الفلك الراديوي (علم ـ)
علم الفلك الراديوي radio astronomy هو فرع حديث نسبياً من علم الفلك[ر]. ففي حين كان يعتمد علم الفلك على المجال المرئي من الطيف الكهرمغنطيسي، امتد البحث عن الأجرام السماوية وما يصدر عنها من إشعاعات إلى الأمواج تحت الحمراء والأمواج الراديوية ذات الأطوال الموجية الأكـبر من الأطـوال الموجية للطيف المرئي من جهة، وإلى الأمـواج فـوق البنفسجية والأمـواج السينية وأشعة غاما من الجهة الأخـرى للأطوال الموجية القصيرة. تمتد الأطـوال الموجـية الراديويـة بين بضعة مليمترات وبضعة كيلومترات. ويعبـر عن هذه المجالات أيضا بصورة مكافئة، بدلالـة الترددات (التواترات)، فيقع المجال الراديوي بين 1.5×410 و1×710هرتز (Hz)، أو بدلالة طاقات فوتوناتها المقابلة بين بضعة أجزاء من المئة إلى بضعة أجزاء من المليون من الإلكترون فولط. ويُطلِق بعضهم اسم الأمواج المكروية microwaves على الأمواج الراديوية التي تقلّ أطوال موجاتها عن 30 سنتمتر. ويُستمد قرابة خمسةٍ وستين بالمئة من المعرفة الحالية بالكون من هذا الفرع من الفلك. فقد ساعد على اكتشاف الكازارات quasars والنبّاضات pulsars والثقوب السوداء وإشعاع الخلفية الكونية background radiation، الذي يعزى إلى الانفجار العظيم، والمجرات الراديوية، وكذلك في اكتشاف الهدروجين والكربون وجزيئاتهما في الفضاء الكوني.
لمحة تاريخية
كان كارل جانسكي Karl Jansky أول من تعرّف الإشارات الراديوية الواردة من خارج الأرض عام 1932. فقد ميّز إشارات لم يستطع إرفاقها بأي مصدر أرضي في أثناء محاولته استكشاف التشويش الذي يعوق الاتصالات الراديوية، وقال بورودها من مركز مجرة درب التبّانة. يبين الشكل (1) الهوائي الضخم الذي استعمله لهذه الدراسة وهو تجاوبي عند التواتر 7.20 ميغاهرتز، إذ احتاج إلى تحريكه وتدويره ليحدد المصدر بدقة، ويعدّ الهوائي العنصر الرئيس في المقاريب (التلسكوبات) الراديوية. ويتألف المقراب الراديوي، كما في جهاز الراديو (المذياع)، من هوائي طويل نسبياً بسبب كبر طول الموجة عندما يكون على شكل سلك، إذ يعمل السلك جزءاً من دارة تجاوبية، ومن مضخّم يمكن توليفه عند تواتر (تردد) معين، ومن مرشح الإشارة.
تابع كروت ريبر Grote Reber، وهو فلكي هاوٍ، هذا الاكتشاف ولكن باستعمال هوائي على صورة قطع مكافئ يظهر في الشكل (2) الذي يقارن بالمقراب الضوئي، فيقوم بتجميع الإشعاعات الراديوية عند محرقه حيث مكان الكاشف، وتقوم بعدئذٍ تجهيزات إلكترونية بتضخيم إشارة الكاشف وقياسها. مكّنه هذا المقراب من تحديد استقطاب الأمواج أيضاً، فرسم خارطة للمنابع الراديوية في السماء. وبعد عقد من الزمن اكتشف ج. هاي J.S.Hay ضجيجاً راديوياً قادماً من الشمس مرافقاً البقع الشمسية وتطورها. وتعدّ هذه الأعمال البداية الفعلية لعلم الفلك الراديوي.
وفي عام 1951، استعمل يوين H.I.Ewen وبورسل E.M.Purcell هوائياً على شكل بوق يقود الإشعاعات الراديوية ويجمعها حتى تصل إلى المضخّم، وذلك عند المجال القصير من الأطوال الموجية مع مستقبِل، الشكل (3). فاكتشفا أول مرة، حين كانا يعملان في مختبرات ليمان بجامعة هارفرد الإصدار ذا الطـول الموجي 21سم الناجم عن الهدروجين المعتدل الموجود في درب التبّانة. ويعد هذا نجاحاً ملحوظاً لهما، بعد محاولات عدة غير موفّقة قام بها فريق هولندي لاكتشاف هذا الخط المتنبَّأ به نظرياً والذي يعطي فهماً مفصّلاً للفضاء بين النجمي وما يحويه سواء لمجرتنا أم للمجرات الخارجية.
