برزت في خريف 2008 عبارات في العناوين الرئيسة لوسائل الإعلام المختلفة مثل: أزمة الرهن العقاري وانهيار بنوك وخطة إنقاذ حكومية، وهي الفترة التي شهدت خسارة أسواق المال الرئيسة أكثر من 30% من قيمها. تُعتبر هذه الفترة من أشد الفترات رعبًا في تاريخ سوق المال الأمريكية. فوضى ستبقى خالدةً في أذهان الذين عاصروها. ما الذي حدث بالضبط؟ ولماذا؟
اقرأ عن النمو الانفجاري في سوق الرهن العقاري الثانوي الذي بدأ سنة 1999، وكيف أدى دورًا بالغًا في التهيئة لهذه الأزمة بعد 9 سنوات من ذلك.
نمو غير مسبوق وارتفاع ديون المستهلكين
ما هو سوق الرهن العقاري الثانوي؟
يتضمن سوق الرهن العقاري الثانوي قروضًا عقاريةً تُمنح لمقترضين يمتلكون سجلًا ائتمانيًا دون الممتاز ومدخرات أقل من الحد المطلوب. بدأ ارتفاع الإقراض في سوق الرهن العقاري الثانوي سنة 1999 بالتزامن مع مبادرة أطلقتها الرابطة الفيدرالية الوطنية للرهن العقاري (وتعرف غالبًا باسم فاني ماي) تهدف لتسهيل منح القروض لمن لا يمتلكون ائتمانًا مصرفيًا أو مدخرات تلبي متطلبات الدائنين.
كان الهدف مساعدة الجميع على تحقيق الحلم الأمريكي الذي يراود كل مواطن في الولايات المتحدة والمتمثل بامتلاك منزل. لأن نسبة المخاطر لهذا النوع من المقترضين مرتفعة، تضمنت قروضهم شروطًا غير مألوفة عكست تلك المخاطر، مثل فرض أسعار فائدة أعلى أو دفعات متغيرة.
في الوقت الذي رأى فيه العديد ازدهارًا كبيرًا عند بداية انفجار سوق الرهن العقاري الثانوي، رأى آخرون مؤشرات لخطر محتمل على الاقتصاد. اعتبر بوب بريتشر، مؤسس إليوت ويف إنترناشيونال، التوسع الخارج عن السيطرة لسوق الرهن العقاري تهديدًا للاقتصاد الأمريكي، لأن هذا القطاع برمته يعتمد على القيمة المتزايدة للملكيات المرهونة.
توسعت مؤسستا الرهن العقاري فاني ماي وفريدي ماك اللتان ترعاهما الحكومة الأمريكية في منح القروض العقارية لتتجاوز 3 ترليون دولار عام 2002. بيّن بريتشر في كتابه الصادر سنة 2002 “Conquer the Crash” ذلك قائلًا: «الثقة هي الشيء الوحيد الذي يسند هذا البيت الكبير المصنوع من الورق».
يتمثل دور مؤسستي فاني وفريدي بإعادة شراء القروض العقارية من الدائنين الأصليين وتحقيق الربح عن طريق توريق تلك القروض عند تسديد المدينين قيمة سندات الرهن العقاري. وهكذا أدى تزايد نسب التخلف عن سداد الرهون العقارية إلى تناقص هائل في عائدات تلك المؤسستين.
تعد القروض العقارية القابلة للتعديل والتي تسمى ARM من أخطر أنواع القروض العقارية على المقترضين ذوي الائتمانات الضعيفة. تنقسم هذه القروض إلى نوعين: قروض قابلة للتعديل حسب الفائدة، وقروض قابلة للتعديل حسب خيار التسديد. تسمح هذه القروض للمقترضين بتسديد دفعات أولية أدنى بكثير مما تتطلبه القروض ذات القسط الثابت، وبعد مدة من الزمن، غالبًا من سنتين إلى ثلاث، يُعاد تعديلها فتتغير الدفعات الشهرية لتصبح في الغالب أكبر بكثير من الدفعة الاولى.
