وفاة أبيه، بلغت الدعوة الإسماعيلية أوج انتشارها في زمن الستر فكان دعاتها منتشرين في سواد العراق وبلاد العجم وفي البحرين والأحساء وعمان واليمن ومصر والمغرب.
الانشقاقات الأولى: لم تتورط الحركة الإسماعيلية، مع توافر الشروط المناسبة في بدء انتشار الدعوة، في عمل ثوري مباشر تتحمل أعباءه علناً، بل سعت إلى الإفادة من بعض القوى التي كانت تدعي موالاتها أو تأثرت بها، فقد انتسبت أو نسبت إلى الدعوة الإسماعيلية حركات كثيرة كانت تناوئ السلطة العباسية لسبب أو لآخر، وتم تصنيفها بين الحركات الإسماعيلية لشهرة هذه وسريتها وتبنيها بعض أفكار الإسماعيلية ويثبت ذلك وجود كثير من الشخصيات التي يعزى إلى كل منها انتماؤها إلى أكثر من فرقة وتطلق عليها أسماء ونعوت مختلفة. كذلك فإن تغير الأئمة بالوفاة في دور الستر وتغير حججهم أو نوابهم وغير ذلك من الأمور التي توجب تعديلاً في سياسة الدعوة، في ظل التكتم الشديد إضافة إلى بعد المواصلات واضطراب الأحوال، كل ذلك كان يفرض استقلال الداعي في منطقة عمله استقلالاً نسبياً، وممارسته نشاطه بحسب ما يتوافر لديه من معطيات، وتعليله الأمور كما يراها من منظاره الخاص وتفرضه أحوال البيئة والمتعاملين معه. وقد يجد هذا الداعي نفسه مع الأيام على خلاف مع قيادته، أو تجد القيادة أن ما يدعو إليه مخالف لها فلا ترضاه وتكون النتيجة طرده من الدعوة أو انشقاقه عنها. وقد اشتهر من دعاة الإسماعيلية، أو من ينسب إليها منهم في هذه المرحلة، رجال بلغوا أعلى المراتب في سلم الدعوة، ومنهم من انشق عن الدعوة أو نشط تحت لوائها، وفيهم من ادعى الإمامة لنفسه وزعم أنه من ولد محمد بن إسماعيل ليضمن ولاء أتباعه. ومن أشهر هؤلاء الدعاة عبد الله بن ميمون القداح (ت180هـ) والحسين الأهوازي وعبد الله بن سعيد بن الحسين القرمطي، وعبد الله بن حمدان، وحمدان بن الأشعث المعروف بقرمط، والحسين بن جهار بختان الملقب بدندان وزكرويه بن مهرويه وأبو سعيد الجنابي وعلي بن الفضل ومنصور اليمن وأبو عبد الله الشيعي وغيرهم.
ويبدو أن أسرة القداح كان لها الدور الأكبر في تنظيم الدعوة الإسماعيلية وانتشارها وكان ميمون بن ديصان القداح (ت: أواخر ق2هـ) الذي عاصر جعفراً الصادق وابنه إسماعيل، من أوائل منظري الإسماعيلية، وقد مهد السبيل لابنه عبدالله بن ميمون لرئاسة الدعوة، وقد حظي عبد الله هذا برفد محمد بن الحسين بن جهار بختان، وكان واسع النفوذ والثراء في السواد، فخرج معه إلى البصرة وسواد الكوفة وبث فيها الدعاة وتقوى بالمال، ولكن ولاة العباسيين تعقبوه فلجأ إلى سلمية ملتحقاً بالإمام الإسماعيلي المستور وأقام فيها إلى وفاته. وتشير مصادر الإسماعيلية إلى أن كل إمام منذ أيام محمد بن إسماعيل قد اتخذ لنفسه حجاباً من أسرة القداح هذه. ومع أن بعض هذه المصادر يوحي بأن مهمة آل القداح انتهت في سلمية وأن الأئمة اتخذوا حجابهم من أهلهم، فإن أكثرها يؤكد استمرار آل القداح في مناصبهم وأن كل إمام من الأئمة كان يتخذ من أحد إخوته إماماً مستودعاً، وأن وجود إمام مستقر وإمام مستودع كان لغايات أمنية أو أسباب صحية أو لغير ذلك، ويبدو أن بعض الأئمة المستودعين كان يطمح إلى منصب الإمام المستقر. وفي ذلك إشارة إلى انقسامات داخلية خطرة في بيت الإمامة، يمكن في ضوئها تفسير المشاكل التي اعترضت سير الدعوة في أواخر القرن الثالث للهجرة، ولاسيما في المرحلة الأخيرة من دور الستر وقبل ظهور عبيد الله المهدي وقيام الدولة الفاطمية ومنها علاقة الإسماعيلية بالقرامطة أو العكس.
القرامطة: بدأت الدعوة الإسماعيلية في أواخر حياة جعفر الصادق أو بعد وفاته سنة 148هـ حين تنوزع على الأحق بالإمامة من بعده، ولعل أول فرقها المباركية التي سبقت الإشارة إليها. ولم تسجل المصادر التاريخية أي نشاط ذي شأن لهذه الجماعة حتى منتصف القرن الثالث للهجرة، عندما ظهرت فجأة في مختلف مناطق العالم الإسلامي حركات ثورية تتفق جميعها على إمامة محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق وعلى تسلسل الأئمة الذي قالت به الإسماعيلية الأولى. فظهرت في جنوب العراق دعوة إسماعيلية سنة 261هـ كان زعيماها حمدان قرمط وعبدان، وبعد ذلك بقليل استقرت جماعة من الإسماعيلية في البحرين والأحساء بزعامة أبي سعيد الجنابي، وتزعم كل من علي بن الفضل والحسن بن أبي الفرج المعروف بابن حوشب حركة مماثلة في اليمن.
والفكرة السائدة في أكثر المصادر، ومنها المصادر الإسماعيلية، أن القرامطة فرقة إسماعيلية قامت على أساس إسماعيلي صرف، ثم خالفت فيما بعد وتفرقت إلى جماعات كان يربط بينها هدف عام مشترك هو إقامة دولة ينطلق منها دعاة الإسماعيلية إلى مختلف أصقاع الدنيا، ولكل منها أهداف خاصة كان يسعى إليها كل قائد من قوادها، والرأي السائد أن حركة القرامطة بدأت في سواد العراق ثم انتقلت إلى الشام وارتدت بعدها إلى العراق ثم إلى الأحساء، وكانت اليمن مركزاً آخر من مراكز الدعوة، ومن هناك انتقلت إلى شمالي إفريقية على يد عبد الله بن علي الحلواني وأبي سفيان الداعي وأبي عبد الله الشيعي.
الحوشبية: هي دعوة إسماعيلية صاحبها الداعي أبو القاسم الحسن بن فرج بن حوشب بن زادان الكوفي النجار الملقب بمنصور اليمن (ت 302هـ/ 913م) بعث به الإمام الحسين بن أحمد الوفي وحجته أحمد بن عبد الله بن ميمون القداح إلى اليمن سنة 266هـ صحبة علي بن الفضل فدخلاها سنة 268هـ، وتوجه ابن حوشب إلى «عدن لاعة» على جبل مسور شمال صنعاء واتخذها دار هجرته وتلقب بالمنصور، وسار ابن الفضل إلى جند ومنها إلى أبين وجبال يافع واتخذها دار هجرته، وأظهر الاثنان التقشف والزهد فالتف حولهما الأتباع والمريدون وعظم شأنهما فجاهرا بالدعوة إلى الإمام المهدي سنة 270هـ، وتقاسما النفوذ كل في منطقته زمناً، واهتم ابن حوشب خاصة بتدريب الدعاة وبثهم في البلاد ومن هؤلاء أبو عبد الله الشيعي الصنعاني الذي قامت على يديه دولة الفاطميين في المغرب. ولما طمح علي بن الفضل إلى الانفراد بالرئاسة والانفصال عن جسم الدعوة أسوة بقرامطة البحرين غير عابئ بابن حوشب ولا بنفوذ عبيد الله المهدي الفاطمي الذي كان قد استقر في المغرب أواخر سنة 296هـ، قامت الحرب بين الداعيين، وحوصر ابن حوشب في قاعدته، واستمر الخلاف بينهما قائماً إلى وفاة ابن حوشب المنصور سنة 302هـ. ولم يطل الأمد بعده لابن الفضل، فقد مات مسموماً سنة 303هـ، وخلفه ابنه الذي لم يلبث أن تمكن منه الخصوم وقضوا عليه، وانتهى أمر دعوته. وأما المنصور فأوصى بالرئاسة قبل وفاته إلى أحد أبنائه أبي الحسن وإلى أحد ثقاته المدعو عبد الله بن العباس الشاوري، وأمرهما أن يكونا في طاعة المهدي فإن ورد أمره بولاية أحدهما أطاعه الباقون، ونجح الشاوري في كسب ود المهدي فأقره على اليمن، في حين أخفق أبو الحسن فحقد على الشاوري وعمل على قتله ثم أعلن رجوعه عن المذهب وأشهد الناس عليه وتتبع أصحاب أبيه ولم يلبث أن اغتيل على يد أحد نوابه، فوثب الناس على أولاد المنصور وأهله فقتلوهم وعاد إسماعيلية اليمن إلى التستر والتقية إلى أن حانت لهم فرصة أخرى للوثوب سنة 439هـ بظهور الدولة الصليحية.
الخلفية: هي دعوة إسماعيلية صاحبها خلف بن أحمد القاشاني من كبار دعاة الإسماعيلية في دور الستر ولد في مدينة قم ولا يعرف تاريخ مولده أو وفاته. اختاره حجة الإمام عبد الله بن ميمون القداح كبيراً لدعاة فارس، فنجح في الري وقم وقاشان وقزوين وبلاد الديلم وانضمت إليه طائفة كبيرة من الأتباع عرفوا «بالخلفية» نسبة إليه، وتولى رئاسة الدعوة من بعده ابنه أحمد بن خلف وكان من نوابه الداعي غياث الدين الأستراباذي الذي استطاع الفوز بتأييد الأمير الحسين بن علي المروروذي في الطالقان وهراة، ومن نوابه أيضاً أبو معروف النيسابوري الشاعر (ت 322هـ) داعية خراسان، وأبو حاتم الرازي داعية طبرستان وأصفهان، واستمال إليه جماعة من كبار رجال الدول مثل أسفار بن شيرويه الديلمي أمير قزوين وقائده مرداويج بن زياد الديلمي.
الفاطميون: يعد الفاطميون[ر] منذ نشأة دولتهم نهاية دور الستر وبدء دور الظهور، ويعزى نجاح دولتهم إلى الداعي الحسين بن أحمد أبي عبد الله الشيعي الصنعاني (ت 298هـ) الذي بعث به الإمام الحسين التقي إلى بلاد اليمن سنة 278هـ ليتدرب على يد ابن حوشب، ثم توجه من هناك إلى المغرب واستطاع بمهارته وحذقه أن يجمع إليه قبائل كتامة ويرسخ دعائم دولة إسماعيلية جديدة في إفريقية تزعمها الإمام عبيد الله المهدي الذي قدم إليها سنة 296هـ وتسلم مقاليد الحكم فيها. وقد عرفت هذه الدولة، التي بدأت في المغرب الأوسط ثم استقرت في مصر (359هـ/ 970م) وسيطرت على الشام زمناً، باسم الدولة العبيدية أو الفاطمية. وبقيت قائمة حتى وفاة الخليفة الفاطمي العاضد وانفراد صلاح الدين الأيوبي بحكم مصر وإلغائه الخلافة الفاطمية فيها سنة 567هـ/ 1170م.
عاصرت الدولة الفاطمية وتفرعت عنها حركات أخرى أدت إلى حدوث انشقاقات جديدة في جسم الدعوة الإسماعيلية، وظهور فرق ودويلات ظل بعضها على ارتباط برئاسة الدعوة في القاهرة وانفصل بعضها الآخر انفصالاً تاماً. فقد ظلت علاقة الفاطميين مع القرامطة في البحرين والشام واليمن في أول أمرهم بين مد وجزر زمناً، ولكنها ساءت في خاتمة المطاف وتحولت إلى صراع شديد استمر حتى آل أمر القرامطة إلى الزوال.
الصليحيون في اليمن: قامت في عهد المستنصر بالله الخليفة الفاطمي الثامن (حكم 427-487هـ/ 1036-1094م) الطويل العهد دولة موالية للفواطم في اليمن على يد الداعي علي بن محمد الصليحي (ت459هـ) الذي استولى على صنعاء وقضى على دولة العبيد من آل نجاح فيها واتخذها حاضرة لملكه كما احتل زبيد ومدناً أخرى، فدانت له قبائل اليمن، وأقام الخطبة في مساجدها للإمام المستنصر سنة 455هـ. وتوالى على الحكم بعده عدد من أفراد أسرته أشهرهم الملك أحمد المكرم بن علي وزوجه الملكة الحرة السيدة أروى بنت أحمد الصليحي (440-532هـ/ 1052-1138م) وظل الصليحيون موالين للأئمة الفاطميين في مصر وعلى اتصال بهم، وانتصروا لحزب المستعلية بعد وفاة المستنصر بالله واستمروا على هذه الحال حتى الإمام الطيب الذي اختار الستر في اعتقادهم، وقامت السيدة أروى برئاسة الدعوة نائبة عنه حتى وفاتها بعد أن وكلت أمر الدعوة إلى داع مطلق هو ذؤيب ابن موسى الوادعي. وقد نشط الصليحيون في بث الدعاة في الحجاز وحضرموت والهند وأسسوا فيها طوائف تهتدي بهم عرفت باسم المستعلية والطيبية، واستمر الأمر على هذا النحو حتى انتقال الدعوة إلى كجرات في الهند سنة 946هـ حيث عرفت باسم البُهرة (أي التجار).
المستعلية: كان المستنصر بالله قد سمى قبل وفاته ابنه نزاراً ولياً للعهد وإماماً من بعده، ولكن أحمد بن المستنصر نازع أخاه الخلافة، وكان صغيراً يشد أزره ويتعهده خاله قائد الجيوش الأفضل بن بدر الجمالي [ر]، فهرب نزار إلى الاسكندرية واعتصم بها بيد أنه هزم وقتل وتفرق أصحابه وصفا الأمر لأحمد الذي تلقب بالمستعلي. وهكذا انقسمت الإسماعيلية إلى نزارية ومستعلية. وبقيت الخلافة الفاطمية للمستعلية في مصر والشام في حين انتصر إسماعيلية فارس لنزار ومعهم بعض أنصار الدعوة في العراق والشام. وظل المستعلي في سدة الحكم حتى وفاته سنة 495هـ، وتولى الخلافة من بعده ابنه الآمر بأحكام الله.
لم ينس النزارية مالحقهم من غبن فدبروا كميناً وتم لهم به اغتيال الآمر سنة 524هـ. وتقول بعض الروايات إنه كان للآمر ابن اسمه الطيب دخل كهفاً وهو ابن عام واختار الستر وإنه سوف يعود في آخر الزمن (وهو دور الستر الثاني)، كما تزعم روايات أخرى أن أباه بعث به إلى اليمن سراً وهو صغير لترعاه السيدة أروى وأنه مات هناك. وعرف أتباعه باسم الطيبية.
