اشراط
Conditioning - Conditionnement
الإشراط
كانت أعمال العالم الفيزيولوجي الروسي بافلوف Pavlov التي سميت «الإشراط» أو «الاشتراط» conditioning مقدمة البدايات في إيجاد نظريات في التعلّم. وتُستعمل كلمة «الإشراط» في علم النفس بمعنى محدد، فهي تعني اكتساب الاستجابات الإشراطية. وهكذا تُستعمل الكلمة للدلالة على وجه بسيط نسبياً من وجوه عملية التعلّم. بيد أن الاستعمال المحدود هذا لا يعني إطلاقاً القول إن المبادئ التي انتهت إليها تجارب الإشراط ليست واسعة التطبيق، بل العكس هو الصحيح. ذلك أن بافلوف ادعى بأن أنواعاً مختلفة من العادات المبنيّة على التدرّب والتربية والانضباط، من أي نوع كانت، ما هي إلا سلسلة طويلة من الاستجابات الإشراطية.
وإذا صح أن في هذه الدعوى الكثير من البحبوحة فإنه من الصحيح القول إن الكثير من علماء النفس في جميع أنحاء العالم يعتقدون أن المبادئ القائمة في أساس الحصول على الارتكاسات الإشراطية (ردود الأفعال) تقوم بدور مهم في كل نوع من أنواع التعلّم.
ثم إن القليل من علماء النفس المعاصرين هم الذين ينكرون أن الاستجابات الإشراطية هي - بصورتها البدائية - أبسط المتعلمات، فكل الحيوانات القادرة على أي تعلّم تحصل على هذه الاستجابات. أما البشر فيتعلمون هذه الاستجابات قبل أن يتعلّموا أي شيء آخر.
وتجدر الإشارة إلى أن العلماء لم يصلوا بعد إلى اليقين حول كيفية حصول التعلّم عصبياً وفيزيولوجياً، وإن كان ثمة آراء ونظريات كثيرة في هذا الصدد. وفي كل الأحوال فإن دراسة الاستجابات الإشراطية وسيلة نافعة في دراسة عملية التعلّم لأن الاستجابات الإشراطية هذه تمثل التعلّم بأبسط أساليبه.
إن الاستجابة التي تُشترط تكون عادة مخزونة في الكائن الحيّ، وفي نوع من أنواع عملية الإشراط يتم ربط هذه الاستجابة بمثير لم يكن يثيرها من قبل. وهكذا ففي تجربة بافلوف الشهيرة التي سيأتي ذكرها فيما بعد، أصبح لعاب الكلب يسيل استجابة لمثير صوتي (هو صوت الجرس)، ولم يكن هذا يحصل من قبل. أي إن الكلب يستعيض بمثير جديد (كان حيادياً من قبل وهو الصوت) عن مثير أصيل يثير استجابة معينة هو الطعام. ومن الممكن القول، بكلمات أخرى، إن الحيوان يتعلّم الاستجابة لمثير جديد بردّ فعل قديم.
بافلوف والإشراط التقليدي
يعود اهتمام بافلوف بإشراط الاستجابة اللعابية إلى دراساته الباكرة عن الإفرازات الهضمية. ولقد لاحظ بافلوف في دراساته هذه أن الكلب يفرز اللعاب لدى رؤيته الطعام، بل لدى سماع خطوات مساعده الذي يعتني بالكلاب التي كان يجري عليها بافلوف دراساته. إن هذه الملاحظة لم تكن مهمة بحد ذاتها، إذ إنه كان معلوماً من قبل أن الإنسان يفرز لعابه بمجرد سماع صوت الجرس الداعي إلى الطعام، أو غير ذلك من الإشارات الدالة على اقتراب موعد الطعام. لكن بافلوف وجد في هذه الاستجابة طريقة للبحث في عمل الدماغ. ولقد افترض أنه حين يسيل لعاب الكلب استجابة للجرس فإن اتصالات جديدة تكون قد حدثت مع الساحة الحركية في دماغ الكلب، تلك الساحة التي تضبط الإفراز اللعابي.
