بعد نصف قرن... مسودات وتدريبات توثق بدايات ثلاثة فنانين
لبنى شاكر
دمشق
نصف قرنٍ مرّ منذ كان الرسم هاجساً يشغل الفنانين الثلاثة منذر مصري ومأمون صقال وسعد يكن، ففي زمنٍ لاحق ستختلف الاتجاهات وتتشعّب الاهتمامات، الأول سيصبح شاعراً، والثاني مُصمماً وخطاطاً، والثالث سيتفرّغ ليرسم حتى اليوم
المحاولات الاولى
ولهذا بدايةً تكتسب لوحاتهم التي يعرضها غاليري البيت الأزرق في دمشق، قيمةً مضاعفةً، فهي تستحضر عبر ست لوحاتٍ زيتية وثلاثين رسماً على الورق أغلبها بقلم الرصاص، المحاولات الأولى للفنانين، في عامي 1970-1971، عندما كانت أعمارهم في العشرين والواحد وعشرين، بحيث يُمكن عدها وثائق لمرحلةٍ كان لها جمهورها وأفكارها وخصوصيتها، إلى جانب ما تُتيحه اللوحات بوصفها مسوداتٍ واسكيتشات، من اطلاعٍ على المرحلة التمهيدية للثلاثة المبدعين كلٌ في مجاله، والتي أسست لمحطاتٍ وإنجازاتٍ تجاوزت حدود المحليّة، فأعمال يكن مقتناة في مُتحفي الفن الحديث في بروكسل، والفن المعاصر في مونتريال، فيما يعمل صقال باحثاً ومُحاضراً في تاريخ العمارة والخط العربي والإسلامي في جامعة واشنطن، أما مصري فتتنوع أعماله بين الدراسات والمقالات النقدية، وفي رصيده عدة دواوين شعرية منها "الشاي ليس بطيئاً" و"آمال شاقة".
صداقةٌ قديمةٌ
اللافت في التعرّف على التمارين الأوليّة في الرسم لمصري وصقال ويكن، أنها تضعنا أمام صداقةٍ قديمة، على حد تعبير "غسان غانم" أمين سر اتحاد الفنانين التشكيليين، فهم يُعبّرون عما يدور في دواخلهم ويُطلعون بعضهم على شواغلهم وطموحاتهم، ومن ثم بقيت تلك التدريبات محفوظةً لدى مصري، إلى أن جاءت فكرة العرض. يُضيف غانم في حديثٍ إلى "مدوّنة وطن": "لم يُفكر أحدٌ منهم فيما إذا كان سيصبح تشكيلياً يوماً ما، كان همهم في لقاءاتهم أن يكونوا دائماً معاً، يرسمون وتدور رسوماتهم فيما بينهم، يتبادلون الآراء ووجهات النظر، إلى أن دخلوا مراحل مُتقدمة، صنعت لكلٍّ منهم اسمه وخبرته".
ويرى غانم أن التشكيل ممرٌ يُفضي نحو مختلف الفنون والعوالم، يخوض بها الإنسان ويختبر ذاته معها وصولاً إلى ما يريده، كما أن التحوّل من فنٍ أو نوعٍ فنيٍّ إلى آخر طبيعيٌ وواردٌ جداً، من هنا فالمعرض فرصة للاطلاع على بداياتٍ فنية، عرفت انعطافاتٍ ومحطاتٍ وتبدلاتٍ كثيرة، وحجزت لنفسها أمكنةً متميزة.
ذاكرةٌ مُمتلئة
الفنان "بشير بشير" أكّد ضرورة توثيق الاسكيتشات والدراسات وما إلى ذلك من مراحل تسبق العمل المُباشر على اللوحة، وهو ما يغيب عن فنانين كثر، لا يعون أهمية العودة إلى ذاكرة مُمتلئة بالتصاميم والخطوط المبدئية لأعمالهم، وما طرأ عليها من تحولات، مُتمنياً أن يشتغل الجيل الجديد على فكرة خطوة بخطوة في مُنجزه، وقال للمدوّنة: "ما نراه في الأعمال المعروضة توثيقٌ لمرحلة عايشتها ثلاث قامات فنية لها مكانتها، ومن يتأمل جيداً في الرسوم التي يتجاوز عمرها خمسين عاماً، سيجد تمكُناً وإتقاناً رغم العمر الصغير والخبرة القليلة وقتها، كما سيلحظ بحثاً واجتهاداً في أعمالهم، ففي بعضها اسكيتش بخط واحد لبورتريه أو غيره من المواضيع، هذا نادر فعلاً".
ورأى بشير أن التفرغ يُساهم في نضوج التجربة واستمراريتها، وهو ما فعله سعد يكن مُخلصاً للرسم وحده، حتى أن المُتابع لمشواره سيلحظ شيئاً من الدراسات القديمة المعروضة في النتاج الفني الحالي، مُضافاً إليها اللون والتكوين والعنصر، إلى جانب الذاكرة والموضوع، كلها إضافات دخلت على الاسكيتش في مجموعة خطوات، صنعت التطور والاسم البارز للفنان يكن.
فن الكروكي
الفنانة "نداء دروبي" وجدت في مُسودات الرسم إبرازاً للفن البسيط، بعيداً عن التفاصيل وأكثر قرباً مما يسمى "كروكي"، وهو نوعٌ من الرسم البدائي غايته التسلية أو شرح فكرة ما، لا يحتاج إلى قوانين أو ضوابط معينة، وقالت للمدوّنة: "الفنانون اهتموا بإبراز الشكل الخارجي للفكرة أو الشخصية بأسلوب تعبيري، في أعمالهم شيءٌ من الغرافيك الملون والرمادي".
كما بيّنت دروبي أن مصري اشتغل على الظل والنور وإبراز الأجساد المتحركة، بينما تظهر تعبيريةٌ قويةٌ ونوع من السريالية في أعمال يكن، أما صقال فقدّم واقعيةً بسيطةً بألوانٍ محدودة.
ضرورة التجديد
بدوره الفنان "أحمد أبو زينة" أثنى على حفظ وعرض، مراحل الإعداد والتدريب للفنانين الثلاثة، وقال للمدوّنة: "التوثيق حالة ضرورية جداً، وإذا لم يقم بها الفنان يجب أن تلتفت إليها وزارة الثقافة أو المديريات المعنية، لأن مشوار أي فنان جزءٌ من المشهد الثقافي العام لا سيما إذا كانت له بصمة وأثر واضحين، وفي حالة لوحات ورسوم عامي 1970-1971، استرجاع لخطواتٍ مهّدت واستبقت الشكل الأخير للوحات، التي ذهبت فيما بعد إلى مصائر مختلفة".
وأوضح أبو زينة أن حضور المواضيع ذاتها باستمرار أو غيابها أو تبدلها، أمرٌ مرهونٌ بالتجربة عموماً، والتي يجب أن يطالها التجديد في الأسلوب والطريقة، كي لا يضعف العمل قبل أي شيء، ولكي يعتاد الجمهور فكرة التغيير ويتقبّل مُختلف أشكال التطور التي يختبرها الفنان، وأضاف أيضاً: "لفتتني أعمال الفنان سعد يكن، أرى أنه امتلك مقومات العمل الناجح منذ الخطوات الأولى، أسلوبه واقعي ومدروس، فيه تقنيةٌ وحرفيةٌ ظاهرتان".