شغر مقام الإمامة الفاطمية بعد موت الآمر مدة سنتين لعدم وجود وريث ظاهر من نسله، فاختير ابن عمه الماجد وصياً مؤقتاً، وقبل جل المستعلية إمامته فتلقب بالحافظ وعدّه آخرون داعياً مطلقاً واستمر في الحكم أكثر من ثماني عشرة سنة ودعي أتباعه الحافظية أو الماجدية، وتوالى بعده على الحكم ثلاثة من أولاده وأحفاده كان آخرهم العاضد الذي سقطت بوفاته الدولة الفاطمية.
تفرعت المستعلية أو الطيبية إلى فرق متعددة لاختلاف أتباعها على الأئمة والدعاة والمرشدين. فقد توالى على الدعوة عدد من الدعاة المطلقين نواباً عن الأئمة المستترين ومقرهم اليمن، حتى سنة 946هـ عندما انتقل الداعي المطلق يوسف بن سليمان نجم الدين إلى الهند. وفي عهد الداعي اليمني علي بن عبد الله (ت832هـ) انفصلت الفرقة الجعفرية النهروالية (نسبة إلى أحمد جعفر الشيرازي) وصارت إلى مذهب السنة وانضم إليها كثير من الهندوس، وفي سنة 975هـ (أي بعد انتقال مقر الدعوة إلى الهند) اختار البهرة داود بن قطب شاه داعياً مطلقاً خلفاً لداود بن عجب شاه فعرفوا بالداودية، في حين عاضد الطيبية في اليمن سليمان بن حسن الهندي الذي ادعى المنصب لنفسه فعرفوا بالسليمانية. واتخذ دعاة الداودية من بلدة سورت في الهند حاضرة لهم وعرفوا باسم البهرة العليا ومازالت دعوتهم قائمة إلى اليوم ويتوزع أتباعها في نجران واليمن والهند وباكستان وإفريقية. ومنهم نشأت الناكوشتية التي تحرم اللحوم. أما السليمانية في اليمن فقد آل منصب الداعي المطلق عندهم إلى إبراهيم بن محمد بن فهد من أسرة المكرمي سنة 1050هـ واستمرت الرئاسة فيهم، ولكنهم اصطدموا بمحاولات الأئمة الزيدية الذين سعوا إلى طردهم من البلاد. واستطاع الداعي الحسن بن هبة الله (ت1189) بسط سيطرته على حضرموت بيد أنه عجز عن مقاومة نفوذ آل سعود، ثم تمكن القائد العثماني أحمد مختار باشا من طردهم من هناك. وأكثر السليمانية اليوم يقيمون في بومباي وحيدر أباد (الهند)، ومنهم من يقيم في اليمن ونجران وإفريقية.
النزارية ودولة ألموت: وجدت النزارية في إيران والعراق والشام تربة خصبة. واستقر أمرهم في جبال إيران حيث كونوا دولة إسماعيلية نزارية استمرت سبعاً وسبعين ومئة سنة. وقد بدأت هذه الدولة باستيلاء الحسن بن الصباح الحميري على قلعة ألموت[ر] سنة 477هـ وانتهت بسقوط القلعة على يد هولاكو في سنة 654هـ.
وكان داعي دعاة فارس عبد الملك بن العطاش الطبيب قد بعث بالحسن بن الصباح إلى مصر سنة 469هـ للتفقه في أصول الدعوة، ونجح في طريق عودته في استمالة عدد من الأتباع في الشام والعراق، وكان أمر الإسماعيلية قد استفحل في فارس برئاسة عبد الملك بن العطاش وابنه أحمد فانضم إليهما الحسن بن الصباح وتمكن الثلاثة من السيطرة على عدد من الحصون والقلاع بالقوة حيناً وبالحيلة أحياناً. وتبنوا العمل الفدائي والاغتيال السياسي لإرهاب الأعداء والخصوم، ثم بدا لابن الصباح أن يستولي على قلعة ألموت ويتخذها قاعدة لعملياته مستقلاً بها عن ابن العطاش. وبعد وفاة المستنصر الفاطمي ومقتل نزار ابنه سنة 488هـ رفض إسماعيلية فارس الدعوة للمستعلي، ونادوا بعلي الهادي بن نزار إماماً ثم لابنه محمد المهتدي.
وقد استطاع الحسن بن الصباح بحنكته ومهارته أن يضم إليه جميع إسماعيلية فارس بعد مقتل أحمد بن عبد الملك العطاش سنة 500هـ، فصارت له دولة ضمن دولة تتحكم في عدد كبير من القلاع والحصون في أنحاء متفرقة من إيران ولاسيما في المناطق الشمالية الغربية في جبال الدامغان وجيلان والري، فقوي نفوذه وخشيه الناس والحكام وتلقب بالسيد والرئيس وعرف أصحابه بالصباحية والنزارية والحشيشية.
ظلت الإمامة النزارية تتخذ من ألموت حاضرة لها حتى سقوط القلعة في يد هولاكو سنة 654هـ وإعدام الإمام ركن الدين خورشاه بن علاء الدين. وظل أتباعها أوفياء للوارث الظاهر الأصلي نزار بن المستنصر، وقد استتر أئمتهم حقبة من الزمن وأدى هذا الاستتار إلى حدوث خلاف في ترتيب الأئمة، إذ يرى فريق منهم (القاسمية) أن الإمام بعد نزار هو علي الهادي بن نزار وأنه توفي في قلعة لمسّر (شمالي إيران) سنة 530هـ، ثم ابنه محمد المهتدي الذي انتقل إلى قلعة ألموت وتوفي بها سنة 552هـ. وتوالى بعده على الإمامة ثلاثة آخرون هم القاهر والحسن وأعلى محمد ثم جاء حسن جلال الدين الإمام الظاهر في ألموت والمتوفى سنة 617هـ/ 1220م. ويرى فريق آخر أن الإمام بعد نزار هو الحسن بن نزار (ت 534هـ) ثم محمد بن الحسن (ت590هـ) وبعده حسن جلال الدين المذكور ثم تعود الشجرتان إلى السير معاً حتى الإمام محمد شمس الدين. وقد حدث انقسام الإسماعيلية النزارية إلى مؤمنية وقاسمية بعد وفاة الإمام محمد شمس الدين سنة 711هـ. فقد أرسل خَلَفُه الإمام قاسم شاه أخاه الأوسط مؤمن شاه داعياً إلى بلاد فارس وقزوين وممثلاً له فيها، ولكن مؤمن شاه ادعى الإمامة لنفسه وتبعه عدد كبير من إسماعيلية فارس والشام. وظلت هذه الفرقة على ولائها لمؤمن شاه وأولاده من بعده حتى آخرهم أمير محمد باقر الذي انقطع الاتصال به سنة 1210هـ/ 1796م. وأكثر أتباع الفرقة المؤمنية يقيمون اليوم في بلدتي قدموس ومصياف السوريتين وبعض قرى مصياف.
أما القاسمية فقد ظلت على ولائها للإمام قاسم شاه (ت 773هـ/ 1372م) وولده من بعده، وأكثرهم في إيران والهند. وقد منح شاه إيران فتح علي القاجاري (حكم 1212-1250هـ/ 1797-1834م) صهره شاه حسن علي (1219-1298هـ/ 1804-1881م) لقب آغا خان، وهو الإمام السابع بعد الإمام قاسم شاه والإمام السادس والأربعون في ترتيب الأئمة الإسماعيلية في رأي الفرقة النزارية القاسمية الآغاخانية وصار هذا اللقب متوارثاً فيهم إلى اليوم. ويعد الإمام كريم علي خان الإمام الخمسين عند الإسماعيلية النزارية الآغاخانية، وأكثر أتباع هذه الفرقة في الهند وإيران وإفريقية الشرقية، ويقيم أتباعها في سورية في سلمية وبعض قراها وفي جوار قلعة الخوابي قرب طرطوس.
النزارية في سورية (بلاد الدعوة): لم يكتف نزارية فارس بما تحقق لهم ورغبوا في مزاحمة المستعلية وبسط نفوذ النزارية في ديار الفاطميين أنفسهم فبثوا الدعاة في العراق والشام ومصر واليمن. وأفلح الحسن بن الصباح بعض الفلاح في مد سلطته إلى بلاد الشام فاستقر بعض دعاته في حلب. ونجح الداعي أسعد بن قاسم بن الحسن العجمي المعروف بالحكيم المنجم في استمالة الأمير رضوان بن تتش السلجوقي (ت507هـ) صاحب حلب، كما نجح في تكوين مجموعة فداوية استعان بهم رضوان في تحقيق أغراضه، وكان أول ضحاياهم صهر رضوان جناح الدولة حسين صاحب حمص. وبعد موت الحكيم المنجم تسلم أمر الدعوة في حلب أبو طاهر الصائغ العجمي فازداد قوة ونفوذاً. ولما توفي رضوان وملَكَ حلب بعده ابنه ألب أرسلان قرر البطش بالباطنية فقبض على أبي طاهر وقتله واعتقل عدداً كبيراً منهم واستصفى أموالهم وقتل جماعة منهم، وأفلتت جماعة فتفرقت في البلاد، وحاول بعضهم الاستيلاء على عدد من القلاع المنيعة مثل شيزر وأفامية فلم يفلحوا، وقصد قسم منهم دمشق يتزعمهم الداعي بهرام وفيها ظهير الدين طغتكين أتابك نجم الدين إيلغازي بن أرتق فأكرمهم اتقاء لشرهم وسهل لهم وزيره طاهر بن سعد المزدقاني أمر التغلب على قلعة بانياس (الصبيبة) في الجولان سنة 520هـ، وكان موافقاً لهم في دعوتهم، فاستفحل أمر بهرام وأغار على جيرانه في وادي التَيْم، ولكنه قتل في إحدى المعارك سنة 522هـ وقام بالأمر بعده إسماعيل العجمي. وبعد وفاة طغتكين (522هـ) سعى ابنه تاج الملوك بوري إلى التخلص من نفوذهم في دمشق فقتل وزيره المزدقاني وتتبع أحداث دمشق من عرف من النزارية فتفرق شملهم، وخشي إسماعيل العجمي المقيم في بانياس مغبة الأمر فراسل الفرنجة وسلمهم الحصن ولجأ إليهم ولم يلبث أن مات ودفن هناك. وحاول بعض الفداوية الثأر لما حل بهم من تاج الملوك فأخفقوا.
ومع ذلك نجح النزارية في التسلل إلى بعض المواقع المنيعة في جبال الساحل (البهراء) من بلاد الشام وأقاموا في قلاع شيدوها أو استولوا عليها وعرفت باسم قلاع الدعوة (أو بلاد الدعوة)، وهي: مصياف والرصافة والخوابي والقدموس والكهف والمنيقة والعليقة والقليعة، ويضاف إليها ثلاث قلاع أخرى لم تبق في أيديهم طويلاً وأخذها الفرنجة منهم وهي: المرقب وصافيتا والعريمة (ذكرها وليم الصوري وذكر أنها كانت في يد الحشيشية). وقد كان لبلاد الدعوة هذه وزن في توجيه مجريات الحوادث في أثناء الحروب الصليبية في عهد الزنكيين والأيوبيين والمماليك إلى أن خضعت نهائياً لسلطة المماليك في زمن الملك الظاهر بيبرس. وقد نبغ من رؤسائها في هذه الحقبة راشد الدين سنان بن سلمان بن محمد بن راشد البصري (528- 588هـ/ 1134-1192م)، وكانت ولادته بالبصرة وقضى شطراً من حياته في ألموت ثم انتقل إلى الشام في أيام السلطان نور الدين محمود بن زنكي، وعاصر صلاح الدين الأيوبي وكانت له معه وقائع وحوادث، ثم صالحه في أواخر أيامه ومات قبل صلاح الدين بعام واحد وكانت حاضرته قلعة الكهف ودفن بها، وقد تمكن نفوذه في إسماعيلية الشام حتى استقل عن إسماعيلية ألموت، وحاول أصحاب ألموت أن يردوه إلى الطاعة أو اغتياله فلم يفلحوا. وقد نسبت إليه خوارق ومعرفة الغيب بما كان يتقنه من أساليب، إلى جانب ذكائه النادر وفطنته حتى اعتقد فيه البعض أنه صاحب معجزات وإليه تنسب طائفة منهم تعرف «بالسنانية». وظلت بلاد الدعوة بعده قوية الشوكة إلى أن اجتاح المغول بلاد الشام سنة 658هـ، وكان رضي الدين أبو المعالي زعيم الإسماعيلية فيها، فتسلم المغول بعض قلاعهم، ولكن سيف الدين قطز سلطان المماليك أعادها إليهم في السنة نفسها بعد أن هزم المغول في عين جالوت. وفي سنة 664هـ راسل الملك الظاهر بيبرس الإسماعيلية وأمرهم بالخضوع له فأذعنوا وصار له أمر العزل والتولية فيهم، بعد أن أوقع الحوطة على زعيمهم نجم الدين إسماعيل، ابن الشعراني، وابنه شمس الدين سنة 670هـ/ 1271م، وضم إليه بعض قلاعهم ومنها مصياف (669هـ) والعليقة (670هـ) ثم الرصافة. وأخيراً تسلم نوابه مابقي من حصون الإسماعيلية (الكهف والمنيقة والقدموس) أواخر سنة 671هـ/ 1273م، وزالت دولتهم من الوجود. ولم يكن هدف الظاهر القضاء على الإسماعيلية في هذه المعاقل بل إدخالهم في طاعته.
وظل أتباع الإسماعيلية مواطنين عاديين في بلاد الشام إلى اليوم، وهم يحافظون على صفتهم طائفة مميزة من الطوائف الأخرى التي تعيش في البلاد، ومنهم آخرون موزعون في مختلف أنحاء العالم ولهم مؤسساتهم وروابطهم الخاصة، وغالبهم من البهرة أو المؤمنية أو القاسمية الآغاخانية، وأكثر الإسماعيلية في سورية ولبنان اليوم هم من المؤمنية أو القاسمية ويتوزعون في مدينة سلمية ومنطقة مصياف وبعض قرى جبال الساحل.
الدروز[ر]: تفرعت هذه الطائفة عن الإسماعيلية الفاطمية، وتوقفت عن نهج الإمامة في عهد الحاكم بأمر الله الفاطمي، وتنسب إلى حمزة اللباد العجمي الدرزي هادي المستجيبين (ت 433هـ) ومعلمه محمد بن إسماعيل الدرزي (411هـ). وقد استقر أتباعها في بلاد الشام (سورية ولبنان وفلسطين والأردن).
سبل الدعوة
يجد الباحثون من الإسماعيلية وغيرهم صعوبة في الكشف عن حقائق هذه الدعوة السرية ولاسيما في مراحلها الأولى. وقد أوجب نظام التقية والمغالاة في السرية اتباع أساليب تتواءم مع الأفكار التي يحرص أصحاب الدعوة على كتمانها ومع عقول المستجدين والمستجيبين والأتباع. وأضاف منظرو الإسماعيلية الأول ودعاتهم إلى طرائق التقية التي تبناها الشيعة نظماً صارمة في اختيار الأنصار ومن يتوسم ضمّه إلى المذهب أو إلحاقه بتنظيمات الإسماعيلية السرية، وابتكروا لهذه الغاية أساليب ووسائل فعالة كانت تتفاوت وتتباين بتفاوت أحوال الدعوة وتفرعاتها ومناطق نشاطها والقائمين عليها. وجعلوا لتنظيماتهم درجات ومراتب لا يمكن تجاوزها أو الانتقال بالمريد من درجة إلى أخرى إلا بعد الاطمئنان والاختبار.