كانت هذه القروض العقارية تعتبر خالية من المخاطر، وخاصة بين عامي 1999 و 2005. فأسعار المنازل كانت بارتفاع مستمر، ما يعني أنه بإمكان اي مقترض أن يبيع منزله بسعر أعلى من سعر الشراء، فيغطي قيمة القرض وفوائده ويجني بعض الارباح لنفسه ليدّخرها أو يعاود استثمارها بقرض آخر. أما بالنسبة للمصارف، كانت ارتفاع أسعار العقارات عامل أمان، فإذا تخلف أحد المقترضين عن السداد، يضع المصرف يده على العقار فيبيعه ويجني هو الارباح من تخلف المقترضين.
لكن الواقع كان مختلفًا، أثبتت هذه القروض أنها قنبلة موقوتة ستنفجر مع أول انتكاسة يشهدها سوق الإسكان، ما يضع المالكين في موقف سلبي من ناحية حقوق الملكية ويجعل بيع المنازل مستحيلًا.
أدى ارتفاع مديونية المستهلكين بنسبة هائلة وصلت إلى ترليونَي دولار عام 2004 إلى مضاعفة مخاطر القروض العقارية. أدلى هاورد دوركن رئيس شركة الخدمات الاستشارية الائتمانية الموحدة ومؤسسها -وهي منظمة غير ربحية تختص بإدارة الديون– بتصريح لصحيفة واشنطن بوست قال فيه: «إنها مشكلة كبرى؛ إذ ليس من المعقول أن يعيش أبناء أغنى بلد في العالم مكبلين بالديون».
بروز منتجات استثمارية مرتبطة بالقروض العقارية
خلال الارتفاع المؤقت لأسعار المنازل، ازدادت شعبية سوق الأوراق المالية المضمونة بالرهن العقاري المسماة اختصارًا لدى المستثمرين التجاريين (MBS).
يتألف هذا النوع من الأوراق المالية من مجموعة من القروض العقارية تُجمع في ورقة مالية واحدة. يستفيد المستثمرون من هذه الأوراق من العلاوات ودفعات الفائدة التي تقدمها. إن ربحية هذه السوق مرهونة بارتفاع أسعار المنازل وقدرة مالكي هذه المنازل على الوفاء بالتزاماتهم المالية. أما المخاطر فأصبحت حقيقية جدًا بعد هبوط أسعار المنازل ومع ازدياد تخلف المالكين عن السداد.
من الأدوات الاستثمارية الأخرى التي شهدت رواجًا إبان تلك الفترة، المشتقات الائتمانية المعروفة باسم مبادلة مخاطر الائتمان وتسمى اختصارًا (CDSs). صُممت هذه الأداة المالية لتكون حيلةً للتحوط من تخلف الشركات عن سداد ما بذمتها من ديون وهي مشابهة للضمان.
ولكن خلافًا لسوق الضمانات، لم تكن سوق مبادلات مخاطر الائتمان منظمة، أي أنه لم يكن مطلوبًا من مصدّري هذا النوع من العقود امتلاك ما يكفي من الاحتياطي النقدي لضمان قدرتهم على التسديد في الظروف السيئة مثل الأزمات المالية. وهذا بالضبط ما حدث مع المجموعة الدولية الأمريكية (AIG) بداية 2008، حين أعلنت عن خسائر كبرى في محفظتها المكونة من عقود مبادلات مخاطر CDS، إذ لم يكن لديها ما يكفي من المال لتسديد هذه العقود.
هبوط السوق
في آذار من العام 2007، ومع فشل شركة بير ستيرنز بسبب خسائرها الهائلة الناجمة عن تداولها بالعديد من الأوراق المالية المرتبطة مباشرة بسوق الرهن العقاري الثانوي، أصبح واضحًا للجميع أن سوق الرهن العقاري برمته في ورطة.