أدخل بيرك B.F.Burke وفرانكلن K.L.Franklin عام 1955، حين كانا يعملان في مؤسسة كارنيجي بواشنطن فكرة استعمال هوائي بأذرع متصالبة يتألف كل منها من 66 ثنائي قطب وبطول يصل قرابة 600 متر، فاستطاعا تحديد إشارة راديوية قادمة من المشتري، إذ مكّنهما هذا الترتيب من كشف حزمة ضيّقة أبعادها الزاويّة بحدود 6.1×2.4 درجة، وقاما بعدئذٍ بمسح السماء عند الطول الموجي 13.5 متر المستعمل في هذا الكاشف.
مقياس التداخل الراديوي
طوَّر رايل M.Ryle بعدئذٍ هذه التقانة، فاستعمل الإشارات المركبة الملتقطة بوساطة هوائيين منفصلين متباعدين، فتحسّنت بذلك مقدرة الفصل للمقراب فقد كانت كبيرة جداً بالمقارنة مع مقدرة الفصل للمقاريب الضوئية المحددة بقطر المرآة المجمِّعة، إذ تعدّ المسافة بين الهوائيين بمنزلة قطر فتحة المقراب الضوئي. وأصبح من الممكن تحديد مواقع المنابع بدقة تكفي لتدلّ المقاريب الضوئية على هذه المصادر لتُتابع تحليلها. وفي عام 1971، بدأ مشروع عالمي لمجموعة محطّات تغطي الأرض معتمدة التداخل سُمِّي مشروع الصفيف الضخم جداً Very Large Array (VLA) دشّن عام 1980، وتبعه مشروع مهم آخر سمّي مشروع الصفيف الأساس الطويل جداً Very Long Baseline Array (VLBA) يمتد من مسّاشوستس عبر فرجينيا الغربية وبيركلي حتى السويد في أبسالا الذي دشّن عام 1993. وهو يعتمد تقانة التداخل المسمّاة الخط الأساسي التداخلي الطويل جداً Very Long Baseline Interferometry (VLBA) التي تعتمد تسجيل الإشارات من كل هوائي على شريط مغنطيسي، ثم تجميعها في مكان واحد ومعالجتها حاسوبياً بوساطة عملية إيجاد التعالقcorrelation process ، وهي تطوير لما كان يستعمل في مشروع VLA حيث كانت إشارات الهوائيات تُدار وتُجمع عن طريق شبكة اتصالات تربط بينها، إذ كانت المسافات بين الهوائيات ممتدة بين 1 و36 كيلومتر وكلها على شكل قطع مكافئ قطر صحنها 25 متر قابلة للتوجيه، أما في هذه الحالة فقد تصل المسافات إلى مئات بل آلاف الكيلومترات. تحسّنت بذلك مقدرة الفصل التي تعتمد على طول الموجة المستعمل بصورة عامة، من بضعة أجزاء من الثانية القوسية إلى جزء من ألف من الثانية القوسية، ومازالت تتحسن مع ازدياد المقدرة الحاسوبية ومع تحسّن الكواشف. يأخذ التوقيت الزمني بين المحطّات دوراً مهماً كي تعمل المحطات عمل كاتم أداة واحدة؛ لذلك يستعمل ميزر[ر. الليزر والميزر] maser الهدروجين لهذا الغرض. توجد اليوم مشروعات عدة من هذا النوع على المستوى القارّي وعلى المستوى العالمي، إذ أصبح لهذه الأجهزة تطبيقات مهمة على الأرض أبرزها رصد انزياح القارّات.