وكان عبد الله بن ميمون يطلب من دعاته أن يخاطبوا الناس على قدر عقولهم، وأن يكون خطابهم للمثقفين وللمتفقهين في الدين ولأصحاب الديانات الأخرى ولعوام الناس متناسباً مع قدر كل منهم ومستوى تفكيره. فكانوا يستهلون الدعوة بإثارة فضول من يرغبون في استمالته وطرح بعض القضايا التي تبعث على التفكير والتأمل وتثير التساؤل، ثم ينتقلون بمن يتوسمون فيهم الاستجابة تدريجياً حتى يصبح هؤلاء طوع أمرهم وموضع ثقتهم فيبسطون لهم أسرار الدعوة وأهدافها، وقد صنف عبد القاهر البغدادي في كتابه «الفرق بين الفرق» وكذلك الباقلاني والغزالي أسماء هذه المراحل على النحو التالي: التفرس فالتأنيس فالتشكيك فالتعليق فالربط فالتدليس فالتأسيس ثم الميثاق والعهد ثم الخلع والسلخ. وكانت هذه الدرجات سبعاً في أوائل الدعوة ولاسيما عند القرامطة، ثم صارت تسعاً في العهد الفاطمي. وفي المصطلح الإسماعيلي يصبح المريد مستجيباً إذا أخذ عليه الداعي العهد والميثاق، وتكون استجابته على قدر استعداده ومقدرته على فهم ما يلقى على مسامعه من أسس الدعوة وأفكارها وفلسفتها، ويشغل بذلك المرتبة الدنيا من مراتب الدعوة، فإذا أبدى استعداداً أكبر وتفهماً أكمل صار في عداد المؤمنين، ثم يبدأ بالارتقاء تدريجياً إلى المرتبة التي يستحقها من مراتب الدعوة، ويطلق عليها في المصطلح الإسماعيلي الحدود الجسمانية، ومثلها الحدود الروحية وهي عشرة: المأذون المحدود أو المكاسر، وهو الذي يؤذن له بجذب الأنفس المستجيبة، ويليه في المرتبة المأذون المطلق أو النقيب وهو الذي يفوض إليه أخذ الميثاق والعهد، ثم الداعي المحدود ومهمته تعريف الحدود السفلية والعبادة الظاهرة، ثم الداعي المطلق وهي رتبة النائب عن الإمام في دور الاستتار، ومهمته تعريف الحدود العلوية والتأويل الباطن، ثم داعي البلاغ وهي رتبة الاحتجاج وتعريف المعاد، ثم الحجة أو داعي الدعاة وهو أعلاهم ورتبته الحكم فيما كان حقاً وباطلاً، ثم الباب ورتبته فصل الخطاب، ثم الإمام وبيده الأمر وهو الهادي وصاحب الزمان. ثم الأساس أو الوصي وله رتبة التأويل، ثم الناطق وهو الرسول من أولي العزم وله رتبة التنزيل.
لم يقتصر نشاط الدعوة الإسماعيلية في تاريخها الطويل على العمل السري والاتصال الفردي بين الداعي والمستجيب، بل كانت لها في دور الظهور مجالس يعقدونها في المساجد والمكتبات والقصور ومدارس متخصصة لتخريج الدعاة وتأهيلهم بإشراف داعي الدعاة وتوجيهه، وكان لهذا المنصب في العهد الفاطمي شأن كبير، وهو يلي قاضي القضاة في المرتبة ويتزيا بزيه. وكانت دار الحكمة في القاهرة جامعة رسمية يتخرج فيها الدعاة ثم يتوزعون في الأقطار لنشر الدعوة.
معتقد الإسماعيلية وفلسفتهم
الإسماعيلية من الفرق الإمامية التي ترى أن الإمامة زمام الدين ونظام المسلمين وأنها أمر واجب فلا يجوز أن يبقى المؤمنون من دون إمام يقودهم إلى طرق النجاة والخلاص. وفي حين توقفت الإمامة في مذهب الشيعة الاثني عشرية عند الإمام الثاني عشر غائباً منتظراً ومهدياً مرتقباً، ماتزال الإمامة في معتقد الإسماعيلية قائمة عندهم سواء في دور الستر أو في دور الظهور بحسب الأحوال. ويرى الإسماعيلية أن الإمامة تولية إلهية وفرض من فروض الدين وتقابل درجة الإيمان ولا يكون ثمة شرع أو أحكام إلا بوجودها. وقد ألزم الإسماعيلية أتباعهم بواجبات نحو الأئمة وفي مقدمها الطاعة التامة فطاعة الإمام من طاعة الله ورسوله، فإن عصاه المؤمن أو كذب به فهو آثم، وتوقير الإمام وتعظيمه واجب، وهم يؤولون ذلك من الآية الكريمة )أطِيعُوا الله وأطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُلي الأمِر مِنْكم( (النساء 59) والمقصود من أولي الأمر هنا هو الأئمة. وعلى المؤمنين أن يخبروا الأئمة بأحوال أنفسهم ويسألوهم في شؤونهم ويلتمسوا لديهم الاستغفار عند الله، وأن يصبروا على ما يمتحن به الأئمة أتباعهم ويشكروهم على ما يولونه من نعم، وأن يجاهدوا معهم ويسلموا أمورهم إليهم قولاً وفعلاً، وأن يحذروا من عقوبتهم وسقوط المنزلة عندهم، وأن يوالوا من والاهم ويعادوا من عاداهم ويتحروا ما يوافقهم وينهوا عن إتيان ما يخالفهم، وأن يتجردوا من سوء الظن، وأن يدفعوا خمس المكسوب إلى الإمام ليصب في بيت المال. ودعائم الإسلام في معتقد الإسماعيلية سبع هي الولاية ثم الطهارة فالصلاة والزكاة والصوم والحج والجهاد.
وفي اعتقاد الإسماعيلية أن الإمامة تنتقل من الآباء إلى الأبناء ولا يمكن أن تنتقل من أخ إلى أخيه، ويكون انتقالها بالنص والتوقيف من الأب إلى الابن، والإمام بما أوتي من خبرة ومعرفة يعلم أياً من أبنائه يستحقها، وهو لا يخطئ في معرفته هذه. وهم يرون أن الله تعالى لا يمكن أن يترك العالم خلواً من الإمام لأنه حجة الله على خلقه ووارث النبوة. فالإمامة المركز الذي تدور عليه دائرة الفرائض، ولا يبقى الكون لحظة من دونها فهي مستمرة أبد الدهر، وهي تعادل القلب من الجسم والعقل في الرأس. وعندما بحث منظرو الإسماعيلية موضوع الإمامة رأوا أن تسلسلها من الإمام إسماعيل بن جعفر الصادق يجعلها محدثة، ولا يقوم وجودها على أساس أو حقيقة، فجعلوها من بدء الخليقة ومن عهد آدم، واستندوا في تطبيقها إلى النصوص التي وردت في الكتب السماوية وأضافوا إليها قولهم بالأدوار والأكوار (الأمكنة)، وجعلوا لكل دور إماماً مقيماً أو رسولاً ناطقاً وأساساً أو وصياً وسبعة أئمة آخرين يكون آخرهم متماً للدور، وقد يزيد عدد الأئمة على سبعة ولكن الزيادة تحصل في الأئمة المستودعين وليس في الأئمة المستقرين. وتسمى المرحلة التي تقع بين الناطق والناطق دوراً صغيراً وفيه سبعة أئمة، وأما الدور الكبير فيبتدئ من عهد آدم حتى القائم المنتظر ويسمى الدور السابع، ويكون القائم فيه متماً للنطقاء الستة السابقين، وعليه فقد جعل الإسماعيلية الإمامة درجات ومقامات، ولكل درجة صلاحياتها واختصاصاتها المحدودة أحياناً والمطلقة أحياناً أخرى، وحصروا معرفتها بطبقة خاصة من العلماء والدعاة تقية وكتماناً. وهذه الدرجات هي: الإمام المقيم وهو الذي يقيم الرسول الناطق ويعلمه ويدرجه في مراتب رسالة النطق وينعم عليه بالإمدادات، ويسمونه أحياناً رب الوقت وصاحب العصر وإمام الزمان، ومرتبته أعلى مراتب الإمامة وأرفعها وأكثرها دقة وسرية. ويليه الإمام السادس أو الوصي وهو يرافق الناطق في جميع مراحل حياته ويكون أمين سره، ومنه يتسلسل الأئمة المستقرون في الأدوار الزمنية، وهو المسؤول عن شؤون الدعوة الباطنة المقتصرة على طبقة خاصة ممن عرفوا التأويل وبلغوا درجة العلوم العليا، ثم الإمام المتم الذي يتم أداء الرسالة في نهاية الدور الصغير فيكون سابعاً، ويسمى كذلك ناطق الدور، لأن وجوده يشبه الناطق، ويكون الإمام الذي يأتي بعده قائماً بدور جديد، ويلي المتم في المرتبة الإمام المستقر، وهو الذي يملك حق توريث الإمامة لمن شاء من ولده بالنص والتوقيف، ويسمى صاحب الجوهر، ويتسلم الإمامة بعد زوال الناطق، ويأتي في المرتبة الخامسة الإمام المستودع، وهو الذي يتسلم الإمامة في شروط استثنائية نيابة عن إمام مستقر ولا يستطيع توريث الإمامة واحداً من أولاده، ويسمى لذلك نائب الغيبة.
أدى اختلاف الرأي حول شخص الإمام إلى تفرع الإسماعيلية وتشعب طوائفهم وكانت كل شعبة منهم ترى الإمامة في الذي انتصرت له وهو الأحق بها من سواه. وفي مثل هذا الجو من الخلاف تتجسد الحاجة إلى تأييد الأفعال بالتنظير والبرهان، وهما يلقيان في أسلوب التأويل العون والسند، وعلى هذا الأساس يكون الفكر الباطني حصيلة جهد تجاوز فيه التفسير متح المعاني من الألفاظ الظاهرة ليستشف رموزها فيما وراء الإشارات، معتمداً المحاكمة التمثيلية التي تجعل لكل ظاهر دلالة باطنة، وهي دلالة من وحي أفكار أصحابها بدل كونها دلالة عامة متداولة. والباطنية صفة عامة مشتركة بين كل الفرق التي تقوم على التأويل، وتندرج تحت مذاهب وطوائف عدة يجمع بينها شيء واحد هو تأويل النص الظاهر بمعنى باطن تأويلاً يذهب مذاهب شتى. ومعنى هذا أن النصوص المقدسة رموز وإشارات إلى حقائق خفية وأسرار مكتوبة وشعائر، وأن عامة الناس هم الذين يقنعون بالظواهر والقشور ولا ينفذون إلى المعاني الخفية المستورة التي تبقى وقفاً على أهل العلم والحق: علم الباطن. والغاية من التأويل التحرر من قيد النص للتوفيق بينه وبين ما يذهب إليه صاحب التأويل أو التوفيق بين ما يفهم من صريح النص وما يقتضيه العقل، أو هو الرغبة في التعمق في صريح النص ابتغاء المزيد من العلم فيما يتضمنه من آراء، ولا يلجأ إلى التأويل إلا إذا كان النص مقدساً أو مقيداً، ولولا ذلك لما كان ثمة داع للتأويل، فعملية التأويل قائمة مادام الإنسان مضطراً إلى الأخذ بنص محدد، ولا يقتصر ذلك على الكتب المقدسة، بل يتعداه إلى النصوص القانونية والآثار الأدبية حين تصبح ذات سلطة.
والتأويل هو مفتاح التفكير الإيماني عند الإسماعيلية على اختلاف درجاته فهو معرفة الظاهر لأهل الظاهر أولاً، ثم معرفة الظاهر لأهل الباطن ثانياً، ثم معرفة الباطن لأهل الباطن ثالثاً. أو هو معرفة الظاهر والباطن وتأويل الباطن بما هو ظاهر. والسبيل إليه ما يسمى نظرية المثل والممثول، أي تفسير الأمور العقلية غير المحسوسة بما يقابلها ويماثلها من الأمور الجسمانية المحسوسة. فَمَثل الإسلام مثل الظاهر، ومثل الإيمان مثل الباطن، والنية مَثَل الولاية، ومثل القلب مثل الإمام، فمن لم يعتقد بولاية إمام زمانه لم ينفعه قول ولا عمل ولم يصح له ظاهر ولا باطن. والقرآن، في معتقد الإسماعيلية، قابل للتأويل، والنبي الناطق هو الذي يعلم تأويله، فهو أول الراسخين في العلم، ويليه الوصي أو الأساس أو الصامت فهو الراسخ في العلم في كل عصر. والأنبياء مواصلون من الله تعالى بالتأييد والعصمة في كل الأحوال. وقد ضربوا الأمثال لما يعرفونه بصيغ يقبلها العالم والجاهل. ولما كان النبي غير باق ليحكم في الناس، فإن الحاجة إلى الإمام تظل متجددة، والعلم الذي خص به الأئمة هو علم الباطن والتأويل دعامته، وتقتصر معرفة أسرار الدين على الأئمة من نسل علي وفاطمة الزهراء، «فهم الكواكب والنجوم والمصابيح ترسل نور المعرفة إلى قلوب الأتباع» ولما سبق فإن الإسماعيلية لا يأخذون بالرأي والقياس والإجماع في التفسير والفقه. وقد تعرض مفهوم الإمامة عند الإسماعيلية إلى تغير تاريخي.
متح الفكر الإسماعيلي أسسه الفلسفية من نظرية الفيض الأفلوطينية، وليس من الغلو التأكيد أن وجهي الفكر الفلسفي الباطني واللاباطني أفادا من اعتماد هذه النظرية لحل المشكلات الميتافيزيقية وإخضاعها لمطلب التوحيد الإسلامي، وبديهي أن يفترق هذان المنحيان بعد انطلاقهما من قاسم مشترك، وأن يأتي المنطق العقلي بثمار مباينة لثمار منطق التأويل. ويصف الإسماعيلية أنفسهم، وكذلك سائر الفرق الباطنية،بأنهم أهل «التوحيد»، وهم يؤكدون هذا المعنى دائماً. ولعل سبب إلحاحهم على هذا التوكيد شعورهم بأن أهم طعن يوجه إليهم هو أنهم أشركوا بالله الواحد الأحد موجودات قديمة مثل العقل الكلي والنفس الكلية وأنهم قالوا بالحلول، أي حلول روح الله في الأئمة. ولهذا يحرص الإسماعيلية على توكيد معنى «التوحيد» بالنسبة إلى الله، ويذهبون في ذلك إلى حد نفي الصفات عنه تعالى، لأن كل صفة وموصوف مخلوق، وهم لا يكتفون بنفي الشبيه عنه بل يمضون إلى أبعد من ذلك فينفون عنه التسمية والحد والصفات والزمان والمكان، وينفون عنه حتى صفة الوجود الذي يسمونه «أيساً»، وهي الكلمة التي استعملت في ترجمة مؤلفات أرسطو إلى العربية، لأن الأيس، أي الموجود، محتاج إلى ما يستند إليه في وجوده، «وكان هو، عز كبرياؤه، متعالياً عن الحاجة إلى مابه يتعلق، وكان من ذلك الحكم بأنه تعالى خارج عن أن يكون أيساً»، أي أن الله تعالى وراء الآيات المتعلق وجودها بوجوده. وهم يرون كذلك أن نفي الصفات عن الله «معتقد صحيح لا يسوغ تركه، لأن الصفات تلحق بالجوهر إما في الأجسام وإما في النفوس، والصفات تلحق بالموصوف من غيره لا من ذاته، فصفات الأجسام تأتي من خارجها كالأقدار والألوان وما يجري مجراها، وفي النفوس تأتي من داخلها كالعلم والجهل، وهو يتعالى أن يكون له داخل أو خارج». ومن هنا يأتي نفي التسمية عن الله تعالى لأن التسمية وسم يوسم به المخلوقات تميز كلاً منها من الآخر، «والله متعال ليس له صورة ويتعالى عن أن يوسم بماتوسم به أسباب خلقته» فالله هو «الخالق الباري المبدع قديم وقبل الأزل، وأما عالم الموجودات والمبدَعات فمحدث، لأنه إن كان غير محدث فيجب أن يكون شيء سابق قد أحدثه، وإذا كان العالم قديماً قبل الخالق استحال تعلق جبروته بالقدم ووجوده بالعدم، واقتضى موجداً أوجده. وهو المتعالي عن درك الصفات فلا ينال بحس ولا يقع تحت نظر ولا تدركه الأبصار ولا ينعت بجنس ولا يوصف بالحواس ولا يدرك بالقياس، وهو المنزه عن ضد مناف وند مكاف ليس له مثل ولا شبه، وليس له أسماء لأن الأسماء من موجوداته، ولا صفات لأن الصفات من أيسياته، وإن حروف اللغة لا يمكن أن تؤدي إلى لفظ اسمه، أو يطلق عليه شيء منها، لأنها جميعاً من مخترعاته، وهو مبدع المبدعات والفرد المعروف بوحدانيته وصمدانيته، وصاحب فعل الإيجاد للعدد الأول الذي هو أصل الأعداد كما أن العقل أصل الموجودات والناطق أصل عالم الدين. وهو موجود لأنه لا يصح أن يكون غير موجود. وإن توحيد المبدع قد عرّفه الدليل المرسل الذي أرسل هادياً للأمة من دون تشبيه أو تعطيل أو تحديد أو تكييف. وإن من عرف المبدِع والمبدَع الأول الذي هو العقل، ثم الثاني وهو النفس الكلية، ثم الهيولى، ثم الصورة الكلية إلى آخر الحدود السبعة، ثم نزه الخالق واعتقد بطاعته وطاعة الأنبياء المرسلين والأئمة الوارثين يكون قد عرف الله على حقيقته وحاز مرتبة الخلود في جنان عالمي النفس والعقل».