مالكو المنازل العاجزون عن التسديد في ازدياد، لأن الأقساط المفروضة عليهم بدأت ترتفع بحسب شروط القروض؛ وفي نفس الوقت هبطت أسعار المنازل وأصبح مالكوها في موقف سيء جدًا، إذ إن ما تبقى بذمتهم من ديون أكبر من قيمة منازلهم المتهاوية، ولم يعد بإمكانهم حتى بيع منازلهم لتسديد ما بذمتهم. بدلًا من ذلك، حُجزت أملاكهم أو أعلنوا افلاسهم.
على الرغم من هذه الفوضى الواضحة للعيان، واصلت الأسواق المالية الصعود في أكتوبر 2007، إذ أغلق مؤشر داو جونز الصناعي عند 14164 نقطة في التاسع من أكتوبر للعام 2007. وفي ديسمبر من العام 2007 دخلت الولايات المتحدة في أزمة. ومع بداية تموز من العام 2008 سجل مؤشر داو جونز أدنى من 11000 نقطة لأول مرة منذ عامين وهذه ليست نهاية الهبوط.
في يوم الأحد الموافق للسابع من أيلول عام 2008، ومع خسارة الأسواق المالية 20% من قيمتها المسجلة في أكتوبر 2007، أعلنت الحكومة الأمريكية وضع مؤسستي فاني ماي وفريدي ماك تحت الوصاية بسبب خسائرهما الناجمة عن تأثرهما بالانهيار الكبير لسوق الرهن العقاري الثانوي.
بعد أسبوع من ذلك، وفي 14 أيلول تحديدًا أعلن بنك الأعمال الرئيسي ليمان براذرز إفلاسه في أكبر إشهار إفلاس في تاريخ الولايات المتحدة في ذلك الوقت. بعدها بيوم واحد انهارت الأسواق وأغلق مؤشر داو جونز عند 10917 فاقدًا 499 نقطة.
واصل بنك ليمان انهياره متسببًا في انخفاض صافي قيمة الأصول لصندوق الاحتياطي الأساسي إلى أدنى من دولار واحد للسهم الواحد في 16 أيلول 2008.
وعلم المستثمرون حينها أنهم سيحصلون على 97 سنتًا فقط مقابل كل دولار يستثمرونه وهذه الخسارة معزوة إلى احتفاظهم بأوراق مالية تجارية صادرة عن بنك ليمان، وهي المرة الثانية في التاريخ التي تنخفض فيها قيمة أسهم صندوق السوق النقدي عن دولار واحد. وعمّ الذعر في صناعة صناديق السوق النقدية متسببًا بتزايد متسارع في طلبات سحب الودائع.
في اليوم نفسه، أعلن بنك أوف أمريكا أنه كان بصدد شراء شركة ميريل لنج أكبر شركة وساطة مالية في الولايات المتحدة. بالإضافة لذلك انخفض التصنيف الائتماني لشركة AIG وهي واحدة من الشركات المالية الرئيسة في البلاد نتيجة شرائها عقود مشتقات ائتمانية أكثر مما يمكنها تسديده.
وفي 18 من أيلول 2008 بدأت المحادثات بشأن منح إعانات حكومية رافعةً مؤشر داو جونز 410 نقطة. في اليوم التالي اقترح وزير الخزانة الأمريكي هنري بولسون برنامج إغاثة الأصول المتعثرة المسمى اختصارًا (TARP) بقيمة ترليون دولار لشراء الديون السامة لدرء حدوث انهيار مالي تام.
وفي اليوم ذاته أيضًا بادرت هيئة الأوراق بفرض حظر مؤقت على البيع القصير الأمد لأسهم الشركات المالية معتقدين أن هذا الإجراء سيؤدي إلى استقرار السوق.
واصلت الأسواق اندفاعها بسبب الأخبار الجيدة، ورفع المستثمرون مؤشر داو جونز 456 نقطة ليسجل 11483 خلال اليوم ويغلق في النهاية بزيادة 361 عند 11388 نقطة. تُعتبَر هذه الارتفاعات فترة ذات أهمية تاريخية في الولايات المتحدة ممثلة بثلاثة أسابيع لاحقة من الاضطراب التام الذي ستمر به الأسواق المالية.