الإشعاع الحراري
توسّع إمكان كشف المجال الراديوي باتجاه الأطوال الموجية الأقصر بعد الحرب العالمية الثانية توسّعاً كبيراً مع إدخال تقانات الرادار التي كانت متقدمة حينئذٍ. كما طُوّرت مستقبلات ومضخِّمات إلكترونية خاصة بأطوال موجية تكشف عن جزيئات بعينها مثل جزيئات الهدروكسيل (OH)، التي بدأ البحث عنها في الكون عام 1963، إضافة إلى ذرّات الهدروجين والأكسجين، فأمكن رسم خارطة توزعاتها ووفرتها في المجرّات والكون مما أسهم في فهم تكوّن المجرات. كما أصبح بالإمكان رسم أطياف راديوية إضافة إلى تتبع خط طيفي معين تماماً كما تقوم به المقاريب الضوئية. ولعل أبرز اكتشاف لعلم الفلك الراديوي اكتشاف ما يسمى إشعاع الخلفية الكونية أو إشعاع الدرجة 3 كلفن. وهو طيف إشعاعي يصدره جسم درجة حرارته المطلقة 3 كلفن قريب من إشعاع الجسم الأسود كانت تنبّأت بوجوده نظرية الانفجار العظيم التي تتناول نشأة الكون، فهو من بقايا هذا الانفجار ويتوزع توزعاً متجانساً، وفق هذه النظرية، وهذا ما وجده ويلسن Robert Wilson وبنزياس Arno Penzias عام 1965 وحازا بذلك جائزة نوبل. إذ من المعروف أن الأجسام تصدر إشعاعات حرارية ممتدة على طيف واسع من الأطوال الموجية يتميز بقمة عالية عند طول موجي محدد، ويتغير هذا التوزع بتغير درجة حرارة الجسم، فطيف الشمس مثلاً يقابل طيف جسم أسود black body درجة حرارته تقارب 6000 كلفن وتقع قمته بجوار فوق البنفسجي، فينزاح طول موجة هذه القمة نحو الأطوال الموجية الطويلة مع انخفاض درجة حرارة الجسم فتصبح في المجال الراديوي. وقد ساعد قياس الشدّة الإشعاعية في مجال واسع من الأطوال الموجية الراديوية على استكمال شكل التوزع فتبين أنه يقابل إشعاع جسم أسود درجة حرارته 3 كلفن.
المنابع الراديوية
نضج علم الفلك الراديوي منذ الستينيات وأسهم في تصنيف المجرات. فبعد أن كان التصنيف يعتمد بصورة رئيسة على شكل المجرة كما تظهر في المجال المرئي، وُجد أن بعض المجرات تحتوي نوى نشيطة تُصدر إشعاعات راديوية عالية الشدة ذات طاقة هائلة، كما تَصْدر هذه الإشعاعات عن مناطق تقع على أطراف هذه المجرات على شكل فصوص، وغالباً ما تكون هذه المجرّات إهليلجية، فسميت المجرات الراديوية. كما وجد أن قرابة خمسة بالمئة من المجرّات مجرّات نشيطة، ومنها ما يصدر إشعاعات راديوية متأرجحة الشدة، ومتناوبتها سميت الكازارات (جمع لكلمة كازار[ر]). وعند التدقيق في بعض المجرات وجد أن الإشعاع الشديد يترافق مع عملية غريبة، ليست مفهومة حتى اليوم فهماً تاماً، تَحْدُث عند النوى تشير إلى حدوث انفجارات ونفثات غازية أو أيونية مع إلكترونات سريعة لكن هذا الإشعاع الشديد يشبه الإشعاعات الصادرة عن مثل هذه الجسيمات المسرَّعة صنعياً حتى سرعة تقارب سرعة الضوء، التي تسمى الإشعاع السنكروتروني syncrotron radiation.
الإشعاع السنكروتروني
تصدر عن الجسيمات المشحونة كهربائياً مثل الإلكترونات والبروتونات المتسارعة سواء كان التسارع خطياً يزيد من قيمة السرعة، أم ناظمياً على المسار يغير من اتجاه هذه السرعة، وسواء كانت في الخلاء أم في المادة (كما في سلك الهوائي) إشعاعات كهرمغنطيسية يعتمد توزع شدتها وفق الاتجاهات وتواترها على هذا التسارع وعلى سرعتها[ر. التحريك الكهربائي]. غير أن هذا التوزع يأخذ شكلاً حادّا حينما تقترب سرعة الجسيمات من سرعة الضوء لتولّد الإشعاع السنكروتروني، الذي لوحظ للمرة الأولى عام 1947 عياناً في مسرّع دائري للإلكترونات معروف بالسنكروترون يستعمل حقلاً مغنطيسياً لجعل الجسيمات تسير دائرياً وحقلاً كهربائياً لتعويض الضياعات عند كل دورة. وكان هذا الإشعاع يعدّ أحد أنواع الضياعات التي يجب تعويضها لتبقى الجسيمات في مساراتها. غير أن ميزات هذا الإشعاع الفريدة جعلته أداة مفيدة في كثير من مجالات الفيزياء وعلوم الحياة. إن أبرز ما يميّز هذا الإشعاع كونه عالي الاستقطابية polarization ومستمراً واعتماد تواتره، وشدته على الحقل المغنطيسي الذي يجعل حركة الجسيمات متموّجة فتصدره، فهو خلافاً للإشعاعات الحرارية لا يعتمد على درجة حرارة المنبع.