لقد أراد بافلوف أن يدرس هذه الاتصالات الجديدة من دون أن يجرح دماغ الحيوان، وكان يعتقد أن ذلك ممكن عن طريق الاستجابات اللعابية الإشراطية وشروط استثارتها.
ولم يتبين بافلوف الآفاق الواسعة لعملية الإشراط إلا بعد أن أجرى كثيراً من التجارب على إشراط سيلان اللعاب مما دفعه إلى القول فيما بعد إن «كل تعلّم إشراطٌ».
وأياً كان الأمر فعلم النفس مدين لبافلوف بمعلوماته عن الإشراط: إن سيلان اللعاب لدى الكلب استجابة لوضع الطعام في الفم، أو تقديمه، هو استجابة طبيعية وغير متعلّمة. إنه رد فعل (أو ارتكاس)، ولذلك فقد دعي الطعام «المثير غير الإشراطي»، وحين تكرر تقديم بافلوف لمثير صوتي (قرع الجرس) مقروناً بتقديم الطعام فإن هذا العمل قاد الكلب إلى إفراز اللعاب استجابة لصوت الجرس وحده، وحينئذ سمي صوت الجرس «المثير الإشراطي» وسمي سيلان اللعاب استجابة لهذا المثير الأخير «استجابة إشراطية». واستعمال كلمة «إشراطي» تشير إلى أن استثارة الاستجابة الآن أصبحت تعتمد على مثير غير المثير الطبيعي.
ومن الممكن تمثيل عملية الإشراط هذه اعتماداً على العلاقة بين المثير والاستجابة كما يلي:
أولاً:
(مثير غير إشراطي) طعام |
‰ | (استجابة غير إشراطية) سيلان لعاب |
(مثير معدّ للإشراط) جرس |
‰ | (استجابة) رفع الأذنين أو سواه ولكن لا إفراز للعاب |
(مثير غير إشراطي) طعام |
‰ | (استجابة غير إشراطية) سيلان لعاب |
(مثير إشراطي) جرس |
‰ | (استجابة إشراطية) سيلان لعاب |
ولقد تمكن بافلوف ومساعدوه بعدئذ من إشراط سيلان اللعاب في حال عدد كبير من المثيرات: بصرية، سمعية، شمية، لمسية. ثم طورت عمليات بافلوف وطرائقه إذ صارت تناسب البشر صغاراً وكباراً.
وفي تجارب بافلوف كان تقديم الطعام يتلو قرع الجرس. وقد سمي إشراط بافلوف فيما بعد «الإشراط الكلاسيكي» أو «الانعكاس الشرطي» تمييزاً له من الإشراط الوسيلي عامة ومن الإجرائي خاصة.
ولعلَّ من المناسب التحدث عن ظاهرتي التعزيز reinforcement والمحو extinction، قبل الانتقال من الإشراط التقليدي إلى موضوع آخر.
أما التعزيز فيقصد به تقوية عملية عمليةً أخرى. ولقد كان بافلوف يستعمل هذا المصطلح ليدل على أن المثير غير الإشراطي (الطعام) كان يتلو المثير الإشراطي (صوت الجرس) فيقويه، وكان يقول إنه لا بد للإبقاء على الاستجابة الإشراطية للمثير الإشراطي من تعزيزها بين آن وآخر بالمثير غير الإشراطي، ومعنى ذلك أنه لابدّ في الإبقاء على استثارة اللعاب استجابة لقرع الجرس من قرن قرع الجرس بين حين وآخر مع تقديم الطعام للحيوان.