اضطراب مالي تام
هبط مؤشر جونز 3600 نقطة من ارتفاع 11483 في 19 أيلول 2008 إلى انخفاض 7882 في العاشر من أكتوبر 2008. سنقدم لكم أدناه إيجازًا بالأحداث الرئيسة التي مرت بها الولايات المتحدة أثناء فترة الثلاثة أسابيع هذه.
الخلاصة
أعطت أحداث خريف 2008 درسًا عما يمكن أن يفضي إليه التفكير اللا عقلاني في النهاية. فعلى الرغم من أن النوايا الحسنة مثلت الحافز الأساس لقرار التوسع في سوق الرهن الثانوي عام 1999، فإن الولايات المتحدة فقدت حينها تقديرها العقلاني للعواقب.
إذ مع ارتفاع أسعار المنازل، ارتفعت قدرة الدائنين على تحقيق أرباح أكبر في محاولة تخلو -على ما يبدو- من أي اعتبار للعواقب الناجمة عن ذلك. فلو أن أحدهم أخذ في اعتباره حينها النمو اللا عقلاني لسوق الرهن الثانوي بالإضافة للنمو الحاصل في الأدوات المالية المشتقة منه مع التضخم الحاصل في ديون المستهلكين، لما كان من الصعب وقتئذ التنبؤ بتلك الأزمة كما يدعي البعض صعوبة التنبؤ بها.
اقرأ عن النمو الانفجاري في سوق الرهن العقاري الثانوي الذي بدأ سنة 1999، وكيف أدى دورًا بالغًا في التهيئة لهذه الأزمة بعد 9 سنوات من ذلك.
نمو غير مسبوق وارتفاع ديون المستهلكين
ما هو سوق الرهن العقاري الثانوي؟
يتضمن سوق الرهن العقاري الثانوي قروضًا عقاريةً تُمنح لمقترضين يمتلكون سجلًا ائتمانيًا دون الممتاز ومدخرات أقل من الحد المطلوب. بدأ ارتفاع الإقراض في سوق الرهن العقاري الثانوي سنة 1999 بالتزامن مع مبادرة أطلقتها الرابطة الفيدرالية الوطنية للرهن العقاري (وتعرف غالبًا باسم فاني ماي) تهدف لتسهيل منح القروض لمن لا يمتلكون ائتمانًا مصرفيًا أو مدخرات تلبي متطلبات الدائنين.
كان الهدف مساعدة الجميع على تحقيق الحلم الأمريكي الذي يراود كل مواطن في الولايات المتحدة والمتمثل بامتلاك منزل. لأن نسبة المخاطر لهذا النوع من المقترضين مرتفعة، تضمنت قروضهم شروطًا غير مألوفة عكست تلك المخاطر، مثل فرض أسعار فائدة أعلى أو دفعات متغيرة.
في الوقت الذي رأى فيه العديد ازدهارًا كبيرًا عند بداية انفجار سوق الرهن العقاري الثانوي، رأى آخرون مؤشرات لخطر محتمل على الاقتصاد. اعتبر بوب بريتشر، مؤسس إليوت ويف إنترناشيونال، التوسع الخارج عن السيطرة لسوق الرهن العقاري تهديدًا للاقتصاد الأمريكي، لأن هذا القطاع برمته يعتمد على القيمة المتزايدة للملكيات المرهونة.
توسعت مؤسستا الرهن العقاري فاني ماي وفريدي ماك اللتان ترعاهما الحكومة الأمريكية في منح القروض العقارية لتتجاوز 3 ترليون دولار عام 2002. بيّن بريتشر في كتابه الصادر سنة 2002 “Conquer the Crash” ذلك قائلًا: «الثقة هي الشيء الوحيد الذي يسند هذا البيت الكبير المصنوع من الورق».
يتمثل دور مؤسستي فاني وفريدي بإعادة شراء القروض العقارية من الدائنين الأصليين وتحقيق الربح عن طريق توريق تلك القروض عند تسديد المدينين قيمة سندات الرهن العقاري. وهكذا أدى تزايد نسب التخلف عن سداد الرهون العقارية إلى تناقص هائل في عائدات تلك المؤسستين.