إن التشابه بين عملية توليد هذا الإشعاع على الأرض ومحاكاة تلك المشاهدة في بعض المجرّات يسهم في فهم ما يحدث لها. فيظهر الشكل (4) الجزء (أ) صورة بألوان غير حقيقية للإصدار الراديوي من المجرة الراديوية سيغنوس A، يتضح فيها الفصان الجانبيان. وفي الجزء (ب) تظهر مجرة أخرى هي NGC1265 متحركة. وتطبق على هذه المجرات ما يطبق على المجرات العادية في الطيف المرئي، فتقاس سرعاتها عن طريق قياس انزياح دوبلر[ر]. وكان يُظن أنّ ما يكتشفه علم الفلك الراديوي من مادة وغازات باردة، لا تَظْهر في المجال المرئي، يفسر ما يعرف بالمادة الخفية اللازمة لتفسير سلوك العديد من الظواهر، لكن ذلك لم يكن كافياً، مع أنه ضاعف المسافات الممكن قياسها ثلاث مرات على الأقل.
استخدم الحاسوب في هذا الفرع أيضاً، فأصبح بالإمكان معالجة الصور المأخوذة بعد تخزينها بنتيجة المسح، سواء من حيث الشدة التي تُعطي مثلاً، ألواناً تبدأ بالأحمر للشدّات العالية وتنتهي بالأزرق للشدّات المنخفضة، أو من حيث الموقع فتظهر أشكال المجرات كاملة. فقد تبيَّن أن شدة الإصدار الراديوي للمجرات الراديوية تفوق شدة ما يصدر عن المجرات العادية بملايين المرات. كما دخل الحاسوب في محاكاة افتراضية لشرح ما يُرصد واختباره، فيظهر الشكل (5) صورة حاسوبية رمزية لنفثات تكونت، حسب نموذج يفترض وجود ثقب أسود عند نواة المجرة يجذب إليه غازات حارّة تمتد على شكل قرص يدور حوله وتتحرك الجسيمات بسرعة هائلة مصدرة هذا الإشعاع ومتجهة نحو الفصّين.
ويظهر الشكل (6) صورة ملتقطة بمقراب هَبْل الفضائي للمجرة الراديوية NGC4261 تقارب في شكلها المحاكاة الحاسوبية. وتذهب المحاكاة الحاسوبية أبعد من هذا، فتمثل عمليات التصادم بين المجرات وما يمكن أن يصدر عنها من إشعاعات أو تشكلات، تفيد جميعها في فهم تشكل النجوم والمجرات والكون.
وقد اكتُشف أيضاً أن بعض المنابع تصدر دفقات منتظمة زمنياً، من الطاقة تراوح تواتراتها ما بين مرّة وثلاثين مرة في الثانية سميت النبّاضات pulsars، وكان أوّلها قد اكتشف عام 1967 ثم ازداد عددها ليصل إلى الآلاف. وتستعمل اليوم مؤقتات كونية مرجعية، تماماً كما تستعمل بعض النجوم مواقع مرجعية. تبيَّن فيما بعد أن النباضات عبارة عن نجوم نترونية تلفّ لفّاً سريعاً حول نفسها مرسلة تلك الدفقات المنتظمة كلما مرّ محورها باتجاه الأرض.