وأما المحو (أو الامّحاء)، فقد يحصل إذا لم تعزز الاستجابة الإشراطية بالمثير غير الإشراطي بعد مضي وقت ما. ومن المألوف أن تعود الاستجابة الإشراطية التي محيت تجريبياً (أو بصورة غير تجريبية) من تلقاء ذاتها وهذ ما يسمى «الاسترداد العفوي». فإذا تكرر المحو أتى وقت تتوقف فيه الاستجابة الإشراطية نهائياً.
وثمة ظاهرتان أخريان هما ظاهرتا التعميم generalization والتمييز distinction، فحين يتعلّم الكلب إفراز اللعاب استجابة لصوت الجرس فإنه يعمم هذا التعلّم على المثيرات الصوتية المشابهة. وفي تجارب أجراها الأمريكي واطسون Watson ومساعدوه، علّموا طفلاً صغيراً الخوف من جرذان بيض، فإن الطفل عمم خوفه هذا فصار يخاف من كل ذي فراء أبيض من مثل الأرانب البيض، بل إنه تجاوز ذلك إلى الخوف من القطن الأبيض واللحية البيضاء.
ويمكن الإفادة من تجارب التعميم للتدليل على حادثة التمييز أيضاً، ذلك بأنه بعد أن يتم الإشراط لطبقة صوتية معينة مثلاً فإن بعض الطبقات الصوتية الأخرى (غير المعزّزة) تظهر استجابة إشراطية. ومن الممكن تجنب هذا الظهور بقصر التعزيز على طبقة معينة وعدم تعزيز ما يسبقها وما يتلوها.
الإشراط الإجرائي
في الإشراط التقليدي ينتقي المجرب الاستجابة التي يريد إشراطها، وقد فعل بافلوف ذلك حين اختار إشراط استجابة سيلان اللعاب. أما في الإشراط الإجرائي operational، فإن الاستجابة التي يشرطها المجرِّب تتبدى مصادفةً عند المجرَّب عليه فيعززها المجرِّب حتى يشرّطها. وهكذا فإن المجرَّب عليه يجري شيئاً ما في محيطه فيعززه المجرب وبالتالي يشرطه. إن سكينر[ر] Skinner كان ينتظر الحمامة حتى تنقر بالمصادفة زر علبته التي صممها، فيعزز هذا النقر بتقديم الحبوب لها مما يشرط نقرالزر، ونقر الزر هذا ليس استجابة طبيعية كسيلان اللعاب.
إن الإشراط الإجرائي هو إشراط وسيلي أي وسيلة لغاية. ويشبه الإشراط الوسيلي الإشراط التقليدي في بعض الوجوه ويختلف عنه في بعض الوجوه الأخرى. إن واحدة من نقاط التشابه الكبرى هي أن الحيوان في كليهما يُعزل في المعتاد عزلاً تاماً أو شبه تام، إنه يوضع تجريبياً في علبة أو غرفة شبه عازلة للصوت. ونقطة أخرى من نقاط التشابه هي أن استجابة معينة تعزل بقصد الدرس.
وأهم نقاط الاختلاف ثلاث:
ـ ففي حين أن العمليات التقليدية تستعمل مثيراً غير إشراطي (طعام، صدمة، نفخة هواء) لتستجرّ استجابة تُشرط، فإن العمليات الوسيلية (والإجرائية من ضمنها) لا تلجأ إلى ذلك بالضرورة. إن الاستجابة المشرطة هي في الأغلب استجابة عفوية (ضغط رافعة أو نقر زر أو مفتاح) تتبدى لدى الحيوان بدلاً من أن يستجرّها المجرب كما في الإشراط التقليدي.
ـ ثم إن العملية الوسيلية - كما يفهم من اسمها - تكون استجابة الحيوان فيها وسيلة لتحقيق غاية من مثل التوصل إلى الطعام أو الشراب أو تجنب العقاب، ولا يظهر الأمر كذلك في العمليات التقليدية.
ـ وفي النوع الإجرائي من الإشراط الوسيلي يعطى الحيوان من الحرية أكثر مما يعطى في العمليات التقليدية.