تعد القروض العقارية القابلة للتعديل والتي تسمى ARM من أخطر أنواع القروض العقارية على المقترضين ذوي الائتمانات الضعيفة. تنقسم هذه القروض إلى نوعين: قروض قابلة للتعديل حسب الفائدة، وقروض قابلة للتعديل حسب خيار التسديد. تسمح هذه القروض للمقترضين بتسديد دفعات أولية أدنى بكثير مما تتطلبه القروض ذات القسط الثابت، وبعد مدة من الزمن، غالبًا من سنتين إلى ثلاث، يُعاد تعديلها فتتغير الدفعات الشهرية لتصبح في الغالب أكبر بكثير من الدفعة الاولى.
كانت هذه القروض العقارية تعتبر خالية من المخاطر، وخاصة بين عامي 1999 و 2005. فأسعار المنازل كانت بارتفاع مستمر، ما يعني أنه بإمكان اي مقترض أن يبيع منزله بسعر أعلى من سعر الشراء، فيغطي قيمة القرض وفوائده ويجني بعض الارباح لنفسه ليدّخرها أو يعاود استثمارها بقرض آخر. أما بالنسبة للمصارف، كانت ارتفاع أسعار العقارات عامل أمان، فإذا تخلف أحد المقترضين عن السداد، يضع المصرف يده على العقار فيبيعه ويجني هو الارباح من تخلف المقترضين.
لكن الواقع كان مختلفًا، أثبتت هذه القروض أنها قنبلة موقوتة ستنفجر مع أول انتكاسة يشهدها سوق الإسكان، ما يضع المالكين في موقف سلبي من ناحية حقوق الملكية ويجعل بيع المنازل مستحيلًا.
أدى ارتفاع مديونية المستهلكين بنسبة هائلة وصلت إلى ترليونَي دولار عام 2004 إلى مضاعفة مخاطر القروض العقارية. أدلى هاورد دوركن رئيس شركة الخدمات الاستشارية الائتمانية الموحدة ومؤسسها -وهي منظمة غير ربحية تختص بإدارة الديون– بتصريح لصحيفة واشنطن بوست قال فيه: «إنها مشكلة كبرى؛ إذ ليس من المعقول أن يعيش أبناء أغنى بلد في العالم مكبلين بالديون».
بروز منتجات استثمارية مرتبطة بالقروض العقارية
خلال الارتفاع المؤقت لأسعار المنازل، ازدادت شعبية سوق الأوراق المالية المضمونة بالرهن العقاري المسماة اختصارًا لدى المستثمرين التجاريين (MBS).
يتألف هذا النوع من الأوراق المالية من مجموعة من القروض العقارية تُجمع في ورقة مالية واحدة. يستفيد المستثمرون من هذه الأوراق من العلاوات ودفعات الفائدة التي تقدمها. إن ربحية هذه السوق مرهونة بارتفاع أسعار المنازل وقدرة مالكي هذه المنازل على الوفاء بالتزاماتهم المالية. أما المخاطر فأصبحت حقيقية جدًا بعد هبوط أسعار المنازل ومع ازدياد تخلف المالكين عن السداد.
من الأدوات الاستثمارية الأخرى التي شهدت رواجًا إبان تلك الفترة، المشتقات الائتمانية المعروفة باسم مبادلة مخاطر الائتمان وتسمى اختصارًا (CDSs). صُممت هذه الأداة المالية لتكون حيلةً للتحوط من تخلف الشركات عن سداد ما بذمتها من ديون وهي مشابهة للضمان.