لم تقتصر الفائدة من التقدم في علم الفلك الراديوي على المساعدة في فهم الكون، بل تعدَّته للاستخدامات على الأرض. فقد استُعمل العديد من الكواشف المطوَّرة أصلا للفلك لرصد ظواهر تحدث على الأرض أو في المجموعة الشمسية مثل رصد الكوكب زحل والمشتري والجو المحيط بهما، إذ يحتاج رصد ما يصدر عنهما إلى حساسية عالية بالمقارنة مع ما يصدر عن الشمس مثلاً التي خُصّص لدراستها ساتل satellite مع مقرابه. فقد بدأ في عام 1965 استعمال أدوات الفلك الراديوي للرصد الأرضي المفيد في التنبؤ بسلوك الجو الأرضي والطقس والإشعاع الأرضي المكافئ لإشعاع الجسم الأسود، إذ يقع المجال الراديوي فيما يعرف بالنافذة الراديوية التي لا تحجبها الغيوم. ففي عام 1970 حُدِّد توزع درجة الحرارة الجويّة باستعمال المجس المرسل المستقبل على متن طائرة ثم باستعمال السواتل الصنعية. تستطيع هذه المحطات متابعة التغيرات في درجة الحرارة وتحديد المراكز المهمة من حيث درجات الحرارة الأعظمية والأصغرية، وكذلك مراكز الأعاصير واتجاهات تحرّكها، وفي رصد غازات محدّدة تهدد بيئة الأرض. كما أفادت من الدقة البالغة المستخدمة للكشف عن الجزيئات في الفضاء لتشخيص سرطان الثدي في البشر باستخدام المقاييس الراديوية المكروية لتحديد الإشعاعات الصادرة عن النسج المصابة التي تعطي ارتفاعات حرارية شاذة.
شجّع نجاح علم الفلك الراديوي على استكمال ما يصدر من إشعاعات عن المنابع كافة على كامل الطيف الكهرمغنطيسي، إضافة إلى ما يمكن أن يعطيه من معلومات ينفرد بها. فهناك مشاريع عالمية مشتركة تتضافر فيها الجهود الاستكشافية والبيئية لحماية الإنسان ومنها ما ذكر عن دراسة الحركة التكتونية وانزياح القارّات. كما شجّع على مشاركة الهواة في بحوث لا تقل في مستواها عن أبحاث الاختصاصيين المحترفين، سواء في تتبع ظاهرة معينة أو بإنشاء شبكات رصد عالمية.
فوزي عوض
علم الفلك الراديوي radio astronomy هو فرع حديث نسبياً من علم الفلك[ر]. ففي حين كان يعتمد علم الفلك على المجال المرئي من الطيف الكهرمغنطيسي، امتد البحث عن الأجرام السماوية وما يصدر عنها من إشعاعات إلى الأمواج تحت الحمراء والأمواج الراديوية ذات الأطوال الموجية الأكـبر من الأطـوال الموجية للطيف المرئي من جهة، وإلى الأمـواج فـوق البنفسجية والأمـواج السينية وأشعة غاما من الجهة الأخـرى للأطوال الموجية القصيرة. تمتد الأطـوال الموجـية الراديويـة بين بضعة مليمترات وبضعة كيلومترات. ويعبـر عن هذه المجالات أيضا بصورة مكافئة، بدلالـة الترددات (التواترات)، فيقع المجال الراديوي بين 1.5×410 و1×710هرتز (Hz)، أو بدلالة طاقات فوتوناتها المقابلة بين بضعة أجزاء من المئة إلى بضعة أجزاء من المليون من الإلكترون فولط. ويُطلِق بعضهم اسم الأمواج المكروية microwaves على الأمواج الراديوية التي تقلّ أطوال موجاتها عن 30 سنتمتر. ويُستمد قرابة خمسةٍ وستين بالمئة من المعرفة الحالية بالكون من هذا الفرع من الفلك. فقد ساعد على اكتشاف الكازارات quasars والنبّاضات pulsars والثقوب السوداء وإشعاع الخلفية الكونية background radiation، الذي يعزى إلى الانفجار العظيم، والمجرات الراديوية، وكذلك في اكتشاف الهدروجين والكربون وجزيئاتهما في الفضاء الكوني.
لمحة تاريخية
كان كارل جانسكي Karl Jansky أول من تعرّف الإشارات الراديوية الواردة من خارج الأرض عام 1932. فقد ميّز إشارات لم يستطع إرفاقها بأي مصدر أرضي في أثناء محاولته استكشاف التشويش الذي يعوق الاتصالات الراديوية، وقال بورودها من مركز مجرة درب التبّانة. يبين الشكل (1) الهوائي الضخم الذي استعمله لهذه الدراسة وهو تجاوبي عند التواتر 7.20 ميغاهرتز، إذ احتاج إلى تحريكه وتدويره ليحدد المصدر بدقة، ويعدّ الهوائي العنصر الرئيس في المقاريب (التلسكوبات) الراديوية. ويتألف المقراب الراديوي، كما في جهاز الراديو (المذياع)، من هوائي طويل نسبياً بسبب كبر طول الموجة عندما يكون على شكل سلك، إذ يعمل السلك جزءاً من دارة تجاوبية، ومن مضخّم يمكن توليفه عند تواتر (تردد) معين، ومن مرشح الإشارة.