ولما كان «لكل شيء من العوالم غاية ينتهي إليها» فإن غاية البشر هي النبي في وقته والوصي في زمانه والإمام في عصره، وبذا تتصل الحياة السارية من عالم القُدُس إلى عالم الخلق، ومن عالم الإبداع إلى عالم الأجرام، ويتجلى تدبير الله العالم في نسق يمكن تلخيصه في طائفة من الحدود العلوية والسفلية. وتقابل هذه الحدود في نظرية الفيض ما يتصل بعالمي ما فوق القمر وما دونه، وتلتقي هنا فكرتان متلازمتان هما المبدأ والمعاد. فالإسماعيلية ترى انتظام الزمان كله وعالم الإبداع وعالم الخلق في مجموعة سباعية الأسابيع أو «السوابيع» التي تتألف من مراحل وأدوار وأكوار. إن هذا الجهد التنهيجي بتفاصيله التي تشمل أسابيع الأئمة والشهداء والحدود والدعاة إنما يتوخى دمج التاريخ الإسماعيلي المذهبي في التاريخ العام أو دمج التاريخ الإنساني والكوني في التاريخ الإسماعيلي وأسابيعه السبعة نشداناً لمطلق يصلح تأييداً للدعوة الرامية إلى الإقناع إن قصرت عن البرهان.
تراث الإسماعيلية
يتفق الإسماعيلية الفاطمية والشيعة الإمامية الجعفرية في كثير من المسائل الفقهية مع خلاف بسيط في أمور قليلة من بينها اعتماد الإسماعيلية التقويم الفاطمي في حساب الشهور وهي عندهم ستة علوية وستة سفلية، وأيام الشهر من الأولى ثلاثون يوماً، ومن الثانية تسعة وعشرون يوماً، وشهر رمضان عندهم ثلاثون يوماً، كذلك ينكر الإسماعيلية زواج المتعة الذي يجيزه الاثنا عشرية، وهم يقرون بالمصادر الفقهية المأخوذة عن الأئمة الستة الأول، ويضيفون إليها نتاج اجتهادهم ومحصلة دراساتهم المستندة إلى الفكر الفلسفي والتأويل، وقد ظل نتاجهم مكتوماً ومتوارثاً على مر الزمن إلى أن تكشفت بعض جوانبه من خلال ما نشر أو تسقطه الدارسون في زمن متأخر. وأدى نشاط المتأخرين والمعاصرين من الإسماعيلية إلى خلع باب الستر عن آثار إسماعيلية شتى، وما يزال جانب كبير منها ـ على أهميتها ـ مضيعاً أو مكتوماً. ويحار الدارس أمام ذلك العدد الكبير من التيارات الفكرية المتباينة والأحكام المضطربة التي تنسب إلى الإسماعيلية في مؤلفاتهم، وتزداد حيرته عندما يصطدم بأسماء علماء وفلاسفة ومصنفين منسوبة إلى الإسماعيلية وليسوا منهم. ولعل أوضح مثال على ذلك الجدل القائم حول انتماء إخوان الصفا في رسائلهم إلى الفكر الإسماعيلي أو عدمه، وقد نتج عن اضطهاد أصحاب التشيع عامة والإسماعيلية خاصة وملاحقتهم في العصر العباسي ضياع قسم كبير من المؤلفات الإسماعيلية سواء بالمصادرة أو الإتلاف، ومن ذلك مثلاً فقد أكثر ما حوته مكتبة قلعة ألموت بعد سقوطها في يد هولاكو، وكذلك ضياع مكتبة دار الحكمة في القاهرة بعد سقوط الخلافة الفاطمية. أما أقدم المصادر عن كتب الإسماعيلية فهو ابن النديم الذي عقد فصلاً في الفهرست «لأسماء المصنفين لكتب الإسماعيلية وأسماء الكتب»، ولا يميز ابن النديم في مؤلفه مؤلفات القرامطة من مؤلفات الإسماعيلية عامة، وقد أورد أسماء عدد منها وذكر أسماء مؤلفيها وألمح إلى أنه اطلع على بعض منها. وثمة مصادر أخرى تعدد مؤلفات الإسماعيلية وأسماء مؤلفيها، ومنها ما يأتي على ذكرها في سياق الترتيب العام من دون تخصيص. ومن أهم المراجع التي عنيت بالمؤلفات الإسماعيلية كتاب «المرشد إلى أدب الإسماعيلية» الذي نشره المستشرق إيفانوف، وكتاب «الفهرست» للشيخ إسماعيل بن عبد الرسول. وتضم المكتبات اليوم عدداً كبيراً من آثار الإسماعيلية التي أتيح لها أن تخرج إلى النور وعني بنشرها باحثون من الإسماعيلية وغيرهم. وأما أشهر من ألّف من القرامطة وأقدمهم فهو عبدان (ت سنة 286هـ)، وكان صهر حمدان قرمط وداعيته الأول، وله كتب كثيرة ذكرها ابن النديم وبعضها منحول نسب إليه، ولم يصل شيء منها إلى العصر الحديث. ويعد القاضي أبو حنيفة النعمان بن محمد بن حيُّون المتوفى عام 363هـ من أغزر مؤلفي الإسماعيلية نِتاجاً، ويعزى إليه وضع أكثر من 42 مؤلفاً منها كتاب «دعائم الإسلام في فكر الحلال والحرام والقضايا والأحكام»، وكتاب «أساس التأويل» و«تأويل الدعائم» وغيرها. ومن مشاهير مؤلفي الإسماعيلية أيضاً أبو يعقوب إسحاق بن أحمد السجزي أو السجستاني (ت 331هـ) مصنف كتاب «الينابيع» وهو من أهم كتبهم، وأبو منصور اليماني الشاذلي، والداعي حميد الدين أحمد الكرماني الملقب بحجة العراقين (ت 411هـ) صاحب كتاب «راحة العقل» وهو من أهم كتبه في العقيدة والفلسفة، وداعي سرمين أبو المعالي حاتم بن محمود بن زهرة (449ـ 498هـ)، وحاتم بن إبراهيم الحامدي (ت 596) صاحب كتاب «تنبيه الغافلين» وكتاب «زهر بذر الحقائق»، وأبو حاتم الرازي أحمد بن حمدان الورثامي الليثي (ت322هـ) الذي استجاب له جماعة من الديلم وفيهم أسفار بن شيرويه، وله «كتاب الزينة في الكلمات الإسلامية» ومناظرة مع محمد بن زكريا الرازي الطبيب المشهور نشرها في كتابه «أعلام النبوة»، وأبو القاسم الحسن بن فرج بن حوشب (230-303هـ) ومن مؤلفاته «كتاب أسرار النطقاء»، وناصر خسرو (394-481هـ)، وداعي الدعاة عبد الله موسى بن داود الشيرازي (391-470هـ)، وعبد الله بن أحمد النسفي البردغي (ت331هـ)، والداعي علي بن محمد بن الوليد (522-612هـ) والداعي المطلق عماد الدين إدريس بن الحسن القرشي (ت 872هـ) صاحب كتاب «نزهة الأفكار» وكتاب «عيون الأخبار وفنون الآثار» وهما من أهم مصادر الدعوة الإسماعيلية في اليمن حتى وفاة المؤلف، والداعي الذؤيب بن موسى الهمذاني (ت 536هـ) أول الدعاة المطلقين من المستعلية، وقد اشتهر باسم «فراص الكتب» لولعه باستخراج دفائنها وفك رموزها، والشيخ أبو فراس شهاب الدين المنيقي (872-937هـ) صاحب كتاب «مناقب المولى راشد الدين سنان»، والداعي حسن بن نوح (ت 929هـ) وغيرهم، وقد يبالغ بعضهم فينسب إلى الإسماعيلية عدداً من كبار المفكرين والفلاسفة المسلمين المعروفين. ويذكر الداعي حسن بن نوح في حديثه عن مراحل «تكونه الفكري» أنه درس ما لايقل عن خمسين كتاباً ورسالة في الشريعة المأثورة عن الأئمة وكتب الوعظ وكتب السير الكريمة في إثبات إمامة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وكتب البراهين والعلوم المكنونة وإبطال الباطل والفضل والفضيلة. وفي ذلك إلماعة إلى غنى الثقافة الإسماعيلية وتنوعها والتزامها بأهدافها.
ج.ت
اسماعيليه
Ismailism - Ismaélisme
الإسماعيلية
الإسماعيلية فرقة من الشيعة تفرعت عن حركة التشيع منذ سنة 148هـ/ 765م، وظلت تنمو في اتجاهات متعددة عقائدية وسياسية واجتماعية متباينة. وقد تميز كل اتجاه منها باستقلال ذاتي مع ارتباطه بجذوره التاريخية.
ظهرت هذه الفرقة بعد وفاة الإمام جعفر الصادق (80-148هـ/ 699-765م) بسبب خلاف حول شرعية من يخلفه في الإمامة. وكان جعفر قد نص على إمامة ولده إسماعيل من بعده، بيد أن إسماعيل توفي في المدينة المنورة في حياة أبيه ـ في أكثر الروايات ـ سنة 143هـ/ 760م ودفن في البقيع ونظم بوفاته محضر شهده أمير المدينة، وقد اختار الإمام جعفر أن يحل محله في الإمامة ابنه الثاني موسى الكاظم (127-183هـ/ 745- 799م) وقبل جمهور الشيعة بهذا الترتيب وسار عليه، وامتنعت فئة منهم لم تسلّم بصحة نزع الإمامة من إسماعيل أو انتقالها إلى موسى لأنه لا يجوز انتقال الإمامة من أخ إلى أخيه بعد الحسن والحسين ابني علي بن أبي طالب (رضي الله عنه)، ويكون انتقالها ـ أي الإمامة ـ إلى الأبكار من الذكور، وبذلك يكون الإمام بعد وفاة إسماعيل ابنه محمداً وورثته من بعده وهؤلاء هم الإسماعيلية. وتعد الإسماعيلية من الفرق الباطنية لاستنادها إلى التأويل والفلسفة، فهي فرقة شيعية إمامية علوية فاطمية باطنية.
وقد شهدت الإسماعيلية منذ نشأتها انشقاقات متتابعة ولدت طوائف وجماعات عدة انفصل بعضها عن جسم الفرقة انفصالاً تاماً، ونهج بعضها الآخر نهج الإسماعيلية مع إدخال بعض التعديل والتغيير في النظم والمذهب. ولتعدد أسماء الإسماعيلية وتباين نعوتها وكثرة شعبها وفروعها أسباب كثيرة فرضتها المعطيات التاريخية التي ربطت بينها أواصر الدعوة، وفرقت شملها ملابسات الوقائع وإرادات الأشخاص وتأويلاتهم، وكانت طوائفهم في البدء على مذهب أئمتهم في الأصول، ثم لما اختلفت الروايات عن الأئمة وتمادى الزمان اختارت كل طائفة منهم طريقها. وقد يكون من الصعب، لأسباب كثيرة، تتبع الصيغ المتباينة التي اضطلع بها النشاط الإسماعيلي الرامي إلى تحقيق نجاح سياسي مواكب للعقيدة المذهبية، بيد أنه من الجائز لمُّ شعث هذا المسعى الوسيع في وقائع سبقت قيام الدولة الفاطمية الإسماعيلية ثم واكبتها وتلتها وما زالت إلى اليوم.
الدعوة الإسماعيلية وتفرعاتها
انطلقت حركة التشيع من أن الخلافة والإمامة حق لعلي بن أبي طالب ولذريته من أولاد فاطمة بنت محمد r. ويستند أنصار هذه الحركة ومنظروها إلى نص صريح يقولون إنه أعلن جهاراً في غدير خم. وقد ناضل أبناء علي وأحفاده من أجل هذا الحق ودفعوا في ذلك ثمناً باهظاً، واتفقوا على تتابع الإمامة بعد علي في ابنيه من فاطمة الزهراء الحسن ثم الحسين، ثم في زين العابدين علي بن الحسين ثم في محمد الباقر بن علي ثم في جعفر الصادق بن محمد وهو الإمام السادس. واتفقوا كذلك على أن تنتقل الإمامة بالنص الصريح من الإمام إلى أحد أبنائه. وقد سمى جعفر ابنه إسماعيل إماماً من بعده، ولكنه رأى بعد وفاة إسماعيل المبكرة أن يسوق الإمامة إلى موسى الكاظم ولم تقبل فئة من أنصار إسماعيل بهذا الحل. فأنكرت جماعة من تلك الفئة وفاة إسماعيل في حياة أبيه وقالت «إن أباه خاف عليه فغيبه» كي لا يقع في أيدي العباسيين، وإن إسماعيل هو الإمام السابع وقد توقفت الإمامة عنده وهؤلاء هم الواقفية. وقال آخرون إن محمد بن إسماعيل هو الإمام السابع وقد انتقلت الإمامة إليه بالإرث لأن إسماعيل مات في حياة أبيه وإنما فائدة النص على إسماعيل انتقال الإمامة منه إلى ولده لأنه لا يجوز الرجوع عن النص وهؤلاء هم المباركية نسبة إلى المبارك مولى إسماعيل. وأنكرت طائفة ثالثة موت محمد بن إسماعيل في دور الستر الذي بدأ به فسمي «مكتوماً»، وقالت إنه سابع الأئمة وآخرهم وقد تم دور السبعة به فسمي «تاماً» وإنه سوف يعود يوم الحساب ليملأ الأرض عدلاً، وهؤلاء هم السبعية. وشذت جماعة أخرى عرفت باسم القرامطة [ر] وكانت على مذهب المباركية ثم خالفتهم وقالت لا يكون بعد محمد النبي r إلا سبعة أئمة. وإن محمد بن إسماعيل هو الإمام القائم المهدي وآخر أولي العزم، ومعنى القائم عندهم أنه يبعث بالرسالة وبشريعة جديدة. أما أولو العزم فسبعة وهم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد وعلي ومحمد بن إسماعيل، وذلك يضاهي أن السماوات سبع والأرضين سبع. أما جمهور الإسماعيلية فقال باستمرار الإمامة وانتقالها في ذرية إسماعيل إلى يوم الدين. ولأن العباسيين كانوا جادين في الإيقاع بورثة علي من آل البيت وبأتباعهم فقد أخذت الإسماعيلية «بالتقية» وأمرت أتباعها بالتخفي والاستتار إلى أن يحين الوقت المناسب.