ولكن خلافًا لسوق الضمانات، لم تكن سوق مبادلات مخاطر الائتمان منظمة، أي أنه لم يكن مطلوبًا من مصدّري هذا النوع من العقود امتلاك ما يكفي من الاحتياطي النقدي لضمان قدرتهم على التسديد في الظروف السيئة مثل الأزمات المالية. وهذا بالضبط ما حدث مع المجموعة الدولية الأمريكية (AIG) بداية 2008، حين أعلنت عن خسائر كبرى في محفظتها المكونة من عقود مبادلات مخاطر CDS، إذ لم يكن لديها ما يكفي من المال لتسديد هذه العقود.
هبوط السوق
في آذار من العام 2007، ومع فشل شركة بير ستيرنز بسبب خسائرها الهائلة الناجمة عن تداولها بالعديد من الأوراق المالية المرتبطة مباشرة بسوق الرهن العقاري الثانوي، أصبح واضحًا للجميع أن سوق الرهن العقاري برمته في ورطة.
مالكو المنازل العاجزون عن التسديد في ازدياد، لأن الأقساط المفروضة عليهم بدأت ترتفع بحسب شروط القروض؛ وفي نفس الوقت هبطت أسعار المنازل وأصبح مالكوها في موقف سيء جدًا، إذ إن ما تبقى بذمتهم من ديون أكبر من قيمة منازلهم المتهاوية، ولم يعد بإمكانهم حتى بيع منازلهم لتسديد ما بذمتهم. بدلًا من ذلك، حُجزت أملاكهم أو أعلنوا افلاسهم.
على الرغم من هذه الفوضى الواضحة للعيان، واصلت الأسواق المالية الصعود في أكتوبر 2007، إذ أغلق مؤشر داو جونز الصناعي عند 14164 نقطة في التاسع من أكتوبر للعام 2007. وفي ديسمبر من العام 2007 دخلت الولايات المتحدة في أزمة. ومع بداية تموز من العام 2008 سجل مؤشر داو جونز أدنى من 11000 نقطة لأول مرة منذ عامين وهذه ليست نهاية الهبوط.
في يوم الأحد الموافق للسابع من أيلول عام 2008، ومع خسارة الأسواق المالية 20% من قيمتها المسجلة في أكتوبر 2007، أعلنت الحكومة الأمريكية وضع مؤسستي فاني ماي وفريدي ماك تحت الوصاية بسبب خسائرهما الناجمة عن تأثرهما بالانهيار الكبير لسوق الرهن العقاري الثانوي.
بعد أسبوع من ذلك، وفي 14 أيلول تحديدًا أعلن بنك الأعمال الرئيسي ليمان براذرز إفلاسه في أكبر إشهار إفلاس في تاريخ الولايات المتحدة في ذلك الوقت. بعدها بيوم واحد انهارت الأسواق وأغلق مؤشر داو جونز عند 10917 فاقدًا 499 نقطة.
واصل بنك ليمان انهياره متسببًا في انخفاض صافي قيمة الأصول لصندوق الاحتياطي الأساسي إلى أدنى من دولار واحد للسهم الواحد في 16 أيلول 2008.
وعلم المستثمرون حينها أنهم سيحصلون على 97 سنتًا فقط مقابل كل دولار يستثمرونه وهذه الخسارة معزوة إلى احتفاظهم بأوراق مالية تجارية صادرة عن بنك ليمان، وهي المرة الثانية في التاريخ التي تنخفض فيها قيمة أسهم صندوق السوق النقدي عن دولار واحد. وعمّ الذعر في صناعة صناديق السوق النقدية متسببًا بتزايد متسارع في طلبات سحب الودائع.
في اليوم نفسه، أعلن بنك أوف أمريكا أنه كان بصدد شراء شركة ميريل لنج أكبر شركة وساطة مالية في الولايات المتحدة. بالإضافة لذلك انخفض التصنيف الائتماني لشركة AIG وهي واحدة من الشركات المالية الرئيسة في البلاد نتيجة شرائها عقود مشتقات ائتمانية أكثر مما يمكنها تسديده.
وفي 18 من أيلول 2008 بدأت المحادثات بشأن منح إعانات حكومية رافعةً مؤشر داو جونز 410 نقطة. في اليوم التالي اقترح وزير الخزانة الأمريكي هنري بولسون برنامج إغاثة الأصول المتعثرة المسمى اختصارًا (TARP) بقيمة ترليون دولار لشراء الديون السامة لدرء حدوث انهيار مالي تام.