الشكل (1) |
الشكل (2) |
أدخل بيرك B.F.Burke وفرانكلن K.L.Franklin عام 1955، حين كانا يعملان في مؤسسة كارنيجي بواشنطن فكرة استعمال هوائي بأذرع متصالبة يتألف كل منها من 66 ثنائي قطب وبطول يصل قرابة 600 متر، فاستطاعا تحديد إشارة راديوية قادمة من المشتري، إذ مكّنهما هذا الترتيب من كشف حزمة ضيّقة أبعادها الزاويّة بحدود 6.1×2.4 درجة، وقاما بعدئذٍ بمسح السماء عند الطول الموجي 13.5 متر المستعمل في هذا الكاشف.
الشكل (3) |
طوَّر رايل M.Ryle بعدئذٍ هذه التقانة، فاستعمل الإشارات المركبة الملتقطة بوساطة هوائيين منفصلين متباعدين، فتحسّنت بذلك مقدرة الفصل للمقراب فقد كانت كبيرة جداً بالمقارنة مع مقدرة الفصل للمقاريب الضوئية المحددة بقطر المرآة المجمِّعة، إذ تعدّ المسافة بين الهوائيين بمنزلة قطر فتحة المقراب الضوئي. وأصبح من الممكن تحديد مواقع المنابع بدقة تكفي لتدلّ المقاريب الضوئية على هذه المصادر لتُتابع تحليلها. وفي عام 1971، بدأ مشروع عالمي لمجموعة محطّات تغطي الأرض معتمدة التداخل سُمِّي مشروع الصفيف الضخم جداً Very Large Array (VLA) دشّن عام 1980، وتبعه مشروع مهم آخر سمّي مشروع الصفيف الأساس الطويل جداً Very Long Baseline Array (VLBA) يمتد من مسّاشوستس عبر فرجينيا الغربية وبيركلي حتى السويد في أبسالا الذي دشّن عام 1993. وهو يعتمد تقانة التداخل المسمّاة الخط الأساسي التداخلي الطويل جداً Very Long Baseline Interferometry (VLBA) التي تعتمد تسجيل الإشارات من كل هوائي على شريط مغنطيسي، ثم تجميعها في مكان واحد ومعالجتها حاسوبياً بوساطة عملية إيجاد التعالقcorrelation process ، وهي تطوير لما كان يستعمل في مشروع VLA حيث كانت إشارات الهوائيات تُدار وتُجمع عن طريق شبكة اتصالات تربط بينها، إذ كانت المسافات بين الهوائيات ممتدة بين 1 و36 كيلومتر وكلها على شكل قطع مكافئ قطر صحنها 25 متر قابلة للتوجيه، أما في هذه الحالة فقد تصل المسافات إلى مئات بل آلاف الكيلومترات. تحسّنت بذلك مقدرة الفصل التي تعتمد على طول الموجة المستعمل بصورة عامة، من بضعة أجزاء من الثانية القوسية إلى جزء من ألف من الثانية القوسية، ومازالت تتحسن مع ازدياد المقدرة الحاسوبية ومع تحسّن الكواشف. يأخذ التوقيت الزمني بين المحطّات دوراً مهماً كي تعمل المحطات عمل كاتم أداة واحدة؛ لذلك يستعمل ميزر[ر. الليزر والميزر] maser الهدروجين لهذا الغرض. توجد اليوم مشروعات عدة من هذا النوع على المستوى القارّي وعلى المستوى العالمي، إذ أصبح لهذه الأجهزة تطبيقات مهمة على الأرض أبرزها رصد انزياح القارّات.