ابتدأ دور الستر بالإمام محمد بن إسماعيل الذي اختفى عن الأنظار وراح يتنقل من بلد إلى آخر خشية الملاحقة. فقصد الري وجبل دماوند (دنباوند) وأقام بعد طول تجوال في قرية هناك سميت فيما بعد «محمد آباد»، وتكاد أكثر مصادر الإسماعيلية تجمع على أن مقامه الأخير كان بالأهواز. وقد نشأت في هذا الدور كذلك نظرية الإمام المستقر والإمام المستودع التي قال بها معتدلو الإسماعيلية ممن لم يعترض على إمامة موسى بن جعفر في حياة أبيه، ووصفوه بأنه إمام مستودع شأنه شأن الحسن بن علي بن أبي طالب الذي لم يورث الإمامة أبناءه وورثها الحسين سيد الشهداء الإمام المستقر الذي أورث ابنه علي بن الحسين زين العابدين الإمامة. وكذلك حال إسماعيل بن جعفر الذي أورث الإمامة ولده محمداً.
إن الحديث عن أئمة دور الستر شاق عسير، لأن هذه المرحلة تنطوي على غموض شديد. ويندر العثور على مؤرخ من غير الإسماعيلية اهتم بأمر هؤلاء في هذه الحقبة، وأما كتّاب الإسماعيلية فكانوا يتحدثون عنهم رمزاً من غير تصريح ويسمون إمامهم إمام الزمان بسبب التكتم الشديد الذي فرضه الأئمة ونوابهم وحججهم ودعاتهم عملاً بمبدأ التقية وخوفاً من بطش أولي الأمر في السلطة. وكثيراً ما كان الأئمة يتخذون أسماء مستعارة، ويتسمى بها نوابهم ورؤساء دعاتهم ويتفرقون في البلاد إمعاناً في التغطية فلا يعرف أيهم الإمام ولا أين يقيم إلا قلة موثوقة. وكان الاتصال بالإمام لا يتم إلا عن طريق من ينوب عنه الذي سموه «الحجة» أو الحجاب، ويليه في المرتبة رؤساء الدعاة المسؤولون عن الأقطار، وكان هؤلاء يرسلون الدعاة الملحقين بهم لنشر الدعوة في أرجاء البلاد متخفين في أزياء التجار والدراويش والمتصوفة ورجال الدين، ولكل داعية منهم أتباع يتدرجون في المراتب والدرجات بتنظيم دقيق وترتيب محكم.
ظل أئمة الإسماعيلية مستترين حتى ظهور عبيد الله المهدي مؤسس الدولة العبيدية الفاطمية. وتوالى على منصب الإمامة في دور الستر، كما تتفق أكثر الروايات، أربعة أئمة.
بيد أن هذه الروايات تختلف في ترتيب هؤلاء الأئمة وفي أسمائهم وتواريخ وفياتهم، وتتفق كلها على أن أولهم محمد بن إسماعيل ووفاته بالأهواز سنة 193هـ/ 809م، وأنه أوصى بالإمامة من بعده لابنه، وهو عبد الله الرضي (في أكثر المصادر) الذي انتقل بالدعوة إلى بلدة سلمية في سورية سنة 208هـ واتخذها دار هجرته وشرع في تنظيم شؤون الدعوة بحذر شديد، وكان يدعو الأنصار والمستجيبين إلى سلمية لتدريبهم وتفقيههم في المذهب حتى غصت البلد بهم وتحولت إلى مركز إشعاع ديني إسماعيلي المذهب. ونبغ من الدعاة نفر بلغوا أعلى المراتب في سلم الرئاسة، وكان لهم شأن في نشر الدعوة، من جهة، وفي الانشقاقات الكثيرة التي حدثت بعد ذلك في جسم الحركة الإسماعيلية، من جهة أخرى.
كانت وفاة عبد الله الرضي نحو سنة 212هـ/ 827م ودفن في سلمية ونص على إمامة ابنه أحمد الوفي (أو التقي)، وكان مولعاً بالمعرفة والتأليف، وهو أحد من ينسب إليهم تصنيف «رسائل إخوان الصفا وخلان الوفا» وهي اثنتان وخمسون رسالة في مختلف العلوم وفنون الحكم وطرائف الأدب وحقائق المعاني، وربما شارك في وضعها عدد من فلاسفة الإسماعيلية وفقهائهم، ولخصها الإمام أحمد في رسالة واحدة سماها «الرسالة الجامعة». وفي عهد أحمد الوفي هذا (ت سنة 229هـ) وابنه الحسين التقي الذي ولد في سلمية وصار إماماً للإسماعيلية بعد وفاة أبيه، بلغت الدعوة الإسماعيلية أوج انتشارها في زمن الستر فكان دعاتها منتشرين في سواد العراق وبلاد العجم وفي البحرين والأحساء وعمان واليمن ومصر والمغرب.
الانشقاقات الأولى: لم تتورط الحركة الإسماعيلية، مع توافر الشروط المناسبة في بدء انتشار الدعوة، في عمل ثوري مباشر تتحمل أعباءه علناً، بل سعت إلى الإفادة من بعض القوى التي كانت تدعي موالاتها أو تأثرت بها، فقد انتسبت أو نسبت إلى الدعوة الإسماعيلية حركات كثيرة كانت تناوئ السلطة العباسية لسبب أو لآخر، وتم تصنيفها بين الحركات الإسماعيلية لشهرة هذه وسريتها وتبنيها بعض أفكار الإسماعيلية ويثبت ذلك وجود كثير من الشخصيات التي يعزى إلى كل منها انتماؤها إلى أكثر من فرقة وتطلق عليها أسماء ونعوت مختلفة. كذلك فإن تغير الأئمة بالوفاة في دور الستر وتغير حججهم أو نوابهم وغير ذلك من الأمور التي توجب تعديلاً في سياسة الدعوة، في ظل التكتم الشديد إضافة إلى بعد المواصلات واضطراب الأحوال، كل ذلك كان يفرض استقلال الداعي في منطقة عمله استقلالاً نسبياً، وممارسته نشاطه بحسب ما يتوافر لديه من معطيات، وتعليله الأمور كما يراها من منظاره الخاص وتفرضه أحوال البيئة والمتعاملين معه. وقد يجد هذا الداعي نفسه مع الأيام على خلاف مع قيادته، أو تجد القيادة أن ما يدعو إليه مخالف لها فلا ترضاه وتكون النتيجة طرده من الدعوة أو انشقاقه عنها. وقد اشتهر من دعاة الإسماعيلية، أو من ينسب إليها منهم في هذه المرحلة، رجال بلغوا أعلى المراتب في سلم الدعوة، ومنهم من انشق عن الدعوة أو نشط تحت لوائها، وفيهم من ادعى الإمامة لنفسه وزعم أنه من ولد محمد بن إسماعيل ليضمن ولاء أتباعه. ومن أشهر هؤلاء الدعاة عبد الله بن ميمون القداح (ت180هـ) والحسين الأهوازي وعبد الله بن سعيد بن الحسين القرمطي، وعبد الله بن حمدان، وحمدان بن الأشعث المعروف بقرمط، والحسين بن جهار بختان الملقب بدندان وزكرويه بن مهرويه وأبو سعيد الجنابي وعلي بن الفضل ومنصور اليمن وأبو عبد الله الشيعي وغيرهم.
ويبدو أن أسرة القداح كان لها الدور الأكبر في تنظيم الدعوة الإسماعيلية وانتشارها وكان ميمون بن ديصان القداح (ت: أواخر ق2هـ) الذي عاصر جعفراً الصادق وابنه إسماعيل، من أوائل منظري الإسماعيلية، وقد مهد السبيل لابنه عبدالله بن ميمون لرئاسة الدعوة، وقد حظي عبد الله هذا برفد محمد بن الحسين بن جهار بختان، وكان واسع النفوذ والثراء في السواد، فخرج معه إلى البصرة وسواد الكوفة وبث فيها الدعاة وتقوى بالمال، ولكن ولاة العباسيين تعقبوه فلجأ إلى سلمية ملتحقاً بالإمام الإسماعيلي المستور وأقام فيها إلى وفاته. وتشير مصادر الإسماعيلية إلى أن كل إمام منذ أيام محمد بن إسماعيل قد اتخذ لنفسه حجاباً من أسرة القداح هذه. ومع أن بعض هذه المصادر يوحي بأن مهمة آل القداح انتهت في سلمية وأن الأئمة اتخذوا حجابهم من أهلهم، فإن أكثرها يؤكد استمرار آل القداح في مناصبهم وأن كل إمام من الأئمة كان يتخذ من أحد إخوته إماماً مستودعاً، وأن وجود إمام مستقر وإمام مستودع كان لغايات أمنية أو أسباب صحية أو لغير ذلك، ويبدو أن بعض الأئمة المستودعين كان يطمح إلى منصب الإمام المستقر. وفي ذلك إشارة إلى انقسامات داخلية خطرة في بيت الإمامة، يمكن في ضوئها تفسير المشاكل التي اعترضت سير الدعوة في أواخر القرن الثالث للهجرة، ولاسيما في المرحلة الأخيرة من دور الستر وقبل ظهور عبيد الله المهدي وقيام الدولة الفاطمية ومنها علاقة الإسماعيلية بالقرامطة أو العكس.
القرامطة: بدأت الدعوة الإسماعيلية في أواخر حياة جعفر الصادق أو بعد وفاته سنة 148هـ حين تنوزع على الأحق بالإمامة من بعده، ولعل أول فرقها المباركية التي سبقت الإشارة إليها. ولم تسجل المصادر التاريخية أي نشاط ذي شأن لهذه الجماعة حتى منتصف القرن الثالث للهجرة، عندما ظهرت فجأة في مختلف مناطق العالم الإسلامي حركات ثورية تتفق جميعها على إمامة محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق وعلى تسلسل الأئمة الذي قالت به الإسماعيلية الأولى. فظهرت في جنوب العراق دعوة إسماعيلية سنة 261هـ كان زعيماها حمدان قرمط وعبدان، وبعد ذلك بقليل استقرت جماعة من الإسماعيلية في البحرين والأحساء بزعامة أبي سعيد الجنابي، وتزعم كل من علي بن الفضل والحسن بن أبي الفرج المعروف بابن حوشب حركة مماثلة في اليمن.
والفكرة السائدة في أكثر المصادر، ومنها المصادر الإسماعيلية، أن القرامطة فرقة إسماعيلية قامت على أساس إسماعيلي صرف، ثم خالفت فيما بعد وتفرقت إلى جماعات كان يربط بينها هدف عام مشترك هو إقامة دولة ينطلق منها دعاة الإسماعيلية إلى مختلف أصقاع الدنيا، ولكل منها أهداف خاصة كان يسعى إليها كل قائد من قوادها، والرأي السائد أن حركة القرامطة بدأت في سواد العراق ثم انتقلت إلى الشام وارتدت بعدها إلى العراق ثم إلى الأحساء، وكانت اليمن مركزاً آخر من مراكز الدعوة، ومن هناك انتقلت إلى شمالي إفريقية على يد عبد الله بن علي الحلواني وأبي سفيان الداعي وأبي عبد الله الشيعي.
الحوشبية: هي دعوة إسماعيلية صاحبها الداعي أبو القاسم الحسن بن فرج بن حوشب بن زادان الكوفي النجار الملقب بمنصور اليمن (ت 302هـ/ 913م) بعث به الإمام الحسين بن أحمد الوفي وحجته أحمد بن عبد الله بن ميمون القداح إلى اليمن سنة 266هـ صحبة علي بن الفضل فدخلاها سنة 268هـ، وتوجه ابن حوشب إلى «عدن لاعة» على جبل مسور شمال صنعاء واتخذها دار هجرته وتلقب بالمنصور، وسار ابن الفضل إلى جند ومنها إلى أبين وجبال يافع واتخذها دار هجرته، وأظهر الاثنان التقشف والزهد فالتف حولهما الأتباع والمريدون وعظم شأنهما فجاهرا بالدعوة إلى الإمام المهدي سنة 270هـ، وتقاسما النفوذ كل في منطقته زمناً، واهتم ابن حوشب خاصة بتدريب الدعاة وبثهم في البلاد ومن هؤلاء أبو عبد الله الشيعي الصنعاني الذي قامت على يديه دولة الفاطميين في المغرب. ولما طمح علي بن الفضل إلى الانفراد بالرئاسة والانفصال عن جسم الدعوة أسوة بقرامطة البحرين غير عابئ بابن حوشب ولا بنفوذ عبيد الله المهدي الفاطمي الذي كان قد استقر في المغرب أواخر سنة 296هـ، قامت الحرب بين الداعيين، وحوصر ابن حوشب في قاعدته، واستمر الخلاف بينهما قائماً إلى وفاة ابن حوشب المنصور سنة 302هـ. ولم يطل الأمد بعده لابن الفضل، فقد مات مسموماً سنة 303هـ، وخلفه ابنه الذي لم يلبث أن تمكن منه الخصوم وقضوا عليه، وانتهى أمر دعوته. وأما المنصور فأوصى بالرئاسة قبل وفاته إلى أحد أبنائه أبي الحسن وإلى أحد ثقاته المدعو عبد الله بن العباس الشاوري، وأمرهما أن يكونا في طاعة المهدي فإن ورد أمره بولاية أحدهما أطاعه الباقون، ونجح الشاوري في كسب ود المهدي فأقره على اليمن، في حين أخفق أبو الحسن فحقد على الشاوري وعمل على قتله ثم أعلن رجوعه عن المذهب وأشهد الناس عليه وتتبع أصحاب أبيه ولم يلبث أن اغتيل على يد أحد نوابه، فوثب الناس على أولاد المنصور وأهله فقتلوهم وعاد إسماعيلية اليمن إلى التستر والتقية إلى أن حانت لهم فرصة أخرى للوثوب سنة 439هـ بظهور الدولة الصليحية.
الخلفية: هي دعوة إسماعيلية صاحبها خلف بن أحمد القاشاني من كبار دعاة الإسماعيلية في دور الستر ولد في مدينة قم ولا يعرف تاريخ مولده أو وفاته. اختاره حجة الإمام عبد الله بن ميمون القداح كبيراً لدعاة فارس، فنجح في الري وقم وقاشان وقزوين وبلاد الديلم وانضمت إليه طائفة كبيرة من الأتباع عرفوا «بالخلفية» نسبة إليه، وتولى رئاسة الدعوة من بعده ابنه أحمد بن خلف وكان من نوابه الداعي غياث الدين الأستراباذي الذي استطاع الفوز بتأييد الأمير الحسين بن علي المروروذي في الطالقان وهراة، ومن نوابه أيضاً أبو معروف النيسابوري الشاعر (ت 322هـ) داعية خراسان، وأبو حاتم الرازي داعية طبرستان وأصفهان، واستمال إليه جماعة من كبار رجال الدول مثل أسفار بن شيرويه الديلمي أمير قزوين وقائده مرداويج بن زياد الديلمي.