إن الاستجابة التي تُجرى عملياً في المحيط تُسمى إجرائية، والتعبير المستعمل للدلالة على المكافأة في الإشراط الإجرائي هو التعزيز. يقول سكنر: «لقد سمّى بافلوف نفسه كل الحوادث التي تقوّي السلوك تعزيزاً، وكل النتائج الحاصلة إشراطاً، ومع ذلك ففي التجارب البافلوفية يقرن بين المعزز والمثير. أما في السلوك الإجرائي فإن المعزز يُقرن بالاستجابة، وهذه الاستجابة تتبدّى لدى الحيوان.
ومن المألوف أن يقرر المجرب سلفاً الاستجابة المتبدية التي يريد تعزيزها منتقياً إياها من عدد من الاستجابات التي يمكن أن تتبدى لدى الحيوان، ومثل ذلك أن أحد المجربين قرّر أنه سيسمح للقطة بالهروب من علبة حالما تحك أذنها. والذي حصل هو أن القطة حكت أذنها بطريق المصادفة ففتح لها الباب وخرجت، ثم أعاد القطة إلى العلبة، وكان حكها لأذنها يقع بالمصادفة في بادئ الأمر. ولكن أتى وقت صارت فيه القطة لا تكاد توضع في العلبة حتى تبادر إلى حك أذنها.
تطبيقات عملية
أسهمت دراسة الإشراط - إلى جانب مساعدتها في دراسة التعلّم[ر] وكيفية عمل الدماغ - في حل الكثير من مشكلات الإنسان. وهكذا فإن المعالجين النفسيين يرون أن مبادئ الإشراط ذات أهمية بالغة في تفسير الكثير من أنواع الأمراض النفسية من مثل الرّهاب phobia والشذوذ الجنسي والوساوس والأفعال القهرية، مما أوجد نوعاً من المعالجة النفسية الجديدة سميت «المعالجة السلوكية» behavior therapy [ر. العلاج النفسي].
إن عملية الإشراط تفسر كيفية تكون المخاوف، واستعمال مبدأ المحو التجريبي مفيد في القضاء عليها. وبهذا المنطلق تخلص طفل كان يخاف دخول المصعد من خوفه هذا. بيد أنه لا بد من ملاحظة أن هذه الطريقة يجب أن تستعمل بحذر شديد وضمن تنظيم معين، وذلك لأن بعض الأشخاص تزيد مخاوفهم إذا قُسروا على ممارسة الأعمال أو المواقف التي تخيفهم بدلاً من أن تنقص.
ولقد خلّص علماء النفس بعض الأطفال من عادة قضم الأظافر أو مص الإصبع وغيرها من العادات الممجوجة عن طريق مبدأ المحو هذا، وذلك بقسر هؤلاء الأطفال على قضم أظافرهم في أوقات محددة وفق برنامج معين، فأصبحوا الآن يقضمون أظافرهم أحياناً كثيرة من دون أن يكونوا في حالة عصبية، فإنهم يتوصلون إلى فصل عادة قضم الأظافر عن الحالة العصبية.
وقد استعملت مبادئ الإشراط الإجرائي في التعليم الذي سمي بالتعليم المبرمج، ووضعت لذلك برامج وأجهزة واستعمل في المدارس مما سهل عملية التعليم التي استفادت من مبدأ التعزيز.
والثواب والعقاب في التربية يستندان إلى مبدأ التعزيز، فالثواب مثل الطعام والشراب والتشجيع وغيرها من المعززات المادية والمعنوية هو معزز إيجابي، أما العقاب مثل الصدمة الكهربائية والضرب والتعنيف وغيرها من المعززات المادية والمعنوية فهو معزز سلبي يتحول فيه العقاب إلى سلوك تجنبي أو وقائي يتفادى فيه الإنسان الأشياء المؤلمة.
فاخر العاقل