الفارابي (محمد بن ترخان -)
(257-339هـ/870-950م)
أبو نصر محمد بن محمد بن ترخان ابن أزلع، اشتُهر بالفارابي نسبةً إلى فاراب المدينة الَّتي تنتسب إليها بلدته وسيج الَّتي ولد فيها. وهذه المدينة في الوقت الراهن هي مدينة أترار الواقعة في إقليم خراسان التركي. إلا أنَّ ثَمَّةَ اختلافاً في نسبة هذه المدينة؛ أتركية هي أم فارسية، ونجم عن ذلك اختلاف في أصل الفارابي أتركي هو أم فارسيٌّ. ولكن يميل كثيرون إلى ترجيح كونه تركيًّا؛ لأنَّ أباه كان قائداً في الجيش التركي، وإن كان ابن أبي أصيبعة في «طبقات الأطباء» قد ذهب إلى أنه فارسي الأصل وأنّ أباه تزوج امرأة تركيَّة فصار قائداً في الجيش التركي. أي إن للفارابي عرقاً تركياً على أيِّ حال، وليس له من العروبة إلا الانتماء الثقافي والحضاري، ورُبَّما النفسي والاجتماعي.
ليس غريباً ألاّ يُعرف كثيراً عن نشأته وطفولته وشبابه، فشأنه في ذلك شأن معظم أعلام العصور السابقة. سافر يافعاً مع أبيه إلى بغداد حيث تعلم العربية ونهل من معين علمائها فأخذ المنطق عن أبي بشر متى بن يونس، ثُمَّ ذهب إلى حرَّان وفيها تابع تحصيله الفلسفة والمنطق على يد يوحنا بن حيلان. ثُمَّ عاد إلى بغداد أستاذاً ومتفلسفاً وأخذت التلاميذ تتوافد عليه ونبغ كثير منهم.
كثرت الفتن والقلاقل في بغداد: فخرج منها إلى دمشق سنة 330هـ/941م وعمل ناطوراً لأحد البساتين، ولم يطل مقامه بها فسافر إلى مصر، ومن مصر توجه إلى بلاط سيف الدولة في حلب فلزمه لما لقيه من الإكرام، وصحبه في حملته على دمشق ولكنَّهُ لم يغادرها ثانية إذ توفي فيها.
يعدُّ الفارابي علامة مميزة في تاريخ الفكر البشري عامَّة، فهو في عُرْفِ الفلاسفة المعلم الثاني بعد أرسطو المعلم الأول، وكان نابغةً في مختلف ميادين الفلسفة إلى جانب بعض العلوم. وتروى عنه في الموسيقى أحاديث تشبه الأساطير، ولَعَلَّ كثيرين يذكرون قصته مع سيف الدولة عندما عزف له في مجلسه بالآلة الَّتي ابتكرها، وهي القانون، فأضحك الجميع، ثُمَّ عزف ثانية فأبكى الجميع، ثُمَّ عزف ثالثة فأنامهم وتركهم نياماً وذهب.
قد يعترض بعضهم على صحَّة هذه القصَّة ولكنَّ الاعتراض لا ينفي أنَّها تدلُّ على مدى عبقريته ونبوغه الَّذي لم يكن في الموسيقى وحدها وحسب بل كان في مختلف ميادين الفلسفة، فهو إن لُقب بالمعلم الثاني بعد أرسطو فإنَّما ذلك لسمو مكانته وأهميته، وأثره البالغ فيمن تلاه من الفلاسفة العرب خاصَّة وفي الثقافة العربيَّة الإسلاميَّة عامَّة. فقد كان العماد الثاني بعد الكندي في تأسيس دعائم الفلسفة العربية الإسلامية وتحديد هويتها وخصائصها واصطلاحاتها الخاصة ومشكلاتها الخاصَّة الَّتي تمايزت بها من الفلسفة اليونانية ومن الفكرين؛ الهندي والفارسي اللذين أمدا الحضارة العربية أيضاً حينها.