الفاطميون: يعد الفاطميون[ر] منذ نشأة دولتهم نهاية دور الستر وبدء دور الظهور، ويعزى نجاح دولتهم إلى الداعي الحسين بن أحمد أبي عبد الله الشيعي الصنعاني (ت 298هـ) الذي بعث به الإمام الحسين التقي إلى بلاد اليمن سنة 278هـ ليتدرب على يد ابن حوشب، ثم توجه من هناك إلى المغرب واستطاع بمهارته وحذقه أن يجمع إليه قبائل كتامة ويرسخ دعائم دولة إسماعيلية جديدة في إفريقية تزعمها الإمام عبيد الله المهدي الذي قدم إليها سنة 296هـ وتسلم مقاليد الحكم فيها. وقد عرفت هذه الدولة، التي بدأت في المغرب الأوسط ثم استقرت في مصر (359هـ/ 970م) وسيطرت على الشام زمناً، باسم الدولة العبيدية أو الفاطمية. وبقيت قائمة حتى وفاة الخليفة الفاطمي العاضد وانفراد صلاح الدين الأيوبي بحكم مصر وإلغائه الخلافة الفاطمية فيها سنة 567هـ/ 1170م.
عاصرت الدولة الفاطمية وتفرعت عنها حركات أخرى أدت إلى حدوث انشقاقات جديدة في جسم الدعوة الإسماعيلية، وظهور فرق ودويلات ظل بعضها على ارتباط برئاسة الدعوة في القاهرة وانفصل بعضها الآخر انفصالاً تاماً. فقد ظلت علاقة الفاطميين مع القرامطة في البحرين والشام واليمن في أول أمرهم بين مد وجزر زمناً، ولكنها ساءت في خاتمة المطاف وتحولت إلى صراع شديد استمر حتى آل أمر القرامطة إلى الزوال.
الصليحيون في اليمن: قامت في عهد المستنصر بالله الخليفة الفاطمي الثامن (حكم 427-487هـ/ 1036-1094م) الطويل العهد دولة موالية للفواطم في اليمن على يد الداعي علي بن محمد الصليحي (ت459هـ) الذي استولى على صنعاء وقضى على دولة العبيد من آل نجاح فيها واتخذها حاضرة لملكه كما احتل زبيد ومدناً أخرى، فدانت له قبائل اليمن، وأقام الخطبة في مساجدها للإمام المستنصر سنة 455هـ. وتوالى على الحكم بعده عدد من أفراد أسرته أشهرهم الملك أحمد المكرم بن علي وزوجه الملكة الحرة السيدة أروى بنت أحمد الصليحي (440-532هـ/ 1052-1138م) وظل الصليحيون موالين للأئمة الفاطميين في مصر وعلى اتصال بهم، وانتصروا لحزب المستعلية بعد وفاة المستنصر بالله واستمروا على هذه الحال حتى الإمام الطيب الذي اختار الستر في اعتقادهم، وقامت السيدة أروى برئاسة الدعوة نائبة عنه حتى وفاتها بعد أن وكلت أمر الدعوة إلى داع مطلق هو ذؤيب ابن موسى الوادعي. وقد نشط الصليحيون في بث الدعاة في الحجاز وحضرموت والهند وأسسوا فيها طوائف تهتدي بهم عرفت باسم المستعلية والطيبية، واستمر الأمر على هذا النحو حتى انتقال الدعوة إلى كجرات في الهند سنة 946هـ حيث عرفت باسم البُهرة (أي التجار).
المستعلية: كان المستنصر بالله قد سمى قبل وفاته ابنه نزاراً ولياً للعهد وإماماً من بعده، ولكن أحمد بن المستنصر نازع أخاه الخلافة، وكان صغيراً يشد أزره ويتعهده خاله قائد الجيوش الأفضل بن بدر الجمالي [ر]، فهرب نزار إلى الاسكندرية واعتصم بها بيد أنه هزم وقتل وتفرق أصحابه وصفا الأمر لأحمد الذي تلقب بالمستعلي. وهكذا انقسمت الإسماعيلية إلى نزارية ومستعلية. وبقيت الخلافة الفاطمية للمستعلية في مصر والشام في حين انتصر إسماعيلية فارس لنزار ومعهم بعض أنصار الدعوة في العراق والشام. وظل المستعلي في سدة الحكم حتى وفاته سنة 495هـ، وتولى الخلافة من بعده ابنه الآمر بأحكام الله.
لم ينس النزارية مالحقهم من غبن فدبروا كميناً وتم لهم به اغتيال الآمر سنة 524هـ. وتقول بعض الروايات إنه كان للآمر ابن اسمه الطيب دخل كهفاً وهو ابن عام واختار الستر وإنه سوف يعود في آخر الزمن (وهو دور الستر الثاني)، كما تزعم روايات أخرى أن أباه بعث به إلى اليمن سراً وهو صغير لترعاه السيدة أروى وأنه مات هناك. وعرف أتباعه باسم الطيبية.
شغر مقام الإمامة الفاطمية بعد موت الآمر مدة سنتين لعدم وجود وريث ظاهر من نسله، فاختير ابن عمه الماجد وصياً مؤقتاً، وقبل جل المستعلية إمامته فتلقب بالحافظ وعدّه آخرون داعياً مطلقاً واستمر في الحكم أكثر من ثماني عشرة سنة ودعي أتباعه الحافظية أو الماجدية، وتوالى بعده على الحكم ثلاثة من أولاده وأحفاده كان آخرهم العاضد الذي سقطت بوفاته الدولة الفاطمية.
تفرعت المستعلية أو الطيبية إلى فرق متعددة لاختلاف أتباعها على الأئمة والدعاة والمرشدين. فقد توالى على الدعوة عدد من الدعاة المطلقين نواباً عن الأئمة المستترين ومقرهم اليمن، حتى سنة 946هـ عندما انتقل الداعي المطلق يوسف بن سليمان نجم الدين إلى الهند. وفي عهد الداعي اليمني علي بن عبد الله (ت832هـ) انفصلت الفرقة الجعفرية النهروالية (نسبة إلى أحمد جعفر الشيرازي) وصارت إلى مذهب السنة وانضم إليها كثير من الهندوس، وفي سنة 975هـ (أي بعد انتقال مقر الدعوة إلى الهند) اختار البهرة داود بن قطب شاه داعياً مطلقاً خلفاً لداود بن عجب شاه فعرفوا بالداودية، في حين عاضد الطيبية في اليمن سليمان بن حسن الهندي الذي ادعى المنصب لنفسه فعرفوا بالسليمانية. واتخذ دعاة الداودية من بلدة سورت في الهند حاضرة لهم وعرفوا باسم البهرة العليا ومازالت دعوتهم قائمة إلى اليوم ويتوزع أتباعها في نجران واليمن والهند وباكستان وإفريقية. ومنهم نشأت الناكوشتية التي تحرم اللحوم. أما السليمانية في اليمن فقد آل منصب الداعي المطلق عندهم إلى إبراهيم بن محمد بن فهد من أسرة المكرمي سنة 1050هـ واستمرت الرئاسة فيهم، ولكنهم اصطدموا بمحاولات الأئمة الزيدية الذين سعوا إلى طردهم من البلاد. واستطاع الداعي الحسن بن هبة الله (ت1189) بسط سيطرته على حضرموت بيد أنه عجز عن مقاومة نفوذ آل سعود، ثم تمكن القائد العثماني أحمد مختار باشا من طردهم من هناك. وأكثر السليمانية اليوم يقيمون في بومباي وحيدر أباد (الهند)، ومنهم من يقيم في اليمن ونجران وإفريقية.
النزارية ودولة ألموت: وجدت النزارية في إيران والعراق والشام تربة خصبة. واستقر أمرهم في جبال إيران حيث كونوا دولة إسماعيلية نزارية استمرت سبعاً وسبعين ومئة سنة. وقد بدأت هذه الدولة باستيلاء الحسن بن الصباح الحميري على قلعة ألموت[ر] سنة 477هـ وانتهت بسقوط القلعة على يد هولاكو في سنة 654هـ.
وكان داعي دعاة فارس عبد الملك بن العطاش الطبيب قد بعث بالحسن بن الصباح إلى مصر سنة 469هـ للتفقه في أصول الدعوة، ونجح في طريق عودته في استمالة عدد من الأتباع في الشام والعراق، وكان أمر الإسماعيلية قد استفحل في فارس برئاسة عبد الملك بن العطاش وابنه أحمد فانضم إليهما الحسن بن الصباح وتمكن الثلاثة من السيطرة على عدد من الحصون والقلاع بالقوة حيناً وبالحيلة أحياناً. وتبنوا العمل الفدائي والاغتيال السياسي لإرهاب الأعداء والخصوم، ثم بدا لابن الصباح أن يستولي على قلعة ألموت ويتخذها قاعدة لعملياته مستقلاً بها عن ابن العطاش. وبعد وفاة المستنصر الفاطمي ومقتل نزار ابنه سنة 488هـ رفض إسماعيلية فارس الدعوة للمستعلي، ونادوا بعلي الهادي بن نزار إماماً ثم لابنه محمد المهتدي.
وقد استطاع الحسن بن الصباح بحنكته ومهارته أن يضم إليه جميع إسماعيلية فارس بعد مقتل أحمد بن عبد الملك العطاش سنة 500هـ، فصارت له دولة ضمن دولة تتحكم في عدد كبير من القلاع والحصون في أنحاء متفرقة من إيران ولاسيما في المناطق الشمالية الغربية في جبال الدامغان وجيلان والري، فقوي نفوذه وخشيه الناس والحكام وتلقب بالسيد والرئيس وعرف أصحابه بالصباحية والنزارية والحشيشية.
ظلت الإمامة النزارية تتخذ من ألموت حاضرة لها حتى سقوط القلعة في يد هولاكو سنة 654هـ وإعدام الإمام ركن الدين خورشاه بن علاء الدين. وظل أتباعها أوفياء للوارث الظاهر الأصلي نزار بن المستنصر، وقد استتر أئمتهم حقبة من الزمن وأدى هذا الاستتار إلى حدوث خلاف في ترتيب الأئمة، إذ يرى فريق منهم (القاسمية) أن الإمام بعد نزار هو علي الهادي بن نزار وأنه توفي في قلعة لمسّر (شمالي إيران) سنة 530هـ، ثم ابنه محمد المهتدي الذي انتقل إلى قلعة ألموت وتوفي بها سنة 552هـ. وتوالى بعده على الإمامة ثلاثة آخرون هم القاهر والحسن وأعلى محمد ثم جاء حسن جلال الدين الإمام الظاهر في ألموت والمتوفى سنة 617هـ/ 1220م. ويرى فريق آخر أن الإمام بعد نزار هو الحسن بن نزار (ت 534هـ) ثم محمد بن الحسن (ت590هـ) وبعده حسن جلال الدين المذكور ثم تعود الشجرتان إلى السير معاً حتى الإمام محمد شمس الدين. وقد حدث انقسام الإسماعيلية النزارية إلى مؤمنية وقاسمية بعد وفاة الإمام محمد شمس الدين سنة 711هـ. فقد أرسل خَلَفُه الإمام قاسم شاه أخاه الأوسط مؤمن شاه داعياً إلى بلاد فارس وقزوين وممثلاً له فيها، ولكن مؤمن شاه ادعى الإمامة لنفسه وتبعه عدد كبير من إسماعيلية فارس والشام. وظلت هذه الفرقة على ولائها لمؤمن شاه وأولاده من بعده حتى آخرهم أمير محمد باقر الذي انقطع الاتصال به سنة 1210هـ/ 1796م. وأكثر أتباع الفرقة المؤمنية يقيمون اليوم في بلدتي قدموس ومصياف السوريتين وبعض قرى مصياف.
أما القاسمية فقد ظلت على ولائها للإمام قاسم شاه (ت 773هـ/ 1372م) وولده من بعده، وأكثرهم في إيران والهند. وقد منح شاه إيران فتح علي القاجاري (حكم 1212-1250هـ/ 1797-1834م) صهره شاه حسن علي (1219-1298هـ/ 1804-1881م) لقب آغا خان، وهو الإمام السابع بعد الإمام قاسم شاه والإمام السادس والأربعون في ترتيب الأئمة الإسماعيلية في رأي الفرقة النزارية القاسمية الآغاخانية وصار هذا اللقب متوارثاً فيهم إلى اليوم. ويعد الإمام كريم علي خان الإمام الخمسين عند الإسماعيلية النزارية الآغاخانية، وأكثر أتباع هذه الفرقة في الهند وإيران وإفريقية الشرقية، ويقيم أتباعها في سورية في سلمية وبعض قراها وفي جوار قلعة الخوابي قرب طرطوس.
النزارية في سورية (بلاد الدعوة): لم يكتف نزارية فارس بما تحقق لهم ورغبوا في مزاحمة المستعلية وبسط نفوذ النزارية في ديار الفاطميين أنفسهم فبثوا الدعاة في العراق والشام ومصر واليمن. وأفلح الحسن بن الصباح بعض الفلاح في مد سلطته إلى بلاد الشام فاستقر بعض دعاته في حلب. ونجح الداعي أسعد بن قاسم بن الحسن العجمي المعروف بالحكيم المنجم في استمالة الأمير رضوان بن تتش السلجوقي (ت507هـ) صاحب حلب، كما نجح في تكوين مجموعة فداوية استعان بهم رضوان في تحقيق أغراضه، وكان أول ضحاياهم صهر رضوان جناح الدولة حسين صاحب حمص. وبعد موت الحكيم المنجم تسلم أمر الدعوة في حلب أبو طاهر الصائغ العجمي فازداد قوة ونفوذاً. ولما توفي رضوان وملَكَ حلب بعده ابنه ألب أرسلان قرر البطش بالباطنية فقبض على أبي طاهر وقتله واعتقل عدداً كبيراً منهم واستصفى أموالهم وقتل جماعة منهم، وأفلتت جماعة فتفرقت في البلاد، وحاول بعضهم الاستيلاء على عدد من القلاع المنيعة مثل شيزر وأفامية فلم يفلحوا، وقصد قسم منهم دمشق يتزعمهم الداعي بهرام وفيها ظهير الدين طغتكين أتابك نجم الدين إيلغازي بن أرتق فأكرمهم اتقاء لشرهم وسهل لهم وزيره طاهر بن سعد المزدقاني أمر التغلب على قلعة بانياس (الصبيبة) في الجولان سنة 520هـ، وكان موافقاً لهم في دعوتهم، فاستفحل أمر بهرام وأغار على جيرانه في وادي التَيْم، ولكنه قتل في إحدى المعارك سنة 522هـ وقام بالأمر بعده إسماعيل العجمي. وبعد وفاة طغتكين (522هـ) سعى ابنه تاج الملوك بوري إلى التخلص من نفوذهم في دمشق فقتل وزيره المزدقاني وتتبع أحداث دمشق من عرف من النزارية فتفرق شملهم، وخشي إسماعيل العجمي المقيم في بانياس مغبة الأمر فراسل الفرنجة وسلمهم الحصن ولجأ إليهم ولم يلبث أن مات ودفن هناك. وحاول بعض الفداوية الثأر لما حل بهم من تاج الملوك فأخفقوا.