وفي اليوم ذاته أيضًا بادرت هيئة الأوراق بفرض حظر مؤقت على البيع القصير الأمد لأسهم الشركات المالية معتقدين أن هذا الإجراء سيؤدي إلى استقرار السوق.
واصلت الأسواق اندفاعها بسبب الأخبار الجيدة، ورفع المستثمرون مؤشر داو جونز 456 نقطة ليسجل 11483 خلال اليوم ويغلق في النهاية بزيادة 361 عند 11388 نقطة. تُعتبَر هذه الارتفاعات فترة ذات أهمية تاريخية في الولايات المتحدة ممثلة بثلاثة أسابيع لاحقة من الاضطراب التام الذي ستمر به الأسواق المالية.
اضطراب مالي تام
هبط مؤشر جونز 3600 نقطة من ارتفاع 11483 في 19 أيلول 2008 إلى انخفاض 7882 في العاشر من أكتوبر 2008. سنقدم لكم أدناه إيجازًا بالأحداث الرئيسة التي مرت بها الولايات المتحدة أثناء فترة الثلاثة أسابيع هذه.
- 21 أيلول 2008: ما يزال كل من بنك جولدمان ساكس ومورجان ستانلي قائمين وهما آخر مصرفين استثماريين؛ إذ تحولا من مصرفين استثماريين إلى بنوك تجارية شاملة وذلك لكسب مرونة أكبر للحصول على المزيد من المعونات الحكومية.
- 25 أيلول 2008: بعد 10 أيام من التهافت على سحب الودائع من البنوك، صادرت الشركة الفيدرالية للتأمين على الإيداعات (FDIC) بنك واشنطن ميوتشوال، أكبر بنك للادخار في الولايات المتحدة والذي تعرض لخسائر ثقيلة بسبب ديون الرهن العقاري. وحُولت أصوله لصالح مؤسسة JPMorgan Chase.
- 28 أيلول 2008: إيقاف مؤقت لخطة المعونات المسماة TARP عن طريق الكونجرس.
- 29 أيلول 2008: انخفاض مؤشر داو جونز 774 نقطة (بنسبة 6.98%)، وهو أدنى انخفاض له تاريخيًا.
- 3 أكتوبر 2008: إعادة صياغة خطة TARP بمبلغ 700 مليار دولار وتمريرها في الكونجرس بموافقة الحزبين الجمهوري والديمقراطي بمسمى جديد (قانون الاستقرار الاقتصادي في حالات الطوارئ لعام 2008).
- 6 أكتوبر 2008: مؤشر داو جونز يغلق مسجلًا أدنى من 10000 لأول مرة منذ عام 2004.
- 22 أكتوبر 2008: الرئيس الأمريكي بوش يعلن أنه سيستضيف القادة الماليين في مؤتمر دولي يُعقد في 15 نوفمبر 2008.
الخلاصة
أعطت أحداث خريف 2008 درسًا عما يمكن أن يفضي إليه التفكير اللا عقلاني في النهاية. فعلى الرغم من أن النوايا الحسنة مثلت الحافز الأساس لقرار التوسع في سوق الرهن الثانوي عام 1999، فإن الولايات المتحدة فقدت حينها تقديرها العقلاني للعواقب.
إذ مع ارتفاع أسعار المنازل، ارتفعت قدرة الدائنين على تحقيق أرباح أكبر في محاولة تخلو -على ما يبدو- من أي اعتبار للعواقب الناجمة عن ذلك. فلو أن أحدهم أخذ في اعتباره حينها النمو اللا عقلاني لسوق الرهن الثانوي بالإضافة للنمو الحاصل في الأدوات المالية المشتقة منه مع التضخم الحاصل في ديون المستهلكين، لما كان من الصعب وقتئذ التنبؤ بتلك الأزمة كما يدعي البعض صعوبة التنبؤ بها.