أخذ الفلاسفة والمفكرون اللاحقون عن الفارابي كثيراً من الأفكار والنظريات، وأفادوا من تأليفاته وشروحه وتعليقاته، حَتَّى يمكن القول إنَّهُ كان له دور مهم في صياغة ملامح الفكر والوعي والثقافة في الحضارة العربيَّة الإسلاميَّة في مرحلته والمراحل التالية. إضافة إلى أنَّهُ بشروحه كتب أرسطو خاصَّة وكذلك أفلاطون أدى دوراً مهماً أيضاً في النهضة الأوربيَّة؛ لأنَّ هذه الترجمات والشروح إلى جانب جهود ابن سينا وابن رشد كانت المهاد النظري للنهضة الأوربية وتعريف الأوربيين على الفلسفة اليونانيَّة.
سعى الفارابي إلى التوفيق بَيْنَ الفلسفة والدين إيماناً منه بوحدة الفلسفة والدين، والسبب الَّذي دعاه إلى ذلك أن رواج القول بَيْنَ المفكرين إنَّ ثَمَّةَ خلافاً بَيْنَ أرسطو ومعلمه أفلاطون، وكان ذلك في كتابه «الجمع بَيْنَ رأيي الحكيمين؛ أفلاطون الإلهي وأرسطو»، فأصاب نوعاً من التوفيق في المواءمة بَيْنَ الفلسفة والدين، ولكنَّهُ لم يستطع الجمع أو التوفيق بَيْنَ رأيي الحكيمين؛ لأَنَّهُ اعتمد على كتاب «الربوبيَّة» الَّذي نسب خطأ إلى أرسطو، فيما هو في حقيقته لأفلوطين.
أما فلسفة ما بعد الطبيعة فتنقسم عنده إلى ثلاثة أقسام هي:
ـ الله وخواصه. وهذا ما يسمى العلم الإلهي.
ـ الموجود من حيث هو موجود. وتدرس هنا الموجودات وما يعرض لها من حيث هي موجودات.
ـ مبادئ العلم وأولياته. وتدرس هنا مبادئ البراهين في العلوم النظرية الجزئية.
ويرى الفارابي أن هذه المعرفة وسواها إنَّما تتحصل للإنسان بوساطة الحواس. وإلى جانب هذه الحواس هناك جملة من القوى المساعدة في عملية المعرفة، هذه القوى:
ـ القوة المصورة، ومهمتها تثبيت صور الأشياء الَّتي تدركها الحواس في الذهن.
ـ القوة الوهمية، ومهمتها إدراك ما لا تدرك الحواس، ولذلك يجوز تسميتها بالقوة الحدسية.
ـ القوة الحافظة، ومهمتها اختزان ما تدركه القوة الوهمية، وهي في ذلك مقابلة للقوة المصورة الَّتي تختزن ما تدركه الحواس.
ـ القوة المفكرة، وهي الَّتي تتحكم بما هو مختزن في مدركات الحواس، وما هو مختزن في القوتين الحافظة والمصورة وتدير ما فيهما.
ترك الفارابي العديد من الآثار ما بَيْنَ التأليف والشرح والتعليق وفيما يأتي أبرز هذه الآثار:
«إحصاء العلوم» و«آراء أهل المدينة الفاضلة» و«التنبيه على سبيل السعادة» و«الجمع بَيْنَ رأيي الحكيمين؛ أفلاطون الإلهي وأرسطو» و«السياسة المدنية، أو مبادئ الموجودات» و«المسائل الفلسفية والأجوبة عنها» و«تحصيل السعادة» و«عيون المسائل» و«فصوص الحكم» و«كتاب الموسيقى الكبير» و«مقالة في معاني العقل».
وقدم من الشروح «الآثار العلوية لأرسطو» و«الأخلاق لأرسطو» و«الألفاظ الأفلاطونية وتقويم السياسة الملوكيَّة والأخلاق» و«البرهان لأرسطو» و«الجدل لأرسطو» و«الخطابة لأرسطو» و«السماء والعالم لأرسطو» و«السماع الطبيعي لأرسطو» و«العبارة لأرسطو» و«القياس لأرسطو» و« المغالطة لأرسطو» و«المقولات لأرسطو» و«جوامع كتاب النواميس لأفلاطون» و«شرح رسالة زينون الكبير اليوناني» و«كتاب المجسطي لبطلميوس» و«مقالة في أغراض أرسطو وكل مقالة من كتابه الموسوم بالحروف» و«مقالة في العقل للإسكندر الأفروديسي».