ومع ذلك نجح النزارية في التسلل إلى بعض المواقع المنيعة في جبال الساحل (البهراء) من بلاد الشام وأقاموا في قلاع شيدوها أو استولوا عليها وعرفت باسم قلاع الدعوة (أو بلاد الدعوة)، وهي: مصياف والرصافة والخوابي والقدموس والكهف والمنيقة والعليقة والقليعة، ويضاف إليها ثلاث قلاع أخرى لم تبق في أيديهم طويلاً وأخذها الفرنجة منهم وهي: المرقب وصافيتا والعريمة (ذكرها وليم الصوري وذكر أنها كانت في يد الحشيشية). وقد كان لبلاد الدعوة هذه وزن في توجيه مجريات الحوادث في أثناء الحروب الصليبية في عهد الزنكيين والأيوبيين والمماليك إلى أن خضعت نهائياً لسلطة المماليك في زمن الملك الظاهر بيبرس. وقد نبغ من رؤسائها في هذه الحقبة راشد الدين سنان بن سلمان بن محمد بن راشد البصري (528- 588هـ/ 1134-1192م)، وكانت ولادته بالبصرة وقضى شطراً من حياته في ألموت ثم انتقل إلى الشام في أيام السلطان نور الدين محمود بن زنكي، وعاصر صلاح الدين الأيوبي وكانت له معه وقائع وحوادث، ثم صالحه في أواخر أيامه ومات قبل صلاح الدين بعام واحد وكانت حاضرته قلعة الكهف ودفن بها، وقد تمكن نفوذه في إسماعيلية الشام حتى استقل عن إسماعيلية ألموت، وحاول أصحاب ألموت أن يردوه إلى الطاعة أو اغتياله فلم يفلحوا. وقد نسبت إليه خوارق ومعرفة الغيب بما كان يتقنه من أساليب، إلى جانب ذكائه النادر وفطنته حتى اعتقد فيه البعض أنه صاحب معجزات وإليه تنسب طائفة منهم تعرف «بالسنانية». وظلت بلاد الدعوة بعده قوية الشوكة إلى أن اجتاح المغول بلاد الشام سنة 658هـ، وكان رضي الدين أبو المعالي زعيم الإسماعيلية فيها، فتسلم المغول بعض قلاعهم، ولكن سيف الدين قطز سلطان المماليك أعادها إليهم في السنة نفسها بعد أن هزم المغول في عين جالوت. وفي سنة 664هـ راسل الملك الظاهر بيبرس الإسماعيلية وأمرهم بالخضوع له فأذعنوا وصار له أمر العزل والتولية فيهم، بعد أن أوقع الحوطة على زعيمهم نجم الدين إسماعيل، ابن الشعراني، وابنه شمس الدين سنة 670هـ/ 1271م، وضم إليه بعض قلاعهم ومنها مصياف (669هـ) والعليقة (670هـ) ثم الرصافة. وأخيراً تسلم نوابه مابقي من حصون الإسماعيلية (الكهف والمنيقة والقدموس) أواخر سنة 671هـ/ 1273م، وزالت دولتهم من الوجود. ولم يكن هدف الظاهر القضاء على الإسماعيلية في هذه المعاقل بل إدخالهم في طاعته.
وظل أتباع الإسماعيلية مواطنين عاديين في بلاد الشام إلى اليوم، وهم يحافظون على صفتهم طائفة مميزة من الطوائف الأخرى التي تعيش في البلاد، ومنهم آخرون موزعون في مختلف أنحاء العالم ولهم مؤسساتهم وروابطهم الخاصة، وغالبهم من البهرة أو المؤمنية أو القاسمية الآغاخانية، وأكثر الإسماعيلية في سورية ولبنان اليوم هم من المؤمنية أو القاسمية ويتوزعون في مدينة سلمية ومنطقة مصياف وبعض قرى جبال الساحل.
الدروز[ر]: تفرعت هذه الطائفة عن الإسماعيلية الفاطمية، وتوقفت عن نهج الإمامة في عهد الحاكم بأمر الله الفاطمي، وتنسب إلى حمزة اللباد العجمي الدرزي هادي المستجيبين (ت 433هـ) ومعلمه محمد بن إسماعيل الدرزي (411هـ). وقد استقر أتباعها في بلاد الشام (سورية ولبنان وفلسطين والأردن).
سبل الدعوة
يجد الباحثون من الإسماعيلية وغيرهم صعوبة في الكشف عن حقائق هذه الدعوة السرية ولاسيما في مراحلها الأولى. وقد أوجب نظام التقية والمغالاة في السرية اتباع أساليب تتواءم مع الأفكار التي يحرص أصحاب الدعوة على كتمانها ومع عقول المستجدين والمستجيبين والأتباع. وأضاف منظرو الإسماعيلية الأول ودعاتهم إلى طرائق التقية التي تبناها الشيعة نظماً صارمة في اختيار الأنصار ومن يتوسم ضمّه إلى المذهب أو إلحاقه بتنظيمات الإسماعيلية السرية، وابتكروا لهذه الغاية أساليب ووسائل فعالة كانت تتفاوت وتتباين بتفاوت أحوال الدعوة وتفرعاتها ومناطق نشاطها والقائمين عليها. وجعلوا لتنظيماتهم درجات ومراتب لا يمكن تجاوزها أو الانتقال بالمريد من درجة إلى أخرى إلا بعد الاطمئنان والاختبار.
وكان عبد الله بن ميمون يطلب من دعاته أن يخاطبوا الناس على قدر عقولهم، وأن يكون خطابهم للمثقفين وللمتفقهين في الدين ولأصحاب الديانات الأخرى ولعوام الناس متناسباً مع قدر كل منهم ومستوى تفكيره. فكانوا يستهلون الدعوة بإثارة فضول من يرغبون في استمالته وطرح بعض القضايا التي تبعث على التفكير والتأمل وتثير التساؤل، ثم ينتقلون بمن يتوسمون فيهم الاستجابة تدريجياً حتى يصبح هؤلاء طوع أمرهم وموضع ثقتهم فيبسطون لهم أسرار الدعوة وأهدافها، وقد صنف عبد القاهر البغدادي في كتابه «الفرق بين الفرق» وكذلك الباقلاني والغزالي أسماء هذه المراحل على النحو التالي: التفرس فالتأنيس فالتشكيك فالتعليق فالربط فالتدليس فالتأسيس ثم الميثاق والعهد ثم الخلع والسلخ. وكانت هذه الدرجات سبعاً في أوائل الدعوة ولاسيما عند القرامطة، ثم صارت تسعاً في العهد الفاطمي. وفي المصطلح الإسماعيلي يصبح المريد مستجيباً إذا أخذ عليه الداعي العهد والميثاق، وتكون استجابته على قدر استعداده ومقدرته على فهم ما يلقى على مسامعه من أسس الدعوة وأفكارها وفلسفتها، ويشغل بذلك المرتبة الدنيا من مراتب الدعوة، فإذا أبدى استعداداً أكبر وتفهماً أكمل صار في عداد المؤمنين، ثم يبدأ بالارتقاء تدريجياً إلى المرتبة التي يستحقها من مراتب الدعوة، ويطلق عليها في المصطلح الإسماعيلي الحدود الجسمانية، ومثلها الحدود الروحية وهي عشرة: المأذون المحدود أو المكاسر، وهو الذي يؤذن له بجذب الأنفس المستجيبة، ويليه في المرتبة المأذون المطلق أو النقيب وهو الذي يفوض إليه أخذ الميثاق والعهد، ثم الداعي المحدود ومهمته تعريف الحدود السفلية والعبادة الظاهرة، ثم الداعي المطلق وهي رتبة النائب عن الإمام في دور الاستتار، ومهمته تعريف الحدود العلوية والتأويل الباطن، ثم داعي البلاغ وهي رتبة الاحتجاج وتعريف المعاد، ثم الحجة أو داعي الدعاة وهو أعلاهم ورتبته الحكم فيما كان حقاً وباطلاً، ثم الباب ورتبته فصل الخطاب، ثم الإمام وبيده الأمر وهو الهادي وصاحب الزمان. ثم الأساس أو الوصي وله رتبة التأويل، ثم الناطق وهو الرسول من أولي العزم وله رتبة التنزيل.
لم يقتصر نشاط الدعوة الإسماعيلية في تاريخها الطويل على العمل السري والاتصال الفردي بين الداعي والمستجيب، بل كانت لها في دور الظهور مجالس يعقدونها في المساجد والمكتبات والقصور ومدارس متخصصة لتخريج الدعاة وتأهيلهم بإشراف داعي الدعاة وتوجيهه، وكان لهذا المنصب في العهد الفاطمي شأن كبير، وهو يلي قاضي القضاة في المرتبة ويتزيا بزيه. وكانت دار الحكمة في القاهرة جامعة رسمية يتخرج فيها الدعاة ثم يتوزعون في الأقطار لنشر الدعوة.
معتقد الإسماعيلية وفلسفتهم
الإسماعيلية من الفرق الإمامية التي ترى أن الإمامة زمام الدين ونظام المسلمين وأنها أمر واجب فلا يجوز أن يبقى المؤمنون من دون إمام يقودهم إلى طرق النجاة والخلاص. وفي حين توقفت الإمامة في مذهب الشيعة الاثني عشرية عند الإمام الثاني عشر غائباً منتظراً ومهدياً مرتقباً، ماتزال الإمامة في معتقد الإسماعيلية قائمة عندهم سواء في دور الستر أو في دور الظهور بحسب الأحوال. ويرى الإسماعيلية أن الإمامة تولية إلهية وفرض من فروض الدين وتقابل درجة الإيمان ولا يكون ثمة شرع أو أحكام إلا بوجودها. وقد ألزم الإسماعيلية أتباعهم بواجبات نحو الأئمة وفي مقدمها الطاعة التامة فطاعة الإمام من طاعة الله ورسوله، فإن عصاه المؤمن أو كذب به فهو آثم، وتوقير الإمام وتعظيمه واجب، وهم يؤولون ذلك من الآية الكريمة )أطِيعُوا الله وأطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُلي الأمِر مِنْكم( (النساء 59) والمقصود من أولي الأمر هنا هو الأئمة. وعلى المؤمنين أن يخبروا الأئمة بأحوال أنفسهم ويسألوهم في شؤونهم ويلتمسوا لديهم الاستغفار عند الله، وأن يصبروا على ما يمتحن به الأئمة أتباعهم ويشكروهم على ما يولونه من نعم، وأن يجاهدوا معهم ويسلموا أمورهم إليهم قولاً وفعلاً، وأن يحذروا من عقوبتهم وسقوط المنزلة عندهم، وأن يوالوا من والاهم ويعادوا من عاداهم ويتحروا ما يوافقهم وينهوا عن إتيان ما يخالفهم، وأن يتجردوا من سوء الظن، وأن يدفعوا خمس المكسوب إلى الإمام ليصب في بيت المال. ودعائم الإسلام في معتقد الإسماعيلية سبع هي الولاية ثم الطهارة فالصلاة والزكاة والصوم والحج والجهاد.
وفي اعتقاد الإسماعيلية أن الإمامة تنتقل من الآباء إلى الأبناء ولا يمكن أن تنتقل من أخ إلى أخيه، ويكون انتقالها بالنص والتوقيف من الأب إلى الابن، والإمام بما أوتي من خبرة ومعرفة يعلم أياً من أبنائه يستحقها، وهو لا يخطئ في معرفته هذه. وهم يرون أن الله تعالى لا يمكن أن يترك العالم خلواً من الإمام لأنه حجة الله على خلقه ووارث النبوة. فالإمامة المركز الذي تدور عليه دائرة الفرائض، ولا يبقى الكون لحظة من دونها فهي مستمرة أبد الدهر، وهي تعادل القلب من الجسم والعقل في الرأس. وعندما بحث منظرو الإسماعيلية موضوع الإمامة رأوا أن تسلسلها من الإمام إسماعيل بن جعفر الصادق يجعلها محدثة، ولا يقوم وجودها على أساس أو حقيقة، فجعلوها من بدء الخليقة ومن عهد آدم، واستندوا في تطبيقها إلى النصوص التي وردت في الكتب السماوية وأضافوا إليها قولهم بالأدوار والأكوار (الأمكنة)، وجعلوا لكل دور إماماً مقيماً أو رسولاً ناطقاً وأساساً أو وصياً وسبعة أئمة آخرين يكون آخرهم متماً للدور، وقد يزيد عدد الأئمة على سبعة ولكن الزيادة تحصل في الأئمة المستودعين وليس في الأئمة المستقرين. وتسمى المرحلة التي تقع بين الناطق والناطق دوراً صغيراً وفيه سبعة أئمة، وأما الدور الكبير فيبتدئ من عهد آدم حتى القائم المنتظر ويسمى الدور السابع، ويكون القائم فيه متماً للنطقاء الستة السابقين، وعليه فقد جعل الإسماعيلية الإمامة درجات ومقامات، ولكل درجة صلاحياتها واختصاصاتها المحدودة أحياناً والمطلقة أحياناً أخرى، وحصروا معرفتها بطبقة خاصة من العلماء والدعاة تقية وكتماناً. وهذه الدرجات هي: الإمام المقيم وهو الذي يقيم الرسول الناطق ويعلمه ويدرجه في مراتب رسالة النطق وينعم عليه بالإمدادات، ويسمونه أحياناً رب الوقت وصاحب العصر وإمام الزمان، ومرتبته أعلى مراتب الإمامة وأرفعها وأكثرها دقة وسرية. ويليه الإمام السادس أو الوصي وهو يرافق الناطق في جميع مراحل حياته ويكون أمين سره، ومنه يتسلسل الأئمة المستقرون في الأدوار الزمنية، وهو المسؤول عن شؤون الدعوة الباطنة المقتصرة على طبقة خاصة ممن عرفوا التأويل وبلغوا درجة العلوم العليا، ثم الإمام المتم الذي يتم أداء الرسالة في نهاية الدور الصغير فيكون سابعاً، ويسمى كذلك ناطق الدور، لأن وجوده يشبه الناطق، ويكون الإمام الذي يأتي بعده قائماً بدور جديد، ويلي المتم في المرتبة الإمام المستقر، وهو الذي يملك حق توريث الإمامة لمن شاء من ولده بالنص والتوقيف، ويسمى صاحب الجوهر، ويتسلم الإمامة بعد زوال الناطق، ويأتي في المرتبة الخامسة الإمام المستودع، وهو الذي يتسلم الإمامة في شروط استثنائية نيابة عن إمام مستقر ولا يستطيع توريث الإمامة واحداً من أولاده، ويسمى لذلك نائب الغيبة.
أدى اختلاف الرأي حول شخص الإمام إلى تفرع الإسماعيلية وتشعب طوائفهم وكانت كل شعبة منهم ترى الإمامة في الذي انتصرت له وهو الأحق بها من سواه. وفي مثل هذا الجو من الخلاف تتجسد الحاجة إلى تأييد الأفعال بالتنظير والبرهان، وهما يلقيان في أسلوب التأويل العون والسند، وعلى هذا الأساس يكون الفكر الباطني حصيلة جهد تجاوز فيه التفسير متح المعاني من الألفاظ الظاهرة ليستشف رموزها فيما وراء الإشارات، معتمداً المحاكمة التمثيلية التي تجعل لكل ظاهر دلالة باطنة، وهي دلالة من وحي أفكار أصحابها بدل كونها دلالة عامة متداولة. والباطنية صفة عامة مشتركة بين كل الفرق التي تقوم على التأويل، وتندرج تحت مذاهب وطوائف عدة يجمع بينها شيء واحد هو تأويل النص الظاهر بمعنى باطن تأويلاً يذهب مذاهب شتى. ومعنى هذا أن النصوص المقدسة رموز وإشارات إلى حقائق خفية وأسرار مكتوبة وشعائر، وأن عامة الناس هم الذين يقنعون بالظواهر والقشور ولا ينفذون إلى المعاني الخفية المستورة التي تبقى وقفاً على أهل العلم والحق: علم الباطن. والغاية من التأويل التحرر من قيد النص للتوفيق بينه وبين ما يذهب إليه صاحب التأويل أو التوفيق بين ما يفهم من صريح النص وما يقتضيه العقل، أو هو الرغبة في التعمق في صريح النص ابتغاء المزيد من العلم فيما يتضمنه من آراء، ولا يلجأ إلى التأويل إلا إذا كان النص مقدساً أو مقيداً، ولولا ذلك لما كان ثمة داع للتأويل، فعملية التأويل قائمة مادام الإنسان مضطراً إلى الأخذ بنص محدد، ولا يقتصر ذلك على الكتب المقدسة، بل يتعداه إلى النصوص القانونية والآثار الأدبية حين تصبح ذات سلطة.