الإشعاع الحراري
توسّع إمكان كشف المجال الراديوي باتجاه الأطوال الموجية الأقصر بعد الحرب العالمية الثانية توسّعاً كبيراً مع إدخال تقانات الرادار التي كانت متقدمة حينئذٍ. كما طُوّرت مستقبلات ومضخِّمات إلكترونية خاصة بأطوال موجية تكشف عن جزيئات بعينها مثل جزيئات الهدروكسيل (OH)، التي بدأ البحث عنها في الكون عام 1963، إضافة إلى ذرّات الهدروجين والأكسجين، فأمكن رسم خارطة توزعاتها ووفرتها في المجرّات والكون مما أسهم في فهم تكوّن المجرات. كما أصبح بالإمكان رسم أطياف راديوية إضافة إلى تتبع خط طيفي معين تماماً كما تقوم به المقاريب الضوئية. ولعل أبرز اكتشاف لعلم الفلك الراديوي اكتشاف ما يسمى إشعاع الخلفية الكونية أو إشعاع الدرجة 3 كلفن. وهو طيف إشعاعي يصدره جسم درجة حرارته المطلقة 3 كلفن قريب من إشعاع الجسم الأسود كانت تنبّأت بوجوده نظرية الانفجار العظيم التي تتناول نشأة الكون، فهو من بقايا هذا الانفجار ويتوزع توزعاً متجانساً، وفق هذه النظرية، وهذا ما وجده ويلسن Robert Wilson وبنزياس Arno Penzias عام 1965 وحازا بذلك جائزة نوبل. إذ من المعروف أن الأجسام تصدر إشعاعات حرارية ممتدة على طيف واسع من الأطوال الموجية يتميز بقمة عالية عند طول موجي محدد، ويتغير هذا التوزع بتغير درجة حرارة الجسم، فطيف الشمس مثلاً يقابل طيف جسم أسود black body درجة حرارته تقارب 6000 كلفن وتقع قمته بجوار فوق البنفسجي، فينزاح طول موجة هذه القمة نحو الأطوال الموجية الطويلة مع انخفاض درجة حرارة الجسم فتصبح في المجال الراديوي. وقد ساعد قياس الشدّة الإشعاعية في مجال واسع من الأطوال الموجية الراديوية على استكمال شكل التوزع فتبين أنه يقابل إشعاع جسم أسود درجة حرارته 3 كلفن.
المنابع الراديوية
نضج علم الفلك الراديوي منذ الستينيات وأسهم في تصنيف المجرات. فبعد أن كان التصنيف يعتمد بصورة رئيسة على شكل المجرة كما تظهر في المجال المرئي، وُجد أن بعض المجرات تحتوي نوى نشيطة تُصدر إشعاعات راديوية عالية الشدة ذات طاقة هائلة، كما تَصْدر هذه الإشعاعات عن مناطق تقع على أطراف هذه المجرات على شكل فصوص، وغالباً ما تكون هذه المجرّات إهليلجية، فسميت المجرات الراديوية. كما وجد أن قرابة خمسة بالمئة من المجرّات مجرّات نشيطة، ومنها ما يصدر إشعاعات راديوية متأرجحة الشدة، ومتناوبتها سميت الكازارات (جمع لكلمة كازار[ر]). وعند التدقيق في بعض المجرات وجد أن الإشعاع الشديد يترافق مع عملية غريبة، ليست مفهومة حتى اليوم فهماً تاماً، تَحْدُث عند النوى تشير إلى حدوث انفجارات ونفثات غازية أو أيونية مع إلكترونات سريعة لكن هذا الإشعاع الشديد يشبه الإشعاعات الصادرة عن مثل هذه الجسيمات المسرَّعة صنعياً حتى سرعة تقارب سرعة الضوء، التي تسمى الإشعاع السنكروتروني syncrotron radiation.
الإشعاع السنكروتروني
تصدر عن الجسيمات المشحونة كهربائياً مثل الإلكترونات والبروتونات المتسارعة سواء كان التسارع خطياً يزيد من قيمة السرعة، أم ناظمياً على المسار يغير من اتجاه هذه السرعة، وسواء كانت في الخلاء أم في المادة (كما في سلك الهوائي) إشعاعات كهرمغنطيسية يعتمد توزع شدتها وفق الاتجاهات وتواترها على هذا التسارع وعلى سرعتها[ر. التحريك الكهربائي]. غير أن هذا التوزع يأخذ شكلاً حادّا حينما تقترب سرعة الجسيمات من سرعة الضوء لتولّد الإشعاع السنكروتروني، الذي لوحظ للمرة الأولى عام 1947 عياناً في مسرّع دائري للإلكترونات معروف بالسنكروترون يستعمل حقلاً مغنطيسياً لجعل الجسيمات تسير دائرياً وحقلاً كهربائياً لتعويض الضياعات عند كل دورة. وكان هذا الإشعاع يعدّ أحد أنواع الضياعات التي يجب تعويضها لتبقى الجسيمات في مساراتها. غير أن ميزات هذا الإشعاع الفريدة جعلته أداة مفيدة في كثير من مجالات الفيزياء وعلوم الحياة. إن أبرز ما يميّز هذا الإشعاع كونه عالي الاستقطابية polarization ومستمراً واعتماد تواتره، وشدته على الحقل المغنطيسي الذي يجعل حركة الجسيمات متموّجة فتصدره، فهو خلافاً للإشعاعات الحرارية لا يعتمد على درجة حرارة المنبع.