عزَّت السيد أحمد
(257-339هـ/870-950م)
أبو نصر محمد بن محمد بن ترخان ابن أزلع، اشتُهر بالفارابي نسبةً إلى فاراب المدينة الَّتي تنتسب إليها بلدته وسيج الَّتي ولد فيها. وهذه المدينة في الوقت الراهن هي مدينة أترار الواقعة في إقليم خراسان التركي. إلا أنَّ ثَمَّةَ اختلافاً في نسبة هذه المدينة؛ أتركية هي أم فارسية، ونجم عن ذلك اختلاف في أصل الفارابي أتركي هو أم فارسيٌّ. ولكن يميل كثيرون إلى ترجيح كونه تركيًّا؛ لأنَّ أباه كان قائداً في الجيش التركي، وإن كان ابن أبي أصيبعة في «طبقات الأطباء» قد ذهب إلى أنه فارسي الأصل وأنّ أباه تزوج امرأة تركيَّة فصار قائداً في الجيش التركي. أي إن للفارابي عرقاً تركياً على أيِّ حال، وليس له من العروبة إلا الانتماء الثقافي والحضاري، ورُبَّما النفسي والاجتماعي.
ليس غريباً ألاّ يُعرف كثيراً عن نشأته وطفولته وشبابه، فشأنه في ذلك شأن معظم أعلام العصور السابقة. سافر يافعاً مع أبيه إلى بغداد حيث تعلم العربية ونهل من معين علمائها فأخذ المنطق عن أبي بشر متى بن يونس، ثُمَّ ذهب إلى حرَّان وفيها تابع تحصيله الفلسفة والمنطق على يد يوحنا بن حيلان. ثُمَّ عاد إلى بغداد أستاذاً ومتفلسفاً وأخذت التلاميذ تتوافد عليه ونبغ كثير منهم.
كثرت الفتن والقلاقل في بغداد: فخرج منها إلى دمشق سنة 330هـ/941م وعمل ناطوراً لأحد البساتين، ولم يطل مقامه بها فسافر إلى مصر، ومن مصر توجه إلى بلاط سيف الدولة في حلب فلزمه لما لقيه من الإكرام، وصحبه في حملته على دمشق ولكنَّهُ لم يغادرها ثانية إذ توفي فيها.
يعدُّ الفارابي علامة مميزة في تاريخ الفكر البشري عامَّة، فهو في عُرْفِ الفلاسفة المعلم الثاني بعد أرسطو المعلم الأول، وكان نابغةً في مختلف ميادين الفلسفة إلى جانب بعض العلوم. وتروى عنه في الموسيقى أحاديث تشبه الأساطير، ولَعَلَّ كثيرين يذكرون قصته مع سيف الدولة عندما عزف له في مجلسه بالآلة الَّتي ابتكرها، وهي القانون، فأضحك الجميع، ثُمَّ عزف ثانية فأبكى الجميع، ثُمَّ عزف ثالثة فأنامهم وتركهم نياماً وذهب.
قد يعترض بعضهم على صحَّة هذه القصَّة ولكنَّ الاعتراض لا ينفي أنَّها تدلُّ على مدى عبقريته ونبوغه الَّذي لم يكن في الموسيقى وحدها وحسب بل كان في مختلف ميادين الفلسفة، فهو إن لُقب بالمعلم الثاني بعد أرسطو فإنَّما ذلك لسمو مكانته وأهميته، وأثره البالغ فيمن تلاه من الفلاسفة العرب خاصَّة وفي الثقافة العربيَّة الإسلاميَّة عامَّة. فقد كان العماد الثاني بعد الكندي في تأسيس دعائم الفلسفة العربية الإسلامية وتحديد هويتها وخصائصها واصطلاحاتها الخاصة ومشكلاتها الخاصَّة الَّتي تمايزت بها من الفلسفة اليونانية ومن الفكرين؛ الهندي والفارسي اللذين أمدا الحضارة العربية أيضاً حينها.