والتأويل هو مفتاح التفكير الإيماني عند الإسماعيلية على اختلاف درجاته فهو معرفة الظاهر لأهل الظاهر أولاً، ثم معرفة الظاهر لأهل الباطن ثانياً، ثم معرفة الباطن لأهل الباطن ثالثاً. أو هو معرفة الظاهر والباطن وتأويل الباطن بما هو ظاهر. والسبيل إليه ما يسمى نظرية المثل والممثول، أي تفسير الأمور العقلية غير المحسوسة بما يقابلها ويماثلها من الأمور الجسمانية المحسوسة. فَمَثل الإسلام مثل الظاهر، ومثل الإيمان مثل الباطن، والنية مَثَل الولاية، ومثل القلب مثل الإمام، فمن لم يعتقد بولاية إمام زمانه لم ينفعه قول ولا عمل ولم يصح له ظاهر ولا باطن. والقرآن، في معتقد الإسماعيلية، قابل للتأويل، والنبي الناطق هو الذي يعلم تأويله، فهو أول الراسخين في العلم، ويليه الوصي أو الأساس أو الصامت فهو الراسخ في العلم في كل عصر. والأنبياء مواصلون من الله تعالى بالتأييد والعصمة في كل الأحوال. وقد ضربوا الأمثال لما يعرفونه بصيغ يقبلها العالم والجاهل. ولما كان النبي غير باق ليحكم في الناس، فإن الحاجة إلى الإمام تظل متجددة، والعلم الذي خص به الأئمة هو علم الباطن والتأويل دعامته، وتقتصر معرفة أسرار الدين على الأئمة من نسل علي وفاطمة الزهراء، «فهم الكواكب والنجوم والمصابيح ترسل نور المعرفة إلى قلوب الأتباع» ولما سبق فإن الإسماعيلية لا يأخذون بالرأي والقياس والإجماع في التفسير والفقه. وقد تعرض مفهوم الإمامة عند الإسماعيلية إلى تغير تاريخي.
متح الفكر الإسماعيلي أسسه الفلسفية من نظرية الفيض الأفلوطينية، وليس من الغلو التأكيد أن وجهي الفكر الفلسفي الباطني واللاباطني أفادا من اعتماد هذه النظرية لحل المشكلات الميتافيزيقية وإخضاعها لمطلب التوحيد الإسلامي، وبديهي أن يفترق هذان المنحيان بعد انطلاقهما من قاسم مشترك، وأن يأتي المنطق العقلي بثمار مباينة لثمار منطق التأويل. ويصف الإسماعيلية أنفسهم، وكذلك سائر الفرق الباطنية،بأنهم أهل «التوحيد»، وهم يؤكدون هذا المعنى دائماً. ولعل سبب إلحاحهم على هذا التوكيد شعورهم بأن أهم طعن يوجه إليهم هو أنهم أشركوا بالله الواحد الأحد موجودات قديمة مثل العقل الكلي والنفس الكلية وأنهم قالوا بالحلول، أي حلول روح الله في الأئمة. ولهذا يحرص الإسماعيلية على توكيد معنى «التوحيد» بالنسبة إلى الله، ويذهبون في ذلك إلى حد نفي الصفات عنه تعالى، لأن كل صفة وموصوف مخلوق، وهم لا يكتفون بنفي الشبيه عنه بل يمضون إلى أبعد من ذلك فينفون عنه التسمية والحد والصفات والزمان والمكان، وينفون عنه حتى صفة الوجود الذي يسمونه «أيساً»، وهي الكلمة التي استعملت في ترجمة مؤلفات أرسطو إلى العربية، لأن الأيس، أي الموجود، محتاج إلى ما يستند إليه في وجوده، «وكان هو، عز كبرياؤه، متعالياً عن الحاجة إلى مابه يتعلق، وكان من ذلك الحكم بأنه تعالى خارج عن أن يكون أيساً»، أي أن الله تعالى وراء الآيات المتعلق وجودها بوجوده. وهم يرون كذلك أن نفي الصفات عن الله «معتقد صحيح لا يسوغ تركه، لأن الصفات تلحق بالجوهر إما في الأجسام وإما في النفوس، والصفات تلحق بالموصوف من غيره لا من ذاته، فصفات الأجسام تأتي من خارجها كالأقدار والألوان وما يجري مجراها، وفي النفوس تأتي من داخلها كالعلم والجهل، وهو يتعالى أن يكون له داخل أو خارج». ومن هنا يأتي نفي التسمية عن الله تعالى لأن التسمية وسم يوسم به المخلوقات تميز كلاً منها من الآخر، «والله متعال ليس له صورة ويتعالى عن أن يوسم بماتوسم به أسباب خلقته» فالله هو «الخالق الباري المبدع قديم وقبل الأزل، وأما عالم الموجودات والمبدَعات فمحدث، لأنه إن كان غير محدث فيجب أن يكون شيء سابق قد أحدثه، وإذا كان العالم قديماً قبل الخالق استحال تعلق جبروته بالقدم ووجوده بالعدم، واقتضى موجداً أوجده. وهو المتعالي عن درك الصفات فلا ينال بحس ولا يقع تحت نظر ولا تدركه الأبصار ولا ينعت بجنس ولا يوصف بالحواس ولا يدرك بالقياس، وهو المنزه عن ضد مناف وند مكاف ليس له مثل ولا شبه، وليس له أسماء لأن الأسماء من موجوداته، ولا صفات لأن الصفات من أيسياته، وإن حروف اللغة لا يمكن أن تؤدي إلى لفظ اسمه، أو يطلق عليه شيء منها، لأنها جميعاً من مخترعاته، وهو مبدع المبدعات والفرد المعروف بوحدانيته وصمدانيته، وصاحب فعل الإيجاد للعدد الأول الذي هو أصل الأعداد كما أن العقل أصل الموجودات والناطق أصل عالم الدين. وهو موجود لأنه لا يصح أن يكون غير موجود. وإن توحيد المبدع قد عرّفه الدليل المرسل الذي أرسل هادياً للأمة من دون تشبيه أو تعطيل أو تحديد أو تكييف. وإن من عرف المبدِع والمبدَع الأول الذي هو العقل، ثم الثاني وهو النفس الكلية، ثم الهيولى، ثم الصورة الكلية إلى آخر الحدود السبعة، ثم نزه الخالق واعتقد بطاعته وطاعة الأنبياء المرسلين والأئمة الوارثين يكون قد عرف الله على حقيقته وحاز مرتبة الخلود في جنان عالمي النفس والعقل».
ولما كان «لكل شيء من العوالم غاية ينتهي إليها» فإن غاية البشر هي النبي في وقته والوصي في زمانه والإمام في عصره، وبذا تتصل الحياة السارية من عالم القُدُس إلى عالم الخلق، ومن عالم الإبداع إلى عالم الأجرام، ويتجلى تدبير الله العالم في نسق يمكن تلخيصه في طائفة من الحدود العلوية والسفلية. وتقابل هذه الحدود في نظرية الفيض ما يتصل بعالمي ما فوق القمر وما دونه، وتلتقي هنا فكرتان متلازمتان هما المبدأ والمعاد. فالإسماعيلية ترى انتظام الزمان كله وعالم الإبداع وعالم الخلق في مجموعة سباعية الأسابيع أو «السوابيع» التي تتألف من مراحل وأدوار وأكوار. إن هذا الجهد التنهيجي بتفاصيله التي تشمل أسابيع الأئمة والشهداء والحدود والدعاة إنما يتوخى دمج التاريخ الإسماعيلي المذهبي في التاريخ العام أو دمج التاريخ الإنساني والكوني في التاريخ الإسماعيلي وأسابيعه السبعة نشداناً لمطلق يصلح تأييداً للدعوة الرامية إلى الإقناع إن قصرت عن البرهان.
تراث الإسماعيلية
يتفق الإسماعيلية الفاطمية والشيعة الإمامية الجعفرية في كثير من المسائل الفقهية مع خلاف بسيط في أمور قليلة من بينها اعتماد الإسماعيلية التقويم الفاطمي في حساب الشهور وهي عندهم ستة علوية وستة سفلية، وأيام الشهر من الأولى ثلاثون يوماً، ومن الثانية تسعة وعشرون يوماً، وشهر رمضان عندهم ثلاثون يوماً، كذلك ينكر الإسماعيلية زواج المتعة الذي يجيزه الاثنا عشرية، وهم يقرون بالمصادر الفقهية المأخوذة عن الأئمة الستة الأول، ويضيفون إليها نتاج اجتهادهم ومحصلة دراساتهم المستندة إلى الفكر الفلسفي والتأويل، وقد ظل نتاجهم مكتوماً ومتوارثاً على مر الزمن إلى أن تكشفت بعض جوانبه من خلال ما نشر أو تسقطه الدارسون في زمن متأخر. وأدى نشاط المتأخرين والمعاصرين من الإسماعيلية إلى خلع باب الستر عن آثار إسماعيلية شتى، وما يزال جانب كبير منها ـ على أهميتها ـ مضيعاً أو مكتوماً. ويحار الدارس أمام ذلك العدد الكبير من التيارات الفكرية المتباينة والأحكام المضطربة التي تنسب إلى الإسماعيلية في مؤلفاتهم، وتزداد حيرته عندما يصطدم بأسماء علماء وفلاسفة ومصنفين منسوبة إلى الإسماعيلية وليسوا منهم. ولعل أوضح مثال على ذلك الجدل القائم حول انتماء إخوان الصفا في رسائلهم إلى الفكر الإسماعيلي أو عدمه، وقد نتج عن اضطهاد أصحاب التشيع عامة والإسماعيلية خاصة وملاحقتهم في العصر العباسي ضياع قسم كبير من المؤلفات الإسماعيلية سواء بالمصادرة أو الإتلاف، ومن ذلك مثلاً فقد أكثر ما حوته مكتبة قلعة ألموت بعد سقوطها في يد هولاكو، وكذلك ضياع مكتبة دار الحكمة في القاهرة بعد سقوط الخلافة الفاطمية. أما أقدم المصادر عن كتب الإسماعيلية فهو ابن النديم الذي عقد فصلاً في الفهرست «لأسماء المصنفين لكتب الإسماعيلية وأسماء الكتب»، ولا يميز ابن النديم في مؤلفه مؤلفات القرامطة من مؤلفات الإسماعيلية عامة، وقد أورد أسماء عدد منها وذكر أسماء مؤلفيها وألمح إلى أنه اطلع على بعض منها. وثمة مصادر أخرى تعدد مؤلفات الإسماعيلية وأسماء مؤلفيها، ومنها ما يأتي على ذكرها في سياق الترتيب العام من دون تخصيص. ومن أهم المراجع التي عنيت بالمؤلفات الإسماعيلية كتاب «المرشد إلى أدب الإسماعيلية» الذي نشره المستشرق إيفانوف، وكتاب «الفهرست» للشيخ إسماعيل بن عبد الرسول. وتضم المكتبات اليوم عدداً كبيراً من آثار الإسماعيلية التي أتيح لها أن تخرج إلى النور وعني بنشرها باحثون من الإسماعيلية وغيرهم. وأما أشهر من ألّف من القرامطة وأقدمهم فهو عبدان (ت سنة 286هـ)، وكان صهر حمدان قرمط وداعيته الأول، وله كتب كثيرة ذكرها ابن النديم وبعضها منحول نسب إليه، ولم يصل شيء منها إلى العصر الحديث. ويعد القاضي أبو حنيفة النعمان بن محمد بن حيُّون المتوفى عام 363هـ من أغزر مؤلفي الإسماعيلية نِتاجاً، ويعزى إليه وضع أكثر من 42 مؤلفاً منها كتاب «دعائم الإسلام في فكر الحلال والحرام والقضايا والأحكام»، وكتاب «أساس التأويل» و«تأويل الدعائم» وغيرها. ومن مشاهير مؤلفي الإسماعيلية أيضاً أبو يعقوب إسحاق بن أحمد السجزي أو السجستاني (ت 331هـ) مصنف كتاب «الينابيع» وهو من أهم كتبهم، وأبو منصور اليماني الشاذلي، والداعي حميد الدين أحمد الكرماني الملقب بحجة العراقين (ت 411هـ) صاحب كتاب «راحة العقل» وهو من أهم كتبه في العقيدة والفلسفة، وداعي سرمين أبو المعالي حاتم بن محمود بن زهرة (449ـ 498هـ)، وحاتم بن إبراهيم الحامدي (ت 596) صاحب كتاب «تنبيه الغافلين» وكتاب «زهر بذر الحقائق»، وأبو حاتم الرازي أحمد بن حمدان الورثامي الليثي (ت322هـ) الذي استجاب له جماعة من الديلم وفيهم أسفار بن شيرويه، وله «كتاب الزينة في الكلمات الإسلامية» ومناظرة مع محمد بن زكريا الرازي الطبيب المشهور نشرها في كتابه «أعلام النبوة»، وأبو القاسم الحسن بن فرج بن حوشب (230-303هـ) ومن مؤلفاته «كتاب أسرار النطقاء»، وناصر خسرو (394-481هـ)، وداعي الدعاة عبد الله موسى بن داود الشيرازي (391-470هـ)، وعبد الله بن أحمد النسفي البردغي (ت331هـ)، والداعي علي بن محمد بن الوليد (522-612هـ) والداعي المطلق عماد الدين إدريس بن الحسن القرشي (ت 872هـ) صاحب كتاب «نزهة الأفكار» وكتاب «عيون الأخبار وفنون الآثار» وهما من أهم مصادر الدعوة الإسماعيلية في اليمن حتى وفاة المؤلف، والداعي الذؤيب بن موسى الهمذاني (ت 536هـ) أول الدعاة المطلقين من المستعلية، وقد اشتهر باسم «فراص الكتب» لولعه باستخراج دفائنها وفك رموزها، والشيخ أبو فراس شهاب الدين المنيقي (872-937هـ) صاحب كتاب «مناقب المولى راشد الدين سنان»، والداعي حسن بن نوح (ت 929هـ) وغيرهم، وقد يبالغ بعضهم فينسب إلى الإسماعيلية عدداً من كبار المفكرين والفلاسفة المسلمين المعروفين. ويذكر الداعي حسن بن نوح في حديثه عن مراحل «تكونه الفكري» أنه درس ما لايقل عن خمسين كتاباً ورسالة في الشريعة المأثورة عن الأئمة وكتب الوعظ وكتب السير الكريمة في إثبات إمامة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وكتب البراهين والعلوم المكنونة وإبطال الباطل والفضل والفضيلة. وفي ذلك إلماعة إلى غنى الثقافة الإسماعيلية وتنوعها والتزامها بأهدافها.
ج.ت