إن التشابه بين عملية توليد هذا الإشعاع على الأرض ومحاكاة تلك المشاهدة في بعض المجرّات يسهم في فهم ما يحدث لها. فيظهر الشكل (4) الجزء (أ) صورة بألوان غير حقيقية للإصدار الراديوي من المجرة الراديوية سيغنوس A، يتضح فيها الفصان الجانبيان. وفي الجزء (ب) تظهر مجرة أخرى هي NGC1265 متحركة. وتطبق على هذه المجرات ما يطبق على المجرات العادية في الطيف المرئي، فتقاس سرعاتها عن طريق قياس انزياح دوبلر[ر]. وكان يُظن أنّ ما يكتشفه علم الفلك الراديوي من مادة وغازات باردة، لا تَظْهر في المجال المرئي، يفسر ما يعرف بالمادة الخفية اللازمة لتفسير سلوك العديد من الظواهر، لكن ذلك لم يكن كافياً، مع أنه ضاعف المسافات الممكن قياسها ثلاث مرات على الأقل.
الشكل (4) |
الشكل (5) |
الشكل (6) |
لم تقتصر الفائدة من التقدم في علم الفلك الراديوي على المساعدة في فهم الكون، بل تعدَّته للاستخدامات على الأرض. فقد استُعمل العديد من الكواشف المطوَّرة أصلا للفلك لرصد ظواهر تحدث على الأرض أو في المجموعة الشمسية مثل رصد الكوكب زحل والمشتري والجو المحيط بهما، إذ يحتاج رصد ما يصدر عنهما إلى حساسية عالية بالمقارنة مع ما يصدر عن الشمس مثلاً التي خُصّص لدراستها ساتل satellite مع مقرابه. فقد بدأ في عام 1965 استعمال أدوات الفلك الراديوي للرصد الأرضي المفيد في التنبؤ بسلوك الجو الأرضي والطقس والإشعاع الأرضي المكافئ لإشعاع الجسم الأسود، إذ يقع المجال الراديوي فيما يعرف بالنافذة الراديوية التي لا تحجبها الغيوم. ففي عام 1970 حُدِّد توزع درجة الحرارة الجويّة باستعمال المجس المرسل المستقبل على متن طائرة ثم باستعمال السواتل الصنعية. تستطيع هذه المحطات متابعة التغيرات في درجة الحرارة وتحديد المراكز المهمة من حيث درجات الحرارة الأعظمية والأصغرية، وكذلك مراكز الأعاصير واتجاهات تحرّكها، وفي رصد غازات محدّدة تهدد بيئة الأرض. كما أفادت من الدقة البالغة المستخدمة للكشف عن الجزيئات في الفضاء لتشخيص سرطان الثدي في البشر باستخدام المقاييس الراديوية المكروية لتحديد الإشعاعات الصادرة عن النسج المصابة التي تعطي ارتفاعات حرارية شاذة.
شجّع نجاح علم الفلك الراديوي على استكمال ما يصدر من إشعاعات عن المنابع كافة على كامل الطيف الكهرمغنطيسي، إضافة إلى ما يمكن أن يعطيه من معلومات ينفرد بها. فهناك مشاريع عالمية مشتركة تتضافر فيها الجهود الاستكشافية والبيئية لحماية الإنسان ومنها ما ذكر عن دراسة الحركة التكتونية وانزياح القارّات. كما شجّع على مشاركة الهواة في بحوث لا تقل في مستواها عن أبحاث الاختصاصيين المحترفين، سواء في تتبع ظاهرة معينة أو بإنشاء شبكات رصد عالمية.
فوزي عوض