أخذ الفلاسفة والمفكرون اللاحقون عن الفارابي كثيراً من الأفكار والنظريات، وأفادوا من تأليفاته وشروحه وتعليقاته، حَتَّى يمكن القول إنَّهُ كان له دور مهم في صياغة ملامح الفكر والوعي والثقافة في الحضارة العربيَّة الإسلاميَّة في مرحلته والمراحل التالية. إضافة إلى أنَّهُ بشروحه كتب أرسطو خاصَّة وكذلك أفلاطون أدى دوراً مهماً أيضاً في النهضة الأوربيَّة؛ لأنَّ هذه الترجمات والشروح إلى جانب جهود ابن سينا وابن رشد كانت المهاد النظري للنهضة الأوربية وتعريف الأوربيين على الفلسفة اليونانيَّة.
سعى الفارابي إلى التوفيق بَيْنَ الفلسفة والدين إيماناً منه بوحدة الفلسفة والدين، والسبب الَّذي دعاه إلى ذلك أن رواج القول بَيْنَ المفكرين إنَّ ثَمَّةَ خلافاً بَيْنَ أرسطو ومعلمه أفلاطون، وكان ذلك في كتابه «الجمع بَيْنَ رأيي الحكيمين؛ أفلاطون الإلهي وأرسطو»، فأصاب نوعاً من التوفيق في المواءمة بَيْنَ الفلسفة والدين، ولكنَّهُ لم يستطع الجمع أو التوفيق بَيْنَ رأيي الحكيمين؛ لأَنَّهُ اعتمد على كتاب «الربوبيَّة» الَّذي نسب خطأ إلى أرسطو، فيما هو في حقيقته لأفلوطين.
أما فلسفة ما بعد الطبيعة فتنقسم عنده إلى ثلاثة أقسام هي:
ـ الله وخواصه. وهذا ما يسمى العلم الإلهي.
ـ الموجود من حيث هو موجود. وتدرس هنا الموجودات وما يعرض لها من حيث هي موجودات.
ـ مبادئ العلم وأولياته. وتدرس هنا مبادئ البراهين في العلوم النظرية الجزئية.
ويرى الفارابي أن هذه المعرفة وسواها إنَّما تتحصل للإنسان بوساطة الحواس. وإلى جانب هذه الحواس هناك جملة من القوى المساعدة في عملية المعرفة، هذه القوى:
ـ القوة المصورة، ومهمتها تثبيت صور الأشياء الَّتي تدركها الحواس في الذهن.
ـ القوة الوهمية، ومهمتها إدراك ما لا تدرك الحواس، ولذلك يجوز تسميتها بالقوة الحدسية.
ـ القوة الحافظة، ومهمتها اختزان ما تدركه القوة الوهمية، وهي في ذلك مقابلة للقوة المصورة الَّتي تختزن ما تدركه الحواس.
ـ القوة المفكرة، وهي الَّتي تتحكم بما هو مختزن في مدركات الحواس، وما هو مختزن في القوتين الحافظة والمصورة وتدير ما فيهما.
ترك الفارابي العديد من الآثار ما بَيْنَ التأليف والشرح والتعليق وفيما يأتي أبرز هذه الآثار:
«إحصاء العلوم» و«آراء أهل المدينة الفاضلة» و«التنبيه على سبيل السعادة» و«الجمع بَيْنَ رأيي الحكيمين؛ أفلاطون الإلهي وأرسطو» و«السياسة المدنية، أو مبادئ الموجودات» و«المسائل الفلسفية والأجوبة عنها» و«تحصيل السعادة» و«عيون المسائل» و«فصوص الحكم» و«كتاب الموسيقى الكبير» و«مقالة في معاني العقل».
وقدم من الشروح «الآثار العلوية لأرسطو» و«الأخلاق لأرسطو» و«الألفاظ الأفلاطونية وتقويم السياسة الملوكيَّة والأخلاق» و«البرهان لأرسطو» و«الجدل لأرسطو» و«الخطابة لأرسطو» و«السماء والعالم لأرسطو» و«السماع الطبيعي لأرسطو» و«العبارة لأرسطو» و«القياس لأرسطو» و« المغالطة لأرسطو» و«المقولات لأرسطو» و«جوامع كتاب النواميس لأفلاطون» و«شرح رسالة زينون الكبير اليوناني» و«كتاب المجسطي لبطلميوس» و«مقالة في أغراض أرسطو وكل مقالة من كتابه الموسوم بالحروف» و«مقالة في العقل للإسكندر الأفروديسي».
عزَّت السيد